الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الرابع والخمسون بعد المائة
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلَاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلَاّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ
عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ
خَلِيلاً (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَاراً (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً (85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) } .
* * *
عن مجاهد في قول الله تعالى: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلَاّ قَلِيلاً} ، قال: لأحتوينّهم {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً} ، قال: وافرًا. وقال قتادة: عذاب جهنم جزاؤهم، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء.
وعن مجاهد: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} ، قال: باللهو والغناء. وقال ابن عباس: صوته كل داع دعا إلى معصية الله. {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} ، قال: خيله: كل راكب في معصية الله، ورَجِله كل راجل في معصية الله. وقال قتادة: إن له خيلاً ورَجِلاً من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.
وقال ابن جرير: {وَاسْتَفْزِزْ} واستخفّ واستهجل، والجلبة الصوت.
وعن قتادة في قوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} ، قال: قد والله شاركهم في أموالهم، وأعطاهم الله أموالاً فأنفقوها في طاعة الشيطان، في غير حق
الله تبارك اسمه. وقال الحسن: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ} : أمرهم أن يكسبوها من خبيث وينفقوها في حرام. وقال ابن عباس: مشاركته إياهم في الأولاد: سمّوا عبد الحارث، وعبد شمس، وعبد فلان. وقال الحسن: قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجّسوا، وهوّدوا، ونصّروا وصبغوا، غير صبغة الإسلام، وجزّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان.
وقال ابن جرير: كل ولد ولدته أنثى عصى الله في تسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو وأده أو غير ذلك من الأمور التي يعصي الله بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه.
وعن قتادة: قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وعباده المؤمنون؛ وقال الله في آية أخرى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا» .
قوله عز وجل: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن
تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا
تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) } .
عن ابن عباس: قوله: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} ، يقول: يُجري الفلك.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} .
قال البغوي: أي: بطل وسقط من تدعون من الآلهة {إِلَاّ إِيَّاهُ} فلم تجدوا معينًا سواه، {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} ، أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر، وأخرجكم {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} ، عن الإيمان والإخلاص والطاعة، كفرًا منكم لنعمه، {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} .
وعن قتادة: قوله: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} يقول: حجارة من السماء {ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً}
أي: منعة، ولا ناصرًا. {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} أي: في البحر مرة أخرى، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ} ، وهي التي تقصف ما مرت به فتحطّمه، {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ، يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك. وعن مجاهد: {ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ، قال: نصيرًا ثائرًا.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ، أي: بالعقل وحسن الصورة {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} ، في المآكل والملابس والمشارب
{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ، قال ابن جريج: وفضلناهم في اليدين، يأكل بهما ويعمل بهما، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك.
وقوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} ، قال مجاهد: نبيّهم. قال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث، لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . قال قتادة: الذي في شقّ النواة.
وقوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، قال قتادة:{وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} ، في الدنيا في ما أراه الله من آياته، من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ} ، الغائبة التي لم يرها، {أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ،
وقال بعض السلف: من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
قال قتادة: أطافوا به ليلة فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأرادوه على بعض ما يريدون، فَهَمّ أن يقارفهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله، فذلك قوله:{لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} . وقال مجاهد: قالوا له: ائت آلهتنا فامسسها.
وعن ابن عباس: قوله: {إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} يعني: ضعف عذاب الدنيا والآخرة.
قوله عز وجل: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ
مِنْهَا وَإِذاً لَاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً
(80)
وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَاراً (82) } .
عن قتادة: قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلاً} ، وقد همّ أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك لما توطّنوا، ولكن الله كفّهم عن إخراجه حتى أمره، ولقلّما مع ذلك لبثوا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم البدر.
وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، قال ابن عباس: دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار، يعني: الظل، وغسق الليل: بدو الليل، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، قال ابن عباس: دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار، يعني: الظل، وغسق الليل: بدو الليل. {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، يعني: صلاة الصبح.
قال البغوي: (فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر، و {غَسَقِ اللَّيْلِ} ، يتناول المغرب والعشاء، و {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} هو صلاة الصبح) . انتهى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل
وملائكة النهار في صلاة
الفجر» . يقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} .
وعن ابن عباس: قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} يعني بالنافلة: أنها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، أمر بقيام الليل، وكتب عليه:{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} ، قال: المقام المحمود مقام الشفاعة.
وقال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقوم محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه:{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} . قال قتادة: وإن نبي الله علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا، لكتاب الله عز وجل، ولحدود، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بيد عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ} ، قال: القرآن، {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ، قال: الشيطان {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} وعن ابن مسعود قال: (دخل رسول الله مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل يطعنها ويقول: « {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} » . متفق عليه.
وعن قتادة: قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} إذا
سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه، {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَاراً} ، إنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
عن مجاهد: قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} ، قال: تباعد منا، {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} قال قتادة: يقول: إذا مسّه الشر يئس وقنط. {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} ، يقول: على ناحيته ونيّته. وقال ابن زيد: على دينه.
قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى.
{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} منا ومنكم، وسيجزي كل عامل بعمله. وعن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئًا نسأل
عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} ، قالوا: أوتينا علمًا كثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، قال: وأنزل الله: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . رواه أحمد.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: (بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متوكّئ على عسيب، إذ مرّ اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فسألوه فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية) .
قال ابن كثير: وهذا البيان يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه: قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية.
وعن ابن عباس في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، وذلك (أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الروح، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد؟ وإنما الروح من الله؛ ولم يكن نزل عليه شيء فلم يُحِرْ إليهم شيئًا، فأتاه جبريل فقال له:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} ،
فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقالوا: من جاءك بهذا؟ قال: «جاءني به جبريل من عند الله» . فقالوا: والله ما قاله لك إلا عدوّنا، فأنزل الله:{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
وقوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} ، قال ابن مسعود:(اقرأوا القرآن قبل أن يرفع، فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع، يسري عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئًا، ولا يجدون في المصاحف شيئًا، ثم يفيضون في الشعر) . وعن عبد الله بن عمرو قال: (لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دويّ حول العرش كدويّ النحل، فيقول الرب: مالك؟ وهو أعلم فيقول: يا رب أُتْلَى ولا يُعْمَلُ بي) .
وعن ابن جريج قوله: {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ} إلى قوله: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ، قال: معينًا. قال يقول: لو برزت الجن وأعانهم الإنس فتظاهروا، لم يأتوا بمثل هذا القرآن.
قال البغوي: نزلت حين قال الكفار: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} فكذّبهم الله تعالى: فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق.
قال ابن كثير: وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل له ولا عديل له. والله أعلم.
* * *