الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (88)
* * *
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
* * *
قال المُفَسِّرُ رحمه الله: [{وَلَا تَدْعُ} تَعْبُدْ {مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} إِلَّا إِيَّاهُ {لَهُ الْحُكْمُ} الْقَضَاءُ النَّافِذُ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بِالنُّشُورِ مِنْ قُبُورِكُمْ].
قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ} أي: لَا تَعْبُدْ، و (لا) ناهيةٌ، والفِعل بَعْدَها مجزومٌ بِحَذْفِ حَرْفِ العِلة، وهو الواو، وَدَلَّ عَلَيْهِ الضَّمةُ عَلَى الْعَيْنِ.
قوله تعالى: {مَعَ اللَّهِ إِلَهًا} : {إِلَهًا} مفعول تدعو، والإله بمعنى المألُوه، أي المعبود.
قوله تعالى: {إِلَهًا آخَر} وَهَذَا غَيْرُ مُمكنٍ؛ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ بحق؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الآلهة التي سِوَى اللَّهِ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ، كَمَا قَالَ تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30].
وَاللَّهُ تعالى في قَوْلِهِ: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} سمَّى مَا يُعْبَدُ إِلَهًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ (الإله) فِعالٌ بِمَعْنَى مَفْعُول، أَيْ معبود.
قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هَذِهِ الجمْلَةُ كالتَّعلِيل للنفي السابق، أي: فإنه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
إِذن: هَذَا النفيُ نفيٌ للحَقِّ؛ لأنه هو المعبود الحقُّ، فإنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وحينئذ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ مَا سَبَقَهَا مُنافَاة؛ إِذْ إِنَّ مَا سَبَقَهَا يُثبِت إلهًا مَعَ اللَّهِ، لكن نَهَى أَنْ تدعو هذا الإله، والثاني يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فينفي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إله، وَالجمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُقَالَ: الإله الْحَقُّ الَّذِي عُبِد، وهو يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ هو اللَّهُ وحده.
وأَمَّا الإلهُ الْبَاطِلُ الَّذِي عُبد، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، فإذا ثابت لِغَيْرِ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الصحِيحُ فِي النَّفْي، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نفيًا بِمَعْنَى النَّهْي، أي: لَا تَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ.
والنفيُ بِمَعْنَى النَّهْي وَارِدٌ في الْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: لَا رَيْبَ فِيهِ، أي: لَا تَرْتَابُوا فيه. فيجعلون النفيَ مكانَ النهي، ولكن الْأَوْلَى أَنْ يبقى النَّفْيُ عَلَى ظَاهِرِ، وَأَنْ يُجْعَلَ نفيًا حقيقةً، ويكون النفيُ أَبْلَغَ مِنَ النَّهْي؛ لأن النَّفْيَ إِثْبَاتُ صِفة، وأما النهيُ، فَقَدْ يَحْصُل الِامْتِثَالُ لَهُ، وَقَدْ لَا يحصُلُ.
وعليه نَقُولُ: إن هَذَا النَّفْيَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ باعتبار أَنَّهُ إِلَهٌ باطِل، والثاني باعتبار أَنَّهُ إِلَهٌ حَقٌّ، فَلَا إلهَ حَقٌّ إِلَّا اللَّهُ.
قوله تعالى: {إِلَّا هُوَ} هو ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ اسمًا مُستقلًّا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، خلافًا للصُّوفية المبتدعة الضالَّة، فإنهم يجعلون (هُوَ) مِنْ
أَسْمَاءِ اللَّهِ، ويقولون:(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) مِثل (لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، ويَقُولُونَ فِي أذكارهم الباطلة:(هُوَ هُوَ هُوَ)، يُكَرِّرُونها، ويقولون هَذَا هُوَ التوحيد.
ولكن نقول لهم: الضَّمِيرُ (هُوَ) ليس عَلَمًا للَّه، وَإِنَّمَا هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ:{مَعَ اللَّهِ} .
قَوْلُه تبارك وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} هالك بمعنى زَائِل ومُضْمَحِلّ ومعدوم بعد الوجود.
قال المُفَسِّرُ رحمه الله في قَوْلِهِ تعالى: {إِلَّا وَجْهَهُ} : [إِلَّا إِيَّاهُ] أي: إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّهُ سبحانه وتعالى ليس بِهَالِكٍ، كَمَا قَالَ تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27].
وتفسير المُفَسِّر رحمه الله فيه رَدٌّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبَاطِلِ، الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَفْنَى إِلَّا وَجْهَهُ. فلم يجعلوا الوجهَ مُعَبِّرًا عَنِ الذات، بل جعلوه دَالًّا عَلَى لَفْظِهِ فَقَطْ، وَهُوَ الْوَجْهُ نفسُه.
وَهَذَا -لَا شَكَّ- كلامٌ باطل، فالمراد بالوجه هنا الذاتُ كُلُّها، كل الذات العَلِيَّة، لكنه عَبَّرَ بالوجه كسائِرِ التعبيرات اللغوية؛ حيث يُعَبِّرُ بالوجه عَنِ الشَّيْءِ كله.
وَلَكِنْ قَدْ يُفْهَمُ كَلَامُ المُفَسِّر رحمه الله باطلًا بأن مَعْنَاهُ إنكار الوجه، لكن المُفَسِّر رحمه الله لا أَظُنُّ أَنَّهُ يُرِيدُ سقط ذَلِكَ، والمعروف أن الأشاعِرَة يُنكرون الوجهَ حقيقةً.
ولكننا نَقُولُ إِنَّ اللَّه سبحانه وتعالى لَهُ وَجْهٌ، ونستدل عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ، ولكنه عَبَّرَ بالوجه عن الذات كسائر أساليب اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وقيل: إِنَّ المَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَيَكُونُ هَذَا عَائِدًا عَلَى الْأَعْمَالِ، يعني جميع الأعمال مَردُودة، وغير مَقْبُولَةٍ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، ويَسْتَدِلُّ هؤُلاءِ بقوله:{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الإنسان.
ثُمَّ قَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الشرك هالِكٌ وفَانٍ فِي غَيْرِ فِعْلِ المرء، إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، الخالص له، فإنه يبقى للمرء.
وَكُلُّ مَا فِي يَدِ الإنسان هَالِكٌ لَا يُفِيدُه، مِثْل قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"
(1)
.
ولكننا نقول: إِنَّ المَعْنَى الْأَوَّلَ أَقْوَى، وَهُوَ أَنَّ المُرَادَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فانٍ وتَالِفٌ إِلَّا وَجْهَ اللَّه، وكالتَّعلِيل لقوله:{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ المعبودة مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا تَبْقَى، واللَّه تعالى هُوَ الَّذِي يَبْقَى، فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ.
قَوْلُه تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ} هَذِهِ الجمْلَةُ مُكَوَّنَة مِن مُبْتَدَأ وَخَبَر، الخَبَرُ {لَهُ} مُقَدَّم، و {الْحُكْمُ} مبتدأٌ مؤخَّر، وتقديمُ ما حَقُّه التأخيرُ يُفيد الحصرَ، والمعنى: لَهُ وَحْدَهُ الحُكم.
يقول المُفَسِّرُ رحمه الله: [{لَهُ الْحُكْمُ} القَضَاءُ النَّافِذُ]، وفَسَّرَ بالحُكم الكَوْني، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَشْمَل الحُكم الكوني والشرعي، وله القضاءُ النافِذ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وله أيضًا الْفَصْلُ بَيْنَ الْخَلْقِ بالأحكام الشرعية.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب النجش ومن قال: لا يجوز ذلك البيع. ومسلم كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (1718).
فالحُكم شامِلٌ للأمرين: الكوني والشرعي.
وقد مَرَّ علينا أَنَّ مِنْ أمثلة الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ قَوْلَه تعالى فِي سُورَةِ المُمْتَحَنَةِ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10].
والحُكم الكوني قَوْلُه تعالى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80].
وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} ذَكَرْنَا أَنَّ الجُملة فيها اختصاص أَنَّ الْحُكْمَ للَّهِ وَحْدَهُ، مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ لَهُ حُكْمٌ، لكنه حُكم مُقَيَّد.
ولهذا يقال: الحاكِم الشرعي، وحاكِم البلد، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. ولكن حُكْمُ هَؤُلَاءِ تابعٌ لِحُكْمِ اللَّهِ، والحُكم المطلَق التامُّ الشامِل إنما هُوَ للَّهِ وَحْدَهُ، فأحكامُ هؤُلاءِ الحكام هِيَ مِن باب التَّبعِيَّة؛ إِذْ إِنَّ هَذَا الحْاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وإِذَا حَكَم لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ.
قَوْلُه تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [بِالنُّشُورِ مِنْ قُبُورِكُمْ].
قولُه: {وَإِلَيْهِ} أَيْ: إِلَى اللَّهِ، وذلك بالنُشور إذا نَشَرَكُم مِن القُبور، فلا مَرْجِعَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، ويُحَتِّمُ أَنْ يَكُونَ الرُّجوع هنا أَعَمَّ مِمَّا ذَكَرَ المُفَسِّر رحمه الله؛ بِحَيْثُ يَكُون المعنى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ حَتَّى فِي أحكامكم، ترجعون إِلَى اللَّهِ، ولهذا يُرَدُّ الحكْمُ بَيْنَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عز وجل.
* * *