المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (82) * * *   * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ - تفسير العثيمين: القصص

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌(الآيات 1 - 3)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (5، 6)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌الآية (12)

- ‌الآية (13)

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآيتان (21، 22)

- ‌الآية (23)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (27)

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (32)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (34)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (35)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (44)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (45)

- ‌الآية (46)

- ‌الآية (47)

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (49)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (50)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (52)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (53)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (54)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (55)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (56)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (57)

- ‌الآية (58)

- ‌الآيات (59 - 64)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (65)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (66)

- ‌الآية (67)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (68)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (69)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (70)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (71، 72)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (73)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (74)

- ‌الآية (75)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (76)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (77)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (78)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (79)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (80)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (81)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (82)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (83)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (84)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (85)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (86)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (87)

- ‌الآية (88)

الفصل: ‌ ‌الآية (82) * * *   * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ

‌الآية (82)

* * *

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82].

* * *

قال المُفَسِّرُ رحمه الله: [{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} أَيْ مِنْ قَرِيبٍ {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ} يُوَسِّعُ {الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَ (وَيْ) اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَعْجَبُ، أَيْ أَنَا، وَ (الْكَافُ) بِمَعْنَى (اللَّامِ) {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالمَفْعُولِ {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لِنِعْمَةِ اللَّهِ كَقَارُونَ].

قَوْلُه تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ} أصبح هنا معناها: صار، أي: صار الذين تَمَنَّوا مكانه بالأمس يقولون. . . إِلَى آخِرِهِ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أصبح، أي: دَخَلُوا فِي الصباح، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى:{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} [القصص: 18].

قَوْلُه تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} صار الآن الَّذِينَ كَانُوا يتمنَّوْن مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارون يتعجبون، ويعلمون أَنَّ اللَّهَ يُوَسِّع الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ، ويُضَيِّقُه عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ هَذَا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى حِكمته؛ وليس لأن قارون لَهُ حَظٌّ عظيم،

ص: 367

بل لأن اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُعْطِي ويمنع.

إعراب قوله: {اللَّهَ} لفظ الجلالة هنا يُعرَب اسمَ (إِنَّ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، واسم (كَأَنَّ) عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.

قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [{يَبْسُطُ}: يُوَسِّعُ]، وقوله:{الرِّزْقَ} أي: العَطاء، وقوله:{لِمَنْ يَشَاءُ} مَنْ بِمَعْنَى الَّذِي، أي: للذي يشاء.

وهذه المشيئة هي مشيئةٌ مقرونة بحكمةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ ذلك أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ علَّقه اللَّهُ تعالى بمشيئته؛ فإنه مقرونٌ بحِكمته، فَاللَّهُ تعالى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمِنْ يَشَاءُ ممن اقتضت حكمتهُ أَنْ يَبْسُطَ لَهُمُ الرزق، وَقَدْ جَاءَ فِي الحْدِيثِ القدسي:"إِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمنِينَ لمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ لَا يُصلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ"

(1)

.

فاللَّه تعالى حكيم، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لفلان؛ لأن الحكمة تَقْتَضِي ذَلِكَ، ويضيِّقه عَلَى فُلَانٍ؛ لأن الحكمة تَقْتَضِي ذَلِكَ، وليس لِأَنَّ المَسْأَلةَ مسألةٌ اعتباطيَّة دون أيِّ رَوِبَّة، بل للَّهِ سبحانه وتعالى الحكْمَةُ فِيمَا أعطى، وفيما مَنَع.

وقوله: {مِنْ عِبَادِهِ} عباد: جمعُ عَبْدٍ، والمراد بالعبُوديَّة هنا العُبوديَّة العامَّة، الَّتِي هِيَ التذلُّل للأمر الكوني، وليست العبودية الخاصة الَّتِي هِيَ التذلُّل للأمر الشرعي، وقد مَرَّ عَلَيْنَا أَنَّ العبودية تَنْقَسِمُ إِلَى اثْنَيْنِ:

عبودية عامَّة: وهي الخُضوع للأمر الكوني، وهي شَامِلَةٌ لِجمِيعِ الخَلق، قَالَ اللَّهُ تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].

(1)

أخرجه البغوي في شرح السنة (5/ 22)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 318)، وابن عساكر (7/ 95).

ص: 368

عبودية خاصَّة: وهي الخضوع للأمر الشرعي، مِثْل قَوْلِهِ تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، وهذه خاصة بالمؤمنين.

فالعُبودية المرادة فِي الآيَةِ هِيَ العُبودية العامَّة؛ لأن بَسْطَ الرزق وتَضْيِيقَه يكون للمؤمن، ولِغَيْرِ المؤمن.

وَفي قَوْلِه: {مِنْ عِبَادِهِ} دَليلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي قَبْضَتِهِ سبحانه وتعالى، وَأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونه.

وعليه؛ فإننا إِذَا كُنَّا باللَّه، ومع اللَّه، فلا نهابُ أَيَّ قُوَّةٍ فِي الْعَالَمِ، لأَنَّنا نعلم أَنَّ كُلَّ مَا فِي الكون خاضِعٌ للَّهِ تعالى.

وقوله: {وَيَقْدِرُ} يُضيِّق عَلَى مَنْ يَشَاءُ، أي: يَجْعَلُهُ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّن، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]، فهنا {وَيَقْدِرُ} بمعنى: ضُيِّقَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ عَلَى قَدْرِ كفايته، أَوْ عَلَى أَقَلَّ أيضًا، فَاللَّهُ تعالى لَهُ الحُكْمُ فِي بَسْطِ الرزق وتَضْيِيقِه.

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ أفسَدَهُ الغِنى، مِثل قارون، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفْسِده الفقر، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11]، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا افْتَقَرَ بَعْد الغِنى أَبَى أَنْ يَتَحَمَّلَ مَا نَزَلَ بِهِ، فيكفُر باللَّه، وَمِنْهُمْ مَنْ ينتحر.

قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [(وَيْ) اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَعْجَبُ، أَيْ: أَنَا، وَ (الْكَافُ) بِمَعْنَى (اللَّامِ)].

إذن: هُوَ اسْمُ فعلٍ مُضارع، بمعنى: أَعْجَبُ.

ص: 369

وقوله: [أَيْ: أَنَا]، يعني أن ففاعِلَه ضميرٌ مُستتر وُجوبًا، تقديره: أنا.

وقوله: [وَ (الْكَافُ) بِمَعْنَى (اللَّامِ)]، أي: لِأَنَّ اللَّامَ هُنَا بِمَعْنَى التَّعلِيل، أي: أعجب لِهَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ، أي: أَعْجَبُ لِعَدم صلاحِ الكافرين.

فقوله: {وَيْكَأَنَّهُ} مُركَّب مِنْ أَرْبَعٍ كلمات، لا أربعةِ حُروف، وهي:(وَيْ) اسمُ فِعْل، و (الكاف) بمعنى اللام للتَّعلِيل، و (أنَّ) حرفُ توكيدٍ، و (الهاء) اسمُها.

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يجوز الْوُقُوفُ عَلَى (وَيْ)، فتقول مثلًا:{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ ويَ} ، ثم تقرأ:{كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} .

وَقَالَ بَعْضُهُم: إنَّ (وَيْ) اسمُ فعلٍ مضارع، و (الكاف) حرف خطاب، وليست حَرْف جَرٍّ، ولا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعراب؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فاعلُه مُستتر تقديرُه: أنا.

وَعَلَى هَذَا، يكون أنَّه حرفُ توكيد، والجُملة التَّعلِيلية عَلَى تَقْدِيرِ اللام، فَقَوْلُهُ تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، فهنا فتح الهمزة؛ لأنها تعليلية، هذان إعرابان.

والإعراب الثالث: (وي) اسمُ فِعلٍ مضارع بمعنى: أَعْجَبُ، و (كأنَّ) حرفُ تشبيه، والمراد بهذا التَّشبِيه التحقيقُ، كما تقول للإنسان: كأنك فاهِمٌ، أي: إنه فاهم، كذلك: كأنه لا يُفلح، أي: أعجب، كأنه لا يفلح الكافِرُون، أي: إن الأمر حق لا يفلح الكافِرُون.

فـ (كَأَنَّ) للتَّشبِيه إذا دخلت على اسمٍ جامِد، وللضَمِّ، أو للتحقيق إذا دخلت على مُشْتَقٍّ.

وقوله تعالى: {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} الفلاح هُوَ الْفَوْزُ بالمطلوب، وَالنَّجَاةُ مِنَ

ص: 370

المرفوض، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَنْ أَجْمَعَ الكلمات.

وقوله: {الْكَافِرُونَ} أي: الكافرين باللَّه عز وجل، وَكُلُّ مَا أُطْلِقَ الكفرُ فَالمُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، أَمَّا إِذَا قُيِّد فهو بِحَسَبِ مَا قُيِّد به، فَقَوْلُهُ تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256]، هنا قَيَّد الكفرَ بالطاغوت، لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ الكُفر باللَّه، فَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ بأيِّ نَوْعٍ مِن أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، سَوَاءٌ كَانَ كُفْرَ تكذيب، أَوْ كُفْرَ استِكْبار؛ فَإِنَّهُ لَا يُفْلِحُ.

إِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَلا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكُفْرِ مِنَ النَّعِيمِ، والتَّرَف فِي الدُّنْيَا؟

نقول: لَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفلحوا، حتى وإِنْ نُعِّموا فِي الدُّنْيَا، فلا يُفيدهم النعيم، وهُم إذا ماتوا انتقلوا إِلَى الْجَحِيمِ، فهذا النَّعِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ يكون وبالًا عليهم؛ لأنه يتحول بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عَذَابٍ.

ولهذا إذا عُذِّب أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ ينتحر، ويتخلص مِن التزامه إلى راحةٍ.

عَلَى كُلِّ حَالٍ: هُوَ لَا يَفرح، بل يزداد شقاءً، لكن المقصود أَنَّهُ إِذَا انتقل مِنْ هَذَا النعيم إِلَى عَذَابِ الجحيم، صَارَ هَذَا أشدَّ وأَنْكَى، وأعظمَ عليه، وأبلغَ حَسْرةً، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يفلحوا.

وهُم ما استفادوا مِن وقتهم فِي الدُّنْيَا شيئًا، بل خَسِرُوه، قَالَ سبحانه وتعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 1 - 3].

قَوْلُه تعالى: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [بِالْبِنَاءِ

ص: 371

لِلْفَاعِلِ وَالمَفْعُولِ]

(1)

.

قوله: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ} لَوْلَا شَرطية، وَهِيَ حَرْفُ امتناعٍ لِوُجُودٍ، فقد امتنع الخسف لوجود المنَّة، وَمَا بَعْدَهُ يكون مبتدأً، وخبرُه محذوف غالبًا، قَالَ ابْنُ مالك

(2)

:

وَبَعْدَ لَوْلَا غَالِبًا حَذْفُ الخَبَرْ

. . . . . . . . . . . . . . . .

قَوْله: {أَنْ مَنَّ اللَّهُ} : {أَنْ} مَصْدَرِيَّة، وقوله:{مَنَّ} فِعلٌ ماضٍ، و (أَنْ) وما دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ مصدر مبتدأ، أي: لولا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَيْنَا، والخبرُ محذوف تقديره: لولا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَيْنَا موجودة، أو واقعة.

وَعِنْدِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إن المبتدأ هُنَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ أصلًا، فلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ النحويون: إنه محذوف، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ؛ لِدَلَالة الْجَوَابِ عَلَيْهِ، ونقول: هو مبتدأ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ، كَمَا قِيلَ فِي الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 1 - 5]، إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، فابن القيم رحمه الله فِي كِتَابِهِ مختصر الصواعق المرسلة قال:"وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، فَلَيْسَ هُنَاكَ تَقْدِيرٌ أَصْلًا إِذِ الْكَلَامُ مُسْتَغْنٍ بنَفْسِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ الَّذِي يَدَّعِي تَقْدِيرَهُ قَدْ دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، فَكَأَنَّهُ مَذْكُورٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ بلَازِمِهِ كَمَا يَدُلُّ بِحُرُوفِهِ، وَلَا يُقَالُ لمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْتِزَامٍ إِنَّهُ مَحْذُوفٌ"

(3)

.

ونقول: استُغِني عَنْهُ فِي الجُمْلَةِ؛ لأن دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ لَيْسَتْ دَلالة ذاتية،

(1)

السبعة في القراءات، لابن مجاهد (ص 495).

(2)

ألفية ابن مالك (ص 18).

(3)

مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم (ص 353).

ص: 372

بَلْ إِذَا كَانَ السياق لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، فلا نُقَدِّر.

وقوله: {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} المنُّ: هو العطاء الَّذِي لَا يرادُ بِهِ المقابلة، أو المكافأة، ولا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَا يُرِيدُ مِن عِباده أَنْ يُكافئوه؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ حاولوا المكافأة ما استطاعوا، قَالَ تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وقوله:{لَخَسَفَ بِنَا} كما خَسَفَ بقارون، ولكن مِنَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ منعت ذلك، فرَجَعُوا إِلَى الصَّوَابِ، وعرفوا أَنَّ أَمْوَالَ قارونَ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا.

يقول المُفَسِّرُ رحمه الله: {لَخَسَفَ بِنَا} [بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالمَفْعُولِ] أي: قراءتان سَبْعِيَّتَان: {لَخَسَفَ بِنَا} و"لَخُسِفَ بِنَا"، وعلى قراءة {لَخَسَفَ بِنَا} أي: لَخَسَفَ بنا كما خَسَف بقارون، وعلى قراءة:"لَخُسِفَ بِنَا"، فَإِنَّ المُرَادَ خَسَفَ اللَّهُ عز وجل لَا شَكَّ، لكنهم قَالُوا ذَلِكَ تأدبًا، فلم يَنْسِبُوا الخَسف إِلَى اللَّهِ، بل بَنَوْه للمفعول؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْسِبُوا الخَسْفَ إِلَى اللَّهِ، كقول الجِنِّ:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، فهم يعرفون أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ اللَّهُ، لَكِنْ لمَّا تكلَّموا عَنِ الشَّرِّ لم يَنسِبُوهُ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْأَدَبِ فِي اللَّفْظِ.

فاللَّه سبحانه وتعالى يترك الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ إظهارًا لِعَظَمَتِه، لكن العباد يتأدّبون بالأدب، فلا يَنْسِبُونَ إِلَى اللَّهِ تعالى الشرَّ، ولا الخَسْفَ، ولا الأخذَ.

أَمَّا كونُ اللَّه يَنْسِبُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، فهذا إظهارٌ للعَظَمَة، ولضعف هَؤُلَاءِ المُعَذَّبِينَ.

قَوْلُه تبارك وتعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله:[لِنِعْمَةِ اللَّهِ كَقَارُونَ].

وقد تَقَدَّم الْكَلَامُ عَلَى إعراب: {وَيْكَأَنَّهُ} .

ص: 373