الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن رشيد فيها، فقتل أكثر رجالها، وانهزم الباقون وهربوا فارين، ثم طاردت الخيل السعودية خيل ابن رشيد حتى أوقفتهم في الخبراء، فرحل ابن رشيد منها إلى الرس، فهجموا على بواديه وغنموا عددًا كبيرًا من الإبل، ثم نزل ابن رشيد في الشنانة على مسافة ساعة من الرس جنوبًا فنزل ابن سعود في الرس، ثم إنه قام ابن رشيد فنصب مدافعه على الرس وجعل يضربها كما ضربها إبراهيم باشا في طليعة القرن الماضي، وما أشبه الحالتين، فدافع أهل الرس على عادتهم في الشجاعة حتى الرمق الأخير وثبتوا ثباتًا عظيمًا.
ذكر واقعة الشنانة وما جرى من ابن رشيد
لما طوق ابن رشيد الرس بالحصار وشدد الوطأة عليها، هلك أمير الرس في أثناء الحصار، ومع موته وتوالي ضرب القنابل عليها فإنها لم تسلم، واستبسل أهلها وثبتوا في سبيل الدفاع عن أنفسهم لخوفهم من فظاعته وظلمه إن تولاهم، وكان ابن رشيد قد استنزل قائدًا من قواد الرس يدعى ناصر بن الخالد الهديان بالعهد والميثاق، فلما قبض عليه قتله غدرًا ومن معه بضعة رجال، فأقام عبد العزيز بن عبد الرحمن في الرس ثلاثة أشهر من تاريخ منتصف جمادى الأولى إلى تاريخ منتصف شعبان.
هذا وابن رشيد في الشنانة ولم يكن في غالب هذه المدة بينهما مزاحمة، إنما هو مناوشات بالخيل ومطاردات حتى ملَّ الناس من تلك الحال، فقد أنتنت الأمكنة من جثث القتلى، وانتشرت الأمراض الوبائية الفاتكة بين العسكريين والسيف أعظم فتكًا من تلك الأمراض الوبائية، فعند ذلك قام البدو يتفتلون كل عن أميره لأن ذلك الوقت هو فصل الربيع يريدون أن ترعى مواشيهم وتسمن استعدادًا للقيظ، وصاحوا بالضرر كلٌ يشكو إلى أميره، فلما أحس ابن سعود بذلك أرسل رسولًا من قبله إلى عبد العزيز بن رشيد، وهذا الرسول هو فهد بن علي الرشودي، وكان فتىً ندبًا عاقلًا وذا رأي سديد، ومن أكبر أعضاء أهل بريدة، بعثه ابن سعود يدعو عبد العزيز بن رشيد إلى الصلح والهدنة، وكان ابن سعود يعلم بعناد ابن رشيد
وتصلبه وجبروته، وهكذا كان فقد قابل الرسول بالاستهزاء والسخرية والوعد والوعيد لأهل نجد.
ولما سار الشهم فهد بن علي الرشودي إلى ابن رشيد، احتاط لمجيئه وصف له الجنود والعساكر، وأظهر القوة وناهيك بهيبة ابن رشيد نفسه، فقد كانت رؤيته تفطر القلوب، ولما وصل إليه الرسول أصابه ضجر وفزع شديد، فأخذ عبد العزيز بن متعب بالحديث مع من حواليه حتى سكن جأشه واطمأن به المجلس، ثم التفت إليه قائلًا: أيها فهد ما الذي عندك وما لديك؟ فاجابه قائلًا: أيها الأمير نريد الصلح فقد أسرع الهلاك بالمسلمين، فأجاب ابن رشيد بقوله: عجبًا لكم يا فهد، هذا ابن سعود دعنا منه طالب ملك، ولكن فأنتم ما الذي حملكم على مقاومتي، وأنتم رعية لي أو لابن سعود؟ فتكلم فهد بن علي يقول: يا عبد العزيز فعلت بنا أمورًا لا يمكن الصبر عليها، فوالله إن صياحًا (1) أخذ أموالنا وأثاثنا وأثقل ظهورنا بالضرائب، وكل يوم وقد ضوعفت علينا المظالم حتى عجزنا عن الدفع، ولما اعتذرنا بالقلة ونفاد الأموال كان جواب صياح لنا أن قال:(أجروا فروج نسائكم واكتسبوا المال) فهل بعد هذا خزي أيها الأمير يا عبد العزيز ما فعلنا نحن مقاومة إنما أنت فعلتها بنفسك، فغضب ابن رشيد وأنكر ذلك، ثم قال: وما يقع عليه الصلح يا فهد؟ فقال إذا رأيت أن تترك لابن سعود العارض والقصيم وتدوم على ملكك، فأجاب يقول: بعد حلفه بالله العلي العظيم: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك، أيرضى ابن رشيد بأن يقصر على طابة وموقق ويكون نجد لصاحبكم، ثم ضحك متهكمًا ومتهددًا ومتوعدًا، وقال من يبغى حكم نجد فليكن ذا اصطبار وهل يصالح من بيده قوة الدولة، فوالله لا صلح قبل ان أضرب بريدة وعنيزة والرياض ضربةً لا تنساها مدى الدهر يا فهد ما جئتكم بهذه الجيوش والنظام أبغي السلم، ولكن
(1) صياح هذا خادم لابن رشيد مشهور بالظلم والجبروت، بل تضرب الأمثال بجبروته، وكان مشهورًا من بين قومه في بريدة.
استعدوا للموت وأنتم يا أهل القصيم لا يغرنكم ابن سعود لا يغرنكم شاب طائش يبغي الدراهم ليأخذها لأمه الفقيرة، فقام فهد الرشودي وهو يقول: يا طويل العمر إذا قتلتني فإني فلاح لا أعز ولا أذل، ورجع يحمل كلام ابن رشيد وتهديداته إلى ابن سعود، ولما أن وصل إليه وجد المجلس الكبير قد امتلأ ليسمعوا جواب ابن رشيد، فألقاه عليهم فهد بن علي وهو يبكي، وكان رصينًا محترمًا موعظًا موقرًا، وقال: يا أهل نجد ما رأيت هناك إلا ظالمًا عتيًا كفرعون، سيقتل رجالكم ويستحي نسائكم، ما عند ابن متعب لكم غير السيف، ويصنع بكم كما صنع فرعون ببني إسرائيل، فأثرت كلماته فيهم تأثيرًا بليغًا وكانت كوقع النار على قلوبهم، واشتعلت من قلوبهم نيران العداوة لابن رشيد وتبايعوا على الموت، ومع أن بادية ابن سعود قد تفرقت كما هي عادة البدو، إنهم يتبعون مصلحة أنفسهم لا سيما أنهم يريدون رعي مواشيهم، ولم يكن لابن سعود أن يكرههم على البقاء لأنهم لم يكونوا من الجند بل كانوا متطوعين متكسبين، ولم يبقَ مع عبد العزيز غير ثمانمائة من الحضر وثلاثمائة من رؤساء القبائل، فإن هؤلاء ما كانوا ليتاركوا ابن رشيد، وهذا مما يدل على سعة رأي ابن سعود لأنه يريد أن يستبسل أهل القصيم على ابن رشيد، ويظهر لهم ما انطوى عليه من الحنق، ويدل أيضًا على قصر مبلغ عقلية ابن رشيد وسوء تدبيره، حيث أضاع الفرصة ولم يغتنم جنوح خصمه إلى المسالمة، بل كان حظه أن أثار حمية العدو على فكاك أرواحهم منه على أن الملل لم ينحصر في بادية ابن سعود، بل كان قد ظهرت أنواع الضجر والملل في عساكره وجموعه، فقد قامت عليه باديته تقول: هلكت مواشينا وهلكت أولادنا جوعًا، فإما أن نرحل جميعًا فنمشي ورائك وإما أن نرحل نحن ونذرك، فأجابهم ابن رشيد يقول: كيف نرحل ولا ركائب عندنا لعسكر الدولة، وذلك لأنه تلف عليه عشرة آلاف ذلول في هذه الوقعة والمناوشة بعدها، فقال رجال شمّر: كل قبيلة منا تقدم الركائب لقسم من العسكر، فقبل ابن رشيد وأمر أن توزع أمتعة العسكر إجمالًا على شمّر وذلك لما خاف تفرق قومه لطول المقام، ولأن المسلمين لا يدعونهم
ينتشرون لرعي إبلهم وجيوشهم حتى أكلوا جميع ما في الشنانة حتى النخيل، ثم عزم على الرحيل تاركًا عدوه ورائه، فيا عجبًا لسوء هذا التدبير كيف رفض الصلح الشريف الذي عرض عليه، ورحل بدون طائل، بل إنه رحل رحيل المنهزم المغلوب.
أضف إلى ذلك تهديده الذي شد عزائم السعوديين على مهاجمته والقضاء عليه، فلما عزم على الرحيل ذلك اليوم لم يشعر إلا وقد هجم ابن سعود عليه بخيوله ليحول دون ذلك يقول أنا أخو الأنور لا أدعهم يرحلون لا إلا المناجزة، فتصادموا وتقارعوا من صلاة الفجر يوم سادس عشر شعبان إلى غروب الشمس، فارتحلت بادية ابن رشيد قبله وتركته ورائها، فخرج ابن رشيد من الشنانة وجعل ابن سعود يطارده إلى أن أذنت الشمس بالمغيب، فنصب ابن رشيد خيامه إذ ذاك خدعةً للمبيت، فانخدع له ابن سعود ورجع بخيله بعد أن أقام هناك بعض الحرس والكشافة، فشرع ابن رشيد يتأهب للرحيل، وكانت خطة ابن سعود الحربية أن ينهك خصمه بالمفاجئات والمناوشات، فإذا أضعفه ضربة ضربة تكون هي القاضية.
ولما رجع مساءً إلى مركزه في الرس من يومه وجلس على العشاء، جائه أحد الكشافة يقول: رحل ابن رشيد، فقام وترك العشاء هو ورجاله وسارعوا إلى الخيل وأخذوا قافية العدو، ولما قربوا منه رأوا سوادًا ظنوه غنمًا فأغاروا عليها فإذا بها عساكر الترك، وكان قد جنّ الليل فنازلوهم ساعةً دون نتيجة تذكر.
ثم عاد ابن سعود وجنوده إلى الرس وترك كشافته على حسب العادة في مكان معلوم ومعهم رجال من أسرتهم وزودهم بهذه التعليمات، إذا رحل ابن رشيد وقرب إلى الخنق "وهو موضع بين جبلي إبان معروف" فأرسلوا إلي أخبروني وتقفوه لتعلموا بمسيرة، أما إذا مشى إلى قصر ابن عقيل فعليكم أنتم يا آل سعود أن تسبقوه إلى القصر لتشجعوا أهله وتقولوا لهم إننا مسارعون إلى نجدتكم، وكان في قصر ابن عقيل سرية لابن سعود، فلما ذهب ابن رشيد تلك
الليلة نزل على الجوعي ودنا من قصر ابن عقيل، فزحف إليه يريد ضربه، وكان القصر منيعًا ولا يخشى عليه إلا من المدافع أن تثلم جدره، فهم ابن رشيد في صباح تلك الليلة بالهجوم عليه ولكن سبقه بنوا سعود إليه وأرسلوا يخبرون عبد العزيز، ولما أن وصل ابن رشيد إلى القصر ركب في الحال مدافعه كلها عليه، وشرع يضرب القصر، فلما جاء الخبر إلى ابن سعود ظهرًا وإن ابن رشيد حصر قصر بن عقيل، صاح برجاله قائلًا، انهزم ابن رشيد ونريد أن نعمل مناورة خارج البلدة فاستبشروا وأخرجوا للمناورة فكشف لهم عن قصده الحقيقي، وأمرهم بالزحف إلى قصر ابن عقيل فترددوا لأنهم لم يكونوا متأهبين للرحيل وما معهم ماء، ولا زاد وكان ذلك في الساعة الأخيرة من النهار والمسافة بينهم وبين القصر قد عشرين ميلًا، فخطب فيهم ابن سعود محرضًا مستنهضًا، ثم قال أنا واحد منكم ومثلكم أنتم خاشون وأنا أخشى، أنتم حفاة وأنا والله لا أنتعل، وهذا نعلي وهذا نعلي، وهذا ذلولي قال ذلك وهو يضع النعل في الخرج ويلقي بحبل الذلول على غاربه، ثم مشى أمامهم حافيًا فمشوا ورائه متحمسين وعندما وصلوا إلى القصر قبل نصف الليل بساعة أرادوا أن يهجموا على ابن رشيد في ذلك الحين، فمنعهم عبد العزيز لعلمه بما حل بهم من التعب والجوع، فدخلوا القصر واستراحوا تلك الليلة.
أما ابن رشيد فبعد أن شغل مدافعه على القصر بضع ساعات بدون طائل، رحل في صباح اليوم 18 بعد ما وصل ابن سعود قصر ابن عقيل، فلما رآه ابن سعود يرحل إبله ويحمل أطوابه أمهل حتى مشى برجاله والعساكر، ثم إنه خرج بخيله وجنده واتبع ساقتهم بجيوشه للمفاجأة فأدركوهم في وادي الرمة، وكان هذا الوادي لا يوجد في جزيرة العرب مثله في الطويل بحيث يخترق القصيم يمتد شرقًا من حرة خيبر إلى الرس ثم شرقًا بشمالي إلى البصرة وهو بين البصرة وهو بين عنيزة وبريدة وكذلك البكيرية والخبراء والشنانة واقعات على ضفافه، وكذلك الشحية والجبل ممتد هناك بضعة وخمسي ميلًا من الرس، فجرى على ابن رشيد في هذا الوادي ملحمة فاصلة.