الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (78)
* * *
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78].
* * *
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} أَي المَالُ {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أَيْ فِي مُقَابَلَتِهِ وَكَانَ أَعْلَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّوْرَاةِ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ، قَالَ تعالى {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} لِلْمَالِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} لِعِلْمِهِ تعالى بِهَا فَيَدْخُلُونَ النَّارَ بِلَا حِسَابٍ].
انظر جواب قارونَ لهؤُلاءِ الناصحين {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} أي: المال، {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} .
وكانوا قد قَالُوا لَهُ قَبْلَهَا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} فَلَمْ يعترف، بَلْ قَالَ:{أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} .
واختلف المُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} فَقِيل -كَمَا قال المُفَسِّرُ- أي: فِي مُقَابَلَتِهَ: أي: إِنَّهُ لَيْسَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ، ولكن لأني كنتُ عالمًا بالتَّوراة وفاهمًا أُوتيت هذا الشَّيْءَ. فجَعَل فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِ مِن باب المكافأة، وَلَيْسَ مَنْ باب الفضل.
إذن: هو رَدَّ نصيحتَهم، ولم يعترِف بأن الفضل للَّه، هَذَا قَوْلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنما آتَانِي اللَّهُ ذَلِكَ؛ لأني أهلٌ له، فيصير المعنى: عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ أَنِّي له أهلٌ.
وبمعنًى آخَر: لأني عالِمٌ بأسباب الرزق، فاكتسبتُه بما معي مِنَ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، بل أَنَا رَجُلٌ حاذِقٌ أعرفُ كيف أتصرف، وأعرف الْأَسْبَابَ الَّتِي فِيهَا نُمُوُّ المال، فحَصَل لي ذَلِكَ بِمَا عندي. كَأَنَّهُ يَقُولُ: إنما أُوتيتُه بِحَوْلي وقُوَّتِي، وليس بِفَضْلِ اللَّهِ ومِنَّتِه.
فصار عَلَى المَعْنَى الْأَوَّلِ نَسَب هذا الإتيانَ عَلَى أَنَّهُ مكافأةٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل له، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي نَسَب هذا الْفَضْلَ إِلَى حَوْلِه وقُوته، وَلَيْسَ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ تعالى.
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [وَكَانَ أَعْلَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالتَّوْرَاةِ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ]، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ -مِن زَعْمِه أنه أعلمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بالتَّوراة بَعد مُوسَى وَهَارُونَ- غَيْرُ مُسَلَّمٍ به؛ بَلْ إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ أَنِّي له أهل، وأني أهلٌ لهذا الشَّيْء، أَوْ عَلَى عِلْمٍ عندي، أي: عَلَى مَعْرِفَةٍ مني بالأمور، وأمَّا أنه أعلمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بالتوراة، فَلَيْسَ فِي الآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُه تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} الهَمزة للاستفهام، وَالمُرَادُ بِهَا التقرير، أي: إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَدِ عَلِمَ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بأنَّ قارونَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، فالتقريرُ هنا مِنَ اللَّهِ، هُوَ الَّذِي أخبرنا بأنَّ قارون قَدْ عَلِمَ بِهَذَا الْأَمْرِ.
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ} الإهلاكُ هُنَا بِمَعْنَى الإفْنَاء، وقوله:{مِنَ الْقُرُونِ} جَمع قَرْنٍ، والقَرْنُ تارَةً يُرَادَ بِهِ الْأُمَّةُ، وتارَةً يُرَادَ بِهِ الزمن، فيقال مثلًا: تتابعت الأُمم قَرْنًا بَعْدَ قَرْنِ، أي: زَمَنًا بَعْدَ زَمَن.
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [{قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ}: الأمم، {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} لِلْمَالِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ].
قوله: {مَنْ} مفعولُ {أَهْلَكَ} ، أي: الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، أي: مِن قارون، قوله:{قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للمال {أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} فِي بَدَنِهِ، وَأَمَّا المَالُ فقال:{وَأَكْثَرُ جَمْعًا} أي: أكثرُ مجموعًا للمال، أو: أكثر تحصيلًا له، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كلام المُفَسِّر رحمه الله.
قوله: {جَمْعًا} أي: تحصيلًا، وَلَكِنْ إِذَا قُلْنَا: أكثر جَمْعًا، أَوْ مجموعًا، كَانَ أَوْلَى؛ لأن المجموعَ نتيجة للقوة التي يُحصل بها المَرْءُ المالَ.
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ]، فأفادنا بأن الاستفهامَ هنا للتقرير، أي: إِنَّ قارونَ قَدْ عَلِمَ، ولكنه تجاهَلَ الأمرَ، قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله:[فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ].
قَوْلُه تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي: ولا يَسألهم عن ذنوبهم، لا يسألهم سؤالَ استخبار، وإنما يسألهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ سؤالَ تَبْكيت، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى يَسْأَلُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ ذُنوبهم، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وَقَالَ تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93].
إذن نقول: النفيُ لحالٍ، والإثباتُ لحالٍ، يعني: لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كيف تجمعون بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} ، وأمثالها مِثل:{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، وبين الآيَاتِ الَّتِي تُثبت السؤال مِثْل قَوْلِهِ تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقوله تبارك وتعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؟
فالجواب عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السُّؤَالَ المَنفِيَّ هُوَ سُؤَالُ الاستفسار، الَّذِي يَسْأل: هل أذنبتَ؟ وما ذَنْبُك؟ والسؤال المُثْبَتُ سؤالُ التوبيخِ والتَّبْكِيت والتَّقْرِيع، أي يُسْألون لِيُقِرُّوا، فهذا ثابتٌ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ هُنَا.
سؤال النفي أَنَّهُمْ لَا يُسألون لِأَجْلِ أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ ذُنوبهم، وإذا أَخْبروا -مثلًا- تُرِكُوا، أو يُعاقَبُون عَلَى حَسَبِ إخبارهم؛ لأنهم سيُعَاقَبُون، سواء أَخبَروا أَوْ لم يُخْبِرُوا، لكنهم يُنكِرون، فيقولون:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، ولكنهم لا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ هَذَا النفي شيئًا.
فسؤالُ الاستفسارِ مَعْنَاهُ أَنَّك تَسأل الْإِنْسَانَ عَنْ شَيْءٍ تجهلُه لِيُخْبِرَك به، هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرِدَ بالنسبة للمُجرمين، وَهَذَا هُوَ المَنْفِيُّ.
أَمَّا سؤال التَّوبيخ فتسألُه عَنْ شَيْءٍ ليُقِرَّ به، لَا ليخبرك، ولأَجْل أَنْ يَخْزَى بَيْنَ النَّاسِ.
فإذا سُئِلوا قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وشهِدت جوارحُهم، فَإِنَّهُمْ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، أو إنهم يُسأَلون فيجحدون فِي مَكَانٍ، أَوْ فِي وَقْتٍ، ويُسألون فيُقِرُّون فِي وَقْتٍ آخَرَ.
فتَبيَّن الآنَ بِذَلِكَ أَنَّ السؤال المنفيَّ غيرُ السؤال المُثْبَت، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وبعضهم يقول: إِنَّ السُّؤَالَ المُثْبَت يَكُونُ فِي وَقْتٍ، والسؤال المنفيُّ فِي وَقْتٍ آخَرَ؛ لأن يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِقدارُه خمسون أَلْفَ سَنَةٍ، فالمدة طويلة، فيُمكن أَنْ يُسْأَلُوا فِي مَوْضِعٍ، ولا يُسْأَلُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {الْمُجْرِمُونَ} المجرم هُوَ فَاعِلُ الإجرام، والإجرام: المعاصي،