الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (1).
خَامِسًا: بَيْنَ الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ وَالوَضْعِيَّةِ:
كما ادعى الدكتور أن العبارة السابقة فيها تناقض في قولي: «وَاحْتَكَمَ نَفَرٌ إِلَى الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ
…
»، وقال: «إِنَّنِي عَلَى يَقِينٍ أَنَّ الفَلْسَفَةَ العَقْلِيَّةَ تَعْنِي شَيْئًا مُخْتَلِفًا تَمَامًا .. بَلْ وَمُتَعَارِضًا كُلَّ التَّعَارُضِ مَعَ مَا تَعْنِيهِ الفَلْسَفَةُ الوَضْعِيَّةُ، فَالفَلْسَفَةُ العَقْلِيَّةُ تَنْصَبُّ عَلَى قَوَانِينِ العَقْلِ المُجَرَّدَةِ وَاسْتِنْبَاطِ الأَفْكَارِ مِنَ المَبَادِئِ الأَوَّلِيَّةِ، أَوْ المَقُولَاتِ الفِطْرِيَّةِ التِي لَيْسَتْ لَهَا صِلَةٌ بِالعَالَمِ المَادِّيِّ أَوْ مُسْتَمَدَّةً مِنَ التَّجْرِبَةِ الحِسِّيَّةِ
…
أَمَّا الفَلْسَفَةُ الوَضْعِيَّةُ، فَإِنَّهَا تَنْصَبُّ أَسَاسًا عَلَى الوَقَائِعِ العَيْنِيَّةِ وَتَسْتَنِدُ فِي الأَصْلِ عَلَى الخِبْرَةِ الحِسِّيَّةِ وَالأَحْدَاثِ التِي تَقَعُ فِي عَالَمِ الطَّبِيعَةِ بِالفِعْلِ ..».
وفيما نقله الدكتور من فوارق بين ما يسمى بالمذهب العقلي أو الفلسفة العقلية والتي نادى بها (ديكارت)، و (سبينوزا)، و (ليبز)، و (هيجل) وبين ما يسمى بالمذهب الوضعي أو الفلسفة الوضعية التي نادى بها (أوجست كونت)
…
يجد هو وغيره من الباحثين أن بين الفلسفتين عاملاً مشتركًا هو إبعاد الدين عن مجال الأحكام في الأمور التي لا تخضع للتجارب والخبرة الحسية، ويشمل ذلك الأمور الغيبية، وهذه الأمور لها مصدر واحد هو الوحي المنزل على رسول الله .. قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (2).
أما المذهب الوضعي أو الفلسفة الوضعية فإن كانت تنصب على الوقائع المادية والتجارب الحسية .. إلا أنها تزعم «أَنَّ المَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ المَعْرِفَةُ المَبْنِيَّةُ عَلَى الوَاقِعِ وَالتَّجْرِبَةِ فَقَطْ، وَأَنَّ العُلُومَ التَّجْرِيبِيَّةَ هِيَ التِي تُحَقِّقُ المَثَلَ الأَعْلَى لِلْيَقِينِ» (3)، وترتب على هذا الزعم أن تلاميذ هذه المدرسة من قال:«لَا أَرَى عَقْلَ الأُسْتَاذِ، فَهُوَ بِغَيْرِ عَقْلٍ» ؛ لأن هذا المذهب يقوم على زعم آخر كنتيجة لهذه الفلسفة هو «أَنَّ الفِكْرَ البَشَرِيَّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْتَنِبَ القَطِيعَةَ وَالخَطَأَ إِلَاّ إِذَا اتَّصَلَ بِالتَّجْرِبَةِ وَأَعْرَضَ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ قَبْلِيٌّ ..» (4).
فهذه الفلسفة تتعارض مع الأديان في حصرها المعرفة واليقين في العلوم التجريبية،
(1)[النساء: 59].
(2)
[الحديد: 25].
(3)
" المعجم الفلسفي "، جميل صليبا: ص 91.
(4)
المرجع السابق.
فكل شيء غير محسوس ولا يخضع للتجارب فهو غير يقيني.
ولا يخفى على الباحثين أن العلماء اكتشفوا الأصوات والتموجات الكهربائية وهي غير ملموسة ولا مرئية، كما اكتشفوا كوكب النبتون ولم ترصده المناظير الأرضية، بل استدلوا عليه بالأشعة التي صدرت عنه وعكستها كواكب أخرى.
وهكذا أصبح من المسلمات العلمية أن تقطع بوجود أشياء غير مرئية بالآثار الصادرة عنها، وهذا ما خاطب به القرآن الناس منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان - قال تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (1).
والقرآن المكي مليء بهذه الاستشهادات، فليرجع إليه.
لما كان ذلك .. فإن اتفاق الفلسفتين على إبعاد الدين عن مصادر المعرفة، يرفع التناقض الذي ظنه الدكتور الناقد. ومع هذا فعبارتي قد خلت من هذه المقولة والافتراضات الفلسفية التي هي بطبيعتها مقولات نظرية يدور حولها الجدل الذي يبعد كثيرًا عن الواقع، ويستمر هذا الجدل والحوار بغير جدوى وكأن الكلام غاية في ذاته، فقولي: «وَاحْتَكَمَ نَفَرٌ إِلَى الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ
…
» هذه العبارة لها أكثر من مدلول:
[أ] فهي تجمع بين الفلسفتين وتجعلهما شيئًا واحدًا في خصوصية هذه المسألة، وهي رد الأمر إلى الكتاب والسنة والنعي على من يبعد الدين عن مصادر المعرفة والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، متقدمان ما كان من وضع البشر.
[ب] وهي أيضًا تصف الفلسفة العقلية بالوضعية باعتبارها من وضع البشر.
[ج] وهي تشير إلى مقالات نشرت عن التطرف، احتكم فيها بعض الكُتَّابِ إلى أساتذتهم في الجامعة - وهم أصحاب فلسفة عقلية وضعية - وكل هذه المدلولات الثلاث واردة في دلالات هذه العبارة، ولكن الموضوع الذي تناوله مقالي هو التشريع الإسلامي الذي لا ينكره علماء الغرب أنفسهم وهو مختلف تمامًا عن هذه الفلسفات النظرية التي تدور في فلك جدلي لا ينتهي .. ومن ثم أترك غيري للأخذ والرد والإرخاء والشد في معاني هذه الألفاظ.
(1)[ق: 6].