الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس التاسع والثلاثون بعد المائة
[سورة الرعد]
مدنية، وآياتها 43، نزلت بعد سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
{آلمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ
أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) } .
* * *
قال مجاهد: {آلمر} فواتح يفتتح بها كلامه.
وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} ، أي: هذه آيات الكتاب. قال ابن عباس أراد بالكتاب القرآن {وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} .
وقوله تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، قال قتادة: رفعها بغير عمد.
وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن كمال قدرته، وعظيم سلطانه، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد، بل بإذنه وأمره وتسخير رفعها عن الأرض بعدًا لا تنال، ولا يدرك مداها.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} .
قال ابن كثير: أي: من كل شكل صنفان. وقال في فتح البيان: أي: صنفين أسود وأبيض، أكبر وأصغر، حلوًا وحامضًا. وعن مجاهد:{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} ، قال: السبخة والعذبة، والمالح والطيّب. وقال ابن عباس: متجاورات جميعًا، تنبت هذه، وهذه إلى جنبها لا تنبت.
وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} ، قال: مجتمع وغير مجتمع تُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. قال: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيض والأسود، وبعضها أكثر حملاً من بعض، وبعضه حلو وبعضه حامض، وبعضه أفضل من بعض. وقال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم، أبوهم واحد.
عن قتادة: قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ} إن عجبت يا محمد
…
{فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ، قال: إن تعجب من تكذيبهم، وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره، وما ضرب لهم من الأمثال، فأراهم من حياة الموات في الأرض الميتة، إن تعجب من هذه فتعجّب من قولهم:{أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، ولا يرون أنا خلقناهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشد أم الخلق من تراب وعظام؟
وعن قتادة: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، قال بالعقوبة قبل العافية {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} ، قال: العقوبات، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} هذا قول مشركي العرب، قال الله:{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} لكل قوم داع يدعوهم إلى الله.
عن ابن عباس: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} ، قال: ما رأت المرأة من يوم دمًا على حملها زاد في الحمل يومًا. وقال أيضًا: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} ، يعني: السقط، {وَمَا تَزْدَادُ} ، يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهم من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله وكل ذلك بعلمه.
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} ، قال قتادة: أي: والله لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم، وجعل لهم أجلاً معلومًا.
وعن الحسن في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ، قال الملائكة:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} ، قال ابن عباس: فإذا جاء القدر خلّوا عنه. وقال مجاهد: ما من عبد إلا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك، إلا شيئًا بإذن الله فيصيبه {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} .
قال البغوي: من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الحال الجميلة فيعصوا ربهم {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} .
قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ
الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) } .
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} ، قال مجاهد: الذي فيه الماء، {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} عن الأسود بن يزيد: أنه كان إذا سمع الرعد قال: (سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا سمع صوت الرعد الشديد قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . وعن ابن عباس مرفوعًا: «إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله، فإنه لا يصيب
ذاكرًا» . رواه الطبراني. وعن أبي سعيد مرفوعًا: «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة» . وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن وكذّب النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل الله:
{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ، أي: القوة والحيلة.
وعن ابن عباس: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ، قال: شهادة أن لا إله إلا الله. وعن عليّ {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ، قال: التوحيد، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} ، قال: كالرجل العطشان يمدّ يديه إلى البئر لترفع الماء إليه، {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ} ، قال قتادة: هذا مثل ضربه الله، أي: هذا الذي يدعون من دون الله هذا الوثن وهذا الحجر، لا يستجيب له بشيء أبدًا، ولا يسوق إليه خيرًا ولا يدفع عنه سوءًا حتى يأتيه الموت، كمثل هذا الذي بسط ذراعيه إلى الماء ليبلغ فاه، ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشًا.
{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} فأما المؤمن فيسجد طائعًا، وأما الكافر فيسجد كارهًا. {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} قال ابن عباس: يعني: حين يفيء ظل أحدهم عن يمينه أو شماله.
قال البغوي: قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، أي: خالقهما ومدبّرهما، {فَسَيَقُولُونَ اللهُ} لأنهم يقرّون بأن الله خالقهم وخالق السماوات
والأرض، فإذا أجابوك فقل أنت أيضًا يا محمد:{اللهُ}
ثم قال الله لهم لزامًا للحجة {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} معناه أنتم مع إقراركم بأن الله خالق السماوات والأرض اتخذتم من دونه أولياء فعبدتموهم من دون الله؟ يعني: الأصنام، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور؟ قال مجاهد: أما الأعمى والبصير: فالكافر والمؤمن، وأما الظلمات والنور: فالهدى والضلالة، {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} ، قال مجاهد: خلقوا كخلقه فحملهم ذلك على أن شكّوا في الأوثان. وقال البغوي: {أَمْ جَعَلُواْ} ، أي: جعلوا لله شركاء {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} ، أي: اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله تعالى، فلا يدرون ما خلق الله وما خلق آلهتهم. {قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . قال ابن كثير:(وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة، هم معترفون أنها مخلوقة له عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، وكما أخبر تعالى عنهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وقال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فإذا كان سَمّوا الجميع عبيدًا، فلم يعبد بعضهم بعضًا) . انتهى ملخصًا.
قوله عز وجل: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) } .
عن ابن عباس: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} فهذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكّها، فأما الشكّ فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء} وهو الشكّ، {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} وهو اليقين، كما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه، ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشكّ. وقال مجاهد: هما مثلان للحق والباطل. وقال عطاء: ضرب الله مثلاً للحق والباطل، فضرب مثل الحق كمثل السيل الذي يمكث في الأرض، وضرب مثل الباطل كمثل الزبد الذي لا ينفع الناس.
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} ، قال قتادة: هي الجنة {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} . قال النخعي: {سُوءُ الْحِسَابِ} أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .
قال ابن جرير: يقول: وبئس الفراش والوطاء جهنم التي هي مأواهم يوم القيامة. والله أعلم.
* * *