الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: {تَصْطَلُونَ} تستدفئون؛ لأن الصَّلْيَ معناه: الاحتماء بالنار، فالاصْطِلَاء إذن الاحتماء بها، وهو الاسْتِدْفَاء، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَرْدٍ.
يقول المُفَسِّرُ رحمه الله: [وَالطَّاءُ بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ] هَذِهِ عِلَّةٌ تصريفية، فتاء الافتعال هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الشَّيْء، فالفعل (اصطلى) أصله (اصتلى)، و {تَصْطَلُونَ} أصلها:(تصتلون)، مِثل تبتغون، ولكن القاعدة التصريفية فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ تاء الافتعال بعد الصاد، فإنها تُقلب طاءً، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِن: صَليَ النارَ -بِكَسْرِ اللَّامِ وفتحها- كرَضِيَ، وكرَمَى، ففيها لُغَتان فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فقوله تعالى:{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل: 15]، مِنْ بَابِ رَضِيَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى:{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 12].
يَقُولُ اللَّهُ تعالى فِي سُورة أخرى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10]، وَالْخَبَرُ أَعَمُّ مِنَ الْهُدَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْفِي هَذَا الشَّيْء، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وقُلنا: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ السماء مُغِيمة، وَإِلَّا لَكَانَ يَعرف النجوم؛ لأنَّه راعٍ، وَقَدْ بَقِيَ ثمانيَ سنواتٍ، ويعرف غالب النجوم.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: أَنَّهُ مَنْ تعهد بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يشتغل بِغَيْرِهِ حَتَّى انتهائِه منه؛ لقوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} ، وهذه قاعدةٌ مهمة، إِذَا اشْتَغَلَ الإِنْسَان بِشَيْءٍ لَا يَنتقِلُ إِلَى غَيْرِهَ حتى يُتِمَّهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ، كانوا يبدءون بحفظ القُرْآن، فلا ينتقلون إِلَى غَيْرِهَ حتى يختموه، وهكذا.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهَا إِثْبَاتُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قد يُقدِّر لِلْمَرْءِ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا توصله إلى الكمال، ذَلِكَ أَنَّ رَعْي الغَنم فيه مصلحة لرعاية الْخَلْقِ فِيمَا بَعْدُ، ولهذا
أَخْبَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ"
(1)
.
فَإِذَا كَانَ الإِنْسَان يتعود الرعاية، ومسئولية الرعية، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ توطئة لما يُوكَل إِلَيْهِ فِيمَا بَعْدُ.
المهم: أَنَّ اللَّهَ يُقَدِّر لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَصِلُ بِهِ إِلَى درجة الكمال.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ -عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حتى قَبْل النُّبُوَّةِ هُم كغيرهم مِنَ الْبَشَرِ؛ يُحِسُّون بآلام البَرَد، وكذلك بآلام الجُوع وغيره، ويهتدون إِلَى الطَّرِيقِ، وقد يَضِلُّون عنه، وهنا فائدتان شرعيتان:
الْأُولَى: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الغيب؛ إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغيبَ ما ضَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ.
الثَّانية: أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لأنفسهم نَفْعًا، وَلَا ضَرًّا، فإذا كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ ضَرًّا لأنفسهم، فلغيرهم مِنْ بَابِ أَوْلى، وهذا مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تعالى:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]، وَقَالَ اللَّهُ تعالى لِنَبِيِّه:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21 - 22].
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّهَ تعالى إِذَا أَرَادَ أمرًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ لمَّا أَرَادَ أَنْ يُوحِيَ إِلَى نَبِيِّهِ مُوسَى فِي ذَلِكَ المكان، هَيَّأ له أسبابًا تُوَصِّلُه إِلَى النَّارِ التي رآها وقَصَدَها.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْقَى فِي المَكَانِ الَّذِي فارَقَهُ فيه صاحبُه، لأن مُوسَى قَالَ لِأَهْلِهِ:{امْكُثُوا} ، حتى يَسْتَطِيعَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِم، وَكَذَلِكَ هُمُ لا يَضِلُّون عَنِ الطَّرِيقِ، وهذه عَادَةٌ مِنَ الحزم.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، رقم (2262).
وَانْظُرْ إِلَى قِصَّة عَائِشَةَ فِي الْإِفْكِ
(1)
لمَّا جَاءَتْ، ووجَدَتِ الْقَوْمَ قَدْ رَحَلُوا، بَقِيَتْ فِي مَكَانِهَا؛ لأنَّها عَلِمْت أَنَّهُمْ إِذَا فَقَدُوها فسوف يرجعون إليها مَرَّة أخرى، لَكِنْ لَوْ ذَهَبَتْ فَسَتَضِلُّ عنهم، وهُم إِذَا جَاءُوا فلن يجدوها.
الْفَائِدَةُ السَّادِسةُ: فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ معاملة موسى لأهله؛ إِذْ جَعَلَ يتطلب لهمْ مَا يُدفئهم، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"
(2)
.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لمِنْ أَرَادَ أَمْرًا أَنْ يُخْبِرَ أَهْلَهُ عَنْ وِجهته؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ، خِلَافًا لمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَلَا يُخْبِرُ أَهْلَهُ، وقد يُقْبَلُ هَذَا فِي الْأُمُورِ العادية، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ والسَّفَر -مثلًا- فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَ أهله بوجهته.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: اتخاذ الأَسْباب لَا يُنَافِي التَّوكُّل، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ التَّوكُّل، ومِن تمام معرفة الإِنْسَان بِاللَّهِ سبحانه وتعالى أن نأخذ بالأَسْباب؛ حيث إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تعالى جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سببًا، فيأخذ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ حتى يَصِلَ إِلَى الْغَايَةِ، لكن المحظور أَنْ يَعْتَمِدَ الإِنْسَان عَلَى السَّبَبِ ويظن أنه هو الغاية، فالتوكُّل على اللَّه مع الأخذ بالأَسْباب هَذَا مِنْ تَمَامِ معرفة الْإِنْسَانِ لِرَبِّهِ.
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، رقم (2661)، ومسلم: كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم (2770).
(2)
أخرجه الترمذي: كتاب المناقب، باب في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رقم (3895) وقال: حسن غريب صحيح. وابن ماجه: كتاب: النكاح، باب حسن معاشرة النساء، رقم (1977).