الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَيِّئَةً واحِدَةً"
(1)
.
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} إِلَّا جَزَاءَ {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: مِثْلَهُ]، أي: مَنْ جَاءَ بالسيئة يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُجزى إلا مِثْلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ:{فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: إِلَّا جَزَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يُزَادُ عليهم.
وَفي قَوْلِه: {وَمَنْ جَاءَ} فِي المَوْضِعَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ المَدَار على مجيء الإنسان بذلك، لَا عَلَى عَمَلِهِ، فقد يَعمل الحَسَنة، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْهَا مَا يُبطلها، فمثلًا: هناك إنسانٌ عَمِل صدقة، ثم مَنَّ بِهَا، أو آذى مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُونُ هَذِهِ صَدَقَةً، وتَبْطُل، ولا يُثاب عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وإنسانٌ آخَر عَمِل سيئة، لكنه تابَ منها، فذهبت السيئة، فلَا يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وقارون طغى فِي الْأَرْضِ وعَلا، ولم يَتُبْ، فعاقَبَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى صَارَ نازلًا بعد أن كان عاليًا.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: جزاء الحسنة خَيْرٌ مِنْهَا بالكَمِّية والكيفية، أما الكَمِّية فالحسنة بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وأما الكيفية، فَإِنَّ جَزَاءَ الحسنة دائم، وفِعل الحسنة ليس بدائم، فالفِعل ينتهي بموت الإنسان، وَلِهَذا قَالَ اللَّهُ تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17].
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، رقم (6491)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة، رقم (131).
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ المدار عَلَى عَمَلِ الحسنة، بل المدار عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بالحسنة؛ لقوله:{مَنْ جَاءَ} ، فقد يعمل الإنسان الحسنة، ولكن يأتيها ما يبطلها، فالمدار عَلَى أَنْ يَأْتِيَ الإنسان يَوْمَ الْقِيَامَةِ بالحسنة، لَا عَلَى أَنْ يفعلها.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثبات الجزاء؛ لقوله: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ السيئة لا تُضاعَف، نأخذه مِنْ قَوْلِهِ تعالى:{إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أَنَّ عَدمَ مُضاعفة السيئة عَامٌّ فِي مَكَّةَ، وَفِي غَيْرِهَا، ووجهه أَنَّ الآيَةَ عَامَّةٌ، لَيْسَ فِيهَا استثناء، ثُمَّ إِنَّ سُورَةَ القصص مَكِّيَّة نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَالآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، ولم يُستثنَ شيء.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا أُقِيمَ فِي بَلَدٍ حَسَنَاتُهُ كَسَيِّئَاتِهِ". فَهَذَا بَاطِلٌ، لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ.
لكن السيئة فِي مَكَّةَ تُضاعَف، لَا مِنْ جِهَةِ الكَمِّية، وَلَكِنْ مِنْ جهة الكيفية، فتكون عُقوبتُها أَشَدَّ وأَبْلَغَ إيلامًا.
فالسيئةُ لَا تَكُونُ عَشْرَ سيئاتٍ، لكنْ جزاؤها يَكُونَ أَشَدَّ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: التنديدُ بعامِل السيئات، أي: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} لَمْ يَقُلْ: {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَلَكِنْ قَالَ:{فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا} ، فهذا تنديدٌ بِهمْ، وبيانٌ لاستحقاقهم ما يسوؤهم مِنَ الْعَذَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا السيئات
يُجزون سيئة، فَهَذَا لَا شَكَّ أنه تَبْكِيتٌ، وتَنْدِيدٌ بهم؛ لِعَمَلِهِمُ السيئات.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ ثَوَابَ اللَّهِ سبحانه وتعالى دائرٌ بين العَدل والفَضل، وهذان قِسمان، ثالثُهما: الجَوْر.
الفَضل بالنسبة للمحسنين، كَمَا قَالَ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ، والعَدْل بالنسبة للمُسيئين، كَمَا قَالَ:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
أما الجَوْرُ، فهذا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، قَالَ تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، فجزاءُ اللَّهِ تعالى دائِر بين الفضل والعدل.
إذن: فهو محمود عَلَى كُلِّ حَالٍّ؛ لأنه إمَّا عَدْلٌ، وإِمَّا فَضْلٌ.
* * *