الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (36)
* * *
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36].
* * *
قال المُفَسِّرُ رحمه الله: [{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} وَاضِحَاتٍ حَالٌ {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} مُختلَقٌ {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} كَائِنًا {فِي} أَيَّامِ {آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}].
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} أي: آلُ فِرْعَوْن، {مُوسَى بِآيَاتِنَا} وَلَم يَقُل: وهارون؛ لأنَّ الرِّسالَة في الأَصل لموسى، وقوله:{بِآيَاتِنَا} الباء للمصاحبة: يعني: مصحوبًا بالآيات، وآيات جَمْعُ آية، وهي العلامات، وأُضِيفَت إلَى اللَّه إضافةَ العطيَّة إلى مُعطيها؛ لأَنَّ هَذِهِ الآيَات ليست آيات عَلَى اللَّه، لكنها آياتٌ منه على رسالة موسى، وإثبات أَنَّ اللَّهَ وَحدَه هُوَ الحَقُّ.
قوله تعالى: {بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} قَالَ المفَسِّرُ رحمه الله: [وَاضِحَاتٍ حَالٌ] حَالٌ مِن قَولِه: {بِآيَاتِنَا} ، وَلَا تَصحّ أَن تَكونَ نَعْتًا، لأَنَّهَا نَكِرَة، وَمَا قَبلَهَا مَعْرِفَة.
وَفي قَوله: {بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} إقامة للحُجة، لأَنَّ الآيَةَ هي علامة، وكُلَّما كانت أظهرَ كانَت الحُجَّة أقوى، والآيات بَيِّنَة، جاءهم بالآيات البَيِّنَات، فكان جوابهم:{قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} .
وقوله تعالى: {مَا هَذَا} أي: الذي جئتَ به يَا موسَى {إِلَّا سِحْرٌ} ، وهنا مَا لَم تَعمَل عَمَل ليس -عَلَى لُغَة أَهل الحِجَاز- كَمَا قَالَ ابن مالك
(1)
:
إعمَالَ (لَيْسَ) أُعْمِلَتَ (مَا) دُونَ (إِنْ)
…
مَعَ بَقَا النَّفْي وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ
لأنَّه يُشتَرَط في عملها بقاءُ النفي، وهنا النفي قد انتقض بالاستثناء.
قوله تعالى: {سِحْرٌ مُفْتَرًى} السِّحر المُفْتَرَى: العَصا واليد، هَذَا إذَا قلنَا: إنه يَعود عَلَى الآيات الحِسِّيَّة؛ فَإن قُلنَا: إنه يَعود إلَى الآيات المعنوية وَهيَ مِثل الإسْلام؛ فَإنَّ النَّبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول: "إِنَّ مِنَ الْبَيَان لَسِحْرًا"
(2)
.
وقوله: {مُفْتَرًى} : مُختَلَق، فمِنَ المَعروف أَنَّه يَصحُّ وَصفُ القول بالمُفْتَرَى، ولكن الافتراء هنا جاء وصفًا للعصا واليد؛ لأن السِّحْرَ لَا يَقلب الأَشْياء حقيقة، ولكنه يَقْلِبُها تَخَيُّلا بحَسَب مَا يتخيَّلُه المرء، فَيَكون هَذَا التَّخييل مخالفًا للواقع، وَكلُّ مَا يُخَالف الواقع فهو مُفْتَرًى، فيكون ظهورُه بغير الحال الَّتي عَلَيهَا مِن باب الكذب والفِرية، وَلِهَذَا قَالُوا:{سِحْرٌ مُفْتَرًى} .
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [{وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} كَائِنًا {فِي} أَيَّامٍ {آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}].
قوله: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} ، المشَار إلَيه مَا جَاءَ به مِنَ الرِّسالَة؛ لأَنَّهَا هيَ المسموعة، وأما آيةُ اليد والعصا فهي مُشاهَدة مرئية.
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [كَائِنًا] إشَارَة منه إلَى أَنَّ متَعَلَّق الجارِّ والمجرور بقوله: {آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} محذوف تقديرُه (كَائِنًا)، وهو هُنَا عَلَى تَقدير المُفَسِّر رحمه الله حَالٌ
(1)
ألفية ابن مالك (ص 20).
(2)
تقدم تخريجه.
مِن اسمِ الإشارة.
وقوله: {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} أي: في وقتهم، وَلهَذَا قَالَ سبحانه وتعالى:{فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} ، أي: السابقين، وَهَذَا كَذِبٌ منهم، فَقَد أَخبَرَ اللَّهُ عز وجل عنهم أيام يوسفَ عليه السلام:{فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34].
إذن: قولُهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} خبرٌ كَذِبٌ، فهُم كاذبون في هَذِهِ الدعوة.
ثم عَلَى فَرض أن الدعوةَ صحيحة، وأنهم ما سمعوا مِثله مِن قَبل، وَلَم يوجَد في الأولين، فَهَذَا لَا يَقتَضي أَنْ يَكونَ باطلا؛ لأَنَّ الحَقَّ إذَا جَاءَ وَجَبَ قَبولُهُ، سَوَاء كَانَ مَوجودًا في الأولين، أَمْ غَير مَوجود، فهذه الحُجة إذن مُرَكَّبة مِن كَذِبٍ وباطِلٍ:
أمَّا الكَذِبُ: فَإنَّ قَوْلَهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} كذب؛ لأنّ مؤمنَهم أَقَامَ عَلَيهم الحُجَّةَ بوجود نظير لمَا جَاءَ به موسَى في قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34].
وأما الباطِلُ: فَعَلَى تَقدير أنها صحيحةٌ قولًا؛ فلأن عدم وجودِ ذَلكَ في الأَوَّلين لَا يقتضي بُطلان وُجودِه في الآخِرينَ؛ فإن اللَّه تعالى فَعَّال لمَا يُريد، مَا دَامَت الآياتُ بَيِّنَات، فليس هناك حُجَّةٌ لهم بأَنَّه لَم يُوجَد في الأولين كذا.
قوله تعالى: {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} قال: {الْأَوَّلِينَ} وهُم آباء، لأَنَّ الأَبَ يُطلَق عَلَى الأَب المباشِر، وعلى الجَدِّ وَإنْ عَلَا، قَالَ اللَّهُ تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ} [الحج: 78]، وقال يوسف:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]، فيعقوبُ أبوه المباشر، وإسحاقُ جَدُّه، وإبراهيمُ جَدُّ أبيه، سمَّاهم آباء،