الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عباس: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: مَنْ أبي؟ ، والرجل تضل ناقته فيقول: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية) .
وعن أنس قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم فقال:«لا تسألوني عن شيء إلا بيّنت لكم» . قال أنس: فجعلت أنظر يمينًا وشمالاً فأرى كل إنسان لافًّا ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاح يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة» ، قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، وأعوذ بالله من سوء الفتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أر الشر والخير كاليوم قط، إنه صوّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية.
وفي رواية: (فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ) .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب عليكم الحج» ، فقال رجل: لكلّ عام يا رسول الله؟ حتى عاد مرتين أو ثلاثًا. فقال:
…
«من السائل» ؟ فقال: فلان. فقال: «والذي نفسي بيدي لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم» ، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن جرير: نزلت الآية بالنهي عن المسائل كلها، فأخبر كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله أو أجل غيره. وعن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا:«إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» .
وقوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} . قال ابن عباس: نهاكم أن تسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين.
عن سعيد بن المسيب قال: (البحيرة) : التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحلبها
أحد من الناس. (والسائبة) : كانوا يسيّبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء. قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ قصبه في النار، كان أول من سيّب السوائب» . (والوصيلة) : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل بأنثى، ثم تثنّي بعد بأنثى، وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. (والحام) : فحل الإِبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت، وأعفوه عن الحمل، فلم يحمل عليه شيء، وسموه الحامي. رواه البخاري. وقال ابن زيد: البَحيرة: كان الرجل يجدع أذني ناقته ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه، لا تحلب ولا تركب. والسائبة: يسيّبها بغير تجديع. وقال قتادة: قوله: {مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَآئِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} ، لتشديد شدّده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم، وتغليظ عليهم ولا يعقلون.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال ابن مسعود: وليس هذا بزمانها، قولوها ما قبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر
…
ولم تنه، فإن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» ، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وعن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني كيف تصنع بهذه الآية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خيرًا مني، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت
شحًّا مطاعًا وهوى متّبعًا، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم» . وعن قيس بن حازم قال: قال أبو بكر وهو على المنبر: (يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها، {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمّهم الله بعقابه) . رواهما ابن جرير. وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكر فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . رواه مسلم.
قوله عز وجل: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ
فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُواْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } .
عن سعيد بن المسيب في قوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} . قال: من أهل دينكم أو {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، قال: من غير أهل ملّتكم. قال شريح: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا في سفر. وعن السدي:{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} . قال: هذا في الحضر، أو {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} في السفر، {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} هذا في الرجل يدركه الموت في سفره، وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس فيوصي إليهما.
وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ} عن الشعبي: أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، قال:
فحضرته الوفاة فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدما بتركته ووصيّته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأحلفهما بعد العصر بالله، ما خانا ولا كذبا، ولا بدلا ولا كتما، ولا غيّرا وأنها لَوَصِيَّةُ الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. وقال سعيد بن جبير: إن صدقهما الورثة قُبِلَ قولهما، وإن اتهموهما أُحلفا بعد صلاة العصر.
وقوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} . قال سعيد بن جبير: إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر، فإذا اطلع عليهما بعد
حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا ثم استحقوا. وعن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من تميم الداري، وعدي بن بداء، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم أنزلت: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} .
وقال البغوي: ( {فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} تثنية الأولى، واستُحق بضم التاء على المجهول، هذا قراءة العامة، يعني الذين استحق عليهم، أي: فيهم ولأجلهم الإثم، وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم، وقرأ حفص: استَحَق بفتح التاء والحاء وهي قراءة عليّ والحسن، أي: حق ووجب عليهم الإِثم. يقال: حق والمستحق بمعنى واحد. {الأوْلَيَانِ} نعت للآخران، أي: فآخران الأوليان، ومعنى الآية: إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت،
…
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ، يعني: يميننا أحق من يمينهما) . انتهى ملخصًا.
وقال ابن العربي في (أحكام القرآن) المسألة الخامسة والثلاثون: (قوله تعالى: {الأَوْلَيَانِ} وهذا فصل مشكل المعنى، مشكل الإِعراب، كثر فيه الاختلاط، إما إعرابه ففيه أربعة أقوال: الأول: أنه بدل من الضمير في يقومان ويكون التقدير: فالأوليان يقومان مقام الأولين) . إلى آخر كلامه.
وقال في (جامع البيان) : ومرة قرأ استُحق فهو فاعل، أي: من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بالشهادة، أن يجردوهما للقيام بالشهادة.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُواْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . قال قتادة: ذلك أحرى أن يصدقُوا في شهادتهم، وأن يخافوا العقاب، وقال
ابن زيد في قوله: {أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، قال: فتبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء. والله أعلم.
* * *