الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (49)
* * *
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49].
* * *
قال المُفَسِّرُ رحمه الله: [{قُلْ} لهمْ {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} مِنْ الْكِتَابَيْنِ {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي قَوْلِكُمْ].
قوله تعالى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هنا الأمر للتعجيز والتحدي.
قوله: {أَهْدَى مِنْهُمَا} هنا الضَّمير يَعُود عَلَى التَّوراة والقُرْآن، ومعنَى {أَهْدَى} أكملُ هدايةً.
وقوله {أَتَّبِعْهُ} مجزومٌ في جواب الطَّلب {فَأْتُوا} ، فإذا جعلوا الغايةَ جوابًا للأمر السابق صار مجزومًا.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: أنَّهُ مِن العدل التنَزُّل مع الخَصم إلى حالٍ يُقرُّ بها؛ فإنه مِن المعلوم أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يعلم أَنَّهُ لَا يمكن أَنْ يأتوا بما طُلب منهم، وذلك حين طَلب منهم أَنْ يأتوا بكتابٍ أهدى مِن التَّوراة والقُرْآن، وَذَلكَ في قَوْلِهِ تعالى:{قُلْ فَأْتُوا} ، مَعَ أَنَّه يَعلَم أَنَّه يستحيل ذلك، وَلَكنَّ هَذَا مِن باب التنزُّل مَعَ الخَصم إلى غاية ما يَكونُ مِن العدل، كأنه جعلَه مع خَصمه شيئًا واحدًا، فيقول: أنتم ائتوا بكتابٍ أهدى مِن
التَّوراة والقُرْآن، وأنا ألتزم باتباعه، فإذا لم يأتوا، فمعناه أَلْزِمْهُم أن يتبعوا التَّوراة والقُرْآن.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إفحام الخَصم بالتحدِّي، ولو أنَّنا قرأنا آخِرَ سُورة الطور لوجدنا فيها شيئًا غريبًا مِن المناظرة، مِن قَوْلِه تعالى:{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29]، إلى قوله:{يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45]، تجدون آدابًا كثيرة مِن المناظرة، فقَدْ تَدَرَّجَ اللَّه معهم في الحُجَج، فقال:{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38]، إن كَانَ الأَمر كذلك {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور: 38]، {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33]، فَإن كَانَ الأَمر كذلك {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34]، فاللَّه سبحانه وتعالى في ختام المناظرة يجعل الخصم مُفْحَمًا بتحدِّيه بمَا لَا يستطيع.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ التَّوراةَ والقُرْآنَ مِن عند اللَّه، لكن القُرْآن نَزَل وَحْيًا، والتَّوراة نزلت كتَابَةً، كَتبَها اللَّه في ألواحٍ ألقاها إلى موسى.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّه لَا يَلزَم الإِنْسَان الانتقال عَمَّا كَانَ عَلَيه إلَى غَيرِهِ إلَّا إذَا كَانَ أهدَى منه.
فأنا -مثلًا- لا يلزمُني الانتقالُ مِن مذْهَب الحنابِلَة إلى مذْهَب الشَّافعيَّة، حتى أري أنه أَصْوَبُ؛ لأَنَّه قَالَ: ما يجب الاتباع إلَّا إذَا كَانَ ما جاءوا به أهدى منه، أَمَّا إذَا كَانَ مساويًا، فأنتم لا تُلزمونني، وأنا لا أُلْزِمُكم، إذَا كَانَ مساويًا، إنما الإلزام حينما يَكونُ مَا جاء به الخَصم أهدى مما أنا عليه، وأما إذَا كَانَ مَا في غَيْرِهِ أدنى؛ فإنه مِن بَاب أَوْلَى لا يلزم.
فالمراتبُ ثلاث:
1 -
إمَّا أَنْ يَكونَ ما تُدعَى إليه أدنى مما أنت عليه.
2 -
أو أهدى.
3 -
أو مُساويًا.
فإن كان أهدى، فالواجبُ الاتباع، وَإن كَانَ أدنى حَرُم الاتباع.
أما في حَال المُسَاوَاة، فالعلماء يقولون: في مِثل هَذِهِ الحالِ يُخَيَّرُ الإِنْسَان، فإذا أفتاه عالمان، وَلَم يَكُن قولُ أحدهما أرجحَ؛ فإنه يُخيَّر في اتّباع أيِّ القولين شاء، وربما يؤخذ حُكم هَذِهِ المَسأَلة مِن هَذِهِ الآية؛ لأَنَّه مَا أوجب اللَّه الاتباعَ إلا إذَا كَانَ أهدى.
ومعلومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَدنَى، فالاتباع مُحَرَّمٌ، فيبقى المساوي ليس إلى جانب التحريم، وليس إلَى جَانِب الوجوب، وهذه مرتبة التخيير.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: التحدِّي يكُون بالوَصْف، كَمَا يَكون بالفِعل، في قَوْلِهِ تعالى:{فَأْتوُا} تَحَدٍّ بِفِعْل ما هُمْ بِآتِينَ به، وقوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تَحَدٍّ بالوصف، أَنَّ مَا أنتم عليه حَقٌّ فأتوا بهذا، وإلَّا فأنتم مِن الكاذبين، وَلهَذَا قَالَ:{أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
* * *