الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (40)
* * *
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القَصَص: 40].
* * *
قال المُفَسِّرُ رحمه الله: [{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ} طَرَحْنَاهُمْ {فِي الْيَمِّ} الْبَحْرِ المَالِحِ فَغَرِقُوا {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} حِينَ صَارُوا إِلَى الْهَلَاكِ].
قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ} الفاء عاطفة، وَالمُرَادَ بهَا أيضًا السَّببِيَّة، أي: فبسبب استِكْباره هو وجنودِه {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ} ، مُقابل الاستِكْبار ذَكَرَ اللَّه تعالى عقوبتهم عَلَى وَجه الاستهجان والتحقير.
قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ} النَّبْذُ هو الطَّرح، أي: طرحناهم بِقُوَّة، والمطروح بِقُوَّة حقيرٌ؛ لأن العظيم لا تستطيع أن تَنْبِذَهُ نَبْذًا، فهو خطير عظيم، إنما يُنبَذ نَبْذًا مَن كَانَ هَيِّنًا حقيرًا، وَلِهَذَا قَالَ:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ} والضَّمير (هُم) يَعود عَلَى فِرْعَون والجنود، ولم يُغْنِه عنه هؤُلاءِ الجنود شيئا؛ لأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَا شَيءَ يُقَابله مِن قوة البشر.
قَولُه تعالى: {فِي الْيَمِّ} ، قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله:[الْبَحْرُ المَالِحُ] احترَازًا مِنَ الأنَّهار؛ لأن الأنَّهار بِحَار، لكنَّها غيرُ مالحة، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ
فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53]، وقال تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19]. فسمَّى اللَّهُ تعالى الأنَّهارَ والبحارَ المالحةَ بحارًا.
وقوله: [البَحْرُ المَالِحُ] هَذَا بَيَان للواقِع الَّذي وُجِدَ فيه فرعَونُ وجنودُه؛ لأنَّهم وُجِدُوا في بَحْر القُلْزُم، وَهُوَ البَحر الأحمر الَّذي بَينَ جَدَّة ومصر، هَذَا الَّذي غَرَق فيه فِرْعَونُ وقومُه.
انظر إلى الحكمَة في أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أغرقهم إغراقًا في اليَمِّ؛ لأنَّ فرعَونَ كَانَ يفتخر بأنهاره ويقول لقومه: {قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51 - 52]، فأخرجه اللَّهُ مِن مُلك مصر، وأهلَكَه بمَا كَانَ يَفْخَرُ به منَ الأنَّهار.
قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} : {فَانْظُرْ} الخطاب لكلِّ مَن يَصِحُّ تَوجيه الخِطَاب إلَيه، أي: فانظر يَا مَن تسمع هَذَا الخطَابَ ويوجَّه إليك.
والمراد بالنَّظر هنا نظرُ الاعتبار، وهو النَّظر بالقَلب؛ لأن العاقبة لا تُنْظَر بالعَين، اللَّهمَّ إلَّا إذَا سار الإنسَان في آثَارِهم، فقد يَنظر بِعَيْنه وبِقَلْبه {كَيْفَ} هنا للاستفهام، وَالمرَاد به التعظيم، يعني: عِظَم العاقبة، لَكن لَا تعظيمَ الرِّفعة، بل تعظيم العقوبة، فهو تفخيمٌ لها، وتعظيمٌ للعاقِبة الوَخِيمة السيِّئة للغاية، وَهُوَ اسم استفهام مَبنيٌّ عَلَى الفتح متعلق بخبر مقدَّم وجوبًا لـ {كَانَ} .
قوله تعالى: {عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} : {عَاقِبَةُ} بمعنى عُقبى، وَهيَ عَلَى صيغَة اسم الفاعل، والمراد العُقبى، و {الظَّالِمِينَ} هُم الَّذينَ نقصوا حُقوق أنفسهم، وحُقوق ربّهم؛ لأنَّ الظُّلم في الأَصل النقص، قَالَ اللَّه تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، أي: لَم تَنقص.
وقوله: {الظَّالِمِينَ} المراد بالظَّالمِين هنا الكافِرُون؛ لأنَّه يُشير إلَى مَا جَرَى لفِرْعَون وقومِه، وهم ظالمون ظُلْمَ كُفر؛ لأن الظُّلم يَنقَسم إلَى قسمَين: ظُلم كُفر، وظُلم معصية، وهو دونَ الكفر.
ففي قَوْلِهِ تبارك وتعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، المراد هنا ظُلم المعصية، وفي قَوْلِهِ تبارك وتعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، المرادُ ظُلم الكفر، وفي قوله:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، شامل للأمرين: الكفر وَمَا دونَه.
قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} في مَصرهم إلَى الهَلَاك بأَتْفَهِ الأُمور، وَهُوَ المَاء، وَهَذه مِن حِكمة اللَّه سبحانه وتعالى؛ أَنْ يَأخُذَ كُلَّ إنسَانٍ بِذَنْبِه، كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، أي: بمَا يَقتَضيه ذَنْبُه منَ العقوبَة.
وكذلك عادٌ استكبروا في الأَرض وتحَدَّوْا، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، فَرَدَّ اللَّه عَلَيهم:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]؛ لأن الخالِق بلا ريبٍ أَقوَى مِنَ المَخلوق، وقد أخذوا بأَلْطَف الأَشْياء، وهي الرِّيح أَرسَلَ اللَّهُ عَلَيهم الرِّيح، قَالَ تعالى:{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]، كل أيام الدَّهر، وَلَو شَاءَ اللَّه لَأَرْسَلَها عليهم بِلَيْلَةٍ واحدةٍ، ودَمَّرَتْهُم تدميرًا، لكن لِحكْمَةٍ أرادها أَنْ يعَذَّبوا أصلًا لأخذتهم جميعًا، وابتدأت بالأطراف، ثم يصعد إلَى أَعلَى السماء، ثُمَّ يَنزل عَلَى رَأسه، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وهذا أشد عقوبة؛ لأَنَّهَا لَو جاءتهم مَرَّة وَاحدَة ودَمَّرَتْهُم، ما عُذِّبُوا وماتوا وهلكوا، وانتهى الأمر، لَكن هَذَا أشدُّ.