الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السادس والثلاثون بعد المائة
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلَاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا
حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) } .
* * *
عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ، قال: بضعًا وثلاثين سنة. وقال الضحاك: عشرين سنة. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين. وقال الشعبي ومالك: الأشُدّ: الحلمُ.
وعن مجاهد: {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} ، قال: العقل والعلم قبل النبوة. وعن ابن إسحاق: {ولما بلغ أشده راودته التي هو في بيتها عن نفسه،
امرأة العزيز. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ، قال سعيد بن جبير قالت: تعاله. وعن ابن عباس: {هَيْتَ لَكَ} ، قال: هلمّ لك. وقال مجاهد: تدعوه بها إلى نفسها.
{قَالَ مَعَاذَ اللهِ} ، قال ابن جرير: يقول: أعتصم بالله من الذي تدعوني إليه
وأستجير به منه. وعن ابن إسحاق: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي} ، يقول: إنه سيّدي، {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أمّنني على بيته وأهله، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، قال: هذا الذي تدعوني إليه ظلم ولا يفلح من عمل به.
وعن السدي: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، قال: قالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن وجهك! قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطعمته، فهمّت به وهمّ بها، فدخلا البيت، {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} وذهب ليحلّ سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت، قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف تُوَاقعها؟ فإنما مَثلُك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض، لا يستطع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت، فيدخل النمل في أصل قرنيه، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتدّ فأدركته، فأخذت بمؤخّر قميصه من خلفه فخرقته، حتى أخرجته منه وسقط، وطرحه
يوسف واشتدّ نحو الباب، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} ، قال: جالسًا عند الباب وابن عمها معه، فلما رأته {قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلَاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؟ إنه روادني عن نفسي فدفعته عن نفسي فشققت قميصه، قال يوسف: بل هي روادتني عن نفسي وفررت منها فأدركتني فشقّت قميصي، فقال ابن عمها: تبيان هذا في القميص، فإن كان القميص {قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} فيأتي بالقميص فوجده قدّ من دبر، {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} . وقال نوف الشيباني: ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلَاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؟ فغضب فقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} .
قوله عز وجل: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا
عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَاّ
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) } .
عن مجاهد: قوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} ، قال: كان حبًا في شغفها. وقال الضحاك: هو الحب اللازق بالقلب.
وعن السدي: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} ، يقول: بقولهن. وقال ابن إسحاق: لما أظهر النساء ذلك من قولهنّ: تراود عبدها، مكرًا بها لتريهنّ يوسف، وكان يوصف لهن بحسنه وجماله، {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} ، قال سعيد بن جبير: طعامًا وشرابًا ومتّكأ. قال السدي: يتكئن عليه. وعن ابن عباس: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} ، قال: أعطتهن أترجًّا، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً وقالت: اخرج عليهن فلما رأينه أَكبرنه، قال ابن زيد: فخرج فلما رأينه أعظمنه وبهتن {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، قال السدي: جعل النسوة يحززن أيديهنّ يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ، {وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً} ، قال ابن زيد: ما هكذا تكون البشر.
وقال البغوي: أي: معاذ الله أن يكون هذا بشرًا، {إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ، وعند السدي: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ
رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} ،
تقول: بعد ما حلّ السراويل استعصى، لا أدري ما بدا له. وقال ابن عباس:{فَاسَتَعْصَمَ} ، يقول: فامتنع.
وعن السدي: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من الزنا.
قال البغوي: وإنما صرّحت به لأنها علمت أن لا ملامة عليها منهن، وقد أصابهن ما أصابها من رؤيته، فقلن له: أطع مولاتك، فقالت راعيل:{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} .
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} ، قال ابن زيد: إلا يكن منك أنت العون والمنعة، لا يكن مني ولا عندي.
وعن ابن إسحاق: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي: نجّاه من أن يركب المعصية فيهن، {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ} ببراءته مما اتهم به من شقّ قميصه من دبر،
…
{لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ، قال السدي: إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم، جعل الله ذلك الحبس ليوسف فيما ذكر عقوبة له من همه بالمرأة وكفارة لخطيئته.
وقال ابن كثير: يقول الله تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين، أي: إلى مدة وذلك بعدما عرفوا براءته، وظهرت
…
{الآيَاتِ} وهي الأدلّة على صدقه في عفته ونزاهته، وكأنهم والله أعلم إنما
سجنوه لما شاع الحديث، إيهامًا أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك.
قوله عز وجل: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَاّ نَبَّأْتُكُمَا
بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) } .
قال ابن إسحاق: فطرح في السجن يعني: يوسف، {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ} غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد، كان أحدهما
على شرابه والآخر على بعض أمره، في سخطة سخطها عليهما. وقال السدي: إن الملك غضب على خبازه، بلغه أنه يريد أن يسمَّه فحبسه، وحبس صاحب شرابه، ظنّ أنه مالأه على ذلك فحبسهما جميعًا.
قال ابن كثير: والمشهور عند الأكثرين أنهما رأيا منامًا وطلبا تعبيره.
وعن الضحاك في قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، قال: كان يوسّع للرجل في مجلسه ويتعاهد المرضى.
قال البغوي: فلما قصَّا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبّر لهما لمّا سألاه، لِمَا علم في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد و {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} قيل: أراد به في النوم يقول: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في نومكما، {إِلَاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة، وقيل: أراد به في اليقظة يقول: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} من منازلكما، {تُرْزَقَانِهِ} تطعمانه وتأكلانه، {إِلَاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} بقدره ولونه والوقت الذي يصل فيه إليكما، {قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} ، مثل معجزة عيسى عليه السلام. {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن
نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} ثم دعاهما إلى الإسلام فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} ، أي: آلهة شتى، {خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ثم فسر رؤياهما فقال:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو صاحب الشراب، {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} والعناقيد الثلاثة: ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد الثلاثة ويردّه إلى منزلته التي كان عليها، {وَأَمَّا الآخَرُ} ، يعني: صاحب الطعام فيدعوه الملك بعد ثلاثة أيام، والسلال الثلاث: ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يخرجه فيأمر به {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} . قال ابن مسعود: ولما سمعا قول يوسف قالا: ما رأينا شيئًا إنمّا كنّا نلعب، قال يوسف:{قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ، أي: فرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما بالتي أخبرتكما به، رأيتما أو لم تريا. وقال - يعني يوسف - عند ذلك:{لِلَّذِي ظَنَّ} علم {أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} وهو الساقي
…
{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، يعني: سيدك الملك وقل له: إن غلامًا محبوسًا ظلمًا طال حبسه، {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل: أنسى
الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره.
وقال ابن عباس - وعليه الأكثرون -: أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه حين ابتغى الفَرَج، من غيره واستعان بمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين. انتهى ملخصًا.
قال السدي: إن الله أرى الملك في منامه رؤيا هالته، فرأى:{سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فجمع السحرة، والكهنة، والقافة، فقصّها عليهم، فقالوا: أضغاث أحلام
وما نحن بتأويل الأحلامِ بعالمين. وعن ابن عباس: قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} ، قال: مشتبهة. وقال الضحاك هي الأحلام الكاذبة.
وقال ابن كثير: اعتذروا إليه بأنها {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} ، أي: أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه، {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} ، أي: لو كانت رؤيا صحيحة
من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها، وهو تعبيرها، فعند ذلك تذكّر الذي نجا ذينك الفتيّين، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف من ذكره أمره للملك، فعند ذلك تذكّر {بَعْدَ أُمَّةٍ} ، أي: مدة فقال لهم - أي: للملك والذين جمعهم لذلك-: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ} أي: بتأويل هذا المنامُ {فَأَرْسِلُونِ} أي: فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن ومعنى الكلام فبعثوه فجاء فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} .
وقال البغوي: والصدّيق الكثير الصدق؛ {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فإن الملك رأى هذه الرؤيا، {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} فقال له يوسف معبّرًا ومعلّمًا: أمّا البقرات السمان، والسنبلات الخضر، فسبع سنين مخاصيب، والبقرات العجاف، والسنبلات اليابسات فالسنوات المجدبة، فذلك قوله تعالى إخبارًا عن يوسف:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} هذا خبر بمعنى الأمر، يعني: ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة والدأب: العادة، وقيل: بجدّ واجتهاد {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ} أمرهم بحفظ الأكثر، والأكثر بقدر الحاجة، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ
شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ} تحرزون وتدّخرون للبذر، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} معناه: يعصرون العنب خمرًا والزيتون زيتًا والسمسم دهنًا. انتهى ملخصًا. وقال ابن عباس: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ} ، قال: أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه، وكان الله قد علّمه إياه، {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} بالمطر، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ، يعني: يحتلبون. وقال قتادة: يعصرون الأعناب، والزيتون، والثمار من الخصيب، هذا علم آتاه الله يوسف لم يسئل عنه.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: فإن قيل: من أين أخذ قوله:
…
{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ؟ فإن بعض المفسرين قال: هذه
زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي إليه، فالجواب: ليس الأمر كذلك، وإنما أخذها من رؤيا الملك فإن السنين المجدبة
…
سبع فقط، فدلّ على أنه سيأتي بعدها عام عظيم الخصب كثير البركات، يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة، الذي لا يزيلها عام خصب عادي، بل لا بد فيه من خلاف العادة وهذا واضح وهو من مفهوم العدد.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن
نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) } .
قال السدي: لما أتى الملك رسوله فأخبره قال: {ائْتُونِي بِهِ} فلما أتاه الرسول، ودعاه إلى الملك أبى يوسف من الخروج معه و {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية. قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذٍ قبل أن يعلم الملك بشأنه، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة، يقول: هذا الذي راود امرأته. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله يوسف إن كان ذا أناة، فلو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إليّ لخرجت سريعًا، إن كان لحليمًا ذا أناة» . رواه ابن جرير وغيره.
وعن ابن جريج قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، قال: أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن. قال ابن جرير: عن ابن إسحاق: فلما جاء الرسول الملك من عند يوسف بما أرسله إليه، جمع النسوة و {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} ؟ ويعني بقوله:{مَا خَطْبُكُنَّ} ما كان أمركنّ وما كان شأنكنّ {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} ؟ فأجبنه فقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالتِ امرأة العزيز الآن حصحص الحق. تقول: الآن تبيّن الحق وانكشف فظهر {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} .
{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} .
قال ابن كثير: تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} تقول المرأة: ولست أبّرئ نفسي، فإن النفس تتحدّث، وتتمنّى ولهذا راودته لأن النفس أمارة بالسوء {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} ، أي: إلا من عصمه الله تعالى، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. انتهى.
قال ابن إسحاق: {وَقَالَ الْمَلِكُ} ، يعني: ملك مصر الأكبر، حين تبيّن عذر يوسف، وعرف أمانته وعلمه، قال لأصحابه:{ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ، يقول:
أجعله من خلصائي {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .
قال ابن كثير: مدح نفسه، ويجوز للرجل ذلك إذا جهل أمره للحاجة.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} ، يعني: أرض مصر، {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} .
قال ابن جرير: يتّخذ منها منزلاً حيث شاء بعد الضيق والحبس. وقال السدي: يتصرّف فيها كيف يشاء. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
قال ابن كثير: أي: وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز، فلهذا أعقبه الله عز وجل السلامة والنصر والتأييد {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} كقوله في حق سليمان عليه السلام:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} . والله أعلم.
* * *