الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (77)
* * *
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
* * *
قال المُفَسِّرُ رَحِمَهُ للَّهُ: [{وَابْتَغِ} اطْلُبْ {فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} مِنَ المَالِ {الدَّارَ الآخِرَةَ} بِأَنْ تُنْفِقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ {وَلَا تَنْسَ} تَتْرُكْ {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا لِلآخِرَةِ {وَأَحْسِنْ} لِلنَّاسِ بِالصَّدَقَةِ {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ} تَطْلُبْ {الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} بِعَمَلِ المَعَاصِي {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} بمَعْنَى أَنَّهُ يُعَاقِبهُمْ].
قَوْلُه سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ} أي: اطلُب، قوله:{فِيمَا} أي: فِي الَّذِي، قوله:{آتَاكَ اللَّهُ} يعني: أعطاك مِنَ المَالِ، مِنْ هَذِهِ الكنوز العظيمة التي مَفَاتِيحُها تَنُوء بالعُصبة، اطلب فيها الدَّارَ الآخِرَةَ.
وقوله: {الدَّارَ الآخِرَةَ} المراد بالدَّار الآخِرَةِ الْجَنَّةُ هنا، قَالَ تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ولكن كيف يُطْلَبُ بِهِ الدَّارُ الآخِرَةَ؟
قال المُفَسِّرُ رحمه الله: [بِأَنْ تُنْفِقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ]. وحينئذ يَكُونُ ذَلِكَ ذُخرًا لك
عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، وإذا عَوَّد الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، ورَوَّضها عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، صَارَ هَذَا الْأَمْرُ سَجِيَّةً له، يفرح به ويُسَرُّ، وتَنعم بِهِ نَفْسُهُ، ولذلك فإنَّ أحب شَيْءٍ إِلَى الكريم هو العَطاء.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ القيم رحمه الله فِي (زاد المعاد)
(1)
أن الإنفاق للَّهِ سبحانه وتعالى فِي اللَّهِ -فِي حُدُودِ الشرع- يكون سببًا لانشراح الصدر، قال:"وَمنْهَا: الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ المَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ المُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا".
وَهَذَا أَمْرٌ معلوم، تجد أَكْثَرَ النَّاسِ انشراحًا فِي الصُّدُورِ هُم الكِرام، وَأَنَّهُ إِذَا أَعْطَى إنسانًا عطيّةً يجد بذلك سُرورًا وانشراحًا، فهو لو أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هذا، وابتغى به الدَّارَ الآخِرَةَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضيعُ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ الناصحون له:{وَلَا تَنْسَ} .
قَوْلُه تعالى: {وَلَا تَنْسَ} أي: لَا تَتْرُكْ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أحدهما: الذُّهول عَنِ الشَّيْءِ المعلوم الذي عَلِمْتَه، ثم ذُهِلْت عَنْهُ.
والثاني: التَّرك.
ومنه أَيْضًا قَوْلُهُ تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، نَسُوا اللَّهَ: أي: تركوا عبادته، ولم يقوموا بحقهم.
قوله: {فَنَسِيَهُمْ} أي فَتَرَكَهُم سبحانه وتعالى، فلم يُثِبْهُم.
(1)
زاد المعاد، لابن القيم (2/ 24).
وَمنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر: 19]، أي: تركوه، وقوله:{فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، أي: جعلهم يَنْسَوْنَها ويَغْفُلُون عنها، ويتركونها دُون رِعاية.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، فالمراد بالنسيان: الذُّهول عَنْ شَيْءٍ معلوم، فَاللَّهُ تعالى أحصاهُ لكن هؤُلاءِ نَسُوه.
فهنا إِذن مِن هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ الكريم يتبين لَنَا أَنَّ النسيان يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أحدهما: التَّرك، والثاني: الذُّهول عَنْ شَيْءٍ معلوم.
وَالَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهِ هُوَ التَّرْكُ، أمَّا الذُّهول فقد نَفَاهُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ تبارك وتعالى:{كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، هنا النِّسْيَانُ بِمَعْنَى: الذُّهول، وليس التَّرك؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَتْرُكُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَابٍ ممن يستحقون التَّرْك.
أَمَّا قَوْلُه تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، فهنا مَسْأَلةٌ فِيهَا قَوْلَانِ لأهل العِلم؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْله: {فَنَسِيَ} أي: ترَك عَنْ عَمْدِ تَرْكٍ، فيكون مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ.
وَعَلَى هَذَا الرَّأْي لَا إِشْكَالَ فِي المَسْأَلَةِ، فكونُه يُعَاقَبُ عَلَى أَمْرٍ ترَكَهُ مِنْ غَيْرِ ذُهول، حيث ترَكَهُ وَهُوَ عَالِمُ به، ويكون مَلُومًا، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ المُرَادَ بالنسيان الذُّهول، وهؤُلاءِ قَصَدُوا بِذَلِكَ تجنُّب وصف آدم بتعمُّد المعصية؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَهُ عَنْ ذُهول لَا يُلَامُ، وهؤُلاءِ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ سُقوط الإثم بالنسيان، ويقولون: إِنَّ مِن خصائص هَذِهِ الْأُمَّةِ: سُقوط الإثم بالنسيان، كَقَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتي الخَطَأَ والنِّسْيَانَ،
وَمَا اسْتكْرِهُوا عَلَيْهِ"
(1)
.
فقوله: "عَنْ أُمَّتِي" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ كانت مؤاخَذَةً به، وكون الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مؤاخَذَة، أَوْ غَيْرَ مؤاخَذَة فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا لَا يُرَجِّحُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ، لكن الذي يُرَجِّح أنه نسيانُ تَركٍ، لا نِسيانُ ذُهولٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وهذان الوصفان مَعصية، ويَدُلَّان عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ، لكنه اغترَّ بِغُرور إبليس، كَمَا قَالَ تعالى:{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22]، وقال:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]، وقال:{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] اغتر آدمُ، وفَعَل مَا فَعَلَ.
قَولهُ تعالى: {وَلَا تَنْسَ} كأنهم يقولون: اجعل انْهَمِاكَك فيما تُريد فِي الآخِرَةِ، حَتَّى كَأَنَّ ما تُريده للدنيا يَغيب عنك، وَلَكِنْ لَا تَنْسَهُ.
وقوله تعالى: {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [أَيْ أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا لِلآخِرَةِ].
يشير المُفَسِّر رحمه الله إِلَى أَنَّ المُرَادَ بنصيبه مِنَ الدُّنْيَا أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} يعني: لَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنَ الدُّنْيَا بإمهالِك، فما دُمْتَ قَدْ أُعْطِيت مُهلة، فلا تَنْسَ هذه المُهلة أَنْ تُنْفِقَ المَالَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَيَكُونَ المُرَادُ بالنصيب مِنَ الدُّنْيَا هنا العَيش فِي الدُّنْيَا، يعني: لَا تَنْسَ أن تَغْتَنِمَ الفُرصة فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فتُنفق، فتكون الجملة هنا عَائِدَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي المَعْنَى، أي: اطلب الدَّارَ الآخِرَةَ فيما تُنفِق حَتَّى لَا يُضِيعَ عليك الوقتُ، فيضيعَ نَصِيبُك مِنَ الدُّنْيَا.
(1)
أخرجه ابن ماجه: كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، رقم (2043).
وَلِهَذَا قَال: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} كَأَنَّهُ يَقُولُ: اغتنم هَذِهِ المُدَّةَ الَّتِي هِيَ نَصِيبُك مِنَ الدُّنْيَا اغتَنِمْها للآخِرة، ويَحتمل -وَهُوَ الأقرب- {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَنَّنا لا نأمُرُك بأن تُنْفِقَ جميعَ مالِكَ طلبًا للآخِرَة، بل اطلُب الآخرة فيه، وخُذ نَصِيبًا مِنَ الدُّنْيَا لك، فَنَحْنُ لَا نُرِيدُ أَنْ تَنْخَلِع مِنْ مَالِكَ، ولكننا نُرِيدُ أَنْ تَبْتَغِيَ به الدَّارَ الآخِرَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فخذ نَصِيبَك مِنَ الدُّنْيَا مِن طَيِّب المأكَل، ونظافَة المنزل، والثياب، والزوجات، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَهَذَا المَعْنَى أقربُ وأصَحُّ؛ لأنَّنا عَلَى المَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ المُفَسِّر رحمه الله تَكُونُ الآيَةُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَكْرَار، فَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِجَلْبِه وقَبُولِه النصيحةَ، وَقَدْ يَكُونُ قولُهم له بطلب الآخرة، وعَدَمِ نِسيان حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ النصيحة، والأخيرُ أقربُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: هَذَا المَالُ الْعَظِيمُ الَّذِي مفاتيحه تَنُوءُ بالعُصبة ابْتَغِ به كُلَّه الدَّارَ الآخِرةَ. فالمتبادَر أنه لن يَقْبَلَ، لَكِنْ إِذَا قِيلَ: ابتغِ به الآخِرة، وتَمَتَّعْ بالدُّنيا بِنَصِيبِك، فهَذَا يَكُونُ أدعى للقَبُول، وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الأساليب الحَسَنة فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"
(1)
.
فَلَا تَقُلْ: إني أقومُ الليلَ، وأَصُومُ النهارَ ما عِشْتُ، هَذَا خَطَأٌ، فإِنَّ لربِّك عليك حقًّا بعبادته، ولكنْ لنفسك عليك حقٌّ بإعطائها الراحةَ، فالصَّواب هُوَ هَذَا، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنَ الدُّنْيَا.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له، رقم (1867).
وَلَا نَدْرِي هل عاصر قارونُ فِرْعَونَ أَمْ كَانَ هَذَا بَعْدَ هلاكه؟ وَلَا يُوجَدُ مَا يَمْنَعُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَفَرَ، واتصلَ بفِرْعَونَ، وصارت عنده الأموال العظيمة.
قَوْلُه تعالى: {وَأَحْسِنْ} قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [{وَأَحْسِنْ} لِلنَّاسِ بِالصَّدَقَةِ]، هنا المُفَسِّر خَصَّ الإحسانَ، قال: أَحْسِن للناسِ بالصَّدَقة، ولكن الصَّحِيحُ أَنَّ المُرَادَ مَا هُوَ أعمُّ، أي: أَحْسَنُ فِي عِبَادَةِ اللَّه، وفي معاملة عِبَادِ اللَّهِ.
قَوْلُه تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} الكافُ هنا للتَّعلِيل، وليست للتَّشبِيه؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لإنسان أَنْ يُحْسِنَ مِثْلَ مَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ، فإحسان اللَّهِ إِلَيْهِ أكملُ وأعظمُ، وَقَدْ جَاءَتِ الكاف للتَّعلِيل فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تعالى:{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، أي: واذكروه لهدايتكم، وَمِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
(1)
، فإن الكافَ هنا للتَّعلِيل، وليست للتَّشبِيه.
وَهَذَا المَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ نَسْلَمُ بِهِ مِنَ الإيراد الذي أورده بَعْضُ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ مِن الْعَادَةِ أَنَّ المُشَبَّهَ أقلُّ شأنًا ورُتبةً مِن المُشَبَّهِ به، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ أَقَلَّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، فكيف قيل:"صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ".
مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أجاب فقال: إِنَّ التَّشبِيه لِلصَّلَاةِ عَلَى وَاحِدٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى جَمَاعَةٍ: إبراهيمَ وآلِه، وَهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ المَعْنَى: أنك يا ربي كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّ هَذَا مِن شأنك، ومِن عادتك التكرُّم، فامنُن أَيْضًا
(1)
أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، بابٌ، رقم (3370)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، رقم (406).
عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَتَكُون جُمْلَةُ:"كَمَا صَلَّيْتَ". للتَّعلِيل، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ للتَّوَسُّل، يعني: إننا نَتَوَسَّلُ إليك بما فعلتُ مِنْ قَبْلُ فِي إِبْرَاهِيمَ وآلِه، أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَآلِ مُحَمَّدٍ.
قَوله: {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِالمَالِ العظيمِ، الذي مفاتِحُه تَنُوءُ بالعصبة، وقوله:{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} الفساد بالبَغي؛ حَيْثُ قَالَ تعالى: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ، فلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ بالبغي، كَذَلِكَ أَيْضًا إِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يعمل بِمَالِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ؛ أَنَّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إيمان؛ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مِنْ مَالِهِ وَسِيلَةً إِلَى الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وقوله:{الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: الْفَسَاد فِي الْأَرْضِ بِالمَعَاصِي؛ لأن المَعَاصِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ سَبَبُ فسادِ الأرض، قَالَ تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41].
ولهذا مَا مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِن فِتنٍ، وحُروبٍ، وقِتالٍ، وجَدْبٍ، وغيره، إلا بسبب المعاصي، قَالَ تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [فاطر: 45].
فهذا الهَرْجُ الَّذِي كَثُرَ فِي هَذَا العصر، كُلُّ ذَلِكَ بسبب المَعَاصِي الَّتِي تُفعل، فهي عقوبة للعُصاة الذين أُصيبوا بهذه، وإنذارٌ للآخَرين؟ فإنك قَدْ تَرَى البلاد الآمنةَ المطمئنةَ التي يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رغدًا مِنْ كُلِّ مَكَان، ويَجلب النَّاسُ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَكَان، ثم تفاجأ بأنها دُمِّرَت مساكِنُها، وبُيُوتُها، وأَمْنُها، ورخاؤها؛ بسبب المعاصي.
قَوْلُه تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ، قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [بِمَعْنَى أَنَّهُ
يُعَاقِبهُمْ]. وهذا يُسمونه تأويلًا، ونحن نُسميه تحريفًا؛ لِأَنَّ الآيَةَ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ يُعاقب المفسدين، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُحِبُّهم، أي: إنها تنتفي عنهم محبة اللَّهِ سبحانه وتعالى، وهي الصِّفَة الثابتة لَهُ حَقِيقَةً عَلَى وَجْهِ الكمال، لَكِنْ إِذَا كَانَ لَا يُحبهم، فلا يُثيبُهم.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ نَفْيَ المحبة إثباتٌ للكراهة لَزِم منه المعاقبة، فتفسير المُفَسِّر رحمه الله لمخبته هنا باللازم، وهو المعاقبة، خطأٌ، هذا يعتبر تحريفًا لِكَلَامِ اللَّهِ عز وجل، فهناك فرق بَيِّن بَيْنَ نفي المحبة والمعاقبة، كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فَرَقًا بَيْنَ المحبة والإثابة، والمُفَسِّر رحمه الله يحمل الحبةَ على الإثابة، وَمَا هِيَ عَلَى الإثابة.
فالحاصِلُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ المُفَسِّر رحمه الله هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الأشاعرة وغيرهم، فَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ لَا تَدْخُلُ عقولهم، قالوا بالتأويل.
فَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الإسلام عنهم القاعدةَ فِي إِثْبَاتِ الصفات، حَيْثُ قَالَ: "وكان ابن كُلَّاب وأتباعه يقولون: إِنَّ العُلُوَّ على المخلوقاتِ صِفَةٌ عقلية تُعلَم بالعقل، وأمَّا استواؤه على العرش، فهو مِن الصفات السمعية الخبرية التي لا تُعلم إلا بالخَبر، وكذلك الأشعري يُثبت الصفات بالشرع تارَةً، وبالعقل أخرى، ولهذا يُثبت العُلُوَّ ونحوه مما تَنْفِيه المعتزلة، وثَبَت الاستواء على العرش، ويرد على مَن تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش، بخلاف أتباع صاحب الإرشاد، فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة، فلم يُثبتوا الصفاتِ إلا بالعقل، وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عُرِف ثُبوتُه بالسمع، فالشرع هو الذي يُعتَمد عليه في أصول الدِّين، والعقلُ عاضِدٌ له مُعاوِن.
فصار هؤُلاءِ يسلكون ما يَسلكُه مَا سَلكَه مِن أهلُ الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون: إن الشرع لا يُعتَمد عليه فيما وُصِف اللَّه به، وما لا يُوصَف، وإنما يعتمد في