الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثالث عشر بعد المائة
[سورة التوبة]
مدنية، وهي مائة وتسع وعشرون آية
…
عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: «ضعوا هذه الآية في السورة الذي يذكر فيها كذا وكذا» . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وخشيت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. رواه الترمذي وغيره.
{بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِن
نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) } .
* * *
قال ابن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرًا على الحجّ من سنة تسع، ليقيم للناس حجّهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجّهم، فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، أن لا يُصدّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام؛ وكان ذلك عهدًا عامًا بينه وبين الناس من أهل الشرك وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى، فنزلت فيه وفيمن تخلّف عنه من المنافقين في تبوك
، وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سمّي لنا ومنهم من لم يسمّ لنا، فقال:{بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي: لأهل العهد
العام من أهل المشركين من العرب {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إلى قوله: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، أي: بعد هذه الحجّة.
وعن أبي هريرة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجّة التي أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس يوم النحر: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» . قال الزهري: فكان حميد يقول: يوم النحر الأكبر. رواه ابن جرير وغيره.
وعن ابن إسحاق: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي: العهد الخاص إلى الأجل المسمى {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
وعن مجاهد في قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} : إنها الأربعة التي قال الله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} ، قال: هي الحرم من أجل أنهم أنظروا فيها حتى يسيحوها. وفي الحديث الصحيح: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى» . رواه مسلم.
قال ابن إسحاق: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} ، أي: من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم، {فَأَجِرْهُ} ، قال مجاهد: إنسان يأتيك، فيسمع ما تقول ويسمع ما أنزل عليك فهو آمن، حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء. قال السدي: كلام الله القرآن.
قال ابن كثير: يبيّن لك حكمته في البراءة من المشركين، ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} ، أي: أمان، ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله.
{إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، يعني: يوم الحديبية. قال ابن إسحاق: هم قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية، إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الديل من بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته، {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
وقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} أي: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم، أو لمن لا عهد له منهم عهد وذمة، وهم إن يظهرو عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة؟ قال ابن عباس: الإِلّ: القرابة، والذمة: العهد. وقال الشاعر:
أفسد الناس خلوف خلفوا
…
قطعوا الإِلّ وأعراق الرحم
وقوله تعالى: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} ، أي: لا عهد لهم.
وقوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . قال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ فلا صلاة له. وقال الربيع عن أنس مرفوعًا: «من فارق الدنيا على الإِخلاص لله وعبادته لا يشرك به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راضٍ» . رواه البزار.
عن ابن عباس: قوله: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم} ، يعني: أهل العهد من المشركين،
سمّاهم: أئمة الكفر، وهم كذلك، يقول الله لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم، فقاتل {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} لأنهم لا أيمان لهم {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} .
وعن السدي: قوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} ، يقول: همّوا بإخراجه فأخرجوه، {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} بالقتال. قال مجاهد: قتال قريش حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ، قال السدي: خزاعة يشف صدورهم من بني بكر، {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} حين قتلهم بنو بكر وأعانهم قريش.
وقوله: {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} ، أي: فيهديه إلى الإِسلام، {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . وقال ابن زيد في قوله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} إلى قوله: {وَلِيجَةً} ، قال: إني أتركهم دون التمحيص.
قال البغوي: {وَلِيجَةً} بطانة وأولياء يوالونهم ويفيضون إليهم أسرارهم. والله أعلم.
* * *