الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإِسْلَامُ وَالحُكْمُ وَالفَصْلُ بَيْنَ السُّلُطَاتِ:
بتاريخ 23/ 5 / 1984 نشرت " الوطن " مقالاً للدكتور عبد الله العمر بعنوان (فصل المقال وتقرير ما بين العلمانية والشريعة من الانفصال)، وقد خصصه كما قال لتفنيد أفكار لي نشرت في " الوطن " بتاريخ 18/ 4 / 1984، وذلك على الرغم من أن مقالي المذكور تضمن بوضوح أن ما سطرته ليس فكرًا لي ولا لغيري، إنما هي أحكام الإسلام الذي يؤمن به المسلمون، وعلى الرغم أيضًا من أنني ختمت المقال بعنوان (غلق الحوار الجدلي) أعلنت فيه أنني من جانبي أغلق باب الحوار الجدلي في هذه الفلسفات العقلية التي لا ينكر أتباعها أنها تتغير من عصر إلى آخر، بل من كاتب إلى آخر
…
أما التشريع الإسلامي فإنه يرتكز على أصول ثابتة لا تتغير وهي القرآن الكريم وما ثبت من السنة النبوية، وهذه الأصول حقائق ثابتة لا يجوز لمسلم أن يحاور فيها، إذ لا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.
ولكن لما كان الدكتور في رده ينسب إِلَيَّ مقالي سالف الذكر أمورًا ليست صحيحة بعد أن مضى على المقال شهر تقريبًا نسي فيه القراء هذه العبارات، كما أنه بمقاله يبرهن عملاً على إفلاس العلمانية العربية، وذلك أنها لم تجد في الإسلام صكوك الغفران والحرمان ولا مفهوم الحكومة الدينية، فراحت بلا علم تخلط بين الإسلام وأعمال حكام المسلمين، أو المرتدين عن الإسلام، ومع هذا فلا وجه للقياس على الحكومة الدينية أو الحاكم الذي هو ظل الله في الأرض في أوروبا، والذي إذا أحل شيئًا فهو حلال في السماء، وإذا حرم شيئًا فهو محرم في السماء، كما أن من يدعي أنهم يكفرون غيرهم، فلا يزعم أحد أنهم يملكون صكوك الغفران والحرمان!!.
ولذا .. كان لزامًا أن أسطر الجواب التالي، حتى لا تكون هناك فتنة في الدين، وليكون الأمر للهِ وليس لبعض خلق الله.
أَوَّلاً: أَيْنَ صُكُوكُ الغُفْرَانِ الإِسْلَامِيَّةِ
؟:
نقل الدكتور قولي: «إِنَّ العِلْمَانِيَّةَ نَشَأَتْ فِي أُورُوبَا كَرَدِّ فِعْلٍ لِلْحُكْمِ الدِّينِيِّ هُنَاكَ، الذِي كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ صُكُوكَ الغُفْرَانِ وَالحِرْمَانِ» . ثم كرر عبارات له سابقة هي اختصاصه أن «يُبَيِّنَ نَصِيبَ هَذَا الكَلَامِ مِنَ الصِّحَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا فَعَلَ فِي مَرَّاتٍ سَابِقَةٍ» . ثم قال: «لَوْ افْتَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ العِبَارَةَ صَحِيحَةٌ مِنَ النَّاحِيَةِ التَّارِيخِيَّةِ، فَهَلْ يَخْتَلِفُ حَالُنَا اليَوْمَ
مَعَ رِجَالِ الدِّينِ المُسْلِمِينَ المُتَطَرِّفِينَ عَمَّا دَرَجَ عَلَيْهِ رِجَالُ الكَنِيسَةِ فِي قَضِيَّةِ صُكُوكِ الغُفْرَانِ، أَوْ طَرْدِ النَّاسِ مِنَ الكَنِيسَةِ، أَلَا يَعْمَلُ رِجَالُ الدِّينِ المُتَطَرِّفُونَ فِي يَوْمِنَا هَذَا عَلَى تَكْفيرِ كُلَّ مَنْ يُخَالِفُهُمْ أَوْ يُسِيءُ إِلَيهِمْ، وَهَلْ غَابَ عَنْ بَالِنَا أَنَّهُمْ رَاحُوا بِكُلِّ سَذَاجَةٍ أَوْ غَبَاءٍ يَهْدِرُونَ دَمَ الذِينَ لَا يُشَاطِرُونَهُمْ الرَّأْيَ، وَيَخْرُجُونَ عَلَيْنَا بِفَتْوَى تُؤَكِّدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ عَصَى لَهُمْ أَمْرًا، وَلَا يَصِحُّ دَفْنُ مَنْ خَرَجَ عَلَى مِلَّتِهِمْ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ؟».
وجوابي على ذلك هو:
1 -
سبق أن كرر الدكتور أنه يصحح لي ولكثير من المفكرين المسلمين أخطاءنا والإشكال الذي نقع فيه بشأن العلمانية. ونود أن يتذكر الدكتور أن الذين يصحح لهم أفكارهم ليسوا هم أصحاب هذه الأفكار، إن صح تسميتها أفكارًا، فهم يستمسكون بنصوص القرآن والسنة النبوية، ويعتقدون أن كل مسلم لا يملك أن يتجاوز حدود هذه النصوص؛ لأن الله يقول:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1).
2 -
التصحيح لا يكون إلا بالاحتكام إلى مصدر لا خلاف عليه، لهذا فالمسلمون يحتكمون إلى القرآن والسنة، والشيوعيون يحتكمون إلى الماركسية والدكتور من المسلمين .. ولم يقل أحد خلاف ذلك - لم يكتب يومًا المصدر الذي احتكم إليه ليصحح لنا ولغيرنا هذا الفكر، ويفترض أنه كمسلم يرد الأمور المختلف فيها إلى القرآن والسنة، فهل في أقوالي وأفكاري ما يخالف القرآن والسنة؟ وأين هذه المخالفة؟ أما إن ادعى أن الإسلام لا يمنعه من تحكيم عقله أو عقل غيره من الناس في هذا، فالإسلام ليس أسرارًا خفية لا يعلمها إلا الكهنة، وليس له لغة لا يفقهها إلا الأحبار والرهبان، بل هو آيات بينات أقام عليها حضارة علمية ومدارس فقهية وفكرية. ويقول الله عن هذه الآيات:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2).
والإسلام يرد على هذه البدعة بقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا} (3).
3 -
إن الإنسان الذي يملك صكوك الغفران والحرمان هو الذي يملك تصحيح أفكار
(1)[الأحزاب: 36].
(2)
[القمر: 17].
(3)
[النساء: 60].
الناس بقوله المجرد؛ لأنه يعتقد أنه لا ينطق إلا باسم الله الذي فوضه في ذلك، وليس بين المسلمين من يدعي لنفسه ذلك، فكيف يدعي هو ذلك؟ لأنه يرفض أن يكون القرآن والسنة المصدر الذي نحتكم إليه.
4 -
إن الربط بين بعض المتطرفين المسلمين وبين صكوك الغفران لرجال الدين في أوروبا أمر غير صحيح، وهو قياس مع الفارق، فرجال الدين في أوروبا كانوا يزعمون أنهم يتحدثون، باسم الله، ولهذا فإن ما يحلونه في الأرض يحله الله في السماء، وما يحرمونه في الأرض يحرمه الله في السماء وهم يستندون في ذلك إلى " الإنجيل " الذي ينص على أن ما يحله عيسى باعتباره ابْنًا للهِ يحله الله في السماء، وما يحرمه في الأرض يحرمه الله في السماء، ولهذا لجأ الناس إلى العلمانية وهي عدم المبالاة بالدين والاعتبارات الدينية.
فهل يوجد من المسلمين من يدعي أنه يملك صكوك الغفران والحرمان، بمعنى أنه يملك أن يطرد أحدًا من جنة الله، أو أن يدخله هذه الجنة لأنه يملك أن يحط عنه ذنوبه أو يحملها عنه.
نرجو أن يدلنا الدكتور بالاسم على من يقول بذلك من المسلمين لندخله مستشفى المجانين؛ لأنه بهذا يكون قد فقد عقله أَوْ اسْتَحَقَّ الحَجْرَ عَلَيْهِ.
5 -
أن من أسماهم بالمتطرفين المسلمين لا يكفرون من خالفهم، أو أساء إليهم ولا يهدرون دم من خالفهم في الرأي. بل يقولون إن من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو فعل فعلاً لا يحتمل إلا الكفر فقد حكم على نفسه «بِإِنْكَارِهِ أَوْ فِعْلِهِ» بالكفر، وجعل نفسه نِدًّا للهِ، ويكفر بذلك بالإجماع. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم المرتد عن الدين الخارج عن الجماعة، وأن الذي يوقع العقوبة هو الحاكم المناط به تنفيذ أمر العقوبات، كأي نظام اجتماعي في الدنيا بأسرها. كما أنهم لا يبتدعون حكمًا من عند أنفسهم بل يقولون بحكم الله تعالى، الذي أجمع عليه المسلمون وكان على من رمى هؤلاء بالتطرف أن يذكر النص الشرعي الذي خالفوه. أما من خرج على هذا الإجماع وزعم أن المسلم لا ينبغي أن يحتكم إلى شريعة الله، فقد انطبق عليه قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، ولكن لا نحدد أشخاصًا أو أسماء لنقول إنها بأسمائها وأعيانها كفرت؛ لأن هذه مهمة المحكمة الإسلامية فيما يعرض عليها من وقائع وليست مهمة الأفراد.