الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتاريخ إلا إذا تم تحقيق رواياتها كما حدث في كتب السنة النبوية.
لهذا أظهر المخطط الصليبي ومفكروه وفلاسفته رضاهم عن اتجاه مدرسة محمد عبده وتشجيعهم لها، من ذلك قول (جِبْ) في كتابه " إلى أين يتجه الإسلام ":«لسوء الحظ ظل قسم كبير من المسلمين المحافظين ولا سيما في الهند لا يخضعون لهذه الحركات الإصلاحية المهدئة وينظرون إلى الحركة التي تزعمها مدرسة عليكرة بالهند، ومدرسة محمد عبده بمصر نظرة كلها ريبة وسوء ظن لا تقل عن ريبتهم في الثقافة الأوروبية نفسها»
والإصلاح الذي ينشده المستشرق (جِبْ) أوضحه في نفس الكتاب إذ قال: «إن مشكلة الإسلام بالقياس إلى الأوروبيين، ليست مشكلة أكاديمية خالصة فحسب فإن لتعاليم الدين الإسلامي من السيطرة على المسلمين في كل تصرفاتهم ما يجعل لها مكانًا بارزًا في أي تخطيط لاتجاهات العالم الإسلامي ..» .
التَّطَاوُلُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَتَكْفِيرِ المُسْلِمِ:
لقد نسب المقال إلى صاحب هذه السطور أنه أطلق فتواه بخروج أصحاب المدرسة الإصلاحية عن الإسلام وكفرهم به. وبهذه الفتوى هل يصدق أن حذيفة ومعاوية وعائشة قد كفروا: «كما يستفاد من الفتوى، لأنهم قالوا: إن الإسراء كان بالروح فقط كما هو في " تفسير ابن جرير الطبري "» .
وجوابنا أن القاصي والداني يعلم أن بعض النصوص الشرعية قد ترد بلفظ الكفر أو نفي الإيمان، ولكن تفسر بأنه كفر النعمة أو الكفر المجازي وذلك مثل حديث «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» ، لأن الله تعالي يقول:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (1). ومثل حديث: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ
…
مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». فهنا المعنى لا يكون كامل الإيمان أي النفي هنا للكمال.
والعبارة التي أخذت علينا هي: إذا ما أخبر النبي أن الله قد أرسل له جبريل فأخذه على البراق حتى وصل إلى بيت المقدس، ثم صعد به إلى السماوات العُلَى حيث فرض الله عليه الصلوات الخمس، ثم عاد، لا يقبل من مسلم أن يزعم أن هذا كان بالروح فقط.
وهذه العبارة لا تؤدي إلى الحكم بكفر أصحاب المدرسة الإصلاحية بل معناه أن
(1)[الحجرات: 9].
المسلم الذي لا يشك في هذه الرواية التي وردت عن النبي لا يقبل منه أن يفسرها بما لا تقبله أساليب اللغة العربية.
ولا ندري كيف ينسحب هذا الحكم إن جاز جدلاً، إلى الصحابة رضي الله عنهم؟
لقد استخلص المقال أن من أنكر المعجزات وزعم أن الإسراء بالروح فقط من أصحاب المدرسة الإصلاحية كان كافرًا، وهذا لم يصدر عني صراحة أو ضمنًا، كما أن الكلام لا يتصل بالصحابة أبدًا، كما لا يؤدي إلى جعل السيدة عائشة رضي الله عنها في زمرة المتهمين بتحريف الكلام كما يقول كاتب المقال.
(الرد) في هذا استنتاج في غاية الغرابة وأسلوب مرفوض في الدفاع عمن أخطأ من أصحاب المدرسة الإصلاحية، وهذه مسألة لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح حتى لو كانت الروايات عن عائشة وبعض الصحابة صحيحة السند، لأن وصف أصحاب هذه المدرسة بتأويل النصوص كرد فعل لهجوم المستشرقين لا يمكن أبدًا أن يفهم منه أن من قال جدلاً إن الإسراء بالروح في عهد الصحابة يكون قد أَوَّلَ لنفس العلة.
أما ما نقله الفخر الرازي من روايات عن حذيفة رضي الله عنه من أن الإسراء والمعراج كان رؤيا فقط، وما نقله عن عائشة ومعاوية والحسن رضي الله عنهم، ليس إلا روايات لابن إسحاق في " السيرة "، وبتمحيصها طبقًا لقواعد علم مصطلح الحديث يتبين أن ابن إسحاق قال:«حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ» ، ولا توجد معاصرة بينه وبين من روى عنهم لأنه قد مات في منتصف القرن الثاني الهجري، كما أنه لم يذكر اسم من روى عنهم، فتكون الرواية منقطعة وليست حجة في أي استدلال علمي.
والرواية المنقولة عن معاوية أيضًا منقطعة إذ يوجد فارق زمني كبير بين يعقوب بن عقبة شيخ ابن إسحاق الذي روى عنه وبين معاوية المنسوب إلى هذا القول، وهذا الانقطاع يجعل الرواية ساقطة ولا يحتج بها علميًا.
وحذيفة رضي الله عنه نقل عنه ابن كثير في " السيرة ": (ص 60) أنه وعمر وبعض الصحابة رضي الله عنهم يرون أن الإسراء والمعراج كَانَا أولاً رؤيا منامية تدريبًا وتيسيرًا على النبي صلى الله عليه وسلم وتمهيدًا للرحلة الواقعية في اليقظة وهي رحلة الإسراء والمعراج الواردة في الكتاب والسنة. كما نقل ذلك عن " شرح الشفاء " للعلامة علي القاري: ج 1 ص 405، 407.
المرجع أيضًا " رسالة الإسراء والمعراج " للأستاذ محمد أنس مراد: ص 58، 59.
وهذا يؤكد المعجزة فإن الثابت في " الصحيحين البخاري ومسلم " أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ» .
وفي الحديث الذي نقله الناقد، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ المَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ
…
». وهذا يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به بالجسد والروح، وأن عائشة هي التي روت هذا فكيف تروي مرة أخرى أنه بالروح، ولو حدث هذا فالرواية الأصح هي التي تقبل.
ومع ضعف سند هذه الروايات فإن الشبهة التي يرون أنها دليل لهم هي قول الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (1). وقد أجاب الجمهور على ذلك أنها رؤيا عين، وأخرج ذلك " البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية.
والراجح أنها تتعلق برحلة الإسراء والمعراج كمشاهدة عملية، لأن الفتنة لا مجال لها إذا كانت رؤيا فهذا يحدث لجميع الناس ولا يكذبه أحد.
أما ما ورد في بعض أحاديث الإسراء والمعراج من عبارات مثل: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ» ، ومثل:«فَاسْتَيْقَظْتُ» ، فلا يدل على الرؤية المنامية، لأنه كان صلى الله عليه وسلم نائمًا فعلاً وجاء جبريل وأيقظه، وآيات سورة الإسراء تقطع بأن الرحلة ليست رؤيا منامية.
لما كان ذلك فلا يجوز أن نأخذ هذه الأحداث من كتب التاريخ أو التفسير أو السير، لأنها لم تمحص مثلما محصت الأحاديث النبوية وكتبها، فقد كانت الأمانة تجعل أصحاب هذه الكتب مثل الفخر الرازي، ينقلون في كتبهم كل ما اتصل بعلمهم ولو كانوا يشكون في صحته، ولهذا نجد في هذه الكتب أقوالاً هي إسرائيليات ونسبت إلى بعض الصحابة أمورًا حول خلافهم وتنازعهم على الحكم والدنيا بصورة لا يمكن أن تصدر عن هؤالاء الذين رضي الله عنهم، بل إن بعض هذه الكتب تنقل روايات تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمورًا لا تصدر عن الرعاع، مثل الإسرائيليات المنقولة عن قصة الحب المزعومة بينه وبين السيدة زينب بنت جحش حيث قالوا: إن الحب المزعوم هو سبب طلاقها والقرآن يكذبهم.
(1)[الإسراء: 60].
فهل يحتج بمثل هذه الروايات لوجودها في الكتب سالفة الذكر أو في بعضها؟
لقد نقل كُتَّابُ التاريخ والسير كل ما سمعوه أو قرأوه وفيه أقوال القصاصين والوضاعين وأهل الأهواء والمذاهب المختلفة، وبالتالي فهذه المصادر تحتاج إلى تحقيق مثل الأحاديث النبوية، لأن الراوي قد نراه مردودًا ومتهمًا في علم مصطلح الحديث بينما نرى روايته في كتب السير والتاريخ هي السائدة (1).
(1) تفصيل ذلك في كتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة بين اليمين واليسار " للمؤلف.