الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (52)
* * *
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52].
* * *
قال المُفَسِّرُ رحمه الله: [{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} أَي الْقُرْآنُ {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} أَيْضًا، نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَسْلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنَ النَّصَارَي قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ، وَمِنَ الشَّامِ].
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} بمعنى: أعطيناهم، والإيتاء هنا شرعي، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكونَ إيتاءً قَدَرِيًّا، أي: قَدَّرنا أن يأتيَهم الكتاب، وهو الوحي، فآتاهم.
وقوله تعالى: {الْكِتَابَ} بمعنى المكتوب، وَالمرَاد به التَّوراةُ، وكذلك الإنجيل، كُلُّها تُسَمى كتابًا.
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ} الضَّمير يَعود عَلَى القُرْآن، أي: مِن قَبْلِ القُرْآن.
وقوله تعالى: {هُم} أي: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} ، وقوله تعالى:{بِهِ} أي: بالقُرْآن، {يُؤْمِنُونَ} أي: يُصَدِّقُون، وينقادون له.
إعراب الآية: {الَّذِينَ} مبتدأ، وجُملة {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} صِلة الموصول، و {هُم} مبتدأٌ ثانٍ، وقوله:{بِهِ يُؤْمِنُونَ} خَبَرُ المبتدأ الثَّاني، والجُملة مِن المبتدأ الثَّاني وخَبَرِهِ خَبَرُ المبتدأ الأوَّل.
والْفَائِدَةُ مِن تَكرار المبتدأ كأَنَّه أَسْنَدَ الإِيمَان إلَيْهِم مرتين؛ مَرَّة بالضَّمير {هُم} ، ومَرَّةً بالمبتدأ الأول {الَّذِينَ} .
وأتى في قَوْلِهِ: {يُؤْمِنُونَ} بالفعل المضارع الدالِّ على الاستمرار، إشَارَةً إلَى أنهم تلَقَّوْه عن قَبُولٍ وإذعانٍ، وأنهم ما زالوا عَلَى هَذَا الأَمر.
وهذه الجُملة بالنِّسبة لمَا قَبلَهَا في المَعنَى كأنّها إقامةُ دَليل عَلَى الذين كَذَّبوا بالقُرْآن، كَأنَّه يَقول: الذين أُوتوا الكتابَ مِن قبلكم آمنوا بالقُرْآن، ممَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه حق؛ لأنَّهُم مَعَ أَنَّهم أهلُ كتاب ترَكوا كتابهم، وآمَنُوا بالقُرْآن، وأنتم أهلُ جهل، وليس لديكم كتابٌ؛ فكان حَقًّا عليكم أن تكونوا قَبلهم في الإِيمَان؛ لأَنَّه مِنَ الصعب أن ينتقل الإنسَان مِن كتابه، أو مِن دِينِه إلى دِينٍ آخَرَ، لكن ليس مِن الصعب أَنَّ الإنسَانَ ينتقل مِن جهل إلى حقٍّ وعِلم.
ثم إِنَّ فيه أَيْضًا تَأْنِيبًا لهؤُلاءِ، وَفِيه أَيْضًا دَليل عَلَى أَنَّه حَقٌّ؛ لأن الَّذينَ أُوتوا الكتابَ ما آمنوا به إلا عن عِلم، وَهُوَ كَذَلكَ؛ فإنه لَا شَكَّ أَنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان مكتوبًا عند بَني إسرَائيلَ في التَّوراة والإنجيل، كَمَا قَالَ تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، حتى أوصافه الخِلْقِيَّة موجودة عندهم، بِقَطْعِ النَّظر عن مِنهاجه وسِيرته، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
هذا كله موجودٌ في التَّورَاة والإنجيلِ ومعروفٌ، ولهذا تجمَّع اليهود في المدينة مِنْ أَجْلِ أَنْ يستقبلوا هذا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، الذي وَجَدُوا صِفَتَه عندهم، ويُؤمِنون به، وكانوا كَمَا قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}
[البقرة: 89]، أي: يستنصرون عليهم بهذا النَّبيّ، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
فالحاصِل في هَذِهِ الآيَة أَنَّ وجه تَعَلُّقِها بما قَبلها مِن وَجْهَين:
الوجه الأول: تأنيب الجاهِليّين على الكُفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، مَعَ أَنَّ أهلَ الكتاب -وهُم على دِينٍ- انتقلوا مِن دِينهم إلى دِينه، فكنتم أَوْلى باتباعه.
الوجه الثَّاني: إقامةُ دَليلٍ عَلَى صِحَّة مَا جَاءَ به الرَّسُول عليه الصلاة والسلام؛ لأَنَّ هَؤلَاء الذين عندهم عِلم مِن الكتَابِ مَا انتقلوا إلَّا عَن عِلم بأنه حق، والمناسبة واضحة جدًّا بَيْنَ هذه، وبين النُّصوص التي قَبلها، ولا ريب أَيْضًا أَنَّ في هَذِهِ الآيَة ثَنَاءً على الذين آمنوا بالرَّسُول عليه الصلاة والسلام مِن الَّذينَ أُوتُوا الكتابَ، ولهذا عَطَفَ بـ {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} ولم يستكبروا عنه، بالرغم مِن وجود كتابهم معهم.
فالمشركون لم يَأْتهِمْ كتابٌ مِن قَبْلُ، ولا نبيٌّ، قَالَ تعالى:{مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]، لَكن هَذَا مِن باب الجِنس، ومعناه: أنَّنا لم نتركْهُم هكذا، بَل إِنَّ القول وَصَل إلَيْهِم كما وَصَلَ إلَى غَيرِهِم، فإنَّ اللَّهَ مَا زال سبحانه وتعالى يُنْزِلُ الكُتُبَ على مَن سَبَق.
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [{هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} أَيْضًا]، ويعني بقوله:[أَيْضًا] كما آمنوا بكُتُبهم، و (أَيْضًا) مِن الأسماء الملازمة للنَّصب على المصدرية؛ لأن فِعْلَها: آضَ، يَئِيضُ، أَيْضًا، مِثل: باعَ، يَبيعُ، بَيْعًا؛ لأنَّ معناها: رَجَعَ.
فالمعنى: أنهم هُم أَيْضًا يُؤمِنون بالقُرْآن.
قَالَ المُفَسِّرُ رحمه الله: [نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَسْلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
وَغَيْرِهِ، وَمنَ النَّصَارَي قَدِمُوا مِنَ الحْبَشَةِ، وَمنَ الشَّامِ].
وكذلك مِن غَيْرِ الشام، أسلمَ مِن اليهود مِثل عبد اللَّهِ بنِ سلام، واشتُهر عَبدُ اللَّه بنُ سَلَام بالإِسْلام وَهُوَ مِنَ اليهود؛ لأنَّه كان حَبْرًا مِن أحبار اليهود، وكان كَمَا قَالَ اليهود عَنْهُ في حَضرة النَّبيّ عليه الصلاة والسلام قَالُوا: أَعْلَمُنَا، وَابْنُ أَعْلَمِنَا، وَأَخْيَرُنَا، وَابْنُ أَخْيَرِنَا
(1)
.
قالوا ذلك مُعترفين له بالفضل، والعِلم، والسِّيادَة، ولهذا كانوا يضربون به المثَل؛ لأنَّ مَن يَكُون مِثله سَيِّدًا في قومِه قد تَحْمِلُه السِّيادَةُ عَلَى أَنْ يُنافِق، وقد يحمله أَيْضًا حُبُّ الرِّئاسَة على عدم الاتباع لِغَيْرِه؛ لأَنَّه إذَا تَبعَ غيرَه صار مرءوسًا لا رئيسًا، لكنه رضي الله عنه تواضعَ للحَقِّ، فكان مؤمنًا بالرَّسُول عليه الصلاة والسلام.
وقصة إيمانه معروفة، فإن الرَّسول صلى الله عليه وسلم خَبَّأه، ودَعَا اليهود وسألهم عنه، فأَثْنَوْا عليه، وسألهم عن رسالة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فكَذَّبُوا الرَّسُول عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ لَهم:"أفرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ" قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: شَرُّنَا، وَابْنُ شَرِّنَا، وَوَقَعُوا فِيهِ. فما خرجوا إلا وهُم يُثْنُون عَلَيْه شَرًّا؛ لأنَّهُ أسلَم.
قول المُفَسِّر رحمه الله: [كَذَلِكَ نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّصَارَى قَدِمُوا مِنَ الحَبَشَةِ]، قَالَ عَطَاءٌ:"كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا: أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِن بني الحارث بْنِ كَعْبٍ، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الحبَشة، وثمانية رُومِيُّون مِنْ أَهْلِ الشَّامِ"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات اللَّه عليه- وذريته، رقم (3329).
(2)
تفسير البغوي (2/ 75).