الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس التاسع بعد المائة
…
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (32) وَمَا
كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } .
* * *
عن ابن إسحاق: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} ، أي: تخالفون أمره وأنتم تسمعون أقواله.
وعن مجاهد في قول الله: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} ، قال: عاصون.
وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ} ، قال: الدواب الخلق الصم، البكم، الذين لا يعقلون، وليس بالأصم في الدنيا، ولا بالأبكم، ولكن صم القلوب، وبكمها وعميها، وقرأ:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
وقال ابن جريج: قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} قالوا: ائت بقرآن غير هذا، وقالوا: لولا اجتبيتها. ولوجاءهم بقرآن غيره لتولّوا وهم معرضون.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) } .
عن مجاهد في قول الله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال: الحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة، والعفة، والعصمة في الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان. وعن مجاهد في قوله:
…
{يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ، أي: حتى يتركه لا يعقل. وعن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» . قال: فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:«نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلّبها» . رواه أحمد وغيره.
وعن ابن عباس: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} ، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمّهم الله بالعذاب. وقال ابن زيد: الفتنة الضلالة.
وعن عكرمة قوله: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} ، قال: يعني: بمكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه
من قريش وحلفائها، ومواليها قبل الهجرة. {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} ، يعني: بالمدينة.
قال ابن زيد في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ} قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون. وقال ابن عباس:{لَا تَخُونُواْ اللهَ} ، يقول: بترك فرائضه، {وَالرَّسُولَ} ، يقول: بترك سنته، وارتكاب معصيته، {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} والأمانة: الأعمال لا تنقصوها.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، قال ابن مسعود: ما منكم أحد إلا مشتمل على فتنة، فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن.
وعن ابن إسحاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} أي: فصلاً بين الحق والباطل، {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
قوله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذه الآية معطوفة على قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} واذكر: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ} لأن هذه السورة مدنية، وهذا المكر والقول إنما كان بمكة، ولكن الله ذكّرهم بالمدينة، كقوله تعالى:{إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير: أن قريشًا فَرَقوا لما أسلمت الأنصار أن يتعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة، ليتشاوروا في أمر رسول صلى الله عليه وسلم فاعترضهم إبليس - لعنه الله - في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا
مني رأيًا ونصحًا، قالوا: ادخل، فدخل، فقال أبو البختري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدًا وتحبسوه في بيت، وتشدّوا وثاقه، وتسدّوا باب البيت، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه كما هلك من كان قبله من الشعراء. قال: فصرخ عدوا الله الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم، والله لئن حبستموه في بيت فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فيوشك أن يثبوا عليكم، ويقاتلوكم، ويأخذوه من أيديكم. قالوا: صدق الشيخ النجدي.
فقال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي: أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير تخرجوه من أظهركم، فلا يضرّكم ما صنع، ولا أين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه. فقال إبليس لعنه الله: ما هذا لكم برأي تعتمدون عليه، تعمدون
إلى رجل قد أفسد أحلامكم، فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم؟ ألم تروا إلى حلاوة منطقه وفصاحة لسانه، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك ليذهبنّ وليستميلنّ قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم، فيخرجكم من بلادكم. قالوا: صدق الشيخ النجدي.
فقال أبو جهل: والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أرى غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابًا نسيبًا وسبطًا فتيًّا، ثم يعطى كل فتى، منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش
كلها، وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدي قريش ديته. فقال إبليس: صدق هذا الفتى، وهو أجودكم رأيًا، القول ما قال، لا أرى رأيًا غيره.
فتفرّقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي يبيت فيه، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب أن ينام في مضجعه وقال له:«اتَّشِح ببردتي هذه، فإنه لا يخلصَ إليك منهم أمر تكرهه» ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه، فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} .
ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر، وخلّف عليًّا بمكة حتى يؤدّي عنه الودائع التي كانت عنده، وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون عليًّا في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما
أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليًّا رضي الله عنه فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثًا، ثم قدم المدينة، فذلك قوله تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
قال ابن إسحاق: فمكرت لهم بكيدي المتين، ثم خلّصتك منهم.
وقال ابن جريج: قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} ، قال: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس، فيمر بالعبّاد وهم يقرؤون الإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكة فوجد محمد صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد، فقال النضر:{قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} الذي سمع من العبّاد، فنزلت:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} ، قال: فقصّ ربنا ما كانوا قالوا بمكة، وقصّ قولهم إذ قالوا:{اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} الآية. وقال قتادة. قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة، وجهلهتا. وقال ابن عباس: لم يعذّب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا، ويلحق بحيث يأمن، فقال:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ، يعني: المسلمين، فلما خرجوا قال الله تعالى:{وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية فعذّبهم الله يوم بدر.
وعن ابن عباس: قوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ
بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } .
قال الضحاك في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ} الآية. قال: هم أهل بدر.
وقيل: نزلت في المطعمين منهم.
وقيل: نزلت في أبي سفيان.
قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فهي عامة، وإن كان سبب نزولها خاصًا.
وعن ابن عباس: قوله: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
وقال ابن إسحاق في قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} ، أي: من قتل منهم يوم بدر.
وعن ابن عباس: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، يعني: حتى لا يكون شرك.
وقال ابن جريج: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} أي: لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويخلع ما دونه من الأنداد.
وعن ابن إسحاق: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم، {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ} الذي أعزّكم ونصركم عليهم يوم بدر في كثرة عددهم وقلة عددكم، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . والله أعلم.
* * *