المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌162 - ومن الخصال الملحقة ذويها بالبهائم - وهو خاتمتها - حسن التنبه لما ورد في التشبه - جـ ١١

[نجم الدين الغزي]

فهرس الكتاب

- ‌50 - ومن الخصال الملحقة مرتكبها بالدواب: السرقة

- ‌51 - ومنها: اختطاف أمتعة الناس كالعمائم، تشبهاً بالعُقاب والحدأة ونحوها

- ‌52 - ومنها: الخديعة والمكر والروغان عن الحق تشبهاً بالثعلب

- ‌53 - ومنها: التعاون على القبيح، وعلى الإثم والعدوان تشبهاً بالحمير

- ‌54 - ومنها: المسارعة إلى الشر والمعصية تشبهاً بالبغال

- ‌55 - ومنها: سرعة التقلب في المودة، والانتقال من خلق سيئ إلى أسوأ منه تشبهاً بالبغال أيضاً

- ‌56 - ومنها: معاداة أولياء الله تعالى تشبهاً بالحية في عداوة آدم، والوزغة في معاداة إبراهيم عليه السلام

- ‌57 - ومنها: التشبه في الانطواء على الخبث بالخنفساء

- ‌58 - ومنها: التشبه في اللجاج بالخنفساء أيضًا؛ فإنها لجوج كما طردت عادت

- ‌59 - ومنها: التشبه في اللؤم، وهو ضد الكرم

- ‌ تَنْبِيهٌ:

- ‌60 - ومنها: التشبه في الزهو والإعجاب بالنفس والتكبر بالطاوس، والثعلب

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌61 - ومنها: تشبيه النَّمَّام في النميمة المفرقة بين الإخوان بالظَّرِبان -بفتح الظاء المعجمة، وكسر الراء كقَطِران -: وهو دابة

- ‌62 - ومنها: التشبه بالظربان أيضًا في الفحش تشبهاً للفحش بالفسو

- ‌63 - ومنها: التشبه في الطمع في أكل أموال الناس ولا يشبع منها بالجدي

- ‌64 - ومنها: تشبه أكثر الناس في الوقوع على الدنيا، والإكباب عليها بالفراش، والذباب، والجنادب

- ‌65 - ومنها: التشبه في التطفل والوقاحة والجرأة بالذباب

- ‌66 - ومنها: التشبه في الطيش والخفة بالفراش ونحوه

- ‌67 - ومنها: التحامق، والرضا بالحمق تشبهاً بالرخم والضبع، وغيرهما مما وصف من البهائم بالحماقة

- ‌68 - ومنها: التشبه في المرح والبطر بالهر والجدي، ونحوهما من السباع والبهائم

- ‌69 - ومنها: التشبه بالفراش وغيره [في] معاوية الشيء الذي تأذى منه، وفي الإلقاء باليد إلى التهلكة

- ‌70 - ومنها: تشبه المرء في اختلاطه بكل قوم

- ‌71 - ومنها: التشبه في الشره والبخل بالحوت والتمساح والكلب

- ‌72 - ومنها: تشبه الحريص في الاجتهاد على طلب الرزق بالنمل والحُبَارى، وغيرهم

- ‌73 - ومنها: التشبه في الإكباب على طلب الرزق بالوحش أيضًا

- ‌74 - ومنها: التشبه في الادخار بالنمل ونحوه

- ‌75 - ومنها: محبة دوام الصحة، وكراهية المرض إذا نزل

- ‌76 - ومنها: الصيال، والبطش؛ والصيالة تشبهاً بالحمر وغيرها: الاستطالة، والوثوب

- ‌77 - ومنها: القيام من المرض غير معتبر ولا تائب عما كان عليه من الزلل تشبهاً بالبعير، والحمار إذا عقل

- ‌78 - ومنها: التشدق بالكلام والتخلل به كما تفعل البقر

- ‌79 - ومنها: التشبه بالثيران ونحوها في الفظاعة، وجهر الصوت، والتكلم بما لا يليق بالمكان والزمان

- ‌80 - ومنها: التغاير على المناصب ونحوها من ترهات الدنيا تشبهاً بالتيوس، ونحوها من الحيوانات

- ‌81 - ومنها: الاسترسال مع الغُلْمة تشبهاً بالجمل، والتيس، والكلب، والذئب، وغيرها

- ‌82 - ومنها: أن تصرح المرأة لزوجها بطلب الجماع لا على سبيل الملاعبة والمداعبة

- ‌83 - ومنها: الإكثار من النكاح، وصرف الهمة فيه

- ‌84 - ومنها: التشبه في ترك الاستتار عند قضاء الحاجة وعند الجماع، وترك التحري فيه بالحمار والكلب والسنور وغيرها

- ‌85 - ومنها: التشبه بالبهائم في إتيان الحليلة من غير تقدم مؤانسة وملاعبة، وضم وتقبيل، ونحو ذلك

- ‌86 - ومنها: إعجال الرجل أهله عند قضاء وطره؛ فإنه يكون بذلك متشبهاً بالبهيمة؛ فإن الحصان

- ‌87 - ومنها: أن لا يتقيد من له زوجتان فأكثر بالقسم

- ‌88 - ومنها: التشبه في التقذر وترك النظافة والطهارة بالعِفْر -بكسر المهملة، وسكون الفاء- وهو ذكر الخنازير

- ‌89 - ومنها: التشبه بالبهائم والطير في ترك تقليم الأظفار وإزالة الشعور التي إزالتها من السنة، وترك السواك

- ‌90 - ومنها: التشبه بالبهائم في ترك الاغتسال من الجنابة خصوصاً إذا حضرت الصلاة

- ‌91 - ومنها: تشبه المرأة في الصخب على زوجها، والتنكيد بالوع والوعوع، وهو ابن آوى

- ‌92 - ومنها: تشبه المرأة أيضًا في الضَّراوة والسَّلاطة على

- ‌ تنبِيهٌ:

- ‌93 - ومنها: التشبه بالعضرفوط في قلة الأدب مع القِبلة، وترك الآداب؛ وهي دويبة لا خير فيها

- ‌94 - ومنها: التبختر في المشي تشبهاً بالديك، والغراب، والطاوس لأنها تتبختر في مشيها

- ‌95 - ومنها: مصاحبة أهل الشر، ومجامعتهم على الظلم

- ‌96 - ومنها: أن يحاول الإنسان مرتبة لا تليق به التحاقاً بأرباب المراتب، فربما رين به دون بلوغ مطلوبه

- ‌97 - ومنها: التشبه في سرعة الغضب بالخنفساء، وفي شدته بالنمر

- ‌98 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه في عدم التأثر من الكلام الفاحش

- ‌99 - ومنها: أن يعجب الإنسان بعقله ومعرفته

- ‌100 - ومنها: التشبه بالحمار في رد الكرامة

- ‌101 - ومنها: التشبه بالحمار وغيره من البهائم في عدم الانزجار عن الشيء إلا بالإهانة، والضرب بالسَّوط ونحوه

- ‌102 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه بالنعاس عند مذاكرة العلم، واستماع الموعظة، وتلاوة القرآن

- ‌103 - ومنها: التشبه بالحمار ونحوه أيضًا في التكلم والخطيبُ على المنبر

- ‌104 - ومنها: التشبه بالحمار في مسابقة الإِمام في أفعال الصلاة من حيث إنه لم يتقيد في أفعاله

- ‌105 - ومنها: التشبه بالكلب، وسائر السمع، والقرد

- ‌ لَطِيفَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌106 - ومن الخصال التي لا تليق بالعبد لأنها مما تلحقه بالبهائم: التشبه بالدابة الشَّموس

- ‌107 - ومنها: العبث بالشيء

- ‌108 - ومنها: التشبه بالفرس الصافن في الصلاة، أو الفرس المقيد

- ‌109 - ومنها: أن يفترش ذراعيه في السجود افتراشاً كافتراش الكلب

- ‌110 - ومنها: أن يشم الطعام قبل أكله تقذرًا لأنه يشبه بذلك السباع والبهائم

- ‌111 - ومنها: النشبه بالبهائم في تناول الطعام بالفم من الإناء ونحوه

- ‌112 - ومنها: التشبه بالكلب ونحوه في الولوغ

- ‌113 - ومنها: التشبه بالبهائم في كَرْع الماء ونحوه

- ‌114 - ومنها: التشبه بالبعير ونحوه في الشرب في نَفَس واحد

- ‌115 - ومنها: التشبه بالبعير أيضًا ونحوه في التنفس، كما يؤخذ من كلام العراقي المذكور آنفاً

- ‌116 - ومنها: أكل المرء وشربه قائما كالبهائم

- ‌117 - ومنها: التشبه بالكلب في فتح الفم عند التثاؤب

- ‌118 - ومنها: التشبه بالكلاب النابحة في الصخب

- ‌119 - ومنها: التشبه بالحمر الناهقة بالنطق فيما لا يعنيه، أو فيما لا يفهم

- ‌120 - ومنها: الضحك من غير عجيب، والطرب لما لا يفهم معناه تشبهاً بالقرد والدب

- ‌121 - ومنها: التشبه بالثعلب والقرد في محاكاة الناس

- ‌122 - ومنها: محاكاة الناس في الأقوال تشبهاً بالببغاء وأبي زريق

- ‌123 - ومنها: التشبه بالثعلب والخنزير في الرَّوغان، وعدم الاستقامة؛ فإن لهما روغاناً يُضرب به المثل

- ‌124 - ومنها -وهو قريب مما قبله-: تشبه المتردد بين الحق والباطل بالشاة العاشرة بين الغنمين

- ‌125 - ومنها: التشبه بالثعلب في الكذب

- ‌126 - ومنها: التشبه في الفرار من الموت كفرار الثعلب

- ‌127 - ومنها: التشبه في منازعة الرئاسة والمناصب بالكِباش المتناطحة

- ‌128 - ومنها: طلب الرئاسة قبل حينها

- ‌129 - ومنها: التشبه بالتيس في الاكتفاء بطول اللحية على اكتساب العلوم ومحاسن الآداب

- ‌130 - ومنها: التشبه في الحماقة والخرق بالضبع والكروان وغيرهما

- ‌131 - ومنها: التشبه في الجبن، والوهن بالضبع

- ‌132 - ومنها: التشبه في الحقد بالجمل

- ‌ تَنْبِيهٌ:

- ‌133 - ومنها: التشبه في الحسد بالتيس

- ‌134 - ومنها: التشبه بالتيوس في اجتماع رجال على امرأة يتناوبون الزنا بها كما يشير إليه كلام مالك بن دينار

- ‌135 - ومنها: التشبه في تحليل المطلقة ثلاثًا بالتيس المستعار، وهو من الكبائر

- ‌136 - ومنها: التشبه في سوء الخلق بالكلب الضاري الهار

- ‌137 - ومنها: التشبه بالبكر في الكت عند الغضب

- ‌138 - ومنها: التشبه في سؤال الناس الشيء وتحسين طعامهم بالكلب والهر

- ‌139 - ومنها: التشبه بالكلب والبعير والحمار

- ‌140 - ومنها: التشبه في التظالم والتغاضب، وبطش القوي بالضعيف

- ‌141 - ومنها: التشبه بالكلب في ترويع المؤمنين كما تفعل الشُّرَطةُ وأعوان الظلمة

- ‌142 - ومنها: التشبه في التعدي واستلاب مال الغير منه واختطافه بالحدأة

- ‌143 - ومنها: التشبه بالحية في غصب بيوت الناس وأرضيهم وأمتعتهم

- ‌144 - ومنها: التشبه في أذية الناس بالعقرب، والحية، والسبع، والزنابير، والدبر

- ‌145 - ومنها: التشبه في إطلاق اللسان في كل زمان ومكانبالعقرب؛ فإنها تضرب ما وجدت حتى الحجر والمدر

- ‌146 - ومنها: التشبه بالكلب العقور في العقر والجراحة

- ‌147 - ومنها: التشبه بالعقرب في التظلم مع الظلم

- ‌148 - ومنها: التشبه بالإفساد في الأرض بالأرَضة

- ‌149 - ومنها: الغدر، وهو ترك الوفاء تشبهًا بالذئب والضبع، ونحوهما

- ‌150 - ومنها: التشبه في الضلال، وهو نقيض الهدى والرشد بالبعير الضَّال، وبالضب، واليربوع

- ‌151 - ومنها: التشبه بضعاف الحيوانات المؤذية في الأذى مع الضعف

- ‌152 - ومنها: التشبه في الصولة عند الجوع بالأسد والسباع، وعند الشبع بالبغال والحمير

- ‌153 - ومنها: تشبه السفيه في إتلافه ماله على مَنْ لا نَفْعَ له من الناس

- ‌154 - ومنها: التشبه بالضباع ونحوها في نبش القبور

- ‌155 - ومنها: التشبه بالخيل الجامحة في اتباع الهوى، والبغال الرامحة في الحركات التي لا تختار ولا تجتبى

- ‌156 - ومنها: التشبه في العجز والقصور عن طلب المنازل العلية والمراتب السنيَّة بدواب الجُحَر كالضب، وغيره

- ‌157 - ومنها: تشبه الإنسان في مشاركة أخيه في الرَّفاهية، ومفارقته في الحزن والشدائد بالجَمَل والجدي يرتع، وغيره في الشدة

- ‌158 - ومنها: تشبه الإنسان بالجمل والجدي في إيثار الدعة والراحة على الاهتمام بما يعنيه

- ‌159 - ومنها: تربص الدوائر بالمؤمن، وتمني السوء له، وإشاعة ما يُحزنه تشبهًا بالبوم

- ‌160 - ومنها: التشبه في صرف العمر الطويل في غير اكتساب العلوم والمعارف بالنسر

- ‌161 - ومنها: التشبه في الإساءة إلى مَنْ أحسن إليه بالبغل، والضبع، والكلب، والذئب، والحية

- ‌162 - ومن الخصال الملحقة ذويها بالبهائم - وهو خاتمتها

- ‌(9) بَابُ مَا يَحْسُنُ مِنَ اْلتَّشَبُّهِ بِاْلبَهَائِمِ وَاْلسِّبَاعِ

- ‌ فمن ذلك الأسد

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌ التشبه بالنسر

- ‌ تَنْبِيهٌ:

- ‌ ومن ذلك البازي:

- ‌ لَطِيفَةٌ:

- ‌ لَطِيفَةٌ أُخْرى:

- ‌ ومن ذلك الباشق

- ‌ ومن ذلك الصقر:

- ‌ ومن أنواع الصقر: اليؤيؤ

- ‌ ومن ذلك: العُقاب

- ‌ ومن ذلك الجوارح:

- ‌ تَنْبِيهٌ:

- ‌ ومن ذلك الديك:

- ‌ لَطِيفَة:

- ‌ ومن حميد خصال الديك: معرفة مواقيت الصلاة

- ‌ ومن خصال الديك: التذكير بالله تعالى

- ‌ ومن خصال الديك: الإيقاظ للصلاة

- ‌ ومن ذلك الهدهد:

- ‌ ومن ذلك الحمام:

- ‌ فمن أوصاف الحمام: البلاهة

- ‌ ومن أوصاف الحمام أيضاً: الأُنس بالناس، والألفة بهم

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌ ومن أوصاف الحمام: أنها لا تحكم عشها، فإذا هبت الريح كان ما يُكسر أكثر مما يسلم

- ‌ ومما وصفت العرب به الحمام: الحزن

- ‌ ومن أوصاف الحمام: الصبر على المصيبة وعدم الجزع

- ‌ ومن أنواع الحمام: القمرية

- ‌ ومن ذلك العصفور:

- ‌ ومن طباع العصافير:

- ‌ ومن صفات العصافير: القناعة بقوت يوم، وذكر الله تعالى

- ‌ ومن طباع العصفور: سرعة الحركة والتقلب

- ‌ ومن لطائف العصفور:

- ‌ ومن لطائف العصفور:

الفصل: ‌162 - ومن الخصال الملحقة ذويها بالبهائم - وهو خاتمتها

قال: فعدلوا شامة، فإذا هم بعين خرارة، فشربوا وسقوا إبلهم، وحملوا منه ريهم، وأتوا عكاظ، ثم انصرفوا إلى موضع العين فلم يروا شيئًا، فإذا هاتفٌ يقول:[من البسيط]

يا مالُ عَنِّي جَزاكَ اللهُ صالِحَةً

هَذا وَداعٌ لَكُمْ مِنِّي وَتَسْليمُ

لا تَزْهَدُوا فِي اصْطِناعِ العُرْفِ مِنْ أَحَدٍ

إِنَّ الَّذِي حُرِمَ الْمَعْرُوفَ مَحْرومُ

أَنَّا الشُّجاعُ الَّذِي أَنْجَيْتَ مِنْ رَهَقٍ

شَكَرْتُ ذَلِكَ إِنَّ الشُّكْرَ مَقْسُومُ

مَنْ يَفْعلِ الْخَيرَ لا يَعْدَمْ جَوائِزه

ما عاشَ، وَالْكُفْرُ بَعْدَ الغَبِّ مَذْمُومُ (1)

‌162 - ومن الخصال الملحقة ذويها بالبهائم - وهو خاتمتها

-: أن لا يحمل الإنسان الغيرة الإنسانية على التشبه بأهل الكمال، ولا ينهض به الحِجى عن حضيض أحوال أهل الزيع والإضلال.

وقد قالوا: مَنْ لا يغار حمار، والمراد: غيرة العقل، لا غيرة الشهوة؛ فافهم! وقد قلت:[من المجتث]

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"(ص: 76).

ص: 163

لَوْلا يَهِيْجُكَ عَقْلٌ

إِلَى اكْتِسَابِ الْمَعالِي

إِنَّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ سَا

لِكًا إِلَى طَرِيقِ الكَمالِ

قَدِ انْتَهَى النَّقْصُ فِيهِ

وَباءَ بِالابْتِذالِ

مَنْ لا يَغارُ حِمارٌ

وَلَوْ يُسامُ بِغالِ

على أنهم قالوا في المثل السائر في تهييج أهل البصائر إلى تحصيل أفضل المطالب، وطلب أرفع المراتب: العاشية تهيج الأبية (1)؛ أي: إذا رأت التي تأبى العشاء من الإبل التي تتعشى، تبعتها فتعشت معها.

يُقال: عشت الإبل - من باب رضي - يعشي عشاءً: إذا نفشت، فهي عاشية.

كما يُقال: أَبَيت الإبل، فرضيَتْ، فهي أَبِية إذا لم ترد العشاء.

قال في "القاموس": أبيت الطعام، كرضيت، أبىً: انتهيت عنه من غير شبع (2).

والمثل المذكور قال الزمخشري: يضرب في نشاط الرجل للأمر إذا رأى غيره يفعله - وإن لم ينشط له قبل ذلك -. انتهى (3).

(1) انظر: "المستقصى من أمثال العرب" للزمخشري (1/ 331).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1623)(مادة: أبى).

(3)

انظر: "المستقصى من أمثال العرب" للزمخشري (1/ 332).

ص: 164

فإذا كان الإنسان لا يهيجه النظر إلى أصحاب الأحوال المحمودة والأخلاق الممدوحة لأن يتحلى بها، ولا تحمله على الاتصاف بها، كان أسوأ حالاً من الإبل الأبية، كما أنه إذا هاجه ما يراه من غيره مما يشتهى طبعًا ويذم عقلاً وشرعًا كان كالحمار الذي رأى حمارًا آخر يَبُول فبال، أو بالكلب إذا رأى كلبًا آخر يعدو إلى جِيْفة، فعدا إليها ومال.

وقد تقدم أنهم قالوا في الأمثال: بال حمَار فاستبال أحمرة؛ يضرب للوضيع يأتي أمرًا قبيحاً، فيتبعه أقرانه فيه.

وهذه الجملة كافية لأهل العقول الصافية، والعافية من الله، فنحن نسأله العافية؛ فإنها هي الكافية الشافية.

وهذه فوائد، وتتمات فوائد لهذا الباب الذي ذكرناه في النهي عن التشبه بالبهائم والسباع والهوام.

روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أنه دخل المدينة فقال: يا أهل المدينة! ما لي لا أرى عليكم حلاوة الإيمان؟ والذي نفسي بيده لو أن دُبَّ الغابة طَعِمَ الإيمان لرئي عليه حلاوة الإيمان (1).

وروى أبو داود عن جندب رضي الله تعالى عنه قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عقلها، ثم دخل المسجد وصلَّى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 541).

ص: 165

فلمَّا سلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتقُوْلُوْنَ: هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيْرُهُ، ألمْ تَسْمَعُوْا إلى مَا قَالَ؟ ".

قالوا: بلى (1).

وروى ابن أبي شيبة عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى قال: إنَّ لكل قومٍ كلباً؛ فاتق الله لا يضرُّ بك شره (2).

وروى البيهقي في "الشعب" عن الحسنِ - مرسلاً - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثُ خِصَالٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ الكَلْبُ خَيْرًا مِنْهُ: وَرعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ عز وجل، أَوْ حِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ جَاهِلٍ، أَوْ حُسْنُ خُلُقٍ يَعِيْشُ بِهِ فيْ النَّاسِ"(3).

وروى محمد بن خلف المرزباني في كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً مقتولاً، فقال:"مَا شَأْنُهُ؟ ".

فقالوا: إنه وثب على بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية، فقتله.

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37312).

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(8423).

ص: 166

فقال صلى الله عليه وسلم: "قتَلَ نَفْسَهُ وَأَضَاعَ دِيْنَهِ، وَكَانَ الكَلْبُ خَيْرًا مِنْهُ"(1).

قلت: وجه ذلك أن الكلب نصح لصاحبه مالك الماشية، وحفظ له وده، وحرس ماشيته، وهذا السارق خان أخاه المسلم، ولم يحفظ فيه ذمة الإسلام، فكان الكلب خيرًا منه من هذا الوجه.

قال المرزباني: وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كلبٌ أمين خيرٌ من صاحب خؤون (2).

وكان للحارث بن صعصعة نُدَماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة، فخرج في بعض منتزهاته ومعه ندماؤه، فتخلف واحدٌ منهم، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما ميتين، فعرف الأمر، فأنشأ يقول:[من الطويل]

فيا عَجَبًا للخلَّ يَهْتِكُ حُرْمَتِي

وَيا عجبًا للكَلْبِ كَيْفَ يَصُونُ

وما زالَ يَرْعَى ذِمَّتي ويَحُوطُنِي

وَيحْفَظُ عِرْسِي والخليلُ يَخُونُ (3)

وذكر ابن قتيبة في كتاب "مختلف الحديث" عن أبي عبيدة: أنه كان يذكر أنَّ رجلين سافرا فوقع عليهما اللصوص، فقاتل أحدهما حتى غلب، فأخذ، فدفن وترك رأسه بارزًا، وجاءت الغربان وسباع الطير

(1) رواه المرزباني في "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"(ص: 12).

(2)

انظر: "فضل الكلاب" للمرزباني (ص: 13).

(3)

انظر: "فضل الكلاب" للمرزباني (ص: 30).

ص: 167

فحامت حوله تريد أن تنتهشه، ورأى ذلك كلب كان معه، فلم يزل ينبش التراب حتى استخرجه، ومن قبل ذلك قد فرَّ صاحبه وأسلمه.

قال: ففي ذلك يقول الشاعر: [من الطويل]

يعردُ عَنْهُ جارُهُ ورفيقُهُ

وَينْبُشُ عَنْهُ كَلْبُهُ وَهْوَ ضَارِبه (1)

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن جعفر بن سليمان قال: رأيت مع مالك بن دينار كلباً فقلت: ما تصنع بهذا؟

قال: هذا خيرٌ من جليس السوء (2).

وروى أبو داود عن عبدِ الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِيْ يَسْتَرِدُّ مَا وَهَبَ كَمَثَلِ الكَلْبِ يَقِيْءُ فَيَأْكُلُ قَيْئَهُ، فَإِذَا اسْتَرَدَّ الوَاهِبُ فَلْيُوَقَّفْ فَلْيُعَرَّفْ بِمَا اسْتَرَدَّ، ثُمَّ لِيُدْفَعْ إِلَيْهِ مَا وَهَبَ"(3).

وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الَّذِي يَعُوْدُ فيْ هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُوْدُ فيْ قَيْئهِ".

وفي رواية: "كَمَثَلِ الكَلْبِ يَقِيْءُ، ثُمَّ يَعُوْدُ فيْ قَيْئهِ"(4).

(1) انظر: "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (ص: 135).

(2)

رواه المرزباني في "فضل الكلاب"(ص: 13)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط"(641).

(3)

رواه أبو داود (3540).

(4)

رواه ابن ماجه (2384).

ص: 168

وروى مسلم، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الَّذِيْ يَتَصَدَّقُ ثُمَّ يَرْجِعُ فيْ صَدَقَتِهِ كَمَثَلِ الكَلْبِ يَقِيْءُ، ثُمَّ يَعُوْدُ فيْ قَيْئِهِ فَيَأْكُلَهُ"(1).

وروى ابن عساكر عن محمد بن عمرو بن حسن قال: كنا مع الحسين رضي الله تعالى عنه بنهر كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَأَنَّيْ أَنْظُرُ إِلىْ كَلْبٍ أَبْقَعَ يَلَغُ فيْ دِمَاءِ أَهْلِ بَيْتيْ"، وكان شمر أبرص (2).

وذكر ابن عبد البر في كتاب "بهجة المجالس": أنه قيل لجعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: كم تتأخر الرؤيا؟

فقال: خمسين سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كلباً أبقع يلغ في دمه، فأوَّلَه بأن رجلاً يقتل الحسين ابن بنته، فتأخرت الرؤيا بعدُ خمسين سنة.

وقريبٌ من هذا ما رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن الحارث الخزاعي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول في خطبته: إني رأيت البارحة ديكاً ينقرني، ورأيته يُجليه الناس عني، فلم يلبث إلا ثلاثاً حتى قتله عبد المغيرة أبو لؤلؤة (3).

وروى ابن أبي شيبة أيضًا عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خطب

(1) رواه مسلم (1622)، والنسائي (3691)، وابن ماجه (2385)، وكذا البخاري (2479) بلفظ قريب، وأبو داود (3539)، والترمذي (1298).

(2)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(23/ 190).

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30503).

ص: 169

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الناس فقال: إني رأيت في منامي ديكاً أحمر نقرني في معقد إزاري ثلاث نقرات، فاستعبر لها أسماء بنت عُميس، وقالت: إنْ صَدَقَتْ رؤياك قتلك رجلٌ من العجم (1).

وروى ابن أبي الدنيا عن عمار الكراع قال: رأيت بيتي مملوءاً حيَّات في النوم، فأتيت ابن سيرين فقصصتها عليه، فقال: ليتق الله هذا الرجل، ولا يولجن عدوًا للمسلمين.

قال: وكان الخوارج وأهل الأهواء يختصمون في بيته.

وتقدم نظير ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في التشبه بالثعلب في الكذب.

وروى الخطابي في "العزلة"، والبيهقي في "الشعب": أنَّ الفقيه منصور التميمي الشافع كان ينشد لنفسه: [من مجزوء الكامل المرفل]

الْكَلْبُ أَغْلى قِيْمةً

وَهُوَ النِّهايةُ فِي الْخَساسَة

مِمّنْ يُنازعُ فِي الرَّئا

سَةِ قَبْلَ أَوْقاتِ الرِّئاسَة (2)

ونقل المطوعي في "عيون المجالس" عن الجاحظ أنه قال: منْ طلب الرئاسة صبر على الدراسة، ومَنْ لم يُواظب على الدراسة فهو كالثور في الدياسة.

وقلت في المعنى: [من الرجز]

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30506).

(2)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 83)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(8264).

ص: 170

مَنْ ليسَ يَصْبِرُ على الدِّراسَة

فَلَيْسَ تَكْمُلُ لَهُ الرِّئاسَة

وَالعالِمُ التَّارِكُ للدِّراسَة

كَأَنَّهُ الثَّوْرُ بِلا دِياسَة

وروى أبو نعيم من طريق الطبراني عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا أيها الناس! تواضعوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ اللهُ، وَقَالَ: انتُعِشْ رَفَعَكَ اللهُ؛ فَهُوَ فيْ نَفْسِهِ صَغِيْرٌ وَفيْ أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيْمٌ، وَمَنْ تَكَبَّرَ خَفَضَهُ اللهُ، وَقَالَ: اخْسَأْ خَفَضَكَ اللهُ؛ فَهُوَ فيْ نَفْسِهِ كَبِيْرٌ وَفيْ أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيْرٌ حَتَّى يَكُوْنَ أَهْوَنَ مِنْ كَلْبٍ"(1).

ولمحمد بن أبي الصقر الواسطي: [من الخفيف]

أَبَداً ما يُقاسُ بِالْكَلْبِ إِلَاّ الـ

ـبُخَلاءُ الأَراذِلُ السُّفَهاءُ

وَمَتَى قُلْتُ أَنْتَ كَلْبٌ فَلِلْكَلـ

ـبَ وَفاءٌ، وَلَيْسَ فِيكَ وَفاءُ (2)

وذكر الشيخ محي الدين بن العربي في "مُسامراته": أنَّ رجلاً وقف على واعظٍ من وعاظ العجم، فقال له: أيها الشيخ! أنت خيرٌ من الكلب أم الكلب خير منك؟

فأطرق ساعةً، ثم قال: إنْ دخلت الجنة فأنا خيرٌ من الكلب،

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 129)، وكذا البيهقي في "شعب الإيمان" (8140). وفيه سعيد بن سلام العطار كذاب. قال ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (ص: 87): هذا حديث غريب، ورفعه منكر.

(2)

انظر: "خريدة العصر وجريدة العصر" للأصبهاني (5/ 324).

ص: 171

وإن دخلت النار فالكلب خيرٌ مني.

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: حُدَّثت أنَّ البهائم إذا رأت بني آدم يوم القيامة قد تصدعوا بين يدي الله تعالى صنفين؛ صنف في الجنة، وصنف في النار، نادتهم: الحمد لله يا بني آدم الذي لم يجعلنا اليوم مثلكم؛ فلا جنة نرجو، ولا عقاباً نخاف (1).

وروى الثعلبي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إذا كان يوم القيامة مدَّت الأرض مدَّ الأديم، وحُشرت الدواب والبهائم والوحوش، ثم يُجعل القصاص بين الدواب حتى تقتص للشاة الجَمَّاء من القَرْناء تنطحها، فإذا فرغ من القصاص قال لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنتُ ترابًا (2).

وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - نحوه (3).

وذكر الثعلبي عن مقاتل رحمه الله تعالى أنه قال: إنَّ الله عز وجل يجمع الوحوش، والهوائمَّ، والطير، وكل شيء غير الثقلين، فيقول: مَنْ ربكم؟

(1) ورواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(ص: 185)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 311).

(2)

انظر: "تفسير الثعلبي"(10/ 120).

(3)

رواه الطبري في "التفسير"(30/ 26)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1286)، والبيهقي في "البعث والنشور"(2/ 137).

ص: 172

فيقولون: الرحمن الرحيم.

فيقول لهم الرب تبارك وتعالى بعد ما يقضي بينهم حتى يقتص من القرناء للجماء: أنا خلقتكم، وسخرتكم لبني آدم، وكنتم مطيعين أيام حياتكم، فارجعوا إلى الذي كنتم منه، كونوا تراباً، فيكونون تراباً.

فإذا التفت الكافر إلى شيء صار تراباً يتمنى فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا صورة خنزير، رزقه كرزقه، وكنتُ اليوم ترابًا.

قلت: ومن شعر الإمام الكبير عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه كما رواه عنه أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار"، وغيره:[من البسيط]

وَكَيْفَ قَرَّتْ لأَهْلِ العِلْمِ أَعْيُنُهُمْ

أَوِ اسْتَلَذُّوا لَذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعُوا

وَالْمَوْتُ يُنذِرُهُمْ دَهْراً عَلانِيَةً

لَوْ كانَ لِلْقَوْمِ أَسْماعٌ لَقَدْ سَمِعُوا

وَالنَّارُ ضاحِيةً لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ

وَلَيْسَ يَدْرُون مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ

قَدْ أَمْسَتِ الطَّيْرُ وَالأَنْعامُ آمِنةً

وَالنونُ فِي البَحْرِ لا يَخْتالُها فَزَعُ

وَالآدَمِيُّ بِهَذا الكَسْبِ مُرْتَهَنٌ

لَهُ رَقِيبٌ عَلى الأَمْرارِ يَطَّلِعُ

ص: 173

حَتَّى يُوافِيْهِ يَومَ الْجَمْع مُنفَرِداً

وَخَصْمُهُ الْجِلْدُ والأَبْصارُ وَالسَّمَعُ

إِذِ النَّبِيُّونَ وَالأَشهادُ قائِمةٌ

وَالْجِنُّ وَالإنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشَعُوا

وَطارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّرةً

فِيها السَّرائرُ وَالأخبارُ تُطَّلَعُ

يَوَدُّ قَومٌ ذَوو عِزِّ لَوْ أنَّهُم

هُمُ الْخَنازِيرُ كَيْ يَنْجُو أو الضَّبعُ

طالَ البُكاءُ فَلَمْ يُرحَمْ تَضَرُّعُهُم

هَيْهاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ

لِيَنْفَعِ العِلمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عالِمَهُ

قَدْ سَيلَ قومٌ بِها الرُّجْعى فَما رَجَعُوا (1)

وروى ابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" عن سويد بن سعيد قال: حدثني بعض أصحابنا قال: السكر على ثلاثة:

- منهم: مَنْ إذا سَكِرَ تقيأ وسلح، فهذا الخنزير.

- ومنهم: مَنْ إذا سَكِرَ كدم وجرح، فمثله مثل الكلب.

(1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(32/ 474).

ص: 174

- والثالث: إذا سَكِر تغنى ورقصَ، فمثله مثل القرد (1).

وعن الحكم بن هشام: أنه قال لابنِ ابنٍ له وكأنه يتعاطى الشراب: أي بني! إيَّاك والنبيذة فإنه قيءٌ في شدقك، وسلح في عقبك، وحد في ظهرك، وتكون ضحكة للصبيان، وأميرًا للذبان (2).

وروى الدينوري في "المجالسة" عن مبشر بن بشير: أنَّ رجلاً هرب من الحجاج، فمرَّ بساباط فيه كلبٌ بين جبين يقطر عليه ماؤها، فقال: يا ليتني كنت مثل هذا الكلب.

فما لبث أن مرَّ بالكلب في عنقه حبل، فسأل عنه.

فقالوا: جاء كتاب الحجاج يَأمر بقتل الكلاب (3).

قال الجوهري في المثل: أجِعْ كلبك يتبعْكَ (4).

وكذلك أورده الزمخشري، ويروى: جَوَّع كلبك يتبعْك (5).

- وكذلك أورده الدميري، والسيوطي، وقالا: يضرب في معاشرة اللئام (6).

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "ذم المسكر"(ص: 75).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "ذم المسكر"(ص: 76).

(3)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 361).

(4)

انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1201)(مادة: جوع).

(5)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 50).

(6)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 420).

ص: 175

والمعنى كما قال الزمخشري: اضطر اللئيم إليك بالحاجة ليقر عندك؛ فإنه إذا استغنى عنك تركك.

قال الزمخشري: ويُحكى أنَّ المنصور قال ذات يومٍ لقواده: لقد صدق الأعرابي حيث قال: جوع كلبك يتبعك.

فقال له أحدهم: يا أمير المؤمنين! أخشى إنْ فعلتُ ذلك أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويتركك.

[فأمسك المنصور، ولم يُحِرْ جواباً]، انتهى (1).

وقال بعضهم: إنما جرى للمنصور مع أبي بكر بن عياش رحمه الله تعالى، وهو الذي أجاب المنصور بذلك، وكان جريئًا عليه.

قلت: وكيفما اعتبرت حال الكلب اعتبرته لئيمًا؛ إنْ جوعته تبعك، وإنْ أطعمه غيرك تركك وأَقْبل على غيرك، ثم هو لا يقبل حقيقة إلَاّ على طمعه؛ ألا تراه إذا استوفى ما طمع فيه عاد إلى صاحبه؟

ومن هنا قيل في المثل: كلب غيرك ما تبعك، وولد غيرك ما نفعك؛ أي: وإن تبعك كلب غيرك مرَّة، أو نفعك ولد غيرك مرَّة لا يدوم ذلك لك؛ فكأن الكلب لم يتبع، والولد لم ينفع.

وقد مثلوا اللئيم بالكلب بأمثال أخرى، فقالوا: أحبَّ الكلب خانقه؛ كما أورده الزمخشري (2).

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 50).

(2)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 59).

ص: 176

وأورده غيره: أحبُّ أهلِ الكلب إليه خانقه؛ يُضرب للئيم؛ فإنك إذا أكرمته تعدى طوره، فإذا مسَّه غيرك بالسوء انقاد له ومال إليه (1).

قال الزمخشري: يضرب في صحبة اللئيم المسيء إليه.

قال ابن عادية السلمي: [من الكامل]

رَكِبُوكَ مُرْتَحَلاً فَظَهْرُكَ مِنْهُمُ

دُبْرُ الْحَراقِفِ وَالفقارُ مُوْقَّعُ

كَالْكَلْبِ يَتْبَعُ خانِقِيْهِ وَينْتَحِي

نَحْوَ الَّذِي بِهِمُ يُعَزُّ ويمْنَعُ (2)

وقالوا: سَمِنَ كلب ببؤس أهله.

ويروى: نَعِمَ كلبٌ ببؤس أهله.

وذلك أنهم إذا أصاب أموالهم السنون، وقعوا في البأساء والضَّراء، وهزلَتْ مواشيهم، فتكثر فيهم الجيف، وفي ذلك نعيم الكلاب.

وأنشد الزمخشري لامرأة من الأعراب: [من الطويل]

أَتُهْدِي لِيَ الْقِرطاسَ وَالْخُبْزُ حَاجَتِي

وَأَنْتَ عَلى بابِ الأَمِيرِ بَطِينُ

(1) انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 201).

(2)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 59).

ص: 177

إِذا غِبْتَ لَمْ تَذْكرْ صَدِيقاً وَإِنْ تُقِمْ

فَأَنْتَ على ما فِي يَدَيْكَ ضَنِيْنُ

فَأَنْتَ كَكَلْبِ السَّوْءِ فِي جُوعِ أَهْلِهِ

فيُهْزَلُ أَهْلُ البَيْتِ وَهْوَ سَمِينُ (1)

وقولها: فيُهزل - بضم الياء -: من أُهزل القوم: إذا أصاب مواشيهم سنة، فهَزُلَتْ.

ويُناسب المثل من يفرح بعيشه ونعيمه - وإن كان الناس في شدة وبؤس - وخصوصًا إذا كانت معيشته مترتبة على مصائبهم كالمحتكر في زمن الغلاء، وبائع الأكفان والحنوط في زمن الطاعون والوباء، وهو مخالف في حاله لما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ المُسْلِمِيْنَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ". أخرجه الطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه، والحاكم في "المستدرك" نحوه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (2).

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 120 - 121).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 48) وقال: وهب بن راشد وفرقد غير محتج بحديثهما وتفردهما، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10586) وضعفه، عن أنس رضي الله عنه.

والحاكم في "المستدرك"(7902) نحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7473) عن حذيفة رضي الله عنه، و (471) عن أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 178

وقلت في المعنى: [من مخلَّع البسيط]

مَنْ لَيْسَ لِلْمُسْلِمينَ يَهْتَمُّ

نابَهُم دَهْرُهُم بذُلِّهْ

فَلَيْسَ مِنْهُمُ كَما رَواهُ

مُوَثَّقٌ فِي صَحِيحِ نَقْلِهْ

يَنْعُمُ وَالْبُؤْسُ فِي ذَوِيهِ

نَعِيمَ كَلْبٍ بِبُؤْسِ أَهْلِهْ

وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تكلَّم ملك من الملوك [بكلمة بغي] وهو على سريره، فمسخه الله تعالى، فما يدرى أيَّ شيءٍ مُسِخَ، أذباب أم غير ذلك، إلا أنه ذهب فلم يُرَ (1).

وحاصل ما ذكره ابن عباس: أنَّ هذا الملك مُسِخَ شيئًا تافهًا حقيرًا، وذلك من باب معاملته بضد ما أراد أن يتظاهر به من القوة والكبرياء.

ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه:[أن النبي صلى الله عليه وسلم] قال: "يُحْشَرُ المتكبرونَ يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُورة الرِّجالِ، يَغْشَاهُمُ النَّاسُ من كلِّ مكانٍ، يُساقُون إلى سجنٍ في جهنم يُقال له: بُولَس، تعلُوهُم نارُ الأنيارِ، يُسقَون من عُصارة أهلِ النار؛ طينة الخَبَالِ"(2).

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 221)، وكذا ابن أبي الدنيا في "ذم البغي" (ص: 45).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 179)، والترمذي (2492) وقال: حسن صحيح.

ص: 179

وبولس؛ بضم الموحدة، وفتح اللام.

ونار الأنيار: نار النيران؛ جَمَعَ ناراً على أنيار، وإن كان واوياً؛ للفرق بين جمع النار وجمع النور؛ كما قالوا في عيد: أعياد، وحقها الواو، إلا أنه فرَّق بينه وبين جمع عود.

وفي الباب حديث أبي هريرة المتقدم.

وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن أبي العالية قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: إذا أتى العالم السلطان فهو فاسق، وإذا زار الأغنياء فهو ذئب.

والمراد أنْ يأتيهم ويزورهم لغير غرض صحيح، أو لغير ضرورة، بل لمجرد التعزز بهم، والقرب منهم، والطمع فيما عندهم.

وروى أبو نعيم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجَلاوِزَةُ وَالشُّرَطُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ كِلابُ النَّارِ"(1).

وقرأت بخط الشيخ برهان الدين بن جماعة: أنَّ عمر رضي الله عنه خرج يمشي وبين يديه رجل عظيم يقول: أنا ابن بطحاء مكة، فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه، وقال له: إن يكن لك دين فلك كرم، وإنْ يكن لك عقل فلك مروءة، وإن يكن لك مالٌ فلك شرف، وإلَاّ أنت والحمار سواء.

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 21).

ص: 180

ورأيت أنَّ الخرائطي رواه في أول باب من "مكارم الأخلاق"، والعسكري في "أمثاله" عن محمد بن سلام قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يمشي ورجل يخطر بين يديه ويقول: أنا ابن بطحاء مكة؛ كداها وكدائها، فقال عمر: إنْ يكن لك

إلى آخره (1).

وقريب من هذا قول علي بن عبد الواحد البغدادي - عُرف بصريع الدلاء - وأجاد: [من الرجز]

مَنْ فاتَهُ الْعِلمُ وأَخطَأَهُ الغِنَا

فَذاكَ وَالكَلْبُ عَلى حَدًّ سَوا (2)

وأنشد الدينوري في "المجالسة" عن محمد بن سلام الجمحي: [من الطويل]

إِذا أنْتَ لَم تَسَلِ اصْطِبارًا وَحِسْبَةً

صَبَرْتَ عَلى الأَيَّامِ مِثْلَ البَهائِمِ (3)

(1) ورواه ابن أبي الدنيا في "الإشراف في منازل الأشراف"(ص: 211)، والدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 357).

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 384) وقال: وله قصيدة في المجون ختمها ببيت، لو لم يكن له في الجد سواه لبلغ به درجة الفضل وأحرز معه قصب السبق. وذكر هذا البيت.

(3)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 133)، وعنده:"سلوت على الأيام".

ص: 181

وأنشد أيضًا لعبد الله بن مصعب الزبيري: [من البسيط]

ما لِي مَرِضْتُ وَلَمْ يَعُدْنِي عائِدٌ

مِنْكُمُ وَيَمْرَضُ كَلْبُكُمْ فَأَعُودُ (1)

كنى بالكلب هنا عن أدنى القوم، وخَدَمَتِهم.

وقال الحاكم في "تاريخه": أنشد البخاري: [من الرمل]

خَالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ واسِعٍ

لا تَكُنْ كَلْباً على النَّاسِ يَهرُّ

قال: وأنشد أبو عبد الله؛ يعني: البخاري: [من الكامل]

مِثْلَ البَهائِمِ لا تَرى آجالَها

حَتَّى تُسَاقَ إِلَى الْمَجازرِ تُنْحرُ (2)

وروى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى أنه كان يقول: [من الطويل]

إِذا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ ما الْهَوى

فَأَنْتَ وَعيْرٌ فِي الفَلَاةِ سَواءُ (3)

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 248).

(2)

وانظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (2/ 235).

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 328).

ص: 182

ومن لطائف ابن الجوزي أنه وعظ يومًا، فقال في أثناء كلامه:[من البسيط]

أَصْبَحْتُ أَلْطَفَ مِنْ مَرِّ النَّسِيمِ على

مَتْنِ الرِّياضِ يَكادُ الوَهْمُ يُؤْلمُنِي

مِنْ كُلِّ مَعْنًى لَطِيفٍ أَجْتنِي قدحاً

وَكُلُّ ناطِقَةٍ فِي الكَوْنِ تُطْرِبُنِي

فنهض إليه حسودٌ فقال له: فإذا نطق الحمار، قال: أقول له: اسكت يا حمار.

قرأته من خط البرهان بن جماعة.

وقال حجة الإسلام في "الإحياء": كانت نساء العرب يعلمن بناتهن اختبار الأزواج؛ كانت المرأة تقول لابنتها: اختبري زوجك قبل الإقدام والجرأة، انزعي زُجَّ رمحه، فإنْ سكت لذلك فقطَّعي اللحم على تُرسه، فإنْ سكت فكسّري العظام بسيفه، فإنْ صبر فاجعلي الإكاف على ظهره، ثم امتطيه؛ فإنما هو حمارك (1).

وقال مسكين الدارمي كما أنشده ابن قتيبة: [من الرمل]

(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 45).

ص: 183

وَإِذا الفاحِشُ لاقَى فاحِشًا

فَهُناكُمْ وافقَ الشَّنُ الطَّبَقْ

إِنَّما الفاحشُ مَنْ يَعْتادُهُ

كَغُرابِ البَيْنِ ما شاءَ نعقْ

أو حِمارِ السَّوْءِ إنْ أَشْبعتهُ

رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جاعَ نهقْ

أَوْ غلامِ السَّوْءِ إنْ جَوَّعْتهُ

سَرَقَ الناسَ، وإنْ يَشْبَعْ فَسَقْ

أَوْ كَعَنْزى رَفَعَتْ عَنْ ذَيْلِها

ثُمَّ أَرْخَتْهُ ضِراراً فَانْمَزَقْ

أَيُّهَا السَّائلُ عَمَّا قَدْ مَضى

هَلْ جَدِيدٌ مِثْلُ مَلْبُوسٍ خَلَقْ (1)

وأنشد الدينوري في "المجالسة" لسويد بن أبي كاهل: [من الرمل]

كَيْفَ يَرْجُونَ سِقاطِي بَعْدَما

جَلَّلَ الرأسَ بياضٌ وَصَلَعْ

رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً قَلْبَهُ

قَدْ تَمَنَّى لِي غَيْظاً لَمْ يُطَعْ

وَيَرانِي كَالشَّجا فِي صَدْرِهِ

عَسِراً مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ

جُرَدٌ يَخْطُرُ ما لَمْ يَرَنِي

وَإِذا أَسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَعْ

لَمْ يَضِرْني غَيْرَ أَنْ يَحْسُدَنِي

فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَ ما يَزْقُو الضُّوَعْ

ويحَيَّينِي إِذا لاقَتْيُهُ

وَإِذا يَخْلُو لَهُ لَحْمي رَتَعْ

قَدْ كَفانِي اللهُ ما فِي نَفْسِهِ

وَإِذا ما يَكْفِ شَيْئًا لَمْ يَضع (2)

الضوع - بضاد معجمة مضمومة، وواو مفتوحة، وعين مهملة -

(1) انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ص: 119).

(2)

انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 375).

ص: 184

قال النووي: الأشهر أنه من جنس البهائم.

وقال المفضل: هو ذكر البوم، وجمعه أضواع، وضيعان، والضواع صوته (1).

وقد اشتمل كلام سويد على تمثيل الحاسد بالضوع، وبالجرد، وبالسبع.

ومن لطائف معاوية رضي الله تعالى عنه تشبيه المتلدد في الخصومة، المُتَلَون في الجدال بالحرباء التي تتلون كما ذكر الخطابي في "الغريب" عن ثعلب، عن ابن الأعرابي: أنَّ رجلين تقدما إلى معاوية رضي الله تعالى عنه، فادعى أحدهما على صاحبه مالاً، وكان المدَّعى قبلَه حوَّلاً قُلَّباً مخلطاً مزيلاً، فأنشأ معاوية يقول:

أَنَّى أُتِيحُ لَهُ حرْباءَ تَنضبهُ

لا تُرْسِلِ السَّاقَ إِلَاّ مُمْسَكاً سَاقاً

ثم دعا بمالٍ فأعطى المدعي، وفرَّق بينهما (2).

والقُلَّب - بضم القاف، وفتح اللام المشددة -: الذي يقلب الأمور ظهراً لبطن.

والْحُوَّل - بضم المهملة، وفتح الواو المشددة -: ذو التصرف والاحتيال.

والمِخْلَط - بكسر الميم، وإسكان المعجمة، وفتح اللام -:

((1) انظر: "المجموع" للنووي (9/ 21).

(2)

انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 527).

ص: 185

الذي يَخْلِط شيئًا بشيء فَيَلْبِسهُ عن السامعين.

والمِزْيَل -بكسر الميم، وإسكان الزاي، وفتح المثناة تحت-: الجَدِل في الخصومات، الذي يزول من حجة إلى حجة.

وأنشد ثعلب: [من الخفيف]

ألمَعِيُّ الظُّنونِ مُتَّقِدُ الذِّهْـ

ـنِ أَعانتهُ فِطْنةٌ وَذَكاءُ

مِخْلَطٌ مِزْيَلٌ مِعَنٌّ مِفَنٌّ

كُلِّ داءٍ لَدَيْهِ مِنْهُ دَواءُ (1)

والمعن - بكسر الميم، وفتح المهملة، مشدد النون -: الخطيب، أو: الذي يدخل فيما لا يعنيه، ويعرض في كل شيء.

والمفن - بالفاء على وزنه -: الذي يأتي بالعجائب، ويقال: امرأة مِفنة.

وروى الخطيب في "تاريخه" عن أحمد بن أبي طاهر طيفور أنه أنشد لنفسه: [من البسيط]

يا مَنْ تَلْبَّسُ أَثْواباً يَتِيهُ بِها

تَيْهَ الْمُلوكِ عَلى بَعْضِ الْمَساكِينِ

ما غَيَّبَ الجلُّ أَخْلاقَ الْحِمارِ وَلا

تَحْمِي البَراقِعُ أَخْلاقَ البَراذَينِ (2)

وأنشد السيوطي في "ديوان الحيوان" ليعقوب بن أحمد

(1) انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 145).

(2)

ونسبت الأبيات للمبرد، كما في "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 320)، و "النجوم الزاهرة" لابن تغري (3/ 117)، وعندهما:"نقش البراذع" بدل "تحمي البراقع".

ص: 186

النيسابوري: [من الطويل]

يُرِي النَّاسَ زُهْداً كَالْمَسِيحِ بْنِ مَرْيَمٍ

وَفِي ثَوْبِهِ التِّمْساحُ أَوْ هُوَ أَغْدَرُ

أَغَرَّكُمْ مِنْهُ تَقَلُّصُ ثَوْبِهِ

وَذَلِكَ حبٌّ دُونَهُ الفَخُّ فَاحْذَرُوا

وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن قتيبة قال: قرأتُ في كتب الهند: ذو المروءة يُكرم وإنْ كان معدمًا؛ كالأسد يُهاب وإنْ كان رابضاً، ومَنْ لا مروءة له يهان وإنْ كان موسرًا؛ كالكلب وإنْ طوق وحُلي (1).

وروى الزجاجي في "أماليه" عن الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يُنشد: [من الوافر]

كلابُ النَّاسِ إِنْ فَكَّرْتَ فِيهِمْ

أَضَرُّ عَلَيْكَ مِنْ كَلْبِ الْكِلابِ

لأنَّ الْكَلْبَ لا يُؤْذِي صَدِيْقاً

وَإِنَّ صَدِيقَ هَذا فِي عَذابِ

وَيَأْتِي حِيْنَ يَأْتِي فِي ثِيابٍ

وَقَدْ حُزِمَتْ عَلى حدِّ النِّصابِ

فَأَخْزَى اللهُ أَثْواباً عَلَيْهِ

وَأَخْزَى اللهُ ما تَحْتَ الثِّيابِ (2)

ومن لطائف الحكايات قصة يحيى بن لوغان ملك تلمسان؛ قال الشيخ محي الدين بن العربي في "المسامرات" - وهو من خؤولتنا -:

(1) انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 361)، و"عيون الأخبار" لابن قتيبة (ص: 105).

(2)

انظر: "الأمالي" للقالي (2/ 120)، وعنده:"على رجل مصاب" بدل "على حد النصاب".

ص: 187

حدثني أخوالي ووالدتي قالوا: كان بتلمسان الملك يحيى، فنزل يوماً في موكبه من مدينة أقادره يُريد المدينة الوسطى، بينهما بقيع فيهِ قبور، فبينما هو يسير وإذا برجلٍ مُتعبد يمشي لحاجته، فأمسك عنانه وسلم عليه، فردَّ الرجل العابد السَّلام، وكلَّمه بأشياء، وكان مما كلَّمه الملك أن قال له: أيها العابد! ما تقول في الصلاة في هذه الثياب التي عليَّ؟

فاستغرب العابد يضحك.

فقال له: مم تضحك؟

قال: من سُخف عقلك؛ ما رأيْتُ لك في هذه المسألة شبيهاً إلَاّ الكلب.

قال: وكيف؟

قال: الكلب يتمَعَّك في الجِيْفة، ويتلطَّخُ بدمها، فإذا أراد أن يبول رفع رجله حتى لا يُصيبه البول، وأنت بطنك حرامٌ كله، وتسأل عن ثيابك.

فاسْتعبر الملك، ونزل من حِيْنه عن دابته، وتجرَّد من ثيابه، فرمى عليه بعض العامة من أهل الدين ثوبًا، ثم قال لأهل دولته: انظروا لأنفسكم، فَلَسْتُ لكم بصاحب.

فاقتفى أثر العابد، فصعد معه إلى العبادة في موضعٍ عالٍ بقبة تلمسان، وأقام معه ثلاثة أيام، ثم أمره العابد بالاحتطاب، فجعل الملك يحتطب، ويبيع بسوق تلمسان، ويأكل ويتصدق بالفضل، فكان الناس إذا أتوا إلى العابد يسألونه الدعاء؛ يقول: اسألوا يحيى

ص: 188

الدعاء؛ فإنه خرج عن قدرة.

قال الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى: ويُقال ذلك العابد كان أبا عبد الله التونسي، وقفت أنا على قبره وقبر الشيخ أبي مدين بظاهر تلمسان.

وروى الإمام عبد الله بن المبارك عن خالد بن معدان رحمه الله تعالى: لا يَفْقَهُ الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فتكون هي أحقر حاقر (1).

ويروى هذا عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه (2).

ومعناه أن ليس إليه ولا إلى أحد من الخَلْق، ولا لهم من الأمر شيء، وأنَّ الأمر كله بيد الله تعالى.

ويحتمل أن يكون له معنى آخر.

روى أبو نعيم عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: ما أقلَّ أكياسَ الناس، لا يُبصر الرجل أمره حتى ينظر إلى الناس، وإلى ما أمروا به، وإلى ما قد أكبوا عليه من الدنيا، فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الأباعر التي لا همَّ لها إلا ما تجعل في أجوافها، حتى إذا أَبْصر غفلتهم نظر إلى نفسه فقال: إني لأراني من شرهم بعيرًا واحدًا (3).

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 99).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس"(ص: 25).

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 89).

ص: 189

وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنه سُئِلَ عن أَلْين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَلا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ شَرَدَ عَنِ اللهِ شِرَادَ البَعِيْرِ عَلَىْ أَهْلِهِ"(1).

وروى أبو نعيم عن مسلم بن عبد الله قال: دخل مالك بن دينار رحمه الله تعالى دار الخَراج يومًا، فإذا هو برجل من هؤلاء الكبار قد وضع الكَبْل في رجله - والكَبل: بفتح الكاف وقد تكسر: القيد، أو أعظم القيود -؛ قال: فبينا هو ينظر إذ أُتِيَ بطعام، فوضعَ بين يديه، وجعل مالك ينظر ويتعجب من أكله ومما هو فيه، فقال له: تعالَ كُل يا أبا يحيى.

فقال: أخاف إنْ أكلتُ مثل هذا أنْ يُوضع في رجلي مثل هذا.

قال: فتقدم إليه ابن عم الرجل، فقال له: يا أبا يحيى! إنَّ هذا ابن عمٍ لي، وهو ينفق علىَّ وعلى عيالي، فادعُ الله أنْ يُنجيه.

فقال مالك: أتدري ما مثل ابن عمك؟ مثل شاة أكلت عجين قوم، فانتفخ بطنها، فماتت، وصاحب العجين يدعو الله على مَنْ أكل عجينه، وصاحب الشاة يدعو الله على مَنْ قتل شاته، فلأيَّهم ترى إليه أسرع الإجابة (2).

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 258)، والحاكم في "المستدرك"(7627).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 374).

ص: 190

ومن أمثالِهم: يا شاة! أين تذهبين؟

قالت: أُجَزُّ مع المجزوزين.

أجز - بالبناء لنائب الفاعل -: من جزَّ الشاة - بالجيم والزاي - فهي جزوزة كالحلوبة: إذا أخذ صوفها.

قال الزمخشري: يُضرب للأحمق يتكلم مع القوم، ويفعل فعلهم، وما يدري ما هم فيه (1).

وفي معناه قول الناس في بعض أمثالهم: قيل للأحمق: أين تغدو؟

قال: معهم.

قيل له: أين تروح؟

قال: معهم.

وهذا حال المقلد من غير استظهار معنى ما يُقلد؛ كما قال أولئك: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} [الزخرف: 22].

وقولهم في المثل حكايةً عن الشاة: أُجزُّ مع المجزوزين، وحقه مع المجزوزات؛ فإنما عُدِلَ عنه لأن الشاة لمَّا نزلتْ منزلة العقلاء فخُوطِبَتْ، ناسَبَ أنْ يكون جوابها جواب العقلاء.

ومن المعلوم أنَّ الأمثال تقع موقعها الأول، فتدور في الألسنة كما هي، ولا تغير؛ هذا قانونها.

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 406).

ص: 191

وقالوا في المثل: عنزٌ بها كل داء؛ يُضرب للكثير العيوب من الناس والدواب (1).

وقد قيل: للعنز تسعة وتسعون داء (2).

ومن أمثالهم في المخلط: كل نجار إبل نجارها؛ أي: فيه كل لونٍ من الأخلاق، وليس له رأي يثبت فيه؛ نقله في "الصحاح" عن أبي عبيد (3).

والنجار - بالفتح، والكسر - والنجر - بالفتح -: الأصل واللون.

وأصل المثل من قول بعض اللصوص وقد سُئل عن أصل إبل كان يعرضها للبيع: [من الرجز]

تَسْأَلُنِي الباعَةُ ما نِجارُها

إِذْ زَعْزَعُوها نَسَمَتْ أَبْصارُها

كُلُّ نِجارِ إِبلٍ نجارُها

وَكُلُّ دارٍ لأُناسٍ دارُها

وكُلُّ نارِ العالَمِينَ نارُها

قال الزمخشري: يُضرب لمَنْ كان له كل لون من الأخلاق، انتهى (4).

(1) انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (2/ 63).

(2)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 220).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 823)(مادة: نجر).

(4)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 230).

ص: 192

وفي معناه المثل الآخر: فلان مع كل قوم مغيرة، من أغار الفرس: إذا أسرع في الغارة وغيرها، أو: من أغار على القوم غارة وإغارة، فيكون المعنى: مغيرة أصحابها.

ومن الأول قولهم: أغار إغارة الثعلب: إذا شدَّ العدو، وأسرع، أو ذهب في الأرض (1).

وفي المثل: عنزٌ عزوز لها در جم؛ يُضرب للبخيل الواجد.

والعزوز: الضيقة الأحاليل، وهي كثيرة اللبن، فلا يخرج لبنها إلا قليلاً قليلاً (2).

وفي المثل أيضًا: عنزٌ نزت في حبل فاستتيست؛ أي: صارت تيساً بعد أن كانت عنزاً.

وربما قالوا: عنز استتيست؛ يُضرب للرجل يعز بعد الذل (3).

وفي المثل: استنوق الجمل؛ أي: صار ناقة بعد ما كان جملاً.

وأصله من كلام طرفة (4).

أنشد المسيب بن علس وهو بين يدي بعض الملوك، وهو عمرو

(1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 356).

(2)

انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 25).

(3)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 170).

(4)

انظر: "أمثال العرب" للضبي (ص: 174)، و"جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 54).

ص: 193

ابن هند كما في "القاموس":

وَقَدْ أتنَاسَى الْهَمَّ عِنْدَ اِحْتِضَارِهِ

بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَرِيَّةُ مكدَمِ

كُمَيْت كِنازُ اللَّحْمِ أَوْ حُمَيْرِية

مُواشِكَة، تَتْفِي الْحَصا بِمُثَلَّمِ

وطرفة بن العبد حاضر وهو غلام، فقال: استنوق الجمل؛ أشار إلى انتقاله من ذكر الجمل إلى ذكر الناقة (1).

وقيل: لأن الصيعرية سِمَةٌ لا يوسم بها إلا النوق خاصة.

وكان قوله: استنوق الجمل لقوله في وصف الجمل: عليه الصيعرية، فغضب المسيب، وقال عن طرفة: ليقتلنه لسانه، وكان كما تفرس فيه (2).

قال الجوهري: يُضرب للرجل يكون في حديث أو صفة شيء، ثم يخلطه بغيره، وينتقل إليه (3).

وذكر الزمخشري أنه يُضرب لذلك، ولمن يظن به غناء وجَلَد، ثم يكون على غير ذلك.

قال الكميت: [من الطويل]

(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1197)(مادة: نوق).

(2)

انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ص: 31).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1561)(مادة: نوق).

ص: 194

هَزَزْتُكُمْ لَو كانَ فيكُم مَهزةٌ

وَذَكَرْتُ ذا التَّأْنِيثَ فَاسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ (1)

ومما اتفق لي في هذا المثل: أني لمَّا ابتليت بحسد الشيخ شمس الدين بن المنقار في أوان الطلب، وكان له تعرض للناس، فداريته بقصيدة جاء فيها قولي:[من مجزوء الرجز]

يا شمسَ دِينِ اللهِ، يا

مَنْ قَدْ عَلا شَمْسَ الْفَلا

فلمَّا عرضتها عليه قبلها وشكر عليها، ثم بعد شهر أو أكثر جرت بيننا وبينه قصة آلتْ إلى أن ناظرته فيما ظهرت فيه الحجة عليه، فشرع يعترض على ما مدحته به، ويذم، ويدعي فيه سوء التركيب، فقلت:[من الطويل]

أتيْتُكَ يَوْمًا مَادِحًا لَكَ مُطْرِبًا

وَلَمْ أَخْشَ قَوْلَ النَّاسِ عَنِّي لِمَ فَعَلْ

فَنافَقْتَنِي بِالشُّكْرِ حِينَ قَبِلْتَ ما

أتيْتُ بِهِ نَظْماً عَلى الدُّرَرِ اشْتَمَلْ

وَبَعْدَ زَمانٍ قُلْتَ عَنْهُ بِأنَّهُ

مَعِيبُ الْمَعانِي ثُمَّ فِي وَزْنهِ خَلَلْ

فَقُلْتُ لِنَفْسِي إِنَّنِي أَسْتَحِقُّ ما

تَقُولُ وَإِنْ بالغْتَ فِي القَوْلِ وَالعَذلْ

وَما ذاكَ إِلَاّ أَنْ وَصَفْتُكَ كاذِباً

بِشَمْسٍ، وَلَمْ أَعْلمِ بِأَنَّكَ ذُو عِلَلْ

وَما الشَّمْسُ إِلَاّ مَنْ يُضِيْءُ بِنُورِهِ

وَلَمْ يَكُ ذا لُؤم كَمِثْلِكَ أَوْ خَطَلْ

فَإِنَّي وَضَعْتُ الشَّيْءَ غَيْرَ مَحَلِّهِ

وَذَكَّرْتُ ذا التَّأْنِيثَ فَاسْتَنْوَقَ الْجَمَل

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 159).

ص: 195

وكان ذلك في سنة أربع وتسعين وتسع مئة، وأنا دون العشرين من عمري، وكان المذكور قد تجاوز السبعين.

ومن لطائف العرب أنهم يقولون للملك: أصيد، أو يسمونه أصيد.

قال في "الصحاح": وأصله في البعير يكون له داءٌ في رأسه فيرفعه.

قال: ويقال: إنما قيل للملك أصيد؛ لأنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً.

وقال: الصيد - بالتحريك -: مصدر الأصيد، وهو الذي يرفع تكبراً، ومنه قيل للملك: أصيد (1).

قلت: وفيه وجه ثالث، وهو الأصيد من أسماء الأسد، وكذلك المصطاد، والصياد كما حكاه في "القاموس"(2).

والعرب تعبر عن السلطان بالأسد؛ فإنه - كما قال الدميري، والسيوطي - أشرف الحيوان المتوحش لأنه ينزل منها منزلة الملك (3).

ومن الأمثال المشهورة: الكلاب على البقر، والكراب على البقر - بالرفع، والنصب فيهما - على الابتداء، وإضمار الفعل؛ أي: دع

(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 499)(مادة: صيد).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 376)(مادة: صيد).

(3)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 10).

ص: 196

الكلاب على البقر؛ أي: خل امرأً وصناعته (1).

قال أبو عبيد في "أمثاله": من قلة المبالاة قولهم: الكلاب على البقر؛ يُضرب مثلاً في قلة عناية الرجل واهتمامه بشأن صاحبه.

قال: وأصله أن يخلى بين الكلاب وبقر الوحش.

وقال الخليل، وابن دريد، وغيرهما: ومنهم من يقول: الكراب على البقر، وهو كالكرب، وهو - بالفتح فيهما -: حرث الأرض، وإثارتها على البقر (2).

البقر في هذا اللفظ هي: الأهلية، وفي اللفظ الأول: الوحشية.

وحاصل معنى الأول: أن أهل الشَّر إذا سَطَتْ على أهل الشر فلا تُبَال بِهم، وهو من جملة الإعراض عن الجاهلين.

وفي معناه ما حكاه الشيخ علوان الحموي في شرح "تائية ابن حبيب" الصفدي عن شيخه سيد علي بن ميمون: أنه كان يقول: الحكام كالحيات، والفسقة من العوام كالفئرة؛ فدعوا الحيات تأكل الفئران.

ومعناه: أنَّ الله تعالى سلَّط هؤلاء على هؤلاء عقوبة لهم.

وحاصل معنى اللفظ الثاني: أنَّ العمل إذا كان له أهل يقومون به

(1) انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (2/ 169)، "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 330).

(2)

انظر: "العين" للخليل (5/ 361)، و"جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 328).

ص: 197

فلا تتكلفه أنت، بل دع صناعتهم لهم، واكتف بهم عن اهتمامك بها.

وقرأت بخط البرهان بن جماعة لأبي فراس بن حمدان لمَّا أُسِر: [من مجزوء الكامل المرفل]

ما لِلْعَبِيدِ مِنَ الَّذِي

يَقْضِي بِهِ اللهُ امْتِناعُ

ذُدْتُ الأُسودَ عَنِ الفَرا

ئِسِ ثُمَّ تَأْكُلُنِي الضِّباعُ

ومن لطائف العلاء بن الجارود؛ أنشده ابن قتيبة في "عيون الأخبار" عنه: [من مجزوء الرمل]

أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْدًا

وَعَلى الْمَنْقُوشِ دارُوا

وَلَهُ صلَّوا وَصَامُوا

وَلَهُ حَجّوا وَزارُوا

لَوْ رَأَوْهُ فِي الثُّرَيَّا

وَلَهُمْ رِيشٌ لَطارُوا

ومن لطائف ابن الدهان النحوي؛ أنشد السيوطي في "طبقات اللغويين والنحاة":

لا تَحْسَبَنْ أَنْ بِالْكُتْـ

ـبِ مِثْلَنا سَتَصِيرُ

فَلِلدَّجاجَةِ رِيشٌ

لَكِنَها لا تَطِيرُ (1)

وقال آخر، وهو من الأمثال:[من الوافر]

(1) انظر: "خريدة القصر وجريدة العصر" للأصبهاني (3/ 22)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 383).

ص: 198

وَمَنْ يَكُنِ الْغُرابُ لَهُ دليلاً

يَمُرُّ بِهِ عَلى جِيَفِ الْكِلابِ (1)

وقال آخر، وهو مثل يُضرب للبخيل؛ أنشد:[من الرجز]

كَالْحُوتِ لا يَرْوِيهِ شَيْءٌ يَلْهَمُهْ

يُصْبحُ ظَمآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ (2)

وأنشد الزمخشري في "المستقصى" عن الفراء: [من البسيط]

مِثْلَ النَّعامَةِ كانَتْ وَهْيَ سَائمةٌ

إِذْ ناءَ حَتَّى رَمَاها الْحينُ وَالْجُبنُ

جاءَتْ لِتَشْرِي قَرْناً أَوْ تُعَوِّضُهُ

وَالدَّهْرُ فِيهِ رباحُ البَيْعِ وَالغَبْنُ

فَقِيلَ أُذناكَ ظُلما ثمتَ اصْطَلَمَتْ

إِلَى الصُّماخِ، فَلا قَرْنٌ وَلا أُذُنُ (3)

قال: وقال آخر: [من الكامل]

أَوْ كَالنَّعامَةِ إِذْ غَدَتْ مِنْ بَيْتِها

لِيُصاغ قَرْناها بِغَيْرِ أُذَينِ

فَاجْتَثَّتِ الأُذنانِ مِنْها فَانْتَهَتْ

صَلْماءَ لَيسَتْ مِنْ فَواتِ قُرونِ (4)

وأنشد السيوطي في "ديوان الحيوان" للشيخ جمال الدين بن نباتة: [من الطويل]

(1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 244).

(2)

انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (2/ 71).

(3)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 219).

(4)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 219)، والأبيات لأبي العيال الهذلي، كما في "الحيوان" للجاحظ (4/ 324).

ص: 199

أَصَمُّ حَدِيثُ القَرْنِ ما يا روقَ مَسْمعي

بِتَأْخِيرِهِ يا جالِسينَ النَّدَى عَنَّي

فَلا تَجْعَلُونِي فِي العفاةِ نَعامَةً

غَدَتْ تَبْتَغِي قَرنًا فَعَادَتْ بلا قَرْنِ

قلت: وهذا من الكلام الذي وضعته العرب على ألسنة البهائم، والمقصود منه ضرب المثل، وإعطاء الحكمة، والتنبيه على الاعتبار.

كما روى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: مرض الأسد فعادَهُ السباع ما خلا الثعلب، فنمَّ عليه الذئب، فقال: إذا حضر فأَعْلمني، فلمَّا حضر أَعْلمه، فعتبه في ذلك، فقال: كنت في طلب الدواء لك.

قال: فأي شيء أصبت؟

قال: خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج.

فضرب الأسد بمخالبه في ساق الذئب، وانسلَّ الثعلب، فمرَّ به الذئب بعد ذلك ودمه يسيل، فقال له: يا صاحب الخف الأحمر! إذا قعدت عند الملوك فانظر ما يخرج من رأسك.

قال أبو نعيم: لم يقصد الشعبي من هذا سوى ضرب المثل، وتعليم العقلاء، وتنبيه الناس، وتأكيد الوصية في حفظ اللسان، انتهى (1).

وفي رواية: أنَّ الثعلب قال للأسد حين عتبه: ذهبتُ أَلْتَمِسُ

(1) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 317).

ص: 200

لمرضك دواء حتى وجدته.

قال: فما هو؟

قال: خصيتا الذئب، فسلهما الأسد، وذهب الثعلب، فقعد على مدرجة الذئب، فلمَّا مرَّ به ودمه يسيل على فخذيه قال له: يا صاحب السراويل الحمر! إذا جلست عند الملوك فانظر ماذا تتكلم به (1).

وروى أبو نعيم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: سمعت سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول: لم أرَ للسلطان إلا مثلاً ضرب للثعلب قال: قال الثعلب: عرفتُ للكلب نيفًا وسبعين دستاناً، ليس منها دستان خيرًا مِنْ أَلَاّ أرى الكلب [ولا يراني].

وأخرجه المنذري في "تاريخه" بنحوه (2).

قالوا: قيل للثعلب: ما لك تعدو أكثر من الكلب؟

قال: لأني أعدو لنفسي، والكلب يعدو لغيره (3).

وقال عمارة اليمني: [من الطويل]

رَأَيْتَ رِجَالاً أَصْبَحَتْ فِي مآدِبِ

وَحالِي لَدَيْكُمْ أَصْبَحَتْ فِي نَوادبِ

تَأَخَّرْتُ لَمَّا قَدَّمَتْهُمْ عُلاكُمُ

عَلَيَّ وَتأبَى الأُسْدُ سَبْقَ الثَّعالبِ (4)

(1) رواه المعافي بن زكريا في "الجليس الصالح والأنيس الناصح"(ص: 172).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 44).

(3)

انظر: "الأذكياء" لابن الجوزي (ص: 243).

(4)

انظر: "خريدة القصر وجريدة العصر" للأصبهاني (10/ 130)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 434).

ص: 201

وروى ابن أبي شيبة، وغيره عن علي رضي الله تعالى عنه قال: إنما مثلي ومثل عثمان رضي الله تعالى عنه كمثل أثوار ثلاثة كُنَّ في أجمة؛ أبيض، وأسود، وأحمر، ومعها فيها أسد، وكان لا يقدر منهنَّ على شيء لاجتماعهنَّ عليه، فقال - يعني: الأسد - للثور الأسود، والثور الأحمر: لا يدل علينا في أجمتنا إلا الأبيض؛ فإنَّ لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت.

فقالا: دونك، فأكله، فلمَّا مضت أيام قال للأحمر: لوني على لونك، فدعني آكل الأسود، ففعل، فلما مضت أيام قال للأحمر: إني آكلك لا محالة.

فقال: دعني أُنادي ثلاث أصوات.

فقال: افعل.

فقال: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض؛ قالها ثلاثًا.

قال علي رضي الله تعالى عنه: وأنا إنما هنت يوم قتل عثمان؛ رفع بها صوته.

وقالوا: إنَّ ثعلبًا وأرنبًا تحاكما إلى الضب، فقالا: يا أبا الحِسل! جئناك لتحكم بيننا.

فقال: في بيته يؤتى الحكم.

فقال الأرنب: إني اجتنيت تمرة.

فقال: حلواً اجتنيت.

ص: 202

فقال: إنَّ هذا أخذها مني.

فقال: لنفسه بغى الخير.

فقال: وإني لطمته.

قال: البادئ أظلم.

فقال: ثم لطمني.

فقال: كريم انتصر.

فقال: احكم بيننا.

فقال: حدث حديثين امرأة، فإن لم تفهم فأربعة، وقيل: فاربع (1)؛ أي: كف، فذهبت كلماته أمثالاً.

وفي طريقته في الحكم: أنَّ عدي بن أرطأة أتى إياس بن معاوية قاضي البصرة وهو في مجلس حكمه، وعدي أمير، وكان أعرابي الطبع، فقال: يا هناه! أين أنت؟

قال: بينك وبين الحائط.

قال: فاسمع مني.

قال: للاستماع جلست.

قال: إني تزوجت امرأة.

قال: بالرَّفاء والبنين.

قال: شَرَطْتُ لأهلها أني لا أُخرجها من بيتهم.

(1) رواه أبو الشيخ في "الأمثال"(ص: 410) عن النعمان بن بشير.

ص: 203

قال: الشرط أملك؛ أوفِ لهم.

قال: وأنا أريد الخروج.

قال: في حفظ الله.

قال: فاقض بيننا.

قال: قد فعلت (1).

ومما وضعوه على ألسنة البهائم ما قيل: إن الثعلب نظر إلى عنقود فلم يَنَلْهُ، فقال: هو حامض (2).

وقال بعض القدماء: [من مجزوء الرمل]

أَيُّهَا العائِبُ سَلْمى

أَنْتَ عَنْها كَثُعالَة

رامَ عُنْقوداً فَلَمَّا

أَبْصَرَ العُنْقودَ طَالَه

قالَ: هَذا حامِضٌ لَمَّـ

ـا رَأى أنْ لا يَنالَه (3)

وقيل: إنه قيل للنعامة: احملي.

قالت: أنا طير.

فقيل لها: طيري.

قالت: أنا بعير.

قال الشاعر: [من الوافر]

(1) انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 369).

(2)

انظر: "محاضرات الأدباء" للاصفهاني (2/ 751).

(3)

انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (2/ 76).

ص: 204

كَمَثَلِ نَعامَةٍ تَدَّعِي بَعِيراً

تَعاظَمَها إِذا ما قِيلَ: طِيْرِي

فَإِنْ قِيلَ: احْمِلِي قالَتْ: فَإِنِّي

مِنَ الطَّيْرِ الْمُرَتَّبِ فِي الوكُورِ (1)

وقيل للحمار: لم لا تجتر؟

قال: أكره مضغ الباطل (2).

وهو مثل قول الأعرابي الذي دفع إليه عِلْك، فلمَّا مضغه رمى به، وقال: تعب الحنجرة، وخيبة المعدة (3).

وقيل للثعلب: أما تحمل كتابًا إلى الكلب وتأخذ منه مئة دينار؟

فقال: أما الكراء فواف، ولكن الخطر عظيم (4).

وقيل: خرج أسد وذئب وثعلب على أنهم مشتركون فيما يتصيدون، فأصابوا حمارًا وظبيًا وأرنبًا، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا واعدل.

فقال: أمَّا الحمار فلك، وأما الظبي فلي، وأما الأرنب للثعلب.

فغضب الأسد، فضربه ضربةً، فأندر رأسه، فوضعه بين يديه، ثم قال للثعلب: اقسم بيننا واعدل.

(1) انظر: "محاضرات الأدباء" للأصفهاني (2/ 710).

(2)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 496) عن أيوب السختياني.

(3)

انظر: "محاضرات الأدباء" للأصفهاني (2/ 751).

(4)

انظر: "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي (9/ 99).

ص: 205

فلمَّا رأى الثعلب ما صنع بالذئب خَشِيَ أنْ يُصيبه مثله، فقال: أما الحمار فلك تتغذى به، وأما الأرنب فهو لك خلالٌ تتخلل به فيما بينك وبين الليل، وأما الظبي فلك تتعشى به.

فقال الأسد للثعلب: ويلك يا ثعلب! ما ينبغي إلا أن تكون قاضياً؛ من علمك هذا القضاء؟

فقال: الرأس الذي بين يديك، ثم وثب ناحية عن الأسد (1).

فهذا وأمثاله إنما وضعته العقلاء على طريقة ضرب الأمثال للتنبيه على ما ينفع أو يضر من الخلال؛ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43].

ألا ترى أنهم يقولون في المثل السَّائر: ليس بِعُشُّكِ فادرُجي؛ يريدون ليس لك في هذا الأمر حق فامضي، كما في "القاموس"(2).

وقال الزمخشري: يُضرب لمَنْ يدعي أمرًا ليس من شأنه؛ أي: ليس بمباتك فاخرج منه (3).

وقريب من قولهم في المثل الآخر: خلا لكِ الجو فبِيضي واصْفِرِي (4).

(1) انظر: "محاضرات الأدباء" للأصفهاني (2/ 752).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 771)(مادة: عشش).

(3)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 305).

(4)

انظر: "أمثال العرب" للضبي (ص: 34).

ص: 206

وأول من قاله طرفه بن العبد وهو ابن سبع سنين، وذلك أنه خرج مع صويحب له إلى مكان كانا يعهدان فيه القنابر، فنصبا فخيهما، فإذا قنبرة تحوم بالفخ، تقع تارةً وتَفْزع أخرى حتى ذهب النهار، ثم لمَّا توجَّها إلى أهلهما راجعين والقنبرة تحوم قال:[من الرجز]

يا لَكِ مِنْ قنبرةٍ بِمعمرٍ خَلا

لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي

وَنَقِّرِي ما شِئْتِ أنْ تُنَقِّري

قَدْ رُفِعَ الفَخُّ، فَماذا تَحْذَرِي؟

وَرَجَعَ الصَّيَّادُ عَنْكِ فَأْبْشِرِي

لا بُدَّ مِنْ أَخْذِك يَومًا فَاحْذَرِي (1)

ومن أمثالهم: حيل بين العَير والنزوان (2).

العَير - بالفتح -: حمار الوحش، والنزوان: الوثوب.

وأبلغ من هذا المثل قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ (54)} [سبأ: 54]؛ يُضرب المثل في منع الرجل مُراده.

قال الزمخشري: وأول مَنْ قاله صخر بن عمرو أخو الخنساء، وذلك أنه طعنه ربيعة الأسدي، فأدخل حلقة من حلقات الدرع في جوفه، فَضَمِر زمانًا - أي: زمن - حتى ملته امرأته، فمرَّ بها رجلٌ وكانت ذات خلق وإدراك، فقال لها: كيف مريضكم؟

فقالت: لا حي فيُرجى، ولا ميت فيُنْعى.

(1) انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ص: 32).

(2)

انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 371).

ص: 207

ثم قال لها: هل يُباع الكفل؟

فقالت: نعم عمَّا قليل؛ وذلك بمسمع من صخر.

فقال: أما والله لئن قَدِرْتُ لأقدمنك قبلي.

فقال لها: ناوليني السيف لأنظر هل تُقله يدي، فناولته فإذا هو لا يُقلَّه، فقال:[من الطويل]

أَرى أُمَّ صَخْرٍ لا تَمَلُّ عِيَادَتي

وَمَلَّتْ سُلَيْمى مَضْجَعِي وَمَكانِي

فَأَيُّ امْرِئٍ سَاوى بِأمٍّ حَلِيلَةً

فَلا عاشَ إِلَاّ فِي شَقى وَهَوانِ

أَهُمَّ بِأَمْرِ الْحَزْمِ لَوْ أَسْتَطِيعُهُ

وَقَدْ حِيْلَ بَيْنَ العَيْرِ وَالنَّزَوانِ

وَما كُنْتُ أَخْشى أَنْ كون جنازة

عليكَ وَمَنْ يغترَّ بِالْحَدَثانِ

وَلَلْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ حَياةٍ كَأَنَّها

معرس يعسوبٍ بِرَأْسِ سِنانِ (1)

ومن أمثالهم: على أهلها دلت براقش، وعلى أهلها جنت براقش (2).

قال صاحب "القاموس": وبراقش كلبة سمعت حوافر دواب فنبحت، فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم.

أو: اسم امرأة لقمان بن عاد، استحلفها زوجها، وكان لهم موضع إذا فزعوا دخنُوا فيه فيجتمع الجند، وإن جوارها عبثن ليلة، ودخن فاجتمع الجند، فقيل لها: إنْ رددتهم ولم تستعملهم في شيء

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 69).

(2)

انظر: "الأمثال" لابن سلام (ص: 63).

ص: 208

لم يأتكِ أحد مرةً أخرى، فأمرتهم فبنوا بناءً، فلما جاء سأل عن البناء فأخبرته، فقال: على أهلها تَجْنِي براقش؛ يُضرب لمَنْ يعمل عملاً يرجع ضرره عليه.

قال: أو كان قومهم لا يأكلون الإبل، فأصاب لقمان من براقش غلاماً، فنزل لقمان في بني أبيها، فراح ابن براقش إلى أبيه بعرق من جزور، فأكل لقمان، فقال: ما هذا؟ فما تعرقت طيبًا مثله.

فقال: جزورٌ نحرها أخوالي.

فقال: جمل واجتمل؛ أي: أطعمنا لحم الجمل، واطعم أنت منه.

وكانت براقش أكثر قومها بعيرًا، فأقبل لقمان على إبلها فأسرع فيها، وفعلوا ذلك بنو أبيه لمَّا أكلوا لحم الجزور، فقيل: على أهلها تجني براقش، انتهى (1).

قال الزمخشري: وقيل: براقش الحية تدلُّ على نفسها بجرسها (2).

قال حمزة بن بيض: [من الخفيف]

لَمْ تَكُنْ عَنْ جِنايَةٍ لَحِقَتْنِي

لا يَسارِي وَلا يَمِيني جَنَتْنِي

بَلْ جَنَاها أَخٌ عَليَّ كَرِيْمٌ

وَعلى أَهْلِها براقِشُ تَجْنِي (3)

(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 754)(مادة: برقش).

(2)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 165).

(3)

انظر: "البيان والتبيين" للجاحظ (ص: 146).

ص: 209

وربما قيل للمُتَلون: أبو براقش.

قال الجوهري: بَرْقَشْتَ: إذا نقشته بألوان شتى.

وأصله من أبي براقش، وهو طائر يتلون ألوانًا (1).

وقال صاحب"لقاموس"، برقش علىَّ في الكلام: خلطه.

قال: وتبرقش لها: تزين بألوان مختلفة.

وقال: أبو براقش طائر صغير يُرى كالقنفذ، أعلى ريشه أغر، وأوسطه أحمر، وأسفله أسود، فإذا يصيح انتفش فتغير لونه ألوانًا شتي (2).

ومن ألطف التمثيل قول البوصيري رحمه الله تعالى في وصف النفس: [من البسيط]

وَراعِها وَهِيَ فِي الأَعْمالِ سائِمَةٌ

وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ الْمَرْعَى فَلا تَسِمِ

مثلها بالبهيمة لا يمنعها عقل عن الشر الذي ربما أدى إلى هلاكها، فصاحبها ينبغي أن يمنعها مما يضرها كما يمنع صاحبُ الدابةِ الدابةَ.

وكذلك قوله: [من البسيط]

مَنْ لِي بِرَدِّ جماحٍ مِنْ غَوايَتِها

كَما يُرَدُّ جِماحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ

وروى [أبو نعيم] عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال:

(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 995)(مادة: برقش).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 754)(مادة: برقش).

ص: 210

الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حَرُون؛ إنْ فَتَرَ قائدها ضَلتْ عن الطريق ولم تستقم لسائقها، وإن فَتَرَ سائقها حَرَنَتْ ولم تتبع قائدها، فإذا اجتمعا استقامت طوعاً أو كَرْهًا، ولا يستطيع الدَّين إلا بالطوع والكره، إن كان كما كره الإنسان شيئًا من دينه تركه أوشك أن لا يبقى معه من دينه شيء (1).

وروى أبو نعيم أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أُحِبُّ مَوْتًا كَمَوْتِ الحِمَارِ".

قيل: يا رسول الله! وما موت الحمار؟

قال: "مَوْتُ الفَجْأَةِ"(2).

والحكمة في ذلك: أنَّ موت الفجأة يُؤخذ فيه العبد عن غير وصية ولا تذكرة، وكذلك موت الحمار، وغيره من البهائم، ونحوها.

وروى أبو نعيم عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه قال [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عَجَّلَ له عقوبةَ ذنبِهِ في الدُّنيا، وإذا أراد اللهُ بعبدِهِ شرًّا أَمْسكَ عليه عقوبةَ ذنبِهِ حتَّى يوافيَهُ يومَ القيامةِ كأنَّه عَيرٌ"(3).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 31)، وكذا ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (ص: 88).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 235)، وكذا الترمذي (980). قال الدراقطني في "العلل" (5/ 143): يروى مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أصح.

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 25).

ص: 211

وللحديث قصة ذكرها الإمام أحمد في روايته (1)، وقد ذكرناها من طريقه في التشبه بالجاهلية.

وفي معنى الحديث وجهان:

الأول: حتى يُوافي العبد ربه في حال كون العبد مثل العَير - بفتح العين - وهو الحمار الوحشي، شُبه بحال الحمار الذي وقع في قنص الصائد في الذل، وعدم القدرة على استخلاص نفسه.

والثاني: حتى يُوافي العبد ذنبه كأن ذنبه عَير.

قال أبو نعيم: وعير جبل بالمدينة شبه النبي صلى الله عليه وسلم عظم ذنوبه وكثرتها به (2).

وذكر القرطبي في "تفسيره": أن نوحًا عليه السلام لمَّا أُهبط من الطوفان أراد أن يبعث مَنْ يأتيه بالخبر، فبعث الغراب، فأصاب جيفة فوقع عليها، فاحتبس، فلعنه، فلذلك يقتل في الحرم، ودعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، وبعث الحمامة فلم تجد قراراً، فوقعت على شجرة بأرضٍ يَبسٍ، فحملَتْ ورقة ورجعَتْ إلى نوحٍ عليه السلام، فعَلِمَ أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك، فطارَتْ حتى وقعَتْ بوادي الحرم، فإذا الماء قد نَضَب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها، وجاءت إلى نوحٍ عليه السلام فقالت: بُشرايَ منكَ أنْ تهبَ ليَ الطوق في

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 25).

ص: 212

عنقي، والخضاب في رجلي، وأن أسكن الحرم، فمسح بيده عليها، وطوَّقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة (1).

أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس بنحوه (2).

قلت: الاعتبار في هذه القصة أن يكون العبد طائعاً لإمامه، ممتثلاً لأمره وكلامه، فيكون ظافراً بالأمن واليُمْن، يَرْفُل في ثياب الطاعة، ويألف أهل السنة والجماعة كما اتفق من أمن الحمامة، وأنَّ من خرج عن الطاعة جهل وابْتُلِيَ بالخوف كما صار للغراب، وكذلك يُعتبر حال من أحسن في طاعة الإنسان، ومَنْ لم يرعَ حرمته وطاعته؛ فافهم!

وذكر القرطبي أيضاً عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: استصعب على نوح عليه السلام الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها من ذنبها، ثم انكسر فصار معقوفاً، وبدا حياها، ومضت النعجة حين دُفعت، فمسح على ذنبها فستر حياها (3).

وهذا أخرجه ابن عساكر، وغيره (4).

وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عباس رضي الله تعالى

(1) انظر: "تفسير القرطبي"(9/ 44).

(2)

ر واه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(62/ 267).

(3)

انظر: "تفسير القرطبي"(9/ 44).

(4)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(62/ 255).

ص: 213

عنهما قال: عجبت للكلاب والشاء؛ إنَّ الشاء يُذبح منها في السنة كذا وكذا، ويهدى منها كذا وكذا، والكلاب تضع الكلبة الواحد منها كذا وكذا، والشاء أكثر منها (1)؛ أي: والواحدة منها تلد واحدة في الغالب.

قلت: وقد قال بعض أهل الإشارة: إنما بُورك في الغنم، ومُحِقَت الكلاب لأنَّ الغنم تنام أول الليل وتقوم عند السَّحر، فتذكر الله تعالى وتجتر، والكلاب تسهر الليل كله تنبح لأنها ترى الشياطين، فتنبح عند ذلك كما تقدم في التشبه بالشيطان، وأكثر ما تنتشر الشياطين أول الليل، فإذا كانت وقت السَّحر أو الفجر وقت الطاعة والعبادة نامت الكلاب.

وكذلك حال مَنْ يسهر الليل في اللهو واللعب وكثرة الكلام، فإذا جاء وقت السَّحر غلب عليه النوم، وربما نام عن صلاة الصبح، فيبُول الشيطان في أذنه، ويكون بعيداً عن رحمة الله تعالى، ولمثل هذا يُقال: يا نائم! فاتتك الغنائم، ماذا فاتك يا نائم؟

وقد قالوا في المثل: أنوم من كلب، وأنعس من كلب؛ أي: في النهار (2).

وقالوا: مطل كنعاس الكلب، أي: متصل دائم وفيه قرمطة، ومن شأن الكلب أن يفتح من عينيه بقدر ما يكفيه من الحراسة (3).

(1) رواه البخاري في "الأدب المفرد"(ص: 202).

(2)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 393).

(3)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 345).

ص: 214

وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب الذَّرَّة، وآخر ما حمله الحمار، فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح عليه السلام يقول: ويحك! ادخل، فينهض ولا يستطيع، حتى قال نوح عليه السلام: ويحك! ادخل وإنْ كان الشيطان معك، كلمةٌ زَلتْ عن لسانه، فلمَّا قالها نوح عليه السلام خلى الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أَدْخلك عليَّ يا عدوَّ الله؟

قال: ما لك بدٌّ أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك (1).

وقد تقدم أنَّ الحمار والكلب إذا نعق ونبح فيكونان قد رأيا شيطاناً (2).

والاعتبار في أمر الحمار أنَّ العبد لا ينبغي أن يكون متثاقلاً عن الخير، متقاعداً عن السبق في أمور الآخرة التي بها ينجو العبد خشية أن يتأخر فيحصل له من العوائق ما حصل للحمار حين تأخر عن سفينة نوح عليه السلام من عاقة الشيطان حتى صار قرينه إلى الأبد، وصار الحمار مَثَلاً في السوء.

(1) رواه الطبري في "التفسير"(12/ 37)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1507).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 215

ألا ترى إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]؟

وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]؟

وقد قيل: للتأخير آفات، والعجلة من الشيطان إلا في أمور الآخرة؛ فإنها من الله تعالى، فأمَّا في غير أمور الآخرة فلعلها على وفق مرضاة الشيطان، كما أن الأناة عن الخير موافقةً لمرضاته، فأما الأناة عن غير الفضائل الأخروية فهي من الله تعالى، فليحذر الإنسان أن يكون في طاعة الشيطان وصحبته، خصوصاً عند خروجه من الدنيا ودخوله في الآخرة كما كان الحمار في صحبة الشيطان إذ لم يتأخر خارج عن السفينة غيره وغير الشيطان.

وسفينة نوح عليه السلام يمكن دخول الشيطان إليها لأنها - وإن كانت سفينة النجاة - فإنها من أمور الدنيا، والدنيا محل الشيطان بخلاف الجنة.

وإنك مهما صحبك الشيطان في آخر أنفاسك والعياذ بالله، وأَطَعْته حينئذٍ تعلق بك، فيمنعك من دخول الجنة؛ إذ لا يمكن دخوله إليها، ولا يفلتك كما لم يفلت الحمار حين دخل السفينة رجاءَ أن يدخل الجنة معك كما دخل السفينة مع الحمار، ولذلك كان أشد ما يكون الشيطان حريصا على إضلال ابن آدم عند الموت كما تقدم، فإذا المطيع الشيطان في آخر أنفاسه أسوأ حالاً من الحمار.

ص: 216

ولنا هنا لطيفة، وهي أنَّ نوحاً عليه السلام لو كان معه آية الكرسي، أو الآيتان من خواتيم سورة البقرة لم يدخل الشيطان سفينته أصلاً، وإنما كانت هذه الخصوصية لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته.

روى سعيد بن منصور، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سُوْرَةُ البَقَرَةِ فِيْهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ القُرْآنِ، لا تُقْرَأُ فيْ بَيْتٍ فَيَقْرَبَهُ شَيْطَانٌ".

وفي لفظ: "لا تُقْرَأُ فيْ بَيْتٍ وَفِيْهِ شَيْطَانٌ إِلَاّ خَرَجَ مِنْهُ؛ آيَةُ الكُرْسِيِّ"(1).

وله شواهد في "الصحيح"(2).

وروى الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهَا سُوْرَةَ البَقَرَةِ، لا تُقْرَآنِ فيْ دَارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ"(3).

(1) رواه سعيد بن منصور في "السنن"(3/ 950)، والحاكم في "المستدرك"(2059).

(2)

منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان كما في البخاري (4723)، وفيه:"إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح".

(3)

رواه الترمذي (2882) وحسنه، والنسائي في "السنن الكبرى"(10802)، وابن حبان في "صحيحه"(782).

ص: 217

ورواه الحاكم وصححه، ولفظه:"وَلا تُقْرَآنِ فيْ بَيْتٍ فَيَقْرَبَهُ شَيْطَانٌ ثَلاثَ لَيَالٍ"(1).

عوداً على بَدْءٍ: من الأمثال: أثقل من فيل (2).

وهو من باب تمثيل المعنوي بالحسي.

قال الشاعر:

أنْتَ يا هذا ثَقِيلٌ

وَثَقِيلٌ وَثَقِيلُ

أنْتَ فِي الْمَنْظرِ إِنْسا

نٌ، وَفِي الْمِيزانِ فِيْلُ (3)

وفي المثل: أثقل من الزواقي.

قال هشام بن عروة: يريدون أنها إذا صاحت تفرق السُّمَّار والأحبة (4).

قال في "الصحاح": وقولهم: أثقل من الزواقي، وهي الديوك لأنهم كانوا يسمرون، فإذا صاحت الديوك تفرقوا (5).

وذكر الزمخشري: أنَّ الفراء سُئل عن المَثَل فلم يعرفه، فقال

(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(2065).

(2)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 319).

(3)

البيتان لأحمد بن علي، كما في "ذم الثقلاء" لابن المرزبان (ص: 33).

(4)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 6).

(5)

انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2368)(مادة: زقا).

ص: 218

جليسٌ له: كانت العرب تسمر، فإذا زقت الديكة ثقل عليها زقاؤها، فاستحسنه الفراء (1).

وقال ابن عبد ربه في "العقد": قال أبو زيد: قلت للخليل بن أحمد: لَم قالوا في تصغير واصل: أوَ يْصل، ولم يقولوا: وويصل؟

قالوا: كرهوا أنْ يشبه كلامهم نبيح الكلاب (2).

وقال فيه: أتى أحمد بن الحسين بعض المتظلمين يوماً، فأخرج رجله من الركاب، فركضه، فقال فيه الشاعر:

قُلْ لِلْخَلِيفَةِ وَابْنِ عَمِّ مُحَمَّدٍ

اشْكُلْ وَزِيرَكَ إِنَّهُ رَكَّالُ (3)

وذكر ابن خلكان في ترجمة أحمد بن أبي نصر الخصيب وزير المستنصر: أنه كان ينسب إلى الطيش والتهور، وله في ذلك أخبار، وكان قد ركب يوماً فوقف له متظلم، وشكا حاله، فأخرج رجله من ركابه، ودجَّ المتظلم في فؤاده فقلبه، فتحدث الناس بذلك، فقال بعض شعراء ذلك الزمان:[من الكامل]

قُلْ لِلْخَلِيفَةِ وَابْنِ عَمِّ مُحَمَّدِ

اشْكُلْ وَزِيرَكَ إِنَّهُ رَكَّالُ

اشْكُلْهُ عَنْ ضَرْبِ الرِّجالِ فَإِنْ تُرِدْ

مالاً، فَعِنْدَ وَزِيرِكَ الأَموالُ (4)

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 41).

(2)

انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 295).

(3)

انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 309).

(4)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 187).

ص: 219

وذكر الدميري، والسيوطي، وغيرهما: أنه ليس في الحيوان ما يحمل ضِعْفَ بدنِه مراراً غير النملة حتى تحمل النواة ونحوها (1).

وهذا مثال من يأخذ من الدنيا فوق كفايته، فحاله كحال النملة التي سرحت مع النمل، فحملت ضعفها مرات، وحمل النمل دونها، ثم تسابقن إلى مسكنهن، فإنك ترى المُخِفَّات منها يدخلن المسكن أولاً فأولاً، فتبقى المُثْقَلات يعالجن ما حملنه ليُدْخِلْنه البيت، فربما أدركهن العطب، ففاز المخفات منهن.

ومن هنا قالوا: فاز المخفون.

وروى البزار بإسناد حسن، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيْكُمْ عَقَبَةً كَؤُوْداً، لا يَنْجُوْ مِنْهَا إِلَاّ كُلُّ مُخِفٍّ"(2).

قال الجوهري: عقبة كؤود: شاقة المصعد (3).

وروى الطبراني بإسنادٍ صحيح، عن أم الدرداء قالت: قلتُ له - أي: لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما -: ما لك لا تطلب كما يطلب فلان وفلان؟

فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ وَرَاكمْ عَقَبَةً

(1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 498).

(2)

قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 60): رواه البزار بإسناد حسن.

(3)

انظر: "الصحاح للجوهري"(2/ 529)(مادة: كأد).

ص: 220

كَؤُوْداً، لا يُجَاوِزُهَا المُثْقَلُوْنَ؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ لِتِلْكَ العَقَبَةِ" (1).

ويروى نحوه من حديث أنس رضي الله تعالى عنه (2).

قال الدميري، والسيوطي: ويحمل النمل غذاء سنتين، ولا يكون عمره أكثر من سنة، وبعد السنة يُخلق له أجنحة فيطير فتأكله العصافير، وإذا كان كذلك أخصب العصافير.

ومن عجائبه اتخاذه القرية تحت الأرض، وفيها منازل، ودهاليز، وغرف، وطبقات معلقات، تملؤها حبوباً وذخائر للشتاء.

وكذلك حال أولاد آدم يجمعون ما لا يأكلون، إلا من وَفَّقَهُ الله تعالى منهم للزهد، والتقلل من الدنيا، وهم عُقلاء الناس (3).

وروى أبو نعيم عن سعيد بن أبي هلال: أنَّ أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه كان يقول: يا أهل دمشق! ألا تستحيون، تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تَبْغُون، قد كان القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح

(1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 97): رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات.

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(4809). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 263): فيه جنادة بن مروان؛ قال أبو حاتم: ليس بالقوي، وبقية رجاله ثقات.

(3)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 498).

ص: 221

جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالاً وأولاداً، فمن يشتري مني تركة آل عادٍ بدرهمين (1)؟

خصَّ أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أهل دمشق بخطابه لأنه كان يسكنها.

والاعتبار بالنمل من حيث إنه إذا نَبَتَ له جناحان طار، فكان في طيرانه هلاكه أن ابن آدم قد يكون في غناه ورِياشه هلاكه، وكثير من الناس إذا كانوا فقراء كانوا صالحين، فإذا راشوا واستغنوا أَشَروا وبَطروا، فهلكوا، وربما حملتهم أموالهم إلى محالِّ هلاكم.

قال أبو العتاهية: [من الكامل]

يا صاحبَ الدُّنْيا الْمُحِبَّ لَها

أَنْتَ الَّذِي لا يَنْقَضِي تَعَبُهْ

أَصْلَحْتَ داراً نَعِيمُها أشبٌ

جمُّ الفُرُوعِ كَثِيرَةٌ شُعَبُهْ

إِنَّ اِسْتهانتَها بِمَنْ صَرَعَتْ

بِقَدْرِ ما تَسْمُو بهِ رُتَبُهْ

وَإِذا اسْتَوَتْ لِلنَّمْل أَجْنِحَةٌ

حَتَّى يَطِيرَ فَقَدْ دَنا عَطَبُهْ (2)

وقال غيره من القدماء: [من الخفيف]

وَإِذا أَنْبَتَ الْمُهَيْمِنُ لِلنَّمْـ

ـلِ جَناحاً أَطَارَهُ لِلتَّعَدِّي

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 217).

(2)

انظر: "الحيوان" للجاحظ (4/ 31).

ص: 222

وَلِكُلِّ امْرِئٍ مِنَ النَّاسِ حَدٌّ

وَهَلاكُ الفَتَى جَوازُ الْحَدِّ (1)

وقريبٌ من هذا المعنى ما رواه ابن جرير، وأبو الشيخ عن الربيع ابن أنس قال: إنَّ البعوضة تجني ما جاعت، فإذا شَبِعَتْ ماتت.

وكذلك ابن آدم إذا امتلأ من الدنيا أخذه الله عند ذلك، ثم تلا {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] (2).

وسبب ذلك: أنَّ البعوض فيه من الشَّره أن يمص الدم حتى يموت، أو يعجز عن الطيران والنهوض.

ومن أمثال الناس: إذا استغنى الصعلوك مات.

وقال القاضي عبد الوهاب المالكي، وقد أثرى بعد قلة ذات يده فأَدْركته منيته: لمَّا عشنا متنا (3).

وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لَسْتُ أَخَافُ عَلَىْ أُمَّتيْ غَوْغَاءَ تَقْتُلُهُمْ، وَلا عَدُوًّا يَجْتَاحُهُمْ، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَىْ أُمَّتي أَئِمَّةً مُضِلِّيْنَ؛ إِنْ أَطَاعُوْهُمْ فَتَنُوْهُمْ، وَإِنْ عَصَوْهُمْ قَتَلُوْهُمْ"(4).

أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ الأئمة المضلين أشدُّ فتنة من العامة الضَّالين وهم

(1) انظر: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة (ص: 349).

(2)

رواه الطبري في "التفسير"(1/ 177)، وعنده:"سمنت ماتت".

(3)

انظر: "ترتيب المدارك وتقريب المسالك" للقاضي عياض (2/ 275).

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7653). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 239): فيه من لم أعرفه.

ص: 223

الغوغاء؛ لأنَّ العاقل يعرف ضلالهم، بخلاف الأئمة المضلين.

وروى أبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى أنه قال: نعم الشيء الغوغاء؛ يسدون السيل، ويطفئون الحريق، ويشغبون على ولاة السوء (1).

والشغب: بالتسكين، وقد يُحرك.

وقيل: تهييج الشر وهو شغب الجند؛ يقال: شغب عليهم وبهم، وشغبهم؛ كله بمعنىً (2).

قلت: ومعنى قول الشعبي: نعم الشيء الغوغاء: عوام الناس.

روى الخطابي في "العزلة" عن الأصمعي أنه قال: الغوغاء الجراد إذا ماج بعضه في بعض.

قال: وبه سمي الغوغاء من الناس (3).

إنما مدحهم الشعبي لما يحصل بهم من الرفق بهم فيما ذكر، فيؤيد الله بهم الدين مع أنهم في أنفسهم غير ممدوحين لغلبة الجهل عليهم، والغفلة عن الله تعالى، وعن أمور دينهم.

فقوله: نعم الشيء الغوغاء؛ أي: لغيرهم، لا لأنفسهم، ولا في أنفسهم، وهذا من باب تأييد الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خَلاق لهم.

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 324).

(2)

انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 504)(مادة: شغب).

(3)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 70).

ص: 224

قيل لبعض الحكماء: إن العامة يثنون عليك، فأظهر الوحشة من ذلك، وقال: لعلهم رأوا مني شيئاً أعجبهم، ولا خير في شيءٍ يسرُّهم ويعجبهم (1).

وقد قلت في هذا المعنى، وفي ضده الذي قال فيه المتنبي:[من الكامل]

وَإِذا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ ناقِصٍ

فَهِيَ الشَّهادَةُ لِي بِأَنِّي كامِلُ (2)

فأشرت إلى المعنيين بقولي: [من البسيط]

لا يُعْجِبَنَّكَ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكَ بِما

قَدْ أَعْجَبَ السُّفَهاءَ الشَّاهةَ الْهَمَجا

هِجاؤُهُمْ كَثَناءِ الأَكرَمِينَ كَما

ثَناؤُهُمْ بِالَّذِي يَرْضَوْنَهُ كَهِجَا

وروى الدينوري في "المجالسة" عن محمد بن المنذر بن الزبير ابن العوام - وكان من سروات الناس -: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا (3).

وعن الأصمعي قال: قال المهلب: لأن يطيعني سفهاء قومي أحبُّ إليَّ من أن يطيعني حلماؤهم (4).

والسفهاء هم العوام بأعيانهم، والغوغاء بأنفسهم.

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 80).

(2)

انظر: "يتيمة الدهر" للثعالبي (1/ 151)، و"زهر الآداب" للقيرواني (1/ 251).

(3)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 237).

(4)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 504).

ص: 225

وإنما قال ذلك لأن لهم حمية، فإذا كان لهم جار صالح وأوذي كفوه مؤنة الانتقام والانتصار، فعزَّ جارهم بذلك، وكذلك إذا أطاعوا فعلوا ما أمروا به من غير روية ولا نظر في العواقب، فيصل بهم المطاع إلى غرَضه.

وحاصله أنَّ نفعهم لغيرهم، ووبالهم على أنفسهم.

نعم، في طاعتهم للكبير ما قد يوجب عليه رعايتهم والإغضاء عن قبائحهم، فربما استنصر بهم من هذا الوجه، ومن ثم لم يرضَ ذلك الحكيم بثنائهم عليه، وأطلق كثير من الحكماء ذمهم.

وروى الخطابي في "العزلة" عن عطاء: أنه كان يستخف بالغوغاء، ويبلي الناس بهم (1).

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن شوذب رحمه الله تعالى قال: كان الحسن - يعني: البصري رحمه الله تعالى - إذا نظر إلى أهل السوق قال: هؤلاء قتلة الأنبياء (2).

وقال بعض الحكماء: العامة إذا اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا نفعوا.

قال الخطابي: يريد: إذا تفرقوا رجع كل واحد منهم إلى صناعته، فيخرز الإسكاف، ويخصف الحذاء، وينسج الحائك،

(1) رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 79).

(2)

ورواه ابن أبي الدنيا في "الإشراف بمنازل الأشراف"(ص: 324).

ص: 226

ويخيط الخياط، وينتفع الناس بهم، انتهى (1).

وقد قيل: لا عبرة بجماعة العوام؛ فإنهم يجمعهم طبلٌ ويفرقهم عصا؛ أي: لا يجتمعون على غرض صحيح، وأدنى شيء يوهمهم يفرقهم.

وروى الخطابي عن أبي عاصم النبيل: أنَّ رجلاً أتاه فقال: إنَّ امرأتي قالت لي: يا غوغاء! فقلت لها: إنْ كنتُ غوغاء فأنت طالق ثلاثاً.

فقال له أبو عاصم: هل أنت ممن يحضر المناطحة بالكباش، والمناقرة بالديوك؟

فقال: لا.

فقال له: هل أنت الرجل يحضر يوم يعرض السلطان أهل السجون، فيقولون: فلان أَجْلد من فلان؟

فقال: لا.

فقال: هل أنت الرجل الذي إذا خرج الأمير يوم الجمعة جلست له على ظهر الطريق حتى يمر، ثم تقيم مكانك حتى يُصلي وينصرف؟

فقال: لا.

فقال له أبو عاصم: فلست بغوغاء، إنما الغوغاء من فعل هذا (2).

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 81).

(2)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 79).

ص: 227

قلت: وفي معنى ما ذكره أبو عاصم من حضور مناقرة الديوك ومُناطحة الكباش الوقوف في حلق القرادة، والذبابة، والمشعبذين، والذين يحكون الحكايات المكذوبة، والمجان، وأهل السخرية.

وفي معنى حضور يوم عرض المسجونين على السلطان شهود من يقتل من أهل الجرائم والتهم، والدوران مع مَنْ يعزر منهم في البلد، وكذلك سائر المفترجات المكروهة والمحرمة، والجلوس في بيوت القهوات، وحوانيت البرش والحشيش؛ كل ذلك لا يعكف عليه إلا الغوغاء، فلا ينبغي التشبه بهم في ذلك.

وروى الدينوري في "المجالسة" عن المعافى بن عمران: أنَّ عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرَّ بقوم يتبعون رجلاً فقال: لا مرحباً بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في الشر (1).

وقرأت بخط البرهان بن جماعة: أنَّ معاوية رضي الله تعالى عنه قال لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس؟

فقال: خلق الناس أصنافاً؛ فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة للبأس والنجدة، وفيما بين ذلك رجرجة يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق، وينغصون الحياة (2).

قلت: والعلماء خاصة أهل العبادات.

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 112).

(2)

انظر: "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي (1/ 45).

ص: 228

والرجرجة - بكسر الراء، وبالجيم -: من لا عقل له؛ قاله في "القاموس"(1).

وأصلها بقية الماء في الحوض الكدرة المختلطة بالطين، من الرجرجة - بالفتح - وهي الاضطراب لاختلاطهم، واضطرابهم في أنفسهم.

ونحوه تسمية الضعفاء من الناس رجاجاً - بفتح الراء -، أُخذ من الرجاج - بالفتح أيضاً - وهي مهازيل الغنم، وضعاف الإبل.

وأنشد الأصمعي: [من الرجز]

أَقبلْنَ مِنْ نيرٍ وَمِنْ سُواجِ

بِالقومِ قَدْ مَلُّوا مِنَ الإِدْلاجِ

فَهُمْ رَجاجٌ وَعلى رجاجٍ

يَمْشُون أَفْواجاً عَلى أَفْواجِ

مَشيَ الفراريجِ مع الدجاجِ (2)

أي: ضعفوا من السفر، وضعفت رواحلهم.

ونير - بكسر النون، وبالراء، بينهما تحتانية -: اسم جبل لبني عاضرة.

وسواج - بالضم -: اسم موضع عنده.

وكذلك الرعاعة - بالفتح -: اسم النعامة، ثم سمي به من لا فؤاد له ولا عقل، والجمع: رعاع.

(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 243)(مادة: رجج).

(2)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 303).

ص: 229

والرعاع أيضاً: الأحداث الطَّغَام من الناس.

وتقدم ذكر الرعاع في كلام علي رضي الله تعالى عنه في حديث كُميل بن زياد.

والهمج: هو ذباب صغار كالبعوض، يقع على وجوه الغنم والحمير وأعينها؛ الواحدة: همجة.

والهمجة أيضاً: الشاة المهزولة.

قال في "الصحاح": ويقال للرعاع من الناس الحمقى: إنما هم همج، وقولهم:(همج هامج) تأكيد له (1).

والهمج أيضاً: سوء التدبير في المعاش والجوع، وعليهما حُمِلَ قول الراجز:

قَدْ هَلَكَتْ جارَتُنا مِنَ الْهَمَجِ

وَإِنْ تَجُعْ تَأْكُلْ عتوداً أَوْ هرج (2)

ونقل الشيخ علوان الحموي في "شرح تائية ابن حبيب" عن الصفدي، عن شيخه السيد أبي الحسن علي بن ميمون المغربي: أنه كان ينهاه عن الدخول بين العوام والحكام، ويقول: ما رأيت لهم مثلاً إلا الفأر والحيات؛ فإنَّ كلًّا منهما مفسدٌ في الأرض، فالحيات مسلطة على الفأر، والفأر مسلطة على الناس.

قلت: وهذا ليس على إطلاقه، بل العالم القادر على الأمر

(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 351)(مادة: همج).

(2)

انظر: "مجالس ثعلب"(ص: 100)، و"معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (1/ 217) (مادة: بذج).

ص: 230

والنهي متى لم يخش ضرراً بسبب ذلك، وقد رأى من الحكام جوراً ولو على العوام، تعين عليه الإنكار والنهي.

فهو إذا علم أنَّ الأمر والنهي لا يجدي، فهل سقط عنه الأمر والنهي، أم لا؟

الأول: مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.

والثاني: مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه.

ووقع تمثيل العوام بالأفاعي في كلام عيسى عليه السلام.

روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: دخل عيسى بن مريم عليهما السلام بيت المقدس وهم يتبايعون فيه، فجعل ثوبه مخراقاً، وسعى عليهم ضرباً، وقال: يا بني الحيات والأفاعي! اتخذتم مساجد الله أسواقاً (1)؟

قلت: وأما أزمنتنا هذه فالعامة فيها لا ترضى بالبيع والشراء في المساجد، بل يجعلونها مجتمعاً لأخذهم وعطائهم، ومجادلاتهم وخصوماتهم، وفي كثير من القرى الآن يجعل المسجد سجناً لأهل تلك القرية، فإذا كانوا في الصلاة خصوصاً يوم الجمعة قَعَدَ جباة الظلم والمكس عند باب المسجد وحبسهم فيه، فلا يدع خارجاً يخرج حتى يُعطي الجريمة المفروضة عليه عن يدٍ وهو صاغر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 382).

ص: 231

وكم من مسجد في كثير من المدائن وغيرها ضم إلى بيت، أو جعل مخزناً لمتاع، وكل ذلك لرقة الدين.

وروى أبو نعيم عن أبي زرعة يحيى بن عمرو الشيباني قال: مَثَلُ بيت المقدس في الكتب مثل طَسْتِ من ذهب مملوءة عقارب (1).

وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: أول من يُخرج أهلَ مكة من مكة القردةُ.

يحتمل أنه أراد القردة حقيقة، تكثر آخر الزمان في مكة حتى يخرج أهل مكة منها من أذاها، ويحتمل أنه أراد قوماً كالقردة في الطباع والشدة، وهو أقرب كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية تنزو على منبره كما تنزو القردة.

وقال حجة الإسلام الغزالي في "الإحياء": سُئل ابن المبارك: مَن الناس؟

فقال: العلماء.

قال حجة الإسلام: ولم يجعل غير العلماء من الناس؛ لأن الخاصة التي تتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم، والإنسان إنسانٌ بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه؛ فإنَّ الجمل أقوي منه، ولا ليأكل؛ فإنَّ الجمل أوسع بطناً منه، ولا ليجامع؛ فإن العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم، انتهى (2).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 107).

(2)

انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 7).

ص: 232

أنشد أبو تمام في "الحماسة" للعباس بن مرداس: [من الوافر]

تَرى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيْهِ

وَفِي أَثْوابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ

ويعْجِبُكَ الطَّريرُ فَتَبْتَلِيهِ

فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطرِيرُ

فَما عِظَمُ الرِّجالِ لَهُمْ بِفَخْرٍ

وَلَكِنَّ فَخْرَهُمْ كَرمٌ وَخِيْرُ

ضِعافُ الطَّيْرِ أَطْولُها جُسُوماً

وَلَمْ تَطُلِ البزاةُ وَلا الصُّقورُ

بُغاثُ الطَّيْرِ أَكْثَرُها فِرَاخًا

وَأُمُّ الصَّقْرِ مِقلاةٌ نزورُ

لَقَدْ عَظُمَ البَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ

فَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالعِظَمِ البَعِيرُ

فَيَصْرِفُهُ الصَّغِيرُ بِكُلِّ وَجْهٍ

وَيَحْبِسُهُ عَلى الحشفِ الْخَبِيرُ (1)

والخبير في البيت الأخير يعني: الأَكَّار، ومنه المخابرة.

والطرير: ذو الرواء والمنظر، كما ذكره الجوهري، وأنشد البيت (2).

وروى ابن أبي حاتم، والضياء المقدسي في "المختارة" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] قال: المُكاء: الصفير، وإنما شبهوا بصفير الطير (3).

(1) انظر: "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي (1/ 354 - 355).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 725)(مادة: طرر).

(3)

رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1696)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(116).

ص: 233

وروى الطستي عنه: أنَّ المكاء: صوت القنابر، والتصدية: صوت العصافير، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي قائماً بين الحجر والركن اليماني، فيجيء رجلان من بني سهم، أحدهم عن يمينه والآخر عن يساره، فيصيح أحدهما كما يصيح المكاء، والآخر يُصفق بيديه تصدية العصافير (1).

ونقل القرطبي، وغيره عن السدي في الآية، قال: المكاء: الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يُقال له: المكاء.

قال الشاعر:

إِذا غَرَّدَ الْمُكاءُ فِي غَيرِ رَوْضِهِ

فَوَيْلٌ لأَهْلِ الشَّاءِ وَالْحمراتِ

والمكاء: على وزن خطاف، وزنار.

قال القرطبي، وغيره: في الآية رد على الجُهَّال من الصوفية الذين يُصفقون ويصعقون لما فيه من التشبه بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت (2).

وتقدم بيانه في التشبه بالجاهلية.

وقرأت بخط البرهان بن جماعة ما مثاله: سألت شيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي الدمشقي - سقى الله عهده صوب الرحمة - عن سماع الصوفية، فقال: مَنْ كان منهم ذا مراقبة لَحِظَ المعنى، ولم ينظر إلى

(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 61).

(2)

انظر: "تفسير القرطبي"(7/ 400).

ص: 234

الصوت والتلحين، ومن سمع التلحين مع المعنى تحرك وتنهد، ومَنْ سمع التَّلحين وناطه بالحلو الشمائل فسماعه بَهِيْمي لا روحاني، وهذا سماع الشباب البطلة، فما لك ودعوى المحبة، رقصٌ كالدبة، ودفن كالمذبة، وبطن كالقربة، وأنت تلطخ على أرباب المحبة، فما ثم إلا تنعم وتلذد، ولعبٌ وشهوة، قبلها مأكولٌ ومشروب، وملبوسٌ، ومشموم مع مليحٍ وصديق، ثم بعدها نومٌ وتكبيس، ثم حمام، ومصلوقة بلا خشوع، أنت الصوفي على الوضع؟ أكول، بطول، جهول، سؤولٌ، كثير الفضول؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! انتهى.

وقال أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار": سمعت أبا بكر ابن بيان الدينوري قال: سمعت شيخنا أبا علي ممشاد يقول ذات يومٍ لأصحابه: ترقصون مثل الدب من كثرة ما تسمعون.

فقال له محمد بن علي بن يزيد - وهو من كبار أصحابه وكان ينبسط معه -: يا أبا علي! أنت لا تُحسن تسمع.

قال أبو علي: ولِمَ يا أبا بكر؟

قال: لأنه لا يقع لك انزعاج.

فقال ممشاد: رأيت جبلاً تحرك قط، لو أنَّ كل ملاهي الدنيا وضِعَتْ في مسامعي هذه، ما شفي بعض همي، ولقد أمد الله لي في كل شيء منه عليَّ، لا يشبه بعضه بعضاً، وليس أهل الحق هاهنا؛ فاعلم!

ص: 235

وذكر السيوطي في "ديوان الحيوان" عن ابن زهير قال: نهيق الحمار يضرُّ بالكلاب حتى ربما عوى الكلب من كثرة ما يؤلمه، ثم أنشد للمظفر الأعمى:[من الوافر]

لِحادِي القَوْمِ أَلْفاظٌ عِذابُ

كَما زَعَمُوا وَفَاتَهُمُ الصَّوابُ

حَدا فِيهِمْ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ

عَلى نَغَماتِهِ طَرِبُوا وطَابُوا

فَقُلْتُ وَقَدْ بَكَوا لَمَّا تَغَنَّى

إِذا نهقَ الْحِمارُ بَكَتْ كِلابُ

وقال الشيخ محي الدين بن العربي رحمهُ الله تعالى: أنشدني ابن ثابت قال: أنشدني الحسن بن محمد البلخي، قال: أنشدني طاهر بن الحسين - وهو أبو الحسن المخزومي - لنفسه بالصفا: [من الكامل]

لَيْسَ التَّصَوُّفُ أَنْ يُلاقِيْكَ الفَتَى

وَعَلَيْهِ مِنْ نَسْجِ الْمَسِيحِ مُرَقَّعُ

بِطَرائِقَ بِيضٍ وَسُودٍ لُفِّقَتْ

فَكَأَنَّهُ فِيها غُرابٌ أَبْقَعُ

إنَّ التَّصَوُّفَ مَلْبَسٌ مُتَعارَفٌ

فِيهِ لِمُوْجِدِهِ الْمُهَيْمِنِ يَخْشَعُ

قلت: أخبرنا شيخ الإسلام الوالد - إجازةً، ووجادةً - قال: أخبرنا الشيخ شرف الدين قاسم بن عمر المغربي القيرواني المالكي، خادم ضريح الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: أخبرتنا السيدة حسناء بنت الشيخ العارف بالله سيدس علي وفا، عن أبيها: أنه أنشد لنفسه [من الكان وكان]:

كُنْ بِالصَّلاحِ مَوْصُوفْ

وَالْبَسْ صُنوفْ

ص: 236

لَوْ أنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوف

طارَ الْخَرُوفْ

يا مَنْ رَأى الأَلْبابْ

فِي أَفْخَرِ ثِيابْ

قَدْ شاهَدُوا الأَحْبابَ

فِي كُلِّ غابْ

إِنْ كُنْتَ مِنْ أَرْبابِ

هَذا الْخِطابْ

فَحَوْلَ حِماهُمُ طُوْفْ، وَالبْسْ صُنوفْ

لَوْ أنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوفْ

طارَ الْخَرُوفْ

ما الْفَخْرُ فِي الدفاسْ

وَالانْحِباس

وَلا بِطَرْقِ الرَّاسْ وَالانْخِناسْ

ما الْفَقْرُ شَيْءْ غَيْرَ كاسْ

مَوْتِ الْحَواسْ

وَكُنْ بِذا مَنْخُوفْ، وَالْبَسْ صُنوفْ

لَوْ أَنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوفْ

طارَ الْخَرُوفْ

مُتْ فِي وجُودِ الْحَقِّ

بِنَفْسِكَ حَقْ

عَساكَ أَنْ تَلْحَقَ

بِمَنْ قَدْ سَبَقْ

كُنْ بَعْد ذا مُطْلَق

كَمَنْ صَدَقْ

وَاخْلُصْ مِنَ الْمَوْقُوف

وَالبْسْ صُنُوفْ

لَوْ أنَّ الصَّلاحْ بِالصُّوفِ

طارَ الْخَرُوفْ

دَعْ عَنْكَ لُبْسِ الزيقْ

ماذا الطَّرِيقْ؟

ص: 237

فَخَلِّ ذا التَّزْوِيقْ

لِلزَّيْقِ مِيْقْ

بَلِ الطَّرِيقُ تَمْزِيقْ

الذَّاتْ حَقِيقْ

وَاتْرُكْ لِباسْ مَعْرُوفْ

وَالْبَسْ صُنوفْ

لَوْ أَنَّ الصَّلاحْ بِالصُّوفِ

طارَ الْخَرُوفْ

قُوْم اكْسِرِ الإِبْريقْ

وَاطلِ الرِّاجْ

وَخَلِّ لُبْسَ الرِّيقْ

وَأخلِ الرِّباطْ

لأَنَّ ذا التَّزْوِيق

كُفَهُ خباطْ

كُنْ بِالْعُلُومْ مَوْصوفْ

وَالْبَسْ صُنوفْ

لَوْ أَنَّ الصَّلاحَ بِالصُّوفِ

طارَ الْخَرُوفْ

وبالإسناد إلى سيدي علي وفا رحمه الله تعالى:

لا تَحْسبُوا أنَّ الْعُشَّاقْ

مَنْ يَعْشَقُ الْمِعْصمَ وَالسَّاق

أُوْلَئِكَ بَنُو آدمَ صُورَةْ

وَهُمْ بِها مَسْتُورَة

نُفوسْ شَهواتْ مَقْهُورَةْ

تَهْوى الْمَعاطِف وَالأَحْداق

إِنَّا نَقُولُ الْحَقَّ الْحَقَّ

مَنْ كانَ يَهْوَى الْحُسْنَ الْمُطْلَق

ذاكَ الَّذِي يَصْلُحْ يَعْشَقْ

[

] مَطْيُوعْ فِي الأَسْواق

العِشْقُ حالَةٌ قَلْبيَّةْ

تَأْتِي مِنَ اللهِ وهْبِيَّةْ

نِسْبَةْ شَرِيفَةٌ عَيْنِيَّة

بَيْنَ الْحَدائِقِ وَالأَحْداق

ص: 238

ومن لطائف أبي عبد الله محمد بن علي بن أحمد اليماني السودي المعروف بالهادي: أنه شبه العازفين عن محبة الله تعالى والإقبال على طاعته بالخفافيش لأنها لا تُبصر في ضوء الشمس والقمر، وما كفاه حتى جعلهم عور، فقال:[من الكان وكان]

بِاللهِ بِاللهِ زُوروا

فَكُلَّما قِيلَ زُوروا

وَما رَوى ذاكَ عَنِّي

إِلَاّ خَفافِيشُ عُورُ

تَيَمَّمُوا نَحْوَ نَجْدِه

فَقُلُتْ: هَيْهاتَ غُوروا

إِنَّ الْمَعالِيْ غَوالِي

لَها النُّفوسُ مُهورُ

[

] للحق مُتَّهَمٌ

إِذْ هُمْ عَنِ الْحَقِّ زُورْ

دَخَلْتُ مِصْرَ هَواكُمْ

وَقُلْ: هُوَ اللهُ سورُ

فَصِرْتُ فِيها عَزِيزاً

تِجارَتِي لا تَبورُ

وَقَدْ أَتانِي بِأَمْنِي

قَبْلَ الدُّخولِ البَشِيرُ

وَجارُكُمْ فِي سُرُورٍ

يَغارُ مِنْهُ السُّرورُ

حاشا عَلى الْحالِ حاشا

يا سَادَتِي أَنْ تَجُوروا

واتفق لنا في سنة أربع وألف، وقد قعد بعض المحرومين ممن يُنسب إلى العلم بالجامع الأموي في بعض الأيام آخر النهار ينتظرني حتى أخرج إلى الدرس، فيأخذ مني تفسير شيخ الإسلام الوالد وقال: لآخذنه منه وأُمزقنه، وكان قد تقوى بقرين له وافقه على الحسد،

ص: 239

وجاءا معاً ينتظران خروجي، فبلغني الخبر وقيل لي: لو كسرت الفتنة وتركت الدرس اليوم.

فقلت: لا والله، لا بدَّ من الخروج، والله يكفيني إياهما، واطمأننت إلى قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8]، فلمَّا خرجت إلى المسجد الجامع خرجا معاً هاربين من الناس، واتفق أنَّ الدرس كان في ذلك اليوم في تفسير قوله تعالى:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] الآية، فقلت في هذه الحالة:[من المجتث]

إِنَّ الْخَفافِيشَ تَبْدو

فِي جُنْحِ لَيْلِ التَّمارِي

وَلَمْ نَكُنْ لِنَراها

عِنْدَ اتِّضاحِ النَّهارِ

فَقُلْ لَها حِينَ يَشْدُو

الْهزارُ بَيْنَ القمارِي

بِاللهِ فِي أَيِّ غابٍ

يَكُونُ مِنْكِ التَّوارِي

وقلت: [من الكان وكان]

أَيْنَ الْخَفافِيشُ لِما

تَجْتَنِي الأَحْرارْ

غُرَّ الثِّمارِ مِنَ الـ

أَشْجارِ وَالأَزْهارْ

هاتِيكَ لا شَكَّ عَميا

واتٌ عَنْ إِبْصارْ

ضَوْءِ النَّهارِ إِذا

أَشْرَقَ عَلى الأَقْطارْ

ص: 240

ويُناسب هذا ما ذكره ابن خلكان في ترجمة أبي العباس الخضر ابن عقيل الإربلي الفقيه الشافعي: أنَّ ابن أخيه عز الدين أبا القاسم نصر بن عقيل بن نصر بعد موته تولى تدريسه، وكان فاضلاً، فسخط عليه الملك المعظم صاحب إربل، وأخرجه منها، فانتقل منها إلى الموصل، فكتب إليه أبو الدر ياقوت الرومي من بغداد، وكان صاحبها:[من الطويل]

أَيا ابْنَ عَقِيلٍ لا تَخَفْ سَطْوةَ العِدَى

وَإِنْ أضَمَرَتْ ما أَضْمَرَتْ مِنْ عِنادِها

وَأَقْصَتْكَ يَوْماً عَنْ بِلادِكَ فِتْيَةٌ

رَأَتْ فِيكَ فَضْلاً لَمْ يَكُنْ فِي بِلادِها

كَذا عادَةُ الغِرْبانِ تَكْرهُ أنْ تَرى

بَياضَ البزاةِ الشُّهْبِ بَيْنَ سَوادِها

أشار بذلك إلى الجماعة الذين سعوا به حتى غيروا خاطر الملك عليه، وكان ذلك في سنة ست وست مئة؛ قاله ابن باطيش (1).

قال ابن خلكان: وفي تلك السنة خرجت الكرج على مدينة مرند، فقتلوا وسبوا وأسروا، فعمل شرف الدين محمد ولد عز الدين المذكور في إخراجهم من إربل.

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 238).

ص: 241

إِنْ يَكُنْ أَخْرَجوا النِّساءَ مِنَ الأَوْطانِ

ظُلْماً وَأَسْرَفوا فِي التَّعَدِّي

فَلَنا أُسْوَةٌ بِمَنْ جارَتِ الكَرْخُ

عَلَيْهِمْ وَأُخْرِجوا مِنْ مَرَندِ (1)

وروى الإمام أحمد، والبزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائما، فقال:"أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الهِرُّ؟ ".

قال: لا.

قال: "فَقَدْ شَرِبَ مَعَكَ [مَنْ هُو شَرٌّ مِنْهُ] الشَّيْطَانُ"(2).

يُحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أنَّ الإنسان إذا شرب قائماً شاركه الشيطان حقيقةً في مشروبه، فأشار إلى كراهية الشرب قائماً.

ويحتمل أنه أراد المشابهة في الشرب قائماً، وأنَّ من شرب قائماً فقد تشبه بالشيطان في ذلك كما تقدم في موضعه، وهو في ذلك متشبهٌ بالهر وغيره من الحيوانات؛ فإنَّ شأنها أنْ تشرب قائمة.

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 239).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 301)، والبزار في "المسند" (8823). قال ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 82): فيه أبو زياد الطحان، لا يعرف اسمه، وقد وثقه يحيى بن معين.

ص: 242

وحاصل معنى الحديث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفَّر الإنسان من فعل يُشاركه فيه الشيطان والهر ونحوه، أو يُماثله فيه، ومن شأن الحكماء والعقلاء تنفير النفوس مما يشاركها فيه البهائم والسباع كما سبق.

وقال الفرزدق: [من الوافر]

رَأَيْتُ النَّاسَ يَزْدادُونَ يَوْماً

وَيَوْماً فِي الْجَمِيلِ وَأَنْتَ تَنْقُصْ

كَمَثَلِ الْهِرِّ فِي صِغرٍ يُغالَى

بِهِ حَتَّى إِذا ما شَبَّ يَرْخُصْ

فيه التحذير من الانتقال من الحال الجميلة التي استصحبها الإنسان في صغره، ثم عدل إلى ضدها في كبره.

وفي المعنى ما تقدم في تشبه الكبير بالصغير من قول القائل: [من الطويل]

أَطَعْتُ الْهَوى عَكْسَ الْقَضِيَّةِ لَيْتَنِي

خُلِقْتُ كَبِيراً وَانْقَلَبْتُ إِلَى الصِّغَرْ وكذلك حال من ابتذل جماله في صباه بالهوى، فَخضعَتْ لجماله الرجال، وتعزز عليهم بأنواع الدلال، ثم عاد بعد الالتحاء إلى ذل الهجر واللفظ، والابتذال بالحال واللفظ، وأكثر ما يؤول من أوله جمال منتاب إلى أن يكون آخراً خداماً، أو قواداً، أو ساعياً، أو طفيلياً مدفوعاً بالأبواب، أو منبوذاً، أو ممقوتاً بين الأصحاب.

ص: 243

ومن لطائف الفقيه عمارة اليمني قصيدته التي كتبها إلى الكامل

ابن شاور السعدي، وكان بينه وبينه صحبة متأكدة قبل وزارة أبيه، فلما

وزر استحال عليه، فكتب إليه:[من الطويل]

إِذا لَمْ يُسالِمْكَ الزَّمانُ فَحارِبِ

وَباعِدْ إِذا لَمْ تَنْتَفِعْ بِالأَقاربِ

وَلا تَحْتَقِرْ كَيْداً ضَعِيفاً فَرُبَّما

تَمُوتُ الأَفاعِي مِنْ حُمامِ العَقارِبِ

فَقَدْ هَدَّ قِدْمًا عَرْشَ بَلْقِيسَ هُدْهدٌ

وَخَرَّبَ فَأْرٌ قَبْلَ ذا سَدَّ مأْرِبِ

إِذا كانَ رَأْسُ الْمالِ عُمْرَكَ فْاحْتَرِزْ

عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفاقِ فِي غَيْرِ واجِبِ

فَبَيْنَ اخْتِلافِ اللَّيلِ وَالصُّبْحُ مَعْركٌ

يَكرُّ عَلَيْنا جَيْشُهِ بِالْعَجائِبِ

وَما راعَنِي غَدْرُ الشَّبابِ لأَنَّنِي

أَنِسْتُ بِهذا الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ جانبِ

وَغَدْرُ الفَتَى فِي عَهْدِهِ وَوفائِهِ

وَغَدْرُ الْمواضي فِي نبوءِ الْمضارِبِ

ص: 244

إلى أنْ قال فيها:

إِذا كانَ هَذا الدُّرُّ مَعْدِنُهُ فَمِي

فَصونُوهُ عَنْ تَقْبِيلِ راحَةِ واهبِ

رَأَيْتُ رِجالاً أَصْبَحَتْ فِي مآدِبٍ

لَدَيْكُمْ وَحالِي وَحْدها فِي نَوادِبِ

تَأَخَّرْتُ لمَّا قَدَّمَتْهُمْ عُلاكُمُ

عَليَّ وَتَأْبَى الأُسْدُ سَبْقَ الثَّعالِبِ

تُرى أَيْنَ كانُوا فِي مَواطِنِي الَّتِي

غَدَوْتُ لَكُمْ فِيهِنَّ أَكرَمَ نائبِ

لَيالِيَ أَتْلُو ذِكْرَكُمْ فِي مَجالِسٍ

حديثُ الوَرى فِيها بِغَمْزِ الْحواجِبِ (1)

ومن أبيات الحماسة لقطري بن الفجاءة الخارجي يخاطب نفسه: [من الوافر]

أَقُولُ لَها وَقَدْ طارَتْ شَعاعًا

مِنَ الأَبْطالِ: وَيْحَكِ لا تُراعِي

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 434).

ص: 245

فَإِنَّكِ لَوْ سَأَلْتِ بَقاءَ يَوْمٍ

عَلى الأَجَلِ الَّذِي لَكِ لَنْ تُطَاعِي

فَصَبْراً فِي مَجالِ الْمَوْتِ صَبْراً

فَما نَيْلُ الْخُلُودِ بِمُستَطاعِ

وَلا ثَوْبُ البَقاءِ بِثَوْبِ عِزٍّ

فَيَطْوِي عَن أَخِي الْخَنَعِ اليراعِ

سَبِيلُ الْمَوْتِ غايةُ كُلِّ حَيٍّ

وَدَاعِيْهِ لأَهْلِ الأَرْضِ دَاعِي

وَمَنْ لا يُعْتَبَطْ يَسْأَمْ وَيَهْرَمْ

وَتُسْلِمُهُ الْمَنُونُ إِلَى انْقِطاعِ

وَما لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَياةٍ

إِذا ما عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتاعِ (1)

الخنع - بالخاء المعجمة، والنون -: الخضوع.

واليراع في الأصل: جمع يراعة، وهو ذباب يطير بالليل كأنه نار، وفي النهار كسائر الذباب، ثم قيل للجبان: يراع، ويراعة؛ لوهنه

(1) انظر: "ديوان الحماسة" للتبريزي (1/ 24)، و "نهاية الأرب" للنويري (3/ 215).

ص: 246

وجُبْنه، وإياه عَنى في البيت، ويقال: للأحمق يراعة أيضاً.

ويقال في المثل: أخف من يراعة؛ وهي الذباب، أو القصبة.

وقد اشتهر تشاؤم الناس جاهلية، وتشاؤم جهلتهم إسلاماً بالبوم، والغراب، والطاووس، وبارح الطير، والوحش.

والحقُّ أنه لا طِيرَة، وأنَّ الطِيرَة شرك، وأنَّ مَنْ تطير طير له.

وسبق الكلام على ذلك، وعلى الحديث:"الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالْمَسْكَنِ، وَالدَّابَّةِ".

ونقل بعض العارفين معنى غراب البين إلى البعير الذي عليه تنزح الأحباب عن الأحباب، حتى قال بعضهم: ما غرابُ البَيْنِ إلا ناقة أو جمل.

ومما فتح الله تعالى به عليَّ، وألقاه توفيقه وإلهامه إليَّ أنْ قلت:[من المجتث]

الذَّنْبُ أَشْأَمُ عِنْدِي

مِنْ شُؤْمِ كُلِّ غُرابِ

لا يَذْهَبُ الشُّؤْمَ عَنِّي

إِلَاّ بِيُمْنِ الْمَتابِ

ومن أعجب الأشياء: أنَّ الطاووس مع حُسنه تتشاءم الناس به.

قال السيوطي: كأنه لكونه سبباً لدخول إبليس الجنة، وخروج آدم منها، انتهى.

فالشؤم ما نقله من حالٍ شريف أو مكانٍ كريم إلى ضده، ولا يكون العبد على حالٍ شريفة ولا مرتبةٍ منيفة إلا حيث كان مُطيعاً لله

ص: 247

تعالى، فلذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: ما شغلك عن الله من أهل، أو ولدٍ، أو مالٍ فهو عليك شؤم.

وقالوا في المثل: أشأم من طاووس، وهو الطير بعينه.

وأشأم من طويس، وهو طويس المغني من موالي آل كريز، وهو مولى أروى بنت كريز، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، واسمه عيسى بن عبداه، وقيل: عبد الملك، وكنيته: أبو عبد المنعم، وغَيَّرها المخنثون إلى عبد النعيم (1).

قال الجوهري: والطاووس طائر، ويصغر على طوس بعد حذف الزيادات.

قال: وقولهم: أشأم من طوس، وهو مخنث كان بالمدينة، وقال: يا أهل المدينة! توقعوا خروج الدجال ما دُمْتُ حياً بين أَظْهركم، فإذا مِتُّ فقد أمنتم لأني [ولدت] في الليلة التي مات فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطمْتُ في اليوم الذي مات فيه أبو بكر رضي الله عنه، وبلغت الحلم في اليوم الذي مات فيه عمر رضي الله تعالى عنه، وتزوجت في اليوم الذي قُتل فيه علي رضي الله تعالى عنه.

قال: وكان اسمه طاووسا، فلما تخنث جعله طويساً، وتسمى بعبد النعيم، وقال في نفسه:[من مجزوء الرمل]

إِنَّنِي عَبْدُ النَّعِيمِ

أَنا طاووسُ الْجَحِيمِ

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 506).

ص: 248

وَأَنا أَشْأَمُ مَنْ يَمْـ

ـشِي عَلى ظَهْرِ الْحطِيمِ (1)

وذكر صاحب "القاموس": أنَّ طويساً أول من غنَّى في الإسلام.

قال: وكان يقول: إنَّ أمي كانت تمشي بالتمائم بين نساء الأنصار، ثم وَلَدَتْني في الليلة التي مات فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطمتني يوم مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وبلغت الحلم يوم مات عمر رضي الله تعالى عنه، وتزوجت يوم قُتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وولِدَ لي في يوم علي رضي الله تعالى عنه، فمَنْ مثلي (2).

وذكر ابن خلكان نحو ذلك، وأنه ختَن يوم قُتل عمر، وأنه ولد له يوم قُتل علي.

وقيل: بل اليوم الذي مات فيه الحسن بن علي رضي الله عنهما، ولعله ولد له مولودان في الوقتين.

قال ابن خلكان: وكان طويس من المبرِّزين في الغناء المجيدين فيه.

قال: وكان مُفرطاً في الطول، مضطرباً في خلقه، أحول العين، أقعس يسكن المدينة، ثم انتقل عنها إلى السويداء، وهي على مرحلتين في طريق الشام، فلم يزل بها حتى توفي سنة اثنتين وتسعين للهجرة، انتهى (3).

قلت: ولعله من هنا قيل: ما في السويداء رجالٌ.

(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 945)(مادة: طوس).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 715)(مادة: طوس).

(3)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 507).

ص: 249

ولطف ابن الوردي في قوله معتذراً عن مقاطيعه التي عملها في الغلمان: [من السريع]

وَاللهِ ما الْمُرْدُ مُرادِي، وَإِنْ

نَظَمْتُ فِيْهِمْ كَعُقودِ اللآَّلْ

ما فِي سُوَيدائيَ إِلَاّ النِّسا

ما حِيْلَتِي ما فِي السُّوَيْدا رِجالْ (1)

ومن ألطف ما قيل في ذم الشاعر ما ينسب للإمام الشافعي رضي الله عنه: [من الكامل]

عِنْدِي يَواقِيتُ القَرِيضِ وَدُرُّهُ

وَعَلَيَّ إِكْلِيلُ الْكَلامِ وَتاجُهُ

تَرْبَى عَلى رَوْضِ الرُّبى أَزْهارُهُ

وَيرِفُّ فِي نادِي النَّدى دِيْباجُهُ

وَالشَّاعِرُ الْمِنْطِيقُ أَسْودُ سالِخٌ

وَالشِّعْرُ مِنْهُ لُعابُهُ وَمُجاجُهُ

وَعَداوةُ الشُّعَراءِ داءٌ معضِلٌ

وَلَقَدْ يَهُونُ على الكَرِيْمِ عِلاجُهُ (2)

ومن أمثال العرب: أنكحنا الفرا فسوف يُرى؛ يُضرب في الحذر من سوء العاقبة.

وأصله: أنَّ رجلاً خطب إلى رجلٍ ابنته، فأبى أن يزوجها، ورضيَتْ أمها فزوجت منه، فقال الأب: أنكحنا الفرا فسوف يُرى، والفرا العير؛ أي: زوجنا مَنْ لا خير فيه كأنه حمار، فسيعلم كيف

(1) انظر: "النجوم الزاهرة" لابن تغري (15/ 190) لكنه نسب الأبيات لابن نباتة.

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 167).

ص: 250

تكون العاقبة.

وقيل: يُضرب في طلب الحاجة من رجل عظيم، وانتظار ما يكون منه (1).

والفرا مهموز، إلا أنه خُفف في المثل.

قال في "الصحاح": وقد أبدلوا من الهمزة الفاء فقالوا: أنكحنا الفرا فسترى (2).

وذكر ابن خلكان في ترجمة أبي القاسم هبة الله بن الفضل، الشاعر المعروف بابن القطان: أنَّ الوزير شرف الدين أبا الحسن علي ابن طراف الزينبي لمَّا ولي الوزارة دخل عليه ابن الفضل المذكور والمجلس محتفل للهنا، فوقف بين يديه، ودعا له، وأظهر السرور والفرح، ورقص، فقال الوزير لبعض مَنْ يُفضي إليه سرَّه: قبح الله هذا الشيخ؛ فإنه يُشير برقصه إلى ما تقول العوام في أمثالها: ارقص للقرد في زمانه؛ وتقدم لنا ذكر المثل (3).

ولنا فيما ابتُلي به عقلاء الناس من مداراة رذال الناس الذين صاروا رؤساء، ورُدَّت إليهم الأمور، وصاروا هم الصدور:[من مجزوء الخفيف]

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 401).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 63)(مادة: فرأ).

(3)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 58).

ص: 251

عَجَباً مِنْ زَمانِنا

أَيْنَ مَنْ فِيهِ يَخلُصُ؟

كُلُّ ذِي نُهْبَةٍ بِهِ

بِاهْتِمامٍ مُخَصَّصُ

كَمْ تَراهُ مُدارياً

وَالْمُدارى منغَّصُ

ذُلَّ لِلدَّهْرِ يا لَهُ

كَيْفَ تَلْقاهُ يمغُصُ

فَهْوَ كَالْكَلْبِ كُلَّ يَوْ

مٍ لِقِرْدٍ يُبَصْبِصُ

كُلُّ مَنْ صَفَّرَ الزما

نُ لَهُ قامَ يَرْقُصُ

كُنْ بعيداً عَنِ الوَرى

فَهْوَ لِلْمَرْءِ أَخْلَصُ

ما عَلا غَيرُ مَنْ علا

دِيْنُهُ الآنَ يحرِصُ

فَهْوَ بِاللهِ مفردٌ

وَهْوَ لِلَّهِ مُخْلِصُ

وقيل: مكتوبٌ على عرش بلقيس: [من المتقارب]

سَتَأْتِي سنونَ هِيَ الْمُعْضِلاتُ

يُراعُ مِنَ الْهرعَةِ الأَجْدَلُ

وَفِيها يُهِيْنُ الصَّغِيرُ الكَبِيرَ

وَذُو الْحِلْمِ يُسْكِتُهُ الأَجْهلُ (1)

الهرعة - بالراء -: القملة.

والأجدل: الصقر.

وروى ابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم

(1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 529).

ص: 252

قال: "يَأْتيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُوْنُ المُؤْمِنُ فِيْهِ أَذَلَّ مِنْ شَاتِهِ"(1).

وروى الطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ هُمْ ذِئَابٌ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذِئْبًا أَكَلَتْهُ الذِّئَابُ"(2).

وقال بعضهم: [من الطويل]

عَوى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ لِلذِّئْبِ إِذْ عَوى

وَصَوَّتَ إِنْسانٌ فَكِدْتُ أَطِيْرُ (3)

وقال آخر: [من الخفيف]

لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ الْخَلاصُ مِنَ النَّا

سِ وَقَدْ أَصْبَحُوا ذِئابَ اعْتِداءِ

قُلْتُ لَمَّا بَلاهُمُ صِدْقُ صَبْرِي

رَضِيَ اللهُ عَنْ أَبِي الدَّرْداءِ (4)

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(54/ 414)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس"(5/ 439).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(736). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 89): فيه من لم أعرفه، وزياد الفهري مختلف فيه.

(3)

البيت للأحيمر السعدي، كما في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ص: 168).

(4)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 501).

ص: 253

لَمَّحَ بما صحَّ عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنه قال: وجدتُ الناس: اخْبُرْ تَقْلُهُ (1).

وسيأتي في ذلك مزيد كلام.

وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُقْتَلُ العُلَمَاءُ كَمَا تُقْتَلُ الكِلاب، فَيَا لَيْتَ العُلَمَاءَ فيْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَحَامَقُوْا"(2).

وروى ابن السني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَخْفِيْ المُؤْمِنُ فِيْهِمْ كَمَا يَسْتَخْفِي المُنَافِقُ فِيْكُمُ اليَوْمَ"(3).

وروى الديلمي عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُتَّبَعُ فِيْهِ العَالِمُ، وَلا يُسْتَحْيَى فِيْهِ مِنَ الحَلِيْمِ، وَلا يُوَقَّرُ فِيْهِ الكَبِيْرُ، وَلا يُرْحَمُ فِيْهِ الصَّغِيْرُ، يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَىْ الدُّنْيَا، قُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ العَرَبِ، لا يَعْرِفُوْنَ مَعْرُوْفًا، وَلا يُنْكِرُوْنَ مُنْكَرًا، يَمْشِيْ الصَّالِحُ فِيْهِمْ مُسْتَخْفِيًا؛ أُوْلَئِكَ شِرَارُ خَلْقِ اللهِ، لا يَنْظُرُ اللهِ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامةِ"(4).

وروى الحافظ أبو عبد الله محمد بن قايماز الذهبي في "الميزان"

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 61).

(2)

رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8671).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8681).

ص: 254

بسند واه، عن أنس رضي الله تعالى عنه - موقوفاً عليه - قال: كيف أنتم إذا كان زمَان الأمير فيه كالأسد الأسود، والحاكِم فيهِ كالذِّئب الأَمعطِ، والتَّاجر كالكَلبِ الهرارِ، والمؤْمِن بينهم كالشَّاةِ الوَلهاءِ بينَ الغَنَمَينِ، ليس لها مأوى، فكيف حال شاة بين أسد وذئب وكلب (1)؟

وروى ابن أبي الدنيا عن سعيد بن عبد العزيز قال: قيل لأبي أسيد الفزاري: من أين تعيش؟

فحمد الله وكبره وقال: يرزق الله الكلب والخنزير، ولا يرزق أبا أسيد (2).

قلت: فيه تنبيه على أنَّ الرزق في الدنيا مقسوم فيها لكل حيوان، فلا ينبغي للعاقل أن يهتم به، وهو مضمون لمن يَعْقِل ولمَنْ لا يَعقل.

وأجاد أبو تمام في قوله: [من الطويل]

فَلَوْ كانَتِ الأَرْزاقُ تَجْرِي عَلى الْحِجَى

هَلَكْنَ إِذاً مِنْ جَهْلِهِنَّ البَهائِمُ" (3)

وقال الطغرائي: [من البسيط]

قَدْ رَشَّحَوكَ لأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ

فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أنْ تَرْعى مَعَ الْهَمَلِ (4)

(1) رواه الذهبي في "ميزان الاعتدال"(1/ 235) مرفوعاً، وقال: أحمد بن زرارة المدني، لا يعرف، وخبره باطل، لكن السند إليه مظلم.

(2)

ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(66/ 12).

(3)

انظر: "ديوان أبي تمام"(ص: 182).

(4)

انظر: "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (3/ 157).

ص: 255

قال في "الصحاح": الهمل - بالتحريك -: الإبل بلا راعٍ مثل النفش، إلا أنَ النفش لا يكون إلا لَيلاً، والهمل يكون ليلاً ونهاراً.

يقال: إبل همل، وهامل، وهمال، وهوامل، وتَركتها هملاً؛ أي: سُدى إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهاراً بلا راع (1).

وفي المثل: اختلط الرعي بالهمل، والرعي الذي ليس له راعٍ.

وقال: نفشت الإبل والغنم، تنفش، وتنفش نفوشاً؛ أي: دعت ليلاً بلا راع، وهي إبل نفش - بالتحريك - ونفاش، ونوافش (2).

ويقال: إبل سُدى - بالضم، وقد تُفتح - أي: مهملة (3).

وفي كتاب الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]

. وقال المتنبي: [من البسيط]

وَشَرُّ ما قَنَصَتْ راحَتِي قَنَصٌ

شُهْبُ البزاةِ سواءٌ فِيهِ وَالرَّخَمُ (4)

وقال أبو العلاء المعري: [من الطويل]

(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1854)(مادة: همل).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1022)(مادة: نفش).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2374)(مادة: سدي).

(4)

انظر: "يتيمة الدهر" للثعلبي (1/ 148).

ص: 256

وَهَلْ يَذْخَرُ الضِّرْغامُ قُوتاً لِيَوْمِه

إِذا ادَّخَرَ النَّمْلُ الطَّعامَ لِعَامِه

وقال آخر: [من الوافر]

وَلِلزُّنْبورِ وَالبازِيْ جَمِيعاً

لَدى الطَّيَرانِ أَجْنِحَةٌ وَخَفْقُ

وَلَكِنْ بَيْنَ ما يُصْطادُ بازٍ

وَما يصطادُ الزُّنْبورُ فَرْقُ (1)

وقال المهذب أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن بن يمان الأنصاري المعروف بابن الإردخل نزيل ميَّافارقين: [من الطويل]

أَقُولُ وَقَدْ قالُوا: نَراكَ مُقَطِّباً

إِذا ما ادَّعَى دِينَ الْهَوى غَيْرُ أَهْلِهِ

يَحِقُّ لِدُودِ القَزِّ يَقْتُلُ نَفْسَهُ

إِذا جاءَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بِمِثْلِهِ (2)

وفي معناه قول الجمال أبي محمد القاسم بن عمر بن منصور الواسطي نَزِيْلِ حلب: [من مجزوء الرمل]

(1) البيتان للحسين بن عبد الله بن رواحة، كما في "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (3/ 151).

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (7/ 42).

ص: 257

حُقَّ دُوْدُ القَزَّ يَبْنِي

فَوْقَهُ ثُمَّ يَمُوتُ

بَعْدما سَدّى وَقَدْ

صارَ يُسْدِي الْعَنْكَبُوتُ (1)

وقال آخر: [من الوافر]

إِذا شُورِكْتَ فِي أَمْرٍ بِدُونٍ

فَلا يَلْحَقْكَ عارٌ أَوْ نُفورُ

فَفِي الْحَيَوانِ يَشْتَرِكُ اضْطِراراً

أَرسطالِيسُ وَالكَلْبُ العَقُورُ (2)

وقال المظفر بن علي: [من مجزوء الكامل المرفل]

لا عارَ أَنْ أَعْرى وَغَيْـ

ـرِي فِي ثِيابِ الوَشْيِ رافِلْ

إِنَّ الْحَمائِمَ ذاتُ أَطْـ

ـواقٍ وَجِيْدُ البازِ عاطِلْ

وقال الباخرزي: [من الكامل]

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (7/ 41).

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (7/ 42).

ص: 258

لا تُنْكِرِي يا عَزُّ إِنْ ذُلَّ الفَتَى

ذُو الأَصْلِ وَاسْتَعْلَى لَئِيمُ الْمَحْتِدِ

إِنَّ البُزاةَ رُؤُوسُهُنَّ عَواطِلٌ

وَالتَّاجُ مَعْقُودٌ بِرَأْسِ الْهُدْهُدِ (1)

وفي المعنى: [من المنسرح]

لا تَنْأَ عَنِّي أَنْ تَرَى خَلَقِي

فَإِنَّما الدُّرُّ داخِلَ الصَّدَفِ (2)

وقال جرير: [من البسيط]

وَابْنُ اللَّبُونِ إِذا ما لُزَّ فِي قَرَنٍ

لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَة البُزْلِ القناعِيسِ

وهو في معنى المثل: قمقامة حكت بجلد البازل؛ يُضرب للضعيف الذليل يحتك بالقوي العزيز؛ قاله الدميري، والسيوطي (3).

وحُكِي أن سفيان بن عُيينة قال في مسألةٍ قال فيها بشيء، فقيل

(1) انظر: "دمية القصر" للباخرزي (1/ 651).

(2)

انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (10/ 319).

(3)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 359).

ص: 259

له: إنَّ مالكاً قال فيها بخلاف قولك، فقال: ما مثلي ومثل مالك إلا كما قال الأول، وأنشد بيت جريرٍ المذكور (1).

وأخبرت بأنَّ الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل المعروف بابن الوين، وبابن عماد الدين، وكان له صَوْلة، قال لرجلٍ دُوْنه خاصمه في شيء: فُرَيْرِيجٌ تقاوم البازات.

وقال أبو المظفر بن السمعاني: أنشدنا والدي قال: أنشد سعيد ابن المبارك النحوي لنفسه: [من الطويل]

أَرى الفَضْلَ ساعٍ فِي تَأَخُّرِ أَهْلِهِ

وَجَهْلُ الفَتَى يَسْعَى لَهُ فِي التَّقَدُّمِ

كَذاكَ أَرى الْخفَّاشَ يُنْجِيْهِ عَيُّهُ

وَيَحْتَبِسُ القُمْرِيَّ طيبُ التَّرنُّمِ (2)

وقال القاضي ناصح الدين الأرجاني: [من الكامل]

لَوْ كُنْتُ أَجْهَلُ ما عَلِمْتُ لَسَرَّنِي

جَهْلِي كَما قَدْ سَاءَنِي ما أَعْلمُ

(1) روى نحوه ابن خزيمة في "صحيحه"(75).

(2)

انظر: "خريدة القصر وجريدة العصر" للعماد الأصبهاني (3/ 19)، و"حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 351).

ص: 260

كَالصَّعْوِ (1) يَرْتَعُ فِي الرِّياضِ وَإِنَّما

حُبِسَ الْهَزَارُ لأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ (2)

وأقول كالمخالف له: [من الكامل]

لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ ما جَهِلْتُ لَسَرَّنِي

عِلْمِي وَلَيْسَ يَسُوؤُنِي ما أَعْلَمُ

كَالبازِ تَرْفَعُهُ الْمُلُوكُ لِعِلْمِهِ

وَالصَّعو فِي الْحرجاتِ ضاوٍ مُحَجَّمُ

وقال الشاعر: [من البسيط]

لَيْسَ الْمُقَامُ بِدَارِ الذُّلِّ مِنْ شِيَمِي

وَلا مُعَاشَرَةُ الأَنْذالِ مِنْ هَمِمي

وَلا مُعاشَرةُ الأَنْذالِ تَجْمُلُ بِي

كَذَلِكَ البازُ لا يَأْوِي مَعَ الرَّخَمِ (3)

ولبعض الشعراء في الحجاج بن يوسف، وقد كان الحجاج هرب في بعض الوقائع مع شبيب من غزالة امرأة شبيب، وكانت تُقاتل في

(1) الصعو: جمع صعوة: طائر من صغار العصافير، أحمر الرأس.

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 154).

(3)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 159).

ص: 261

الحروب بنفسها: [من الكامل]

أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعامَةٌ

فَتخا تُرَفْرِفُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافرِ

هَلَاّ بَرَزْتَ إِلَى غَزالةَ فِي الوَغا

بَلْ كانَ قَلْبُكَ فِي جَناحَيْ طائِرِ (1)

وقال عمران بن عصام العَنَزي لعبد الملك بن مروان يعني: الحجاج بن يوسف: [من الكامل]

وَبَعَثْتَ مِنْ وَلَدِ الأَغَرِّ معتبٍ

صَقْراً يَلُوذُ حمَامُهُ بالعَوْسَجِ

فَإِذا طَبَخْتُ بنارِهِ أَنْضَجْتُهُ

وَإِذا طُبِخَتْ بِغَيْرِها لم تَنْضجِ (2)

يُشير إلى المثل السَّائر: صقرٌ يَلُوذ حمامُهُ بالعوسج؛ قال القمي: يُضرب للرجل الذي تهابه الناس (3).

(1) البيتان لعمران بن حطان السدوسي، كما في "الأغاني" للأصبهاني (18/ 122)، و"حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 252).

(2)

انظر: "الأغاني" للأصبهاني (17/ 278)، و "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 142).

(3)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 141).

ص: 262

وقال الحارث بن حِلِّزة: [من الكامل]

وَمُدامَةٍ قَرَّعْتُها بِمُدامةٍ

وَظِباءِ محنيةٍ ذَعَرتْ بِسَمحجِ

وَكَأَنَّهُنَّ لآلِئُ وَكَأَنَّهُ

صَقْرٌ يَلُوذُ حمامُهُ بِالعَوْسَجِ

صَقْرٌ يَصِيدُ بِظُفْرِهِ وَجَناحِهِ

فَإِذا أَصابَ حَمامَةً لَمْ تدرُجِ (1)

والعوسج: شجر له شوك، وإنما قيل في المثل: يَلُوذ حمامه بالعوسج؛ لأنه مُتداخل الأغصان، فالطير يلُوذ به من الجوارح.

ولطف ابن قلاقس في قوله من قصيدة يمدح فيها القاضي الفاضل عبد الرحيم: [من السريع]

وَعاذِلٍ دَامَ دوامَ الدُّجَى

بَهِيمَةً نادَمْتُها فِي بَهِيمْ

يَغِيظُنِي وَهْوَ عَلى رِسْلِهِ

وَالْمَرْءُ فِي غَيْظِ سِواهُ حَلِيمْ

قُلْتُ لَهُ لَمَّا عدا طَورَهُ

وَالقَلْبُ مِنْهُ فِي العَذابِ الأَلِيمْ

اعْذُرْ فُؤادِي إِنَّهُ شاعِرٌ

مِنْ حُبِّهِ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمْ (2)

ودخل صقلية فاتصل بأبي القاسم بن الحجر، فأحسن إليه، فلما فارق صقلية راجعاً إلى الديار المصرية - وكان في زمن الشتاء - ردته الريح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور:[من مجزوء الكامل المرفّل]

(1) انظر: "المفضليات" للضبي (ص: 256).

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (5/ 384).

ص: 263

مَنَعَ الشِّتاءُ مِنَ الوصُو

لِ مَعَ الرَّسُولِ إِلَى دِيارِي

فَأَعادَنِي وَعَلى اخْتِيا

رِي العَودُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيارِي

وَلَرُبَّما وَقَعَ الْحِما

رُ فَكانَ مِنْ غَرَضِ الْمُكارِي (1)

ولطف الشهاب فتيان بن علي بن فتيان، الشاعر المعروف بالشاغوري في قوله وقد دخل حمَّاماً شديد الحرارة، وكان قد شاخ وكبر؛ كما أورده والذي قبله ابن خلكان:[من المتقارب]

أَرَى ماءَ حَمَّامِكُمْ كَالْحَمِيمِ

نُكابِدُ مِنْهُ عَناءً وَبُوْساً

وَعَهْدِي بِكُمْ تَسمطونَ الْجِدَى

فَما بالُكُمْ تَسْمُطونَ التُّيوسا (2)

ومن أمثال العوام: كم كبش في المرعى! وكم جدي في المسمط! يُضرب في أنَّ الموت بالأجل يلحق الصغار والكبار، وربما كان منه في الصغار أكثر منه في الكبار.

وذكر الغزالي في "الإحياء": أنَّ سفيان الثوري رحمه الله تعالى كان إذا شبع أحيا تلك الليلة، وكان يقول:[من مجزوء الرمل]

أَشْبَعَ الزُّنْجِيَّ وكرُهْ

إِنَّما الزُّنْجِيْ حِمارُ (3)

وروى أبو نعيم عن جبير بن نفير رحمه الله تعالى: أنَّ نفراً قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما رأينا رجلاً أقْضى بالقسط،

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (5/ 388).

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 25).

(3)

انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 355).

ص: 264

ولا أَقْول بالحق، ولا أشدَّ على المنافقين منك؟ فأنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عوف عن مالك رضي الله تعالى عنه: كذبتم والله، لقد رأينا خيراً منه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقالوا: مَنْ هو؟

فقال: أبو بكر رضي الله تعالى عنه.

فقال عمر: صدق عوف؛ والله لقد كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه أطيب من ريح المسك، وأنا أضلُّ من بعير أهلي (1).

وجملة: (وأنا أضل من بعير أهلي) - في كلامه - حالية.

أي: إنه كان أضل من بعير أهله في الحال الذي كان فيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه أطيب من ريح المسك؛ فإنه كان في جاهلية بُرْهة من الزمان، وأبو بكر في إسلام وتصديق.

ونظير ذلك ما رواه الإمام أحمد، وغيرهُ: أنَّ الطاعون وقع بالشام، فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: إنه رجس فتفرقوا عنه.

فقال شرحبيل بن حسنة رضي الله تعالى عنه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو أضلُّ من بعير أهله، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّهَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نبِيّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُمْ".

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 134).

ص: 265

فبلغ ذلك عمرو بن العاص، فقال: صدق.

وفي رواية: فبلغ ذلك شرحبيل فغضب، فقال وهو يجرُّ ثوبه معلق نعله بيده، فقال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو أضل من حمار أهله (1).

فأشار إلى أن حال الجاهلية كحال البعير والحمار في الجهل، بل هي أبلغ.

وروى الخطابي في "العزلة" عن العتبي قال: كنا عند سفيان بن عيينة، فَتَلَا هذه الآية:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، فقال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم مَنْ يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدُو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نبُاح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو أُلقيَ إليها الطعام الطيب عافَتْه، فاذا قام الرجل عن رجيعه وَلَغَتْ فيه.

ولذلك تجد من الآدميين مَنْ لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ الرجل عن نفسه، أو حكى خطأً عن غيره تروَّاه وحفظه.

قال الخطابي: ما أحسن ما تأول أبو محمد - يعني: سفيان بن

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 196)، وابن حبان في "صحيحه"(2951).

ص: 266

عيينة - هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أنَّ الكلام إذا لم يكن كله مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل دابة وطائر، وكان ذلك ممتنعاً من جهة الخلقة والصورة، وعدماً من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفاً إلى المماثلة في الطباع والأخلاق.

قال: وإذا كان الأمر كذلك، فاعلم يا أخي أنك إنما تُعاشر البهائم والسباع، وليَكُن حذرُكَ منهم ومُباعدتك إياهم على حسب ذلك (1).

وروى أبو نعيم عن سهل بن عبد الله التستَري رحمه الله تعالى قال: خلق الله تعالى الإنسان على أربع طبائع: طبع البهائم، وطبع الشياطين، وطبع السَّحرة، وطبع الأبالسة.

فمن طبع البهائم: البطن والفرج؛ قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3].

ومن طبع الشياطين: اللهو واللعب، والزينة، والتكاثر؛ قوله تعالى:{لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20].

ومن طبع السَّحرة: المكر والخديعة؛ {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ} [الأنفال: 30].

{إِيُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 55).

ص: 267

ومن طبع الأبالسة: الإباء والاستكبار؛ {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34].

قال: واستعبد الله العباد بأكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يسلموا من طبع البهائم.

واستعبدهم بالتسبيح، والتقديس، والتمجيد، والشكر حتى يَسْلَمُوا من طبع الشياطين.

يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206].

وقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].

ومن طبع السَّحرة استعبدهم بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنصيحة، والرحمة، والصدق، والإنصاف، والتفضيل، والاستعانة بالله تعالى، والصبر على ذلك إلى الممات.

ومن طبع الأبالسة استعبدهم الله تعالى بالدعاء، والصُراخ، والالتجاء، والتضرع؛ {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، انتهى (1).

فقد أشار سهل رحمه الله تعالى إلى أن الله عز وجل ابتلى الناس بهذه الأخلاق، ثم استعبدهم بالانسلاخ عنها والتلبس بما هو يُناقضها من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أكل الحلال، وأداء الفرائض، والذكر، والشكر، والنصيحة، والرحمة، والإنصاف، والإفضال، والدعاء، والتضرع إلى الله تعالى حتى تتبدل أرضُ إنسانيةِ أوليائه غير أرض

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 206).

ص: 268

الحيوانية والسماوات؛ {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].

وعند ذلك يُقال لهم: أبدال.

وقد أشار إلى هذا المعنى أبو طالب المكي في "القوت"؛ فإنه ذكر أنَّ النفس مُبتلاة بأوصاف الربوبية كالكبر، والجبروت، وحب المدح، والغنى، والعز، وأخلاق الشياطين كالخداع، والحيلة، والحسد، والضِنة؛ يعني: البخل، وطبائع البهائم، وهي حب الأكل والشرب، والنكاح، وهي مع ذلك مطالبة بأوصاف العبودية كالخوف، والتواضع، والذلة.

ثم قال رحمه الله تعالى: ولا يكون المرء بدلاً حتى يتبدل بمعاني صفات الربوبية وصفات العبودية، وبأخلاق الشياطين صفات المؤمنين، وبطبائع البهائم أوصاف الروحانيين من الأذكار والعلوم، فعندها كان مقرباً، انتهى (1).

وقال الشيخ علوان الحموي في "شرح تائية ابن حبيب" عند قوله: [من البسيط]

إِيَّاكَ نَفْسَكَ احْذَرْ إِن لَدْغَتَها

فَوقَ السَّعِيرِ وَأَنْواعِ السُّمُوماتِ

رَوَّاغةٌ سِحْرُها أَسْرى وَأَعْظمُ مِنْ

هاروتَ ماروتَ أَقْوى فِي الرَّزِّياتِ

(1) انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (1/ 155).

ص: 269

قال: وهذا الروغان مما أودع فيها - يعني: النفس - من أخلاق الوحوش؛ فإنها مستمدة من أخلاق البهائم، والحيوانات، والوحوش، والحشرات، فبجهلها تشبه الثور، وبالشَّره تشبه الخنزير، وبالحرص النمل، وبالوقوع على النجاسة الذباب، وبالتَّهافُتِ على الشهوات الفراش، وبالضراوة والحسد الكلب، وبالتمزيق للأموال الذئب، وبالرئاسة السَّبع، وبالخبث الذئب، وبالروغان الثعلب، وبالجبن الضبع، وبالسرقة والاختلاس الفأر والجرذان، وبالنميمة القرد، وبالكبر النمر، وبالحقد الجمل، وبكثرة السؤال الهر، وبالبلادة الحمار، وبالجماح الخيل الشموسية، وباللدغ العقرب، وبعظم الأذية مع حسن الصورة الحية، وبالمكر والخديعة الشيطان، انتهى.

قلت: ولما كانت النفس منطوية على هذه الأخلاق الخبيثة، يتعاقب عليها خلق بعد خلق، ويعتورها طبع بعد طبع مع غلبتها، لم يَسَعِ العاقل أن يغفل عن رياضة نفسه وسياستها.

ومن ثمَّ قال علي رضي الله تعالى عنه: ما أنا ونفسي إلا كراعي غنمٍ؛ كما ضممتها من جانبٍ نفشَتْ من جانب.

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]: لا تغفلوا عن أنفسكم لأنَّ مَنْ غفل عن نفسه فقد قتلها (1).

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 21).

ص: 270

وقال البوصيري: [من البسيط]

وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلى

حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

مَنْ لِي بِرَدٍّ جماحٍ مِنْ غَوايَتِها

كَما يُرَدُّ جماحُ الْخَيْلِ بِاللُّجُمِ

وروى الخطابي في "غريب الحديث" عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: انتهى عجبي عند ثَلاث: المرء يفرُّ من الموت وهو لاقيه، والمرء يرى في عين أخيه القذى فيُعيْبهُ، ويكون في عينه الجذع فلا يُعيبه، والمرء يكون في دابته الضغن فيقومها جهده، ويكون في نفسه الضغن فلا يقوم نفسه.

قال الخطابي: الضغن في الدابة: أن تكون عسرةَ الانقياد (1).

قال في "الصحاح": فرسٌ ضاغن: لا يُعطي ما عنده من الجَرِي إلا بالضرب.

وقال: وقناة ضَغنة؛ أي: عوجاء (2).

قلت: والسبب في ذلك أمران:

الأول: حُسن ظن الإنسان بنفسه، وإعجابه بها، ورضاه عنها، وهذا لا يُظهر عيبها.

(1) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 482).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2154)(مادة: ضغن).

ص: 271

[من الطويل]

وَعَيْنُ الرِّضا عَنْ كُلِّ عَيبٍ كَلِيلَةٌ

وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبدي الْمَسَاوِيا

وسُئِلَ ذو النون رحمه الله تعالى عن كمال معرفة النفس؛ قال: كمال سوء الظن بها.

الأمر الثاني: أنَّ النفس لا يكون فيها عيب إلا وهو متسبب عن هواها، أو داعٍ إليه كالصَّوْلة والظلم؛ فإنهما متسببان عن الرئاسة والقوة، وهما من هوى النفس، وكالروغان والحيلة؛ فإنهما يوصلان إلى غرض النفس.

ومهما كان الهوى في شيء لم تتصور النفس أن يكون ذلك الشيء عيباً أصلاً.

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"حُبُّكَ لِلشَّيءِ يُعْمِي وَيَصُمُّ"(1).

ورُوِيَ من حديث أبي برزة، وعبد الله بن أنيس أيضاً رضي الله تعالى عنهما.

ولأجل ذلك كان خلاف الهوى صواباً مطلقاً، وآفة العقل الهوى، فمَنْ علا على هواه عفته فقد نجا.

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 194)، وأبو داود (5130). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 720).

ص: 272

قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41].

وقد وقع الذم في القرآن العظيم على اتباع الهوى كثيراً.

وروى الشيخ نصر المقدسي في "الحجة" عن [عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما](1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُوْنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ"(2).

وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن مزيدة بن قضيب الرهاوي قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذ جاء قومٌ فقالوا: إنَّ لنا إماماً يُصلي بنا العصر، فإذا صلَّى صلاته تغنَّى بأبيات.

فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا إليه، فاستخرجه عمر من منزله، فقال له: إنه بلغني أنك تقول أبياتاً إذا قضيْتَ صلاتك، فأنشدنيها؛ فإنْ كانت حسنة قُلْتُها معك، وإنْ كانت قبيحة نَهْيْتُكَ عنها، فقال - الرجل:[من الرمل]

وَفُؤادِي كُلَّما نبَّهْتُهُ

عادَ فِي اللَّذَّاتِ يَبْغِي تَعَبِي

لا أُراهُ الدَّهْرَ إِلَّا لاهياً

فِي تَمَادِيْهِ فَقَدْ برَّحَ بِي

يا قَرِينَ السُّوءِ ما هَذا الصِّبا

فَنِيَ الْعُمْرُ كَذا باللَّعِبِ

وَشَبابٌ بَانَ مِنِّي فَمَضى

قَبْلَ أنْ أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي

(1) بياض في "أ" و "ت".

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 273

ما أُرَجِّي بَعْدَهُ إِلَاّ الفَنا

ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيَّ مَطْلَبِي

نَفْسي لا كُنْتِ وَلا كانَ الْهَوى

اتَّقِ اللهَ وَخافِي وَارْهَبِي

فقال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم: نفسي لا كنتِ ولا كان الهوى، وهو يبكي، ويقول: اتق الله وخافي وارْهبي.

ثم قال عمر رضي الله تعالى عنه: مَنْ كان مُغَنياً فَلْيُغَنِّ هكذا (1).

قلت: وهذا الأثر ناطق باستحسان عمر رضي الله تعالى عنه لما كان من الشعر في الزهد، والرياضة، والحث على التقوى.

وقد تقدم بيان ذلك في التشبه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبسطنا القول عليه في "منبر التوحيد" أيضاً.

وقلت في معنى هذه الجملة التي نقلتها: [من مخلَّع البسيط]

حُبُّكَ لِلشَّيْءِ عَنْكَ يُعْمِي

ما كانَ فِيهِ مِنْ كُلِّ مُؤْلِمْ

تُعْجِبُكَ النَّفْسُ، ثُمَّ تَرْضَى

عَنْها، وَعَنْ عَيْبِها تَلَعْثمْ

تُقَوِّمُ الضغنَ مِنْ حِمارٍ

تَرْكَبُهُ ما عَسَى تقَوِّمْ

وَلَمْ تُقَوِّمْ مِنْ نَفْسِكَ الضغـ

ـنَ وَهِيَ أَوْلَى بِأَن تُعَلِّمْ

وَتَزْجُرُ العَبْدَ حِينَ يُخْطِيْ

لَمْ تَرْضَ إِلَاّ مِنْ حَيْثُ يُسْلِم

وَأَنْتَ تَعْصِي الإِلهَ جَهْراً

وَلَمْ تَتُبْ، لا وَلَمْ تُسَلِّمْ

حَتَّى مَتَى يا أَرِيبُ تُقْدِمْ

عَلى الْمَعاصِي وَلَسْتَ تُحْجِمْ

(1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 312).

ص: 274

تُنْجِدُ طوراً لِغَيْرِ شَيْءٍ

وَتارَةً يا أَرِيبُ تُتْهِمْ

إِنَّ الثوى فِي الْمدى قَلِيلٌ

فارْقُدْ لأُخْراكَ ثُم قَدِّمْ

لِلَّهِ كَمْ بَيْنَ ذا ثَراءٍ

وَذاكَ مِنْ طاعَةٍ وَمُعْدِمْ

فابْنِ ديارَ الرِّضى وَأَحْكِمْ

وَلَو لِدَارِ البَوَارِ تَهْدِمْ

وَاسْلُكْ طَرِيقَ السَّدادِ قَصْداً

إِنَّ طَرِيقَ السَّدادِ قَيِّمْ

وَاسْأَلْ مِنَ اللهِ فَهْوَ يُلْهِمْ

مَنْ شاءَ طاعاتِهِ وينْعِمْ

يا رَبِّ خُذ بِي عَنِ الْهَوى إِنَّ

الْهَوى مُوْبِقٌ وَمُقْحِمْ

كَمِ اسْتَزَلَّ الْهَوى أُناساً

يا سَلِّمْ، يا رَبِّ سَلِّمْ

* تَنْبِيهٌ:

روى ابن جرير عن سعيد بن أبي هلال: أنَّ عبد الله بن علي حدَّثه: أنَّ ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جَلَسُوا يوماً ورجل من اليهود قريبٌ منهم، فجعل بعضهم يقول: إني لآتي اِمرأتي وهي مضجعة، ويقول آخر: إني لآتيها وهي قائمة، ويقول الآخر: إني لآتيها وهي باركة.

فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم، إنا نأتيها على هيئةٍ واحدة.

فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223](1).

(1) رواه الطبري في "التفسير"(2/ 393).

ص: 275

وهذا غلطٌ محضٌ من هذا اليهودي في التشبيه، بل كذبٌ بهْتٌ منه، وإنما يُشبه البهائم في لزومهم هيئة واحدة في الجماع؛ فإنَّ البهائم تلزم طريقة واحدة في السفاد، ولا يستطيع التصرف في إتيان الأنثى على هيئات مختلفة إلا ابن آدم، وهو من جملة ما كرَّمه الله تعالى به، وفضله به على سائر البهائم؛ فافهم!

وإياك أن يشتبه عليك التشبه في محمود أو مذموم كما اختلف على هذا اليهودي المذكور.

ص: 276

فَصلٌ

لا يخفى عليك أنَّ الإنسان حيث هو مُبتلى بالصفات الربوبية، والأخلاق الشيطانية، والطبائع البهيمية والسَّبعية، وهي كثيرة الشعب والأنواع، فقد قلَّ أن يكون إنسانٌ سالماً من شيء منها؛ فإنه إنْ سَلِمَ من البخل لم يَسْلم من الطمع مثلاً، وإنْ سَلِمَ من الحسد لم يَسْلم من محبة النفس وتزكيتها، وإنْ سَلِمَ من الصَّولة والجرأة لم يَسْلم من الخديعة والحيلة، وهكذا.

وكل واحدٍ من هذه الأخلاق والطبائع لا يخلو أن يكون الهوى متسبباً عنه، أو داعياً إليه، والشيطان آمراً به.

وقلَّ أن يخلو من خليلٍ أو قريبٍ يسأله فيه، أو يحضه عليه، ويُساعده فيه.

وقلَّ أن يكون له مَنْ يدعوه منه إلى ضده من أخلاق البر والتقوى.

فبقي العقل منفرداً وحده في دعائه إلى البر والتقوى، فإن يسر الله تعالى له مَنْ هو في جانب العقل من أخلاء الصدق ورفقاء الرفق

ص: 277

- وقليلٌ ما هم - وإلا كان العقل وحده.

فإن ساعدته العناية، وأَدْركه التوفيق نَجَا بصاحبه، وإن غلب عليه الهوى وجنوده، وأُغمضَتْ عنه عين العناية والتوفيق هلك مع صاحبه.

فمن ثمَّ كان الكُمَّل في الأخلاق الجيدة من أهل العلم والدين من أقل الناس في كل زمان، وكان أهل الجهل والفسق والشَّره والانحلال عن الدين، الملحقون بالبهائم والسباع والهوام والشياطين والأبالسة أكثرَ الناس في كل وقت.

قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].

وقال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وقال تعالى لبني اسرائيل: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].

وقال: حكايةً عن داود عليه السلام: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] إلى غير ذلك.

ثم إنَّ الزمان الذي بُعثَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تُوفي صلى الله عليه وسلم لا شكَّ أنه كان أَصْلح الأزمنة، وأَلْيقها بظهور الكمالات وكثرة الظاهرين بها، حيث كان صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، فكان يفيض عليهم من علوم السنة، ويطبع في مرآتهم آثار المعارف وأنوار أخلاقه الزكية شيئاً فشيئاً، حتى ظهر سلطان الدين، وبَهَرَ برهان الحق، فكان كمال الدين وتمام النعمة حين كان في حجة الوداع، ونزلت عليه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

ص: 278

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].

ثم كان زمان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أقرب الأزمنة إلى صلاحية ظهور الناس بالكمالات، ثم زمان التابعين كما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُ القُرُوْنِ القَرْنُ الَّذِيْ بُعِثْتُ فِيْهِ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنهمْ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنهمْ"(1).

ثم ظهرت أوائل البِدع والإحداثات في الدين، فكان كل زمان تنقص فيه السنن والكمالات عن الزمان الذي كان قبله، وتزيد فيه البدع والحوادث على الزمان قبله، وهَلُمَّ جراً، وكان أهل الخير والديانة في كل زمانٍ إذا نظروا إلى مَنْ مضى من أكابر سلفهم من أهل السنة والكمال، ومن خَلَفَ فيهم من الأحداث الذين نشؤوا في البدعة والاختلال، وظنوا أنهم على شيء، استوحشوا لفراق من فارقوا، ولم يستأنسوا بمَنْ لَقُوا، فبكوا على الزمان الغابر، وبَكُوا من الزمان العابر، وأَسِفُوا على السلف، واتقوا من الخلف، لم يُعجبهم شأنهم، ولم ترج عليهم سوقهم، فأطلقوا الذمَّ عليهم جميعاً ولو كان فيهم أفراد محمودون لأنهم قليلون جداً.

روى الإمام أحمد عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: ذَهَبَت المعارف، وبقيت المناكر، ومَن بقي من المسلمين فهو مغموم (2).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 258).

ص: 279

وروى أبو نعيم عنه قال: والله لقد أدركْتُ سبعين بدريًّا، أكثر لباسهم الصوف، لو رأيتموهم قُلْتُم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خَلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: لا يؤمن هؤلاء بيوم الحساب (1).

وهذا موافقٌ لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

روى الخطابي في "العزلة" عن مستورد الفهري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَذْهَبُ الصَّالِحُوْنَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَتَبْقَىْ حُثَالةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيْرِ، لا يُبَالي اللهُ بِهِمْ"(2).

ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُوْشِكُ أَنْ يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَان يُغَرْبَلُ فِيْهِ النَّاسُ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مُزِجَتْ عُهُوْدُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوْا وَكَانُوْا هَكَذَا - وشبك بين أصابعه -".

قالوا: كيف بنا يا رسول الله؟

قال: "تَأْخُذُوْنَ مَا تَعْرِفُوْنَ، وَتَدَعُوْنَ مَا تُنْكِرُوْنَ، وَتُقْبِلُوْنَ عَلَىْ أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُوْنَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ"(3).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 134).

(2)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 67). وروى نحوه البخاري (3925) عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه.

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 221)، وأبو داود (4342)، والحاكم في "المستدرك"(2671)، وكذا ابن ماجه (3957).

ص: 280

قال الخطابي: حُثالة الشعير - أي: ونحوه -: رذالته، وما لا خير فيه منه (1).

وصحح الحاكم عن رويفع بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: قُرِّبَ للنبي صلى الله عليه وسلم تمرٌ أو رُطَبٌ، فأكلوا منه حتى لم يبقَ إلا نواه وما لا خير فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تَدْرُوْنَ مَا هَذَا؟ تَذْهَبُوْنَ الخَيِّرُ فَالخَيِّرُ حَتَّى لا يَبْقَىْ مِنْكُمْ إِلَاّ مِثْلُ هَذَا"(2).

وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ إِلَاّ وَالَّذِيْ بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ"(3).

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: أمسٌ خيرٌ من اليوم، واليوم خيرٌ من غد، وغد خيرٌ من بعد الغد، وكذلك إلى يوم القيامة (4).

وروى ابن حبان في "الثقات" عن الحسن أنه قال: مَنْ رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً رائحاً لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له عَلَم فشمَّر إليه، الوَحاءَ الوَحَاءَ، ثم النجاة النجاة على ما تعرجون، وقد أسرع بخياركم، وذهب نبيكم وأنتم في كل عامٍ

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 67).

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(8336)، وكذا ابن حبان في "صحيحه"(7225).

(3)

رواه البخاري (6657).

(4)

رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 160).

ص: 281

ترذلون العيان العيان (1).

وروى ابن أبي شيبة، والخطابي في "العزلة" عن هشام بن عروة، عن أبيه رحمة الله عليهما، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تتمثل بهذين البيتين؛ يعني: من شعر لبيد - رضي الله تعالى عنها -: [من الكامل]

ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنافِهِمْ

وَبَقِيْتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ

يَتَحَدَّثُون مجانةً وَمُلاذةً

وَيُعابُ قائِلُهمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغبِ (2)

ووقع لنا هذا الخبر من طريقٍ مُسلسلاً، قالت عائشة فيه: يرحمُ الله لبيداً حيث يقول:

ذَهَبَ الَّذِينَ يُعاشُ فِي أَكْنافِهِمْ

وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَقارِ الأَجْرَبِ

فكيف لو أدركت زماننا هذا؟

قال: عروة: يرحم الله عائشة! فكيفَ لو أدركت زماننا (3).

(1) رواه ابن حبان في "الثقات"(6/ 261).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26040)، والخطابي في "العزلة" (ص: 69).

(3)

وانظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 198).

ص: 282

ثم هذا تسلسل، وقد وصلنا مسلسلاً في غير هذا الكتاب.

وقلت: [من الرمل]

قُلْ لِمَنْ ذَمَّ زَماناً سَلَفا

كانَ خَيْراً مِنْ سِواهُ سَلَفَا

كَيْفَ لَوْ تُدْرِكُ ما عَنَّ بِنا

مِنْ زَمانٍ هُوَ شَرٌّ خَلَفَا

كَلَّ فِيهِ الفِكْرُ مِمَّا قَدْ يَرى

وَاسْتَذَلَّ الأَقْوِياءُ الضُّعَفا

لا كَبِيْرٌ بِوَقارٍ ظافِراً

لا صَغِيْرٌ حاطَهُ مَنْ رَأَفا

رَأَسَ السُّقَّاطُ فِيهِ وَانْزَوى

كُلُّ ذِي مَجْدٍ يَؤُمُّ السُّجَفا

راجَ فِيهِ ما جِنٌ أَوْ فاسِقٌ

عُدَّ بَيْنَ النَّاسِ مِمَّنْ ظَرُفا

لِعَظِيمَينِ مُلِئْنا حَزَناً

وِلَهَذَيْنِ انتُهَينا دَلَفا

بَيْنَما نبكِي زَماناً سَلَفا

إِذْ بِنا نَبْكِي زَماناً خَلَفَا

فَعَسى نَمْضِي بِأَجْرَي ثَكِلٍ

وَاغْتِمامٍ لا نَخافُ التَّلَفَا

وحيث ذكرنا في هذا الفصل أنه أكثر في كلام السَّلف تمثيل الناس بالبهائم والسباع على الأخلاق، إشارةً إلى أنَّ الصالحين والأخيار كأنهم مُستثنون منهم، فلا يدخلون في إطلاقهم إذا ذموا لقلتهم فيهم وغُربتهم بينهم، فينبغي أن نذكر جملة:

- فمن ذلك: ما رواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما: ذهب الناس وبقي النسناس.

قيل: وما النسناس؟

ص: 283

قال: الذين يُشبهون الناس، وليسوا الناس (1).

ورواه الخطابي في "العزلة" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (2).

وممن ذَكره عن أبي هريرة الزمخشري في "الفائق"، والهروي في "الغريب"، وابن الأثير في "النهاية"(3).

وروى الدينوري في "المجالسة" عن الحسن رحمه الله تعالى: أنه قال: ذهب الناس، وبقي النسناس، ولو تكاشفتم ما تدافنتم (4).

والنَسناس - بفتح النون، وقد تُكسر -: جنسٌ من الخَلْق على سورة الإنسان، يَثِبُ على رِجْلٍ واحدة.

وقيل: له عين واحدة، ويد واحدة، ورجل واحدة؛ حكاه الدينوري في "المجالسة" عن أبي إسحاق (5).

وقيل: هو على سورة نصف إنسان.

وقيل: إنها في طباع البهائم تشبه الإِنسان صورة، وتتكلم، إلا أنها تفرس الكلاب أن تأخذها.

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 328).

(2)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 68).

(3)

انظر: "الفائق" للزمخشري (3/ 427)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 49).

(4)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 106).

(5)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 302).

ص: 284

ونقل الدميري، والسيوطي عن "تاريخ صنعاء": أنَّ تاجراً سافر إلى بلادهم، فرآهم يَثبُون على رِجْلٍ واحدة، وسمع واحداً منهم يقول:[من الرجز]

فَرَرْتُ مِنْ خَوفِ الشّراة شَدَّا

إِذْ لَمْ أَجِدْ مِنَ الفِرارِ بُدَّا

قَدْ كُنْتُ قِدْماً فِي زَمانِي جَلْدَا

فَها أَنا اليَومَ ضَعِيفٌ جِدَّا (1)

وقيل: هو جنسٌ من القردة.

وقيل: كانت حيًّا من عادٍ فَمُسخوا.

وقال الشاعر في معنى الأثر: [من الخفيف]

ذَهَبَ النَّاسُ فَاسْتَقَلُّوا وَصارُوا

خَلَفَاً فِي أَراذلِ النَّسْناسِ

فِي أُناسٍ نعدُّهُمْ فِي عَدِيدٍ

فَإِذا فُتِّشُوا فَلَيْسُوا بِنَاسِ

كُلَّما جِئْتُ أَبْتَغِي النَّيْلَ مِنْهُمْ

بَدَرُونِي قَبْلَ السُّؤالِ بِبَاسِ

وَبَكَوْا لِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي

مِنهُمْ قَدْ أَفلْتُ رَأسَاً بِرَاسِ (2)

وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الذين يُشبهون الناس ولَيْسُوا بناس، إشارةٌ إلى أنَّ الناس هم الكمل الذين لم يتصفوا بشيء من صفات البهائم.

(1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدينوري (2/ 480).

(2)

انظر: "الزهد الكبير" للبيهقي (ص: 124)، و"حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 480)، والأبيات أنشدها أبو نعيم.

ص: 285

ومن لطائف الإمام فخر الدين الرازي في "تفسيره" قال: إنَّ الله تعالى قال في موضع: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقال في موضع آخر:{هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185]، وهذا يقتضي أنَّ الناس هم المتقون، فمَنْ ليس من المتقين فليس من الناس، انتهى (1).

وفي الأمثال: يا نفس هوني، وعلى ما كانت الناس كوني.

ووقع لأخي شيخ الإسلام العارف شهاب الدين أحمد الغزي: أنه سأل بعض العارفين من أهل عصره عن هذا المثل؛ فإنَّ ظاهره الإرشاد إلى موافقة الناس فيما هم فيه من خيرٍ أو شر، وهو مشكل.

فقال له العارف: ليس المراد بالناس في المثل مَنْ نراهم، بل المراد بالناس أبو بكر، وعمر، وأمثالهما.

يُشير إلى قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13].

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الآية: أي: صدقوا كما صدق أصحاب محمد. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (2).

وفي "تاريخ ابن عساكر" - بسندٍ ضعيف - عن ابن عباس أيضاً في

(1) انظر: "التفسير الكبير" للرازي (2/ 20).

(2)

رواه الطبري في "التفسير"(1/ 127)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(1/ 46).

ص: 286

قوله: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13]

قال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (1).

وروى الخطابي في "الغريب" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: أنه كان عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلمَّا قام من عنده قال: إذا ذهب هذا وضرباؤه لم يبقَ من الناس إلا رجاجة.

قال الخطابي: الرجاج: صغار الإبل، وحواشيها، فشبه صغار الناس، ومَنْ لا طائل عنده بها. انتهى (2).

وقد سبق أنَّ الرجاج مهازيل الغنم، والضعفاء من الناس والإبل.

قلت: وفيه إشارة إلى غلبة الجهل والوهن على الناس بعد عصر الصحابة والتابعين، وكلما تأخر العصر كان الجهل في أهله أكثر، وكلما كثر الجهل استوى الناس فيه، فلا ينكر بعضهم على بعض، ولهذا قلَّ في هذه الأزمنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا تَفَاضَلُوْا فيْ الْعِلْمِ والتنافُسِ فيْ طَلَبِ الفَضَائِلِ؛ فَإِذَا اسْتَوَوْا فيْ الجَهْلِ وَاتِّبَاعِ الهَوَىْ هَلَكُوْا، وَلا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَىْ بَعْضٍ"(3).

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 177). قال السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 77): سنده واه.

(2)

انظر: "غريب الحديث" للخطابي (3/ 143).

(3)

روى الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 370): عن محمد ابن سلام قال: لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا.

ص: 287

وفي المعنى قلت: [من مجزوء الخفيف]

عَمَّمَ الْجَهْلُ وَالْهَوى

فَالوَرى فِي الْهَوى سَوا

فَلِذا لا تَرى فَتًى

مُنْكِراً غَيَّ مَنْ غَوى

آهٍ آهٍ لِما جَرى

فَلِمَنْ نَشْتَكِي الْجَوى

فَاجْتَنِبْ كُلَّ ما تَرى

مِنْ ضَلالٍ وَمِنْ هَوى

لِتَنَالَ الرِّضى إِذا

باءَ ذُو الْجَهْلِ بِالنَّوى

ولأبي الأسود الدؤلي من قصيدته المشهورة "ذوات الأمثال": [من الكامل]

وَالنَّاسُ قَدْ صارُوا بَهائِمَ كُلُّهُمْ

وَمَعَ البَهائِمِ فاتِكٌ وَزَعِيمُ

صُمٌّ وَبُكْمٌ لَيْسَ يُرْجَى نَفْعُهُمْ

وَزَعِيمُهُمْ فِي النَّائِباتِ مَلُومُ

وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ فيْ آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتَلِسُوْنَ الدُّنْيَا بِالدِّيْنِ، يَلْبَسُوْنَ لِلنَّاسِ جُلُوْدَ الضَّأنِ مِنَ اللبنِ، ألسِنتهُمْ أَحْلَىْ مِنَ العَسَلِ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الذِّئَابِ، يَقُوْلُ اللهُ تَعَالىْ: أَفَبِيْ يَغْتَرُّوْنَ، أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُوْنَ؟ لأَبْعَثَنَّ عَلَىْ أُوْلَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيْمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ"(1).

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 17)، وكذا الترمذي (2404).

ص: 288

وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتي زَمَانٌ عَلَىْ النَّاسِ هُمْ ذِئَابٌ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذِئْبًا أَكَلَتْهُ الذِّئَابُ"(1).

وفي رواية تقدمت: "فَمَنْ لمَ يَكُنْ لَهُ ذِئْبٌ أَكَلَتْهُ الذِّئَابُ"(2).

وليس المراد إرشاد الإنسان إلى التذاؤب، بل هو من باب المشاكلة؛ أي: مَنْ لم يُخفْ الناس بجرأته وبتوعِيْدهم بعقوبته، طَمِعُوا في ظلمه واستهانوا به.

ونظيره قول ابن دريد:

مَنْ ظَلَمَ النَّاسَ تَحامَوْا ظُلْمَهُ

وَعَزَّ عَنْهُمْ جانِباهُ وَاحْتَمَى

وروى الخطابي عن ابن أبي ليلى قال: سيأتي على الناس زمانٌ يقال له: زمان الذئاب، فمَنْ لم يكن في ذلك الزمان كلباً أكلوه.

قال قتيبة بن سعيد: وهو هذا الزمان (3).

قلت: إذا كان قتيبة - وهو من شيوخ البخاري ومسلم - قد نزَّل الحديث على أهل زمانه، فكيف بأهل زماننا؟ وقد مضى بعد زمان قتيبة نحو ثمان مئة عام.

وفي هذا المعنى يقول القائل:

(1) تقدم تخريجه.

(2)

لم يتقدم، ولم أقف عليه بهذا اللفظ.

(3)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 69).

ص: 289

وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْرباً يَتَّقِي

سَعَتْ بَيْنَ أَثْوابِهِ العَقْرَبُ (1)

وليس في ذلك كله رخصة في الظلم والعدوان والأذية، ولكن من باب المشاكلة.

والمراد أن يكون للرجل قوة وشوكة يدفع بها ظلم الجبارين عنه؛ فافهم!

وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يُرَبِّي الرَّجُلُ فِيْهِ جَرْوًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا"(2).

والجرو - مثلث الجيم -: الصغير من أولاد الكلاب وسائر السباع.

وفي المثل: لا تقتني من كلب سوءٍ جَرْواً.

قال الزمخشري: يُضرب في اصطناع من لا عرق له، انتهى (3).

واقتناء المال وغيره: اتخاذه.

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى في "طبقاته": أنشدنا قاضي بلدنا أبو علي الداودي قال: أنشدنا أبو الفرج؛ يعني:

(1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 195).

(2)

ورواه الرافعي في "التدوين في أخبار قزوين"(2/ 202).

قال الموصلي فى "المغني عن الحفظ والكتاب"(ص: 537): لا يصح في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء.

(3)

انظر: "المستقصى" للزمخشري (2/ 258).

ص: 290

المعافى بن زكريا النهرواني: [من الوافر]

أَأَقْتَبسُ الضِّياءَ مِنَ الضَّبابِ

وَأَلْتَمِسُ الشَّرابَ مِنَ السَّرابِ

أُرِيدُ مِنَ الزَّمانِ النَّذْلِ بَذْلاً

وَأَرْياً مِنْ جَنَى سَلْع وَصابِ

أَأَرْضَى أَنْ أُلاقِي لاشْتِياقِي

خِيارَ النَّاسِ فِي زَمَنِ الْكِلابِ (1)

وللوزير المغربي: [من الطويل]

أَرى النَّاسَ فِي الدُّنْيا كَراعٍ تَنَكَّرَتْ

مَرَاعِيهِ حَتَّى لَيْسَ فِيهِنَّ مَرْتَعُ

فَماءٌ بِلا مَرْعًى وَمَرْعًى بِغَيْرِ ما

وَحَيْثُ تَرى ماءً وَمَرْعًى فَمَسْبَعُ (2)

وفي "روض الرياحين" لليافعي: أنَّ مالك بن دينار قال للسمنون المجنون: لِمَ لا تُجالس الناس وتُخالطهم؟ فأنشأ يقول: [من مجزوء الخفيف]

كُنْ مَعَ النَّاسِ جانِباً

وَارْضَ بِاللهِ صاحِبا

قَلِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْـ

ـتَ تَجِدْهُمْ عَقَارِبا (3)

وروى الحافظ عبد الكريم بن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد"

(1) انظر: "طبقات الفقهاء" لأبي إسحاق الشيرازي (ص: 103)، وكذا "الجليس الصالح والأنيس الناصح" للمعافى بن زكريا (ص: 3).

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 173).

(3)

وروى الخطابي في "العزلة"(ص: 18) نحو هذه القصة مع البيتين، لكن عن إبراهيم بن الأدهم.

ص: 291

عن أبي الفتح بن الحسن المذكر: أنه أنشد لبعضهم: [من مجزوء الخفيف]

كُنْ مِنَ النَّاسِ هارِباً

كَيْ يَعُدُّوكَ راهِبا

إِنَّ دَهْراً أَظَلَّني

قَدْ أرانِي عَجائِبا

قَلِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْـ

ـتَ تَجِدْهُمْ عقارِبا

ارْضَ بِاللهِ صاحباً

وَدعَ النَّاسَ جانِبا (1)

ولابن العميد في معنى أخص من ذلك: [من مجزء الكامل المرفّل]

آخِ الرِّجالَ مِنَ الأَبا

عِدِ وَالأَقارِبَ لا تُقارِبْ

إِنَّ الأَقارِبَ كَالْعَقا

رِبِ، بَلْ أَضَرُّ مِنَ العَقارِبْ (2)

وقال غيره: [من الخفيف]

لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ الْخَلاصُ مِنَ النَّا

سِ وَقَدْ أَصْبَحُوا ذِئابَ اعْتِداءِ

قُلْتُ لَمَّا بَلاهُمُ صِدْقُ قَوْلي

رَضِيَ اللهُ عَن أبِي الدَّرْداءِ

لمَّح يقول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، والناسُ اليوم شوكٌ لا ورق فيه (3).

(1) وانظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (6/ 345).

(2)

انظر: "الإعجاز والإيجاز" للثعالبي (ص: 226)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (5/ 109).

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس"(ص: 31).

ص: 292

أو بقوله: اتقوا الله واحذروا الناس؛ فإنهم ما ركبوا ظهر بعيرٍ إلا أدبروه، ولا ظهر جوادٍ إلا عَقَروه، ولا قلب [مؤمن] إلا خربوه (1).

أو بالحديث السابق الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَجَدْتُ النَّاسَ: اخْبُرْ تَقْلُهُ، وَثِق بِالنَّاسِ رُوَيْدًا"(2).

ورواه عنه العسكري في "الأمثال" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخْبُرْ تَقْلُهُ"(3).

قال العسكري: قال معاوية - يعني: ابن سعيد أحد رواته -: إذا عاملت الرجل عرفته.

قال: نظمه أبو العتاهية، فقال:[من مجزوء الخفيف]

اُبْلُ مَنْ شِئْتَ تَقْلُهُ

عَمَّا قَلِيلٍ لِفِعْلِهْ

وَتُبْدِ لَهُ هَجْرَهُ

بَعْدَ وِدِّهِ وَوَصْلِهْ

ضاعَ مَعْرُوفُ واضعِ الْـ

ـمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ أَهْلِهْ

ومثل هذا الحديث ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال

(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 234).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ذكره العسكري في "الأمثال"(1/ 105) مثلاً، ثم قال: والمثل لأبي الدرداء فيما زعم بعضهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.

ص: 293

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ كَإِبِلِ مِئَةٍ؛ لا تَجِدُ فِيْهِمْ رَاحِلَة"(1).

يعني: إنَّ المرضي منهم قليل.

وفي معنى الحديث المثل السائر: وأي الرجال المهذب.

وأول مَنْ قاله النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب:[من الطويل]

فَلا تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنَّنِي

إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القارُ أَجْرَبُ

وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخاً لا تَلُمُّهُ

عَلى شَعَثٍ، أَيّ الرِّجالِ الْمُهَذَّبُ

وروى الخطابي في "العزلة" عن سهل بن سعد السَّاعدي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ كَأَسْنَانِ المِشْطِ"(2).

وفيه كما قال الخطابي وجهان:

الأول: أنهم متساوون في الأحكام، لا يتفاوت منها شريفٌ عن وضيع لشرفه، ولا وضيعٍ عن شريفٍ لِضِعَتِه.

والثاني: أنَّ ذلك ذم؛ أي: إنهم سواء في أن الغالب عليهم النقص؛ كقولهم إذا ذموا قبيلة: هم سواسية كأسنان الحمار (3).

(1) رواه البخاري (6133)، ومسلم (2547).

(2)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 54)، وكذا ابن حبان في "المجروحين"(1/ 198) وأعله ببكار بن شعيب، وقال: لا يجوز الاحتجاج به.

(3)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 55).

ص: 294

قال الزمخشري: يُقال: هم سواسية، وسواسوة، وسوىً سية؛ أي: متساوون في الشر (1).

قال كُثيِّر: [من الطويل]

سَواءٌ كَأَسْنانِ الْحِمارِ فَلا تَرى

لِذِي شَيْبَةٍ مِنْهُمْ عَلى ناشِئٍ فَضْلا

وأنشده غير الزمخشري: سواس كأسنان الحمار

إلخ.

وهو جمع: سي؛ بمعنى: مثل؛ فإنه يُجمع على أسواء، وسواسية، وسواس، وسواسوة كما في "القاموس"(2).

قال صاحب "الصحاح": وهما في الأمر سواء، وإنْ شئت سواءان، وهم سواء للجمع، وهم أسواء، وهم سواسية - مثل ثمانية - على غير قياس (3).

قال الأخفش: وزنه: فعافلة، ذهب عنها الحرف الثالث، وأصله الياء.

ومما أنشده الخطابي في "العزلة" - وقد بين هذا المعنى الذي أشرنا إليه - قولُ أبي العباس الناشئ: [من المتقارب]

خَبَرْتُ الأَنامَ فَما إِنْ وَجَدْتُ

عَلى مِحْنَةٍ مَنْ يُساوِي نَقِيرا

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 123).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1673)(مادة: سوا).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2385)(مادة: سوا).

ص: 295

فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ أَنِّي الْتَمَسْتُ

مِنَ النَاسِ شَيْئاً بَعِيداً عَسِيرا

فَزَعْتُ إِلَى الأُنْسِ بِالإنْفِرادِ

فَكانَ التَّقَلُّلُ مِنْهُمْ كَثِيرا (1)

وأنشد المنصور بن إسماعيل الفقيه التميمي: [من مجزوء الخفيف]

إِنَّما النَّاسُ فُزعةٌ

لَيْسَ فِي النَّاسِ مَفْزعُ

ذُمَّ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمُ

فَهْوَ لِلذَّمِّ مَوْضعُ (2)

الفزعة - بضم الفاء -: مَنْ يُفْزَع منه.

والمفزع: الملجأ.

وروى الخطابي عن إبراهيم بن شماس قال: قال لي حفص بن حميد الأكاف: يا إبراهيم! صَحِبْتُ الناسَ خمسين سنة، فلم أجد منهم من سَتَرَ لي عورة، ولا وَصَلَنِي إذا قطعته، ولا أَمِنْته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمقٌ كبير (3).

قال الخطابي: أنشدني بعض أصحابنا قال: أنشدنا ابن الأنباري: [من مجزوء الرمل]

لَيْسَ لِلنَّاسِ وَفاءٌ

لا وَلا فِي النَّاسِ خَيْرُ

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 61).

(2)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 62).

(3)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 61).

ص: 296

قَدْ بَلَوْنا النَّاسَ فَالنَّا

سُ كَسِيرٌ وَعُوَيرُ (1)

قال الجوهري: ويقال في الخصلتين المكروهتين: كسير وعوير، وكل غير خير، وهو تصغير أعور مرخماً (2).

وروى الخطابي عن الزبير بن بكَّار: أنه أنشد لأبي همدة مولى المزنيين: [من الخفيف]

إِخْوَةٌ ما حَضَرْتُ سُرُّوا بِزَوْرِي

فَإِذا غِبْتُ فَالسِّباعُ الْجِياعُ

بايَنُونِي حَتَّى إِذا بايَنُونِي

حانَ مِنْهُمْ تَضاؤُلٌ وَاخْتِناعُ

فَهُمُ يَغْمِزُونَ مِنِّي قناةً

لَيْسَ يِأْلُونَ صَدْعَها ما اسْتَطاعُوا

ما كَذا تَفْعَلُ الكِرامُ وَلَكِنْ

هَكَذا تَفْعَلُ اللِّئامُ الوِضَاعُ (3)

وقال: أنشدني بعض أهل الأدب لعبد الله بن المعتز: [من الوافر]

وَأَبْعَدَنِي عَنِ الإِخْوانِ عِلْمِي

بِهِمْ، فَبَقِيتُ مَهْجُورَ النواحِ

وَكَمْ ذَمٍّ لَهُمْ فِي جَنْبِ مَدْحٍ

وَجِدٍّ تَحْتَ أثوابِ الْمزاحِ (4)

قلت: ولنا في هذا الباب؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]: [من الوافر]

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 61).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 761)(مادة: عور).

(3)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 63)، وعنده:"لأبي همهمة" بدل "لأبي همدة".

(4)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 64).

ص: 297

لَقَدْ أَصْبَحْتُ مَهْجُورَ النَّواحِي

مِنَ الإِخْوانِ مَقْصُوصَ الْجَناحِ

فَلا خِلٌّ يُوافِقُنِي على ما

يُؤَدِّينِي إِلَى حالِ الفَلاحِ

إِذا لاقَيْتُهُمْ بِالْجِدِّ قالُوا

بِجِدِّي يَرْجِعُونَ إِلَى الْمزاحِ

لِذَلِكَ قَدْ عَدَلْتُ إِلَى انْفِرادِي

بِمَطْلُوبِي، وَعُدْتُ إِلَى ارْتِياحِ

فَلا أُصْغِي إِلَى ما هُمْ عَلَيْهِ

وَلا أُصْغِي إِلَى مَلْحاةِ لاحِي

وقال الخطابي: أخبرني محمد بن إبراهيم المكتب، قال: حدثنا

سكن قال: حدثنا عيسى بن أبي موسى الأنصاري قال: سمعت

سليمان بن موسى يُنشد: [من الخفيف]

حالَ عَمَّا عَهِدْتُ رَيْبُ الزَّمانِ

وَاسْتحالَتْ مَوَدَّةُ الإِخْوانِ

وَاسْتَوى الناسُ فِي الْخَدِيعَةِ وَالْمَكْـ

ـرِ فَكُلٌّ لِسانُهُ إثْنانِ

فَلَعَمْرِي لَئِنْ بَلَوْتُ النَّاسَ

وِدًّا وَجَدْتُ ذا أَلْوانِ (1)

قال: وأنشدني ابن أبي الدنيا قال: أنشدني أعرابي من بني أسد: [من الوافر]

أَلا ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفاءُ

وَبادَ رِجالُهُ وَبَقِيْ العَناءُ

وَأَسْلَمَنِي الزَّمانُ إِلَى أُناسٍ

كَأَنَّهُمُ الذِّئابُ لَهُمْ عُواءُ

إِذا ما جِئْتُهُمْ يَتَدافَعُونِي

كَأَنِّي أَجْرَبٌ أَعْيَاهُ داءُ

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 64).

ص: 298

أَوِ دَّاءٌ إِذا اسْتَغْنَيْتُ عَنْهُمْ

وَأَعْداءٌ إِذا نَزَلَ البَلاءُ

أقولُ وَلا أُلامُ عَلى مَقالِي

عَلى الإِخْوانِ كُلِّهِمُ العَفاءُ (1)

ولا شك أنَّ الأخوة الحقيقية لا تذم، ولا يُقال على الإخوان المنصفين بها العفاء، ولكن لمَّا قلَّ الإخوان الحقيقيون الأخوة حتى صارُوا أعزَّ شيءٍ موجوداً وملحقين بالعدم، استعاروا للمعارف اسم الإخوان، ثم كانوا لا يكادون يجدون السوء إلا من المعارف؛ كما قال بعض السلف: ما وجدْتُ ضرراً قط إلا ممن عرفت.

وقال آخر: [من مجزوء الخفيف]

جَزَى اللهُ خَيْراً كُـ

ـلَّ مَنْ لَسْتُ أَعْرِفُ

فأطلقوا الذمَّ على اسم الإخوان، وعليه يحمل كل ما في ذلك.

وروى الخطابي في "العزلة" عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه قال: كنا نتحدث أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة (2).

ثم قال الخطابي: أنشدني التمار النحوي قال: أنشدنا ابن الأنباري لأبي حازم: [من المنسرح]

إِخْوانُ هَذا الزَّمانِ كُلُّهُمُ

إِخْوانُ غَدْرٍ عَلَيْهِ قَدْ جُبِلُو

أَخُوهُمُ الْمُسْتَحِقُّ وَصْلَهُمُ

مَنْ أَكَلُوا عِنْدَهُ وَمَنْ أَكَلُوا

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 64).

(2)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 62).

ص: 299

طَوَوْا ثِيابَ الْوِصالِ بَيْنَهُمُ

فَصارَ ثَوْبُ الرِّياءِ يُبْتَذَلُ

وَلَيْسَ فِيما رَأَيْتُ بَيْنَهُمُ

وَبَيْنَ مَنْ كانَ مُعْدِماً عَمَلُ

فَاحْفَظْ مِنَ النَّاسِ إنْ ظَفِرْتَ بِهِ

مَنْ لَمْ يَكُنْ إِخاؤُهُ دَخَلُ (1)

وقال: سمعتُ أبا جعفر العتبي يُنشد لعلي بن الجهم، قلت: ولقد أجاد فيما شاد: [من الوافر]

تَوَقَّ النَّاسَ يا ابْنَ أَبِي وَأُمِّي

فَهُمْ تَبَعُ الْمَخافَةِ وَالرَّجاءِ

أَلَمْ تَرَ مُظْهِرينَ عَلَيَّ عَيْباً

وَكانُوا أَمْسِ إِخْوانَ الصَّفاءِ

بُلِيْتُ بِنَكْبَةٍ فَغَدَوْا وَراحوا

عَلَيَّ أَشَدَّ أَسْبابِ القَضاءِ

أَبَتْ أَقْدارُهُمْ أَنْ يَنْصُرونِي

بِجاهٍ أَوْ بِمالٍ أَوْ بِراءِ

وَخافُوا أَنْ يُقالَ لَهُمْ: خَذَلْتُم

صَدِيقاً فَادَّعَوْا قِدَمَ الْجَفاءِ (2)

وقال: حدثنا الخلدي جعفر بن محمد بن نصير: ثنا أحمد بن مسروق الطوسي: ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قال أبو عبد الله النباحي رحمه الله تعالى: [من الرجز]

ارْفُضِ النَّاسَ وَكُلَّ مَشْغَلَةْ

قَدْ بَخِلَ النَّاسُ بِمِثْلِ الْخَرْدَلَةْ

لا تَسْأَلِ النَّاسَ وَسَلْ مَنْ أَنْتَ لَهْ (3)

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 62).

(2)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 65).

(3)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 67).

ص: 300

وبالغ المتنبي في وصف أهل زمانه، فقال:[من الطويل]

أَذُمُّ إِلَى هَذا الزَّمانِ أُهَيْلَه

فَأَعْلَمُهُمْ فَذمٌ، وَأَحْزَمُهُمْ وَغْدُ

وَأَكْرَمُهُمْ كَلْبٌ، وَأَبْصَرُهُمْ عَمٍّ

وَأَسْهَدُهُمْ فَهْدٌ، وَأَشْجَعُهُمْ قِرْدُ

وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيا عَلى الْمَرْءِ أَنْ يَرَى

عَدُوًّا لَهُ ما مِنْ صَداقَتِهِ بُدُّ (1)

وقال: [من البسيط]

أَفاضِلُ النَّاسِ أَغْراضٌ لِذا الزَّمَنِ

يَخْلُو مِنَ الْهَمِّ أَخْلاهُمْ مِنَ الفِطَنِ

وَإِنَّما نَحْنُ فِي جِيلٍ كَواسِيَةٍ

شَرٍّ عَلى الْحُرِّ مِنْ سُقْمٍ عَلى بَدَنِ

حَوْلي بِكُلِّ مَكانٍ مِنْهُمُ خَلْقٌ

تُخْطِيْ إِذا جِئْتَ فِي استفهامها بِمَنِ

لا أَفْتَرِي بَلَداً إِلَاّ عَلى غررٍ

وَلا أَمُرُّ بِخَلْقٍ غَيْرِ مُضْطَغَنِ

وَلا أعاشرُ مِنْ أَمْلاكِهِمْ أَحداً

إِلَاّ أَحَقَّ بِضَرْبِ السَّيْفِ مِنْ وَثَنِ

إِنِّي لأَعْذُرُهُمْ مِمَّا أُعَنِّفُهُمْ

حَتَّى أُعَنِّفَ نَفْسِي فِيْهِمْ وأَنِّيْ

فَقْرُ الْجَهُولِ بِلا قَلْب إِلَى أَدَبٍ

فَقْرُ الْحِمارِ بِلا رَأْسٍ إِلَى رَسَنِ

وَمُدْقِعينَ بِسبروتٍ صَحِبْتُهُمُ

عارِينَ مِنْ حُلَلٍ، كاسِينَ مِنْ دَرَنِ

خرابُ بادِيَةٍ غَرْثَى بُطُونُهُمُ

[مكن الضَّبابِ لهم زادٌ بلا ثَمنِ

يستخبرونَ فلا أُعْطِيهمُ خَبري]

وَما يَطَيْشُ لَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الظَّننِ

(1) انظر: "يتيمة الدهر" للثعالبي (1/ 243).

ص: 301

وَخلةٍ مِنْ جَلِيسٍ أَتَّقِيهِ بِها

كَيْلا يُرى أَنَّنا مِثْلانِ فِي الوَهَنِ (1)

وأحسن ما قيل: [من البسيط]

غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذا النَّاسِ يَنْخَدِعُ

إِنْ قاتَلُوا جَبُنوا أَوْ حَدَّثوا شَجُعُوا

أَهْلُ الْحَفِيظَةِ إِلَاّ أَنْ تُجَرِّبَهُمْ

وَفِي التَّجارِبِ بَعْدَ العَيِّ ما يَزَغُ (2)

وأجاد مهيار في قوله: [من مخلَّع البسيط]

وَلائمٍ فِي عُزوفِ نَفْسِي

قُلْتُ لَهُ أَنتَ وَالْخُطُوبُ

عَساك خُبْراً بِالنَّاسِ مِثْلِي

إِنْ رَدَّ من عِلْمِكَ الغَرِيبُ

فَفِي قِلى مَنْ تُراكَ تَلحى

مِنْهُمْ وَفِي تَرْكِ مَنْ تَعِيبُ

اللهُ لِي إِنْ طَرَحْتُ عِرْضِي

آكِلَةُ آمالهِمْ حَسِيبُ

قَدْ كُنْتُ أَبْكِي وَهُمْ فروقٌ

شَتَّى، وَأَشْكُو وَهُمْ ضروبُ

فَما أَرى مِنْهُمُ بَرِيئاً

يَخْشى افْتِضاحاً بِهِ الْمريبُ

وما أحسن قوله: [من الوافر]

أُقضِّي ما أُغالِطُ مِنْ زَمانٍ

بِلَوْعاتٍ تَكادُ عَلَيَّ تَقْضِي

(1) انظر: "شرح ديوان المتنبي" للواحدي (ص: 128 - 129)، وفيه بعض الاختلاف عما أورده المصنف هنا.

(2)

البيتان للمتنبي، انظر:"شرح ديوان المتنبي" للواحدي (ص: 226).

ص: 302

وَمَسْبُوقِينَ فِي طُرُقِ الْمَعالِي

وَإِنْ زُجِروا بِحَثٍّ أَوْ بِحَضِّ

أُصاحِبُهُمْ فيُمْسِي الوِدُّ عَنْهُمْ

عَلى زَلَقٍ مِنَ الشَّحْناءِ دَحْضِ

وَأُبْرِمُ فِيهِمْ مِدَحاً مِتاناً

فتَلْقاها مَعانِيهِمْ بِنَقْضِ

وله أيضاً: [من الرجز]

مَنْ لَكَ بِالنَّاسِ وَلا ناسَ لَهُمْ

إِلَاّ كَلامَ الْخَدِعِ الْمُكاثِرِ

نَفْسَكَ صُنْ لَيْسَ أَخُوكَ غَيْرَها

فَقالِلِ النَّاسَ بِها أَوْ كاثِرِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ عِزَّها قنوعُها

بِرِزْقِها الْمَيْسورِ فِي الْمعاشرِ

وَإِنْ وَصَلْتَ فَأَخاً مُصَافِياً

صَحَّ عَلى التَّجْرِيبِ وَالْمخابرِ

أخٌ ترى لِوَجْهِهِ قَبْلَ الْجدى

أَسِرَّةً تَلْقاكَ بِالْبَشائِرِ

قلت: وقد ذيَّلت عليه بقولي: [من الرجز]

مَنْ لِي بِهَذا الأَخِ لَوْ أَبْصَرْتُهُ

أَصْفَيْتُهُ بِباطِنِي وَظاهِرِي

وَكُنْتُ مِنْهُ بِمَكانِ العَيْنِ مِنْ

إِنْسانِها وَالْقَلْبِ مِنْ بَصائِرِي

أَرْعاهُ مِثْلَما رَعَى الظَّبْيُ الرَّشا

وَالوِدُّ أدْنَى رَحِمٍ وَناصرِ

لَكِنَّهُ أَعَزُّ مِنْ عَنْقاءَ مُغْـ

ـربٍ وَأَخْفَى مِنْ خَفِيِّ الْخاطِرِ

وروى البيهقي في "الزهد" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: إذا رأيتَ الأسد فلا يهولنك، وإذا رأيتَ إنساناً فخذ

ص: 303

ثوبك وفِرَّ (1).

وروى أبو نعيم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى: فرَّ من الناس كفرارك من الأسد (2).

وقال الخطابي: حدثنا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: ما أشبه هذا الزمان إلا بما قال تَأَبَّطَ شرًّا: [من الطويل]

عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأنَسْتُ لِلذِّئْبِ إِذْ عَوى

وَصَوَّتَ إِنْسانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ (3)

قال: وأنشدني الآبري لمنصور بن إسماعيل: [من المجتث]

النَاسُ بَحْرٌ عَمِيقٌ

وَالبُعْدُ عَنْهُمْ سَفِينَةْ

وَقَدْ نَصَحْتُكَ فانْظُرْ

لِنَفْسِكَ الْمِسْكِينَة

قال: وأَنْشَدُونا له:

(1) رواه البيهقي في "الزهد الكبير"(ص: 100).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 165).

(3)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 56).

ص: 304

كُلُّ مَنْ أَصْبَحَ فِي دَهـ

ـرِكَ مِمَّنْ [قد] تَراهْ

فَهْوَ مِنْ خَلْفِكَ مِقْـ

ـراضٌ وَفِي الْوَجْهِ مِرَاةْ (1)

قال الخطابي: والمثل من قديم الدهر: ما لقي الناس من الناس. انتهى (2).

وقلت مضمناً: [من الرجز]

إنَّ بَلاءَ النَّاسِ بِالنَّاسِ

ما لَقِيَ النَّاسُ مِنَ النَّاسِ

أو يُقال:

ما لَقِيَ النَّاسُ مِنَ النَّاسِ

إِنَّ بَلاءَ النَّاسِ بِالنَّاسِ

فَاحْذَرْ مِنَ النَّاسِ وَلا تَغْدُ لِلـ

أَمْرِ الَّذِي أوْصيتَ بِالنَّاسِ

وروى الخطابي، وأبو نعيم عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: [من البسيط]

لَيْتَ الْكِلابَ لَنا كانَتْ مُجاوِرَةً

وَلَيْتَنا لا نَرى مِمَّنْ نَرى أَحَداً

إِنَّ الْكِلابَ لَتُهْدا فِي مَرابِضِها

وَالنَّاسُ لَيْسَ بهادٍ شَرُّهُمْ أَبداً

فَانجُ بِنَفْسِكَ وَاسْتَأْنِسْ بِوَحْدَتِها

أَنْتَ السَّعِيدُ إِذا ما كُنْتَ مُنْفَرِداً (3)

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 57).

(2)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 59).

(3)

انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 56).

ص: 305

وأنشد الخطابي في المعنى لبعض أهل عصره: [من البسيط]

شَرُّ السِّباعِ الضَّوارِي دُونَهُ وَزَرُ

وَالنَّاسُ شَرُّهُمْ ما دُونَهُ وزَرُ

كَمْ مَعْشَرٍ سَلِموا لَمْ يُؤْذِهِمْ سَبُعٌ

وَما تَرى بَشَراً لَمْ يُؤْذِهِ بَشَرُ (1)

وقال آخر؛ أنشده الدميري والسيوطي: [من الكامل]

وَالنَّاسُ أَهْدى فِي القَبِيحِ مِنَ القَطا

وَأَضَلُّ فِي الْحُسْنَى مِنَ الغِرْبانِ (2)

وروى الخطابي عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: اعلموا أنَّ الناس شجرة بغي، وفراش نار، وذبان طمع؛ إنَّ الدنيا لمَّا فتحت على أهلها كَلَبوا - والله - أسوأَ الكَلَب حتى غار بعضهم على بعض بالسيوف، واستقل بعضهم حرمة بعض، تجانفوا على قبيحةٍ كسبوها من كل حرام، وأنفقوها في كل شر، وطبقوا الأرض ظلماً (3).

قال الخطابي: وقرأت لمنصور بن عمار رحمه الله تعالى في صفة الزمان فقال: تغير الزمان حتى كَلَّ عن وصفه اللسان، فأمسى خَرِفاً بعد حداثته، شرساً بعد لِيْنه، يابس الضرع بعد غزارته، يابس الفرع بعد نضارته، قاحل العود بعد رطوبته، بشع المذاق بعد عذوبته، فلا نكاد نرى لبيباً إِلَاّ ذا كمد، ولا ظريفاً واثقاً بأحد، وما أصبح له حليفاً

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 56).

(2)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 345). والبيت للأديب الغزي كما في "خريدة القصر وجريدة العصر" للعماد الأصبهاني (8/ 7).

(3)

رواه الخطابي في "العزلة"(ص: 72).

ص: 306

إلا جاهل، ولا أمسى به قرير عين إلَّا غافل، فما بقي من الخير إلا الاسم، ولا من الدين إلا الرسم، ولا من التواضع إلا المخادعة، ولا من الزهادة إلا الانتحال، ولا من المروءة إلا عذوبة اللسان، ولا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا حمية النفس، والغضب لها، وتضلع الكبر منها، ولا من الاستفادة إلا التعزز والتبجل، ولا من الإيمان إلا التراؤس، والتجلل بالغرور المائق المذموم عند الخلائق، النادم من العواقب، المحظوظ عن المراتب، من اغترَّ ولم يحسم رجاءَه باليأس، ولم يطلق قلبه بشدة الاحتراس.

فالحذرَ الحذرَ من الناس؛ فقد أفلَ الناس وبقي النسناس، ذئاب عليهم ثياب، إنْ استرفدتهم حرموك، وإن استنصرتهم خذلوك، وإن استنصحتهم غشوك، وإن كنت شريفاً حسدوك، وإن كنت وضيعاً حقروك، وإن كنت عالماً ضللوك وبدَّعوك، وإن كنت جاهلاً عيروك ولم يرشدوك، وإن نطقت قالوا: مِهْذار مِكثار وصَفيق، وإن سكتَّ قالوا: عَمى بطيء وبَلِيْد، وإن تعمقت قالوا: متكلف متعمق، وإن تغافلت قالوا: جاهل أحمق؛ فمعاشرتهم داءٌ وشقاء، ومزايلتهم دواءٌ وشفاء، ولا يؤمن أن يكون في الداء مرارة وكراهة، فاختاروا الدواء بمرارته وكراهته على الداء لغائلته وافته؛ والله المستعان (1)!

وقال الخطابي: أنشدني أبو رجاء الغنوي قال: أنشدني العتبي

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 71).

ص: 307

من قصيدة له: [من الرجز]

إِنِّي تَبَدَّلْتُ بِإِخْوانِ الصَّفا

قَوْماً يَرَوْنَ النُّبْلَ تَطْوِيلَ اللِّحى

لا عِلْمَ دُنيا عِنْدَهُمْ وَلا تُقَى

غُذُّوا صِغاراً ثُمَّ خَلُّوهُمْ سُدَى

يَغْمُرُهُ الْجَهْلُ وَآدابُ النِّسا

فَلَوْ تَرى شَيْخَهُمُ إِذا احْتَبَى

ثُمَّ ابْتَدَا فِي وَصْفِ شَيْءٍ وَبَدا

مِنْ رخْصِ أَسْعارٍ وَمِنْ فَرْطِ غَلا

وَرَفَعُوا أَصْواتَهُمْ بُكًى وَلا

حَسِبْتَهُمْ ضَأناً تَناغَوْا بِثغا

أَوْ سِرْبَ بَطٍّ جَاوَبَتْ سِرْبَ قَطا

فَذَلِكَ الدَّأْبُ إِلَى وَقْتِ العِشا

وَالقَلْبُ يَزْدادُ صَدًى إِلَى صَدى

لِقُرْبِهِمْ وَالعِلْمُ يَزْدادُ فَنا

وَكُلُّهُمْ فِي العِلْمِ يَمْشِي القَهْقَرى

يُرِيدُ قُدَّاماً فَيَجْرِي مِنْ وَرا (1)

وروى ابن عدي في "الكامل" عن سفيان بن عيينة قال: سمعت علي بن زيد بن جُدْعان سنة سبع وستين يقول: مثل النساء إذا اجتمعن بمنزلة البط؛ إذا صاحت واحدة صِحْن جميعاً (2).

وقال الدينوري في "المجالسة": أنشدنا ابن أبي الدنيا قال: أنشدني شيخ من الأزد: [من البسيط]

قَدْ ضَيَّعَ اللهُ ما جَمَّعْتُ مِنْ أَدَبٍ

بَيْنَ الْحَمِيْرِ وَبَيْنَ الشَّاءِ وَالْبَقَرِ

(1) انظر: "العزلة" للخطابي (ص: 73).

(2)

رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(5/ 198).

ص: 308

أقولُ إِنْ سَكَتُوا أُنْسٌ، وَإِنْ نَطَقُوا

قُلْتُ: الضَّفادِعُ بَيْنَ الْماءِ وَالشَّجَرِ

لا يَسْمَعُونَ إِلَى شَيْءٍ أَجِيْءُ بِهِ

وَكَيْفَ تَسْتَمعُ الأَنْعامُ لِلْبَشَرِ (1)

وروى أبو نعيم عن أبي علي النيسابوري الفقيه: أن الشافعي رضي الله تعالى عنه لمَّا دخل مصر أتاه جُلُّ أصحاب مالك في مسائل، فتنكروا له وجَفَوه، فأنشأ يقول:[من الطويل]

أَأَنثرُ دُرًّا بَيْنَ سارِحَةِ النَّعَمْ

وَأَنْظُمُ مَنْثُوراً لِراعِيَةِ الغَنَمْ

لَعَمْرِي لَئِنْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ

فَلَسْتُ مُضِيْعاً بَيْنَهُمْ غُرَرَ الْحِكَمْ

فَإِنَّ فَرَّجَ اللهُ اللَّطِيفُ بِلُطْفِهِ

وَصادَفْتُ أَهْلاً لِلْعُلُومِ وَلِلْحِكَمْ

بَثَثْتُ مُفِيداً وَاسْتَفَدْتُ وِدادَهُمْ

وَإِلَاّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَمْ

وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْماً أَضاعَهُ

وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِيْنَ فَقَدْ ظَلَمْ (2)

وأنشد الإمام فخر الدين الرازي للإمام الشافعي رضي الله عنه أيضاً: [من الوافر]

نَعِيبُ زَماننَا وَالْعَيْبُ فِينا

وَما لِزَمانِنا عَيْبٌ سِوانا

وَقَدْ نَهْجُو الزَّمانَ بِغَيْر جُرْمٍ

وَلَوْ نَطَقَ الزَّمانُ بِهِ هَجانا

دِيانَتُنا التَّصَنُّعُ وَالتَّرائِي

فَنَحْنُ بِهِ نُخادِعُ مَنْ يَرانا

(1) انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 587).

(2)

انظر: "حلية الأولياء"(9/ 153).

ص: 309

وَلَيْسَ الذِّئْبُ يَأْكُلُ لَحْمَ ذِئبٍ

وَيَأْكُلُ بَعْضنا بَعْضاً عِياناً

لَبِسْنا لِلتَّخادُعِ مَسْكَ ضَأنٍ

فَوَيْلٌ لِلمُغِيْرِ إِذا أَتانا (1)

وروى ابن عساكر عن الخطيب البغدادي قال: أنشدنا أبو عبد الله الصُّوري لنفسه: [من المجتث]

نِعْمَ الأَنِيسُ الْكِتابُ

إِنْ خانَكَ الأَصْحابُ

يَحْوِي ضُروبَ عُلُومٍ

تَزِيْنُها الآدابُ

تَنالُ مِنْهُ فُنوناً

تَحْظَى بِها وَتُثابُ

لا مُظْهرٌ لَكَ سِرًّا

وَلا عَلَيْهِ حِجابُ

وَلا يَصُدُّكَ عَنْه

إِنْ جِئْتَهُ بَوَّابُ

وَلا يَسُوؤُكَ مِنْه

تَقَطُّبٌ أَوْ عِتابُ

وَلا يَعِيبُكَ إِنْ كا

نَ فِيكَ شَيْءٌ يُعابُ

خِلافَ قَوْمٍ تَراهُمْ

لَيْسَتْ لَهُمْ أَلْبابُ

لَكِنَّهُمْ كَذِئابٍ

طُلْسٍ عَلَيْهِمْ ثِيابُ

إِذا تَقَرَّبْتَ مِنْهُمْ

أَرْضاكَ مِنْهُمْ خِطابُ

وَإِنْ تَباعَدْتَ مِنْهُمْ

فَكُلُّهُمْ مُغْتابُ

(1) وانظر: "الزهد الكبير" للبيهقي (1/ 124).

ص: 310

ما هَؤُلاءِ بِناسٍ

بَلْ هُمْ لَعَمْرِي كِلابُ

فَالْبُعْدُ عَنْهُمْ ثَوابٌ

وَالقُرْبُ مِنْهُمْ عِقابُ (1)

ومن لطائف شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى: [من الخفيف]

مَنْ عَذِيرِي مِنْ مَعْشَرٍ هَجَرُوا العقـ

ـل وَحادُوا عَنْ طُرُقهِ الْمُسْتَقِيمَةْ

لا يَرَوْنَ الإِنْسانَ قَدْ نالَ حَظًّا

مِنْ صَلاحٍ حَتَّى يَكُونَ بَهِيمَةْ (2)

وأنشد القاضي أبو الحسن الماوردي في "أدبه" لأبي بكر بن دريد: [من مجزوء الكامل المرفّل]

النَّاسُ مِثْلُ زَمانِهِمْ

قُدَّ الْحذاءُ عَلى مِثالِهْ

وَرِجالُ دَهْرِكَ مِثْلُ دَهْـ

ـرِكَ فِي تَقَلُّبِهِ وَحالِه

وَكَذا إِذا فَسَدَ الزَّمانُ

جَرى الفَسادُ عَلى رِجالِهْ (3)

وروى الخطابي في "غريب الحديث" بإسناده، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: ما أنكرتم فيما غبرتم من أعمالكم؛ إنْ يك خيرًا فواهاً واهاً، وإنْ يك شرًّا فآهاً آهاً (4).

(1) انظر: "تقييد العلم" للخطيب البغدادي (ص: 132).

(2)

انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (9/ 230).

(3)

انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 159).

(4)

رواه الخطابي في "غريب الحديث"(2/ 338).

ص: 311

وروى أبو عمرو الداني في "الفتن" عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه كان يقول: ما أنكرتم من زمانكم فبسوء أعمالكم (1).

وروى هو وأبو نعيم عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: ما بكيت من زمانٍ إلا بكيت عليه (2).

وروى أبو عمرو عن ميسرة بن حليس قال: ما لنا لا يأتينا زمان إلا بكينا منه، ولا تولَّى عنا إلا بكينا عليه (3).

وقال أبو العتاهية: [من مخلع البسيط]

يا رَبِّ لَمْ نَبْكِ مِنْ زَمانٍ

إِلَاّ بَكَيْنا عَلى الزَّمانِ (4)

وذكر الإمام أبو سعيد عبد الملك بن محمد الخركوشي في كتاب "الشرف" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيَأتِيَنَّ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ يَكُوْنُوْنَ عَلَىْ شِبْهِ أَسَدٍ، وَذِئْبٍ، وَكَلْبٍ، وَثَعْلَبٍ، وَخِنْزِيْرٍ، وَشَاةٍ.

فَأَمَّا الأسدُ: فَمُلُوْكُ الدُّنْيَا يُغَيِّرُوْنَ سُنَنَهَا، وَيَدَعُوْنَ حُدُوْدَهَا، ويحَرِّمُوْنَ حَلالهَا، وَيُحِلُّوْنَ حَرَامَهَا، لا يَطْمَعُ أَحَدٌ فيْ فَرِيْسَتِهِ.

(1) رواه أبو عمرو الداني في "الفتن"(3/ 519).

(2)

رواه أبو عمرو الداني في "الفتن"(3/ 520)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 323).

(3)

رواه أبو عمرو الداني في "الفتن"(3/ 519).

(4)

انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 541).

ص: 312

وَأَمَّا الذِّئْبُ: فَالتَّاجِرُ الفَاجِرُ، يَذُمُّ إِذَا اشْتَرَىْ، وَيَمْدَحُ إِذَا بَاعَ.

وَأَمَّا الكَلْبُ: فَالرَّجُلُ الْكَذَّابُ.

وَأَمَّا الثَّعْلَبُ: فَالرَّجُلُ القَارِئُ الَّذِيْ يَأْكُلُ بِدِيْنِهِ.

وَأَمَّا الخِنْزِيْرُ: فَالرَّجُلُ المُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ لا يَظْلِفُ نَفْسَهُ عَنْ شَيْءٍ.

وَأَمَّا الشَّاةُ: فَالرَّجُلُ المُؤْمِنُ يُجَزُّ صُوْفُهُا، ويؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَيُحْلَبُ لَبَنُهَا؛ فَكَيْفَ بِشَاةٍ بَيْنَ أَسَدٍ، وَذِئْبٍ، وَكَلْبٍ، وَثَعْلَبٍ، وَخِنْزِيْرٍ".

وروى أبو عمرو الداني عن [إبرهيم بن] أبي عبلة قال: تقوم الساعة على أقوام أحلامهم أحلام العصافير (1).

وفي كلام بعض السلف: لا يكون العبد من المتقين حتى يرى الناس كالأباعر في ذات الله تعالى (2).

أي: لا يتصورهم في فعل الطاعة لأجلهم، ولا في تركها لأجلهم.

فأما ازدراء الناس فلا إلا أن يكون ازدراؤه لأهل المعصية منهم بزجرهم وتأديبهم، وازدراءُ أهل العلم والدين قبيحٌ مذموم.

(1) رواه أبو عمرو الداني في "الفتن"(3/ 69).

(2)

ذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين"(4/ 392) مرفوعًا.

قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1182): لم أجد له أصلًا في حديث مرفوع.

ص: 313

ومن لطائف ابن دقيق العيد: [من البسيط]

أَهْلُ الْمَناصِبِ فِي الدُّنْيا وَرِفْعَتِها

أَهْلُ الفَضائِلِ مَرْذُولُونَ

بَيْنَهُمُ قَدْ أَنْزَلُونا لأَنَّا غَيْرُ جِنْسِهِمُ

مَنازِلَ الوَحْشِ فِي الإِهْمالِ عِنْدَهُمُ

فَما لَهُمْ فِي تَوَقِّي ضُرِّنا نَظَرٌ

وَلا لَهُمْ فِي تَرَقِّي قَدْرِنا هِمَمُ

فَلَيْتَنا لَوْ قَدَرْنا أَنْ نُعرِّفَهُمْ

مِقْدارَهُمْ عِنْدَنا أَوْ لَوْ دَرَوْهُ هُمُ

لَهُمْ مُرِيْحانِ مِنْ جَهْلِ وَفَرْطِ غِنًى

وَعِنْدَنا الْمُتْعبانِ العِلْمُ وَالعَدَمُ (1)

وقد ناقضه الفتح الثقفي المنسوب إلى الزندقة؛ قال ابن السبكي: وأجاد: [من البسيط]

إِنَّ الْمَراتِبَ وَالدُّنْيا وَرِفْعَتَها

عِنْدَ الَّذِي حازَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُمُ

لا شَكَّ أَنَّ لَنا قَدْرًا رَأَوْهُ وَما

لِقَدْرِهِمْ عِنْدَنا قَدْرٌ وَلا لَهُمُ

هُمُ الوحُوشُ وَنَحْنُ الإِنْسُ حِكْمَتُنا

تَقُودُهُمْ حَيْثُما شِئْنا وَهُمْ نعمُ

وَلَيْسَ شَيْءٌ سِوَى الإِهْمالِ يَقْطَعُنا

عَنْهُمْ لأَنَّهُمُ وِجْدانهمْ عَدَمُ

لَنا الْمُرِيْحانِ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ عَدَمٍ

وَفِيهِمُ الْمُتْعِبانِ الْجَهْلُ وَالْحَشَمُ (2)

وقلت: [من البسيط]

(1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (9/ 215).

(2)

انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (9/ 215).

ص: 314

إِنَّ الْمُلُوكَ وَأَرْبابَ المَناصِبِ قَد

عَمُوا وَصَمُّوا بِما هُمْ فِيه وَابْتَكَمُوا

بَدَتْ لَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيا وَأَمْكَنَهُمْ

مِنْها هواهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهمْ كَرُمُوا

وَلَمْ يَرَوْا طَلَبَ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَلا

لِطاعَةِ اللهِ كانَتْ عِنَدَهُمْ هِمَمُ

قَدْ غَرَّهُمْ زُخْرُفُ الدُّنْيا وَزِيْنتُها

فَهُمْ هُمُ النَّاسُ دُونَ النَّاسِ عِنْدَهُمُ

وَمَنْ تَجَرَّدَ عَنْ دُنْياهُمُ وَغَدا

بِالعِلْمِ مُتَّصِفًا لَمْ يَحْسَبُوهُ هُمُ

لِذا افْتَرَقْنا، فَلا هُمْ يَحْفِلونَ بِما

بِهِ احْتَفَلْنا، وَقَدْ خَلَّوْهُ كُلُّهُم

وَما لَنا رَغْبَةٌ فِيما بِهِ احْتَفَلُوا

لأَنَّهُ عِنْدَنا وِجْدانُهُ عَدَمُ

عَلَوا وَخالُوا بِما خالوه مَكْرُمَةً

وَلَمْ نَخِلْ، وَاتَّضَعْنا نَحْنُ دُونَهُمُ

لَنا الْمُرِيْحانِ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ ضَعَةٍ

وَالْمُتْعِبانِ لَهُمُ الْجَهْلُ وَالشَّمَمُ

ص: 315

* تَنْبِيهٌ نَجْعَلُهُ خاتِمَةً لِهذا الفَصْلِ:

يجري على ألسنة الناس قولهم للخادم والمخاصم: يا كلب! أو: يا حمار! أو: يا خنزير! أو: ما فَعَل هذا الكلب، أو: لأخرجن من حق هذا الخنزير، أو نحو ذلك.

هذا إن كان يريد به مطلق الذم والشتم تشفيًا وتسلِّيًا فهو مكروهٌ قبيحٌ بوجهين:

أحدهما: أنه كاذب.

والثاني: أنه إيذاء.

وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم -يعني: النخعي- قال: كانوا يقولون: إذا قال الرجل للرجل: يا كلب! يا حمار! يا خنزير! قال الله تعالى له يوم القيامة: أتراني خلقته كلبًا، أو حمارًا، أو خنزيرًا (1)؟

وعن المسيب قال: لا تقل لصاحبك: يا حمار! يا كلب! يا خنزير! فيقول لك يوم القيامة: أتراني خُلِقْتُ كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا (2)؟

وخُلِقْتُ -بضم الخاء المعجمة، وكسر اللام-: مبني لنائب الفاعل.

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن هانئ البربر قال: دخل على

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26102).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26100).

ص: 316

عثمان رضي الله تعالى عنه دِهْقان من أهل فارس، فإذا هو يأكل مع أمرأته وغلام له حبشي، فقال في كلامه: يأكل هذا الكلب معكما، فكأن الحبشي فهمها، فكف، فقال: كُلْ.

ثم قال عثمان رضي الله تعالى عنه: هو لله وإنا لله، وما أدري أيُّنا أفضل عند الله.

قال: فلما قتل عثمان رضي الله تعالى عنه وثب الحبشي إلى قاتله فضربه أيضًا، فقتل، فاختلفت دماؤهما.

وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: استسقى موسى عليه السلام لقومه فقال: اشربوا يا حمير.

فقال الله تعالى له: لا تُسَمِّ عبادي حميرًا (1).

وإنما سمَّاهم موسى عليه السلام حميرًا لِمَا رأى من جزعهم وغفلتهم عن قدرة الله تعالى لأنهم كانوا قد امتنعوا عن مقاتلة الجبارين جُبْنًا عن جهادهم، ولم يثقوا بقدرة الله تعالى وعونه بحيث إن من قدرته وعونه أن ينصر أولياءه وإن كانوا قليلين مستضعفين على أعدائه وإن كانوا كثيرين؛ كما وثق الله تعالى جند طالوت حيث قالوا:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249].

بل قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26101).

ص: 317

عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 22، 24].

ثم لمَّا دخلوا التِّيه ونَفِدَت أزوادهم، وفرغت مياههم، جزعوا، وخافوا أن يموتوا عطشًا وجوعًا، فلما استسقى لهم موسى عليه السلام، فاستجاب الله له، وأمره أن يضرب الحجر بعصاه، وكان فِهْرًا بقدر الكف، فانفجرت منه اثنتا عشرة عَيْنًا بالماء العذب المَعين، وكان موسى عليه السلام يطالع القدرة التي بها الماء الكثير من الحجر الصغير، وكانوا هم مشتغلين عن ذلك بالتشوف إلى الماء والعطش إليه، فكانوا والحمير على حدٍّ سواء، فعند ذلك قال لهم موسى عليه السلام: اشربوا يا حمير؛ أي: يا أشباه الحمير، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه للمبالغة، أو سمَّاهم حميرًا ادعاءً للمبالغة، ومثل هذا شائع في الكلام.

وقد تقدم أنَّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لرجلٍ كلَّم صاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب، فقال له: أما أنت فحمار، وأما صاحبك فلا جمعة له (1).

وإنما نهى الله تعالى موسى عليه السلام، وقال له: لا تُسَمِّ عبادي حميرًا؛ لأنه كان مُشرِّعًا يُقتدى بأفعاله وأقواله، فربما اقتدى به بعض الجهال في تسمية الإنسان حمارًا، وخاطب بذلك من لا يصلح أن

(1) تقدم تخريجه.

ص: 318

يُخاطب بمثل هذا الخطاب.

والأولى في حق القدوة أن يبعد في أقواله وأفعاله عمَّا يحتمل التأويل، فكان الأليق بمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم: يا أمثال الحمير، أو: يا إخوان الحمير؛ كما قال الله تعالى في حق أحبار بني إسرائيل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] حين أمرهم أن يأخذوا بما فيها فلم يعلموا بها، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم لليهود حين أنزل الله تعالى عليه فيهم:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يَا إِخْوَانَ القِرَدَةِ".

وفيه تورية لطيفة؛ فإنه يصلح أن يُراد به: يا إخوان القردة الممسوخين قردة، وأن يُراد به: يا أمثال القردة كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]؛ أي: أمثالهم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ؟

المُحَلِّلُ" (1)؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب به مخصوصًا معينًا، ولم يصرح فيه بالتمثيل، بل سمَّى المحلل تيسًا مستعارًا على سبيل المبالغة للتنفير من التحليل.

وهذا جائزٌ سائغ -وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التشريع - لأنَّ هذا اللفظ لا يتوهم منه إباحة تسمية كل إنسان تيسًا، بل لا يحتمل إلا

(1) تقدم تخريجه.

ص: 319

تسمية كل محلل تيسًا مستعارًا وقد عرفت الوجه في ذلك، بخلاف قول موسى صلى الله عليه وسلم لكافة بني إسرائيل: اشربوا يا حمير.

وأيضا، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى سبب إلحاق المحلل بالتيس المستعار، وهو التحليل، بخلاف موسى عليه السلام؛ فإنه لم يُعين سبب تسمية بني إسرائيل حميرًا، ولو بين لهم سبب ذلك لاستفادوا منه التنبه إلى استقباح ما يلحق الإنسان بالحمار، ونفروا عنه كما يتنبه الرجل من هذه الأمة إلى استقباح ما يلحقه بالتيس من التحليل بقوله صلى الله عليه وسلم:"أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ المُسْتَعَارِ"، فينفر عن ذلك.

ومن هنا يظهر لك أن من سمى إنسانًا كلبًا لاشتماله على الضراوة، والكلب، والجشع لينفر هو عن هذه الأخلاق، أو لينفر عنها غيره، فلا يكون ذلك مكروهًا، بل هو مستحسن كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما للمتكلم والإمام يخطب: أما أنت فحمار (1)؛ زجرًا له عن التكلم في مثل هذا الوقت، وقد تقدم لهذا نظائر كثيرة.

وأما ما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد عن صالح بن خالد أنَّه قال: إذا أردت أن تعمل شيئا من الخير فأنزل الناس بمنزلة البقر إلا أنَّك لا تحقرهم (2)؛ فإنَّما أراد به ألا تتصور للناس وجودًا في طاعة الله تعالى، فتؤثر رؤيتهم لك في ذلك بفعل أو ترك، أو زيادة أو نقص، أو اجتهاد

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 229).

ص: 320

أو تقصير، كما لا تؤثر في الطَّاعة رؤيتك للبقر وسائر البهائم شيئًا من ذلك، فأما أنْ ترى لنفسك عليهم فضلًا ومزية فلا، كما أشار إليه بقوله: إلا أنك لا تحقرهم.

وعلى هذا المنوال ما سبق عن أبي الدَّرداء وغيره: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس كالأباعر في ذات الله تعالى (1).

وأمَّا أنك تراهم كالأباعر والأباقر والأحمرة ازدراءً لهم واحتقارًا، وتزكية لنفسك عليهم فهذا حرام.

ومن لطائف الأعمش رحمه الله تعالى -ولا يلحق بذلك- ما رواه أبو نعيم عن مندل قال: قلت للأعمش: هل تأذيت بالْمُسَوِّدة قط؟

قال: نعم، كنت في السواد فلقيني رجل منهم عند نهر، فقال: احملني حتى أعبر هذا النهر، قال: فحملته، فلما استوى على ظهري قال: سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنا له مقرنين.

قال: فلما توسطتُ النهر رميتُ به وقلت: اللهم أنزلنا منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين، ثم تركته يتلبط في ثيابه في النهر، وهربت (2).

فانظر في جفاء هذا السوادي كيف امتهن الأعمش -وإن لم يعرفه- بالتسخير في هذا الأمر المُشِق، ثم لم يكتفِ من جفائه حتى جعله

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 53).

ص: 321

بمنزلة الدابة التي يُقال عند ركوبها ذلك.

لا جرم استجاز الأعمش أن يلقيه في النهر، ومثل ذلك انتصار واقتصاص من غير أن يؤدي هذا الفعل إلى الهلاك.

* تَتِمَّةٌ:

اعلم أنه لا يستطيع فعل كل شيء حسن، وترك كل شيء قبيح أو مكروه مما ذكرناه في القسم الأول من الكتاب، وفي القسم الثاني إلا نبي، أو صديق، بل لا يتم ذلك للصديقين إلا من عزَّ منهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه.

ولقد قال الهاتف: [من مجزوء الرجز]

مُحَمَّدُ الْهادِي الَّذِي

عَلَيْهِ جِبْرِيلٌ هَبَطْ

في جواب القائل:

مَنِ الَّذِي ما ساءَ قَطٌّ

وَمَنْ لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ (1)

فإذا كان كذلك فلم يبق للعبد المتعلق بجناب القُرب من الله تعالى، القاصد إليه عز وجل إلا أن يستعين بالله تعالى للترقي إلى هذا المقام بقدر الإمكان، ويتقي الله تعالى بحسب الإمكان، كما علَّمه الله تعالى فيما يقرؤه في كل صلاة أن يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]

، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسْتَقِيْمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا"(2).

(1) القائل هو ابن الفارض، كما في "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 455).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 322

وليحذر من الغفلة عن نفسه حتَّى يترك الخيرات، ويرتكب الزلات خشية أن يُؤخذ على أسوء الأحوال؛ والعياذ بالله سبحانه وتعالى!

وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَاّ شَقِيٌّ".

قيل: ومن الشقي؟

قال: "الَّذِيْ لا يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالى، وَلا يَتْرُكُ للهِ مَعْصِيَةً"(1).

وروى الإمام أحمد عن ثابت البُناني، عن مُطرِّف رحمة الله عليهما قال: إني نظرتُ في بدء هذا الأمر ممن؟ فإذا هو من الله عز وجل، ونظرت على من تمامه، فإذا تمامه على الله تعالى، ونظرت ما ملاكه؟ فإذا ملاكه الدعاء (2).

وقلت في معنى كلام مطرف: [من الخفيف]

مِنْكَ يا رَبِّ بَدْءُ كُلِّ جَمِيلٍ

وَعَلى فَضْلِكَ الكَرِيْمِ تَمامُهْ

وَالَّذِي يَسْتَطِيعُ عَبْدُكَ فِيهِ

لَيْسَ إِلَاّ الدُّعاءُ فَهْوَ خِتامُهْ

وَكَفَى بِافْتِقارِ عَبْدِكَ سُؤْلًا

فَهُوَ وَالذُّلُّ حالُهُ وَمَقامُهْ

جُدْ بِتَوْفِيقِهِ إِلَى [كُلِّ] خَيْرٍ

وَلْيَكُنْ بِالقَبُولِ مِنْكَ خِتامُهْ

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 349)، وكذا ابن ماجه (4298). وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.

(2)

ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35135).

ص: 323

فَصْلٌ [في شِرَارِ النَّاسِ]

قد تقدم لنا في القسم الأول من الكتاب فصلٌ في خيار الناس، فينبغي أن نذكر هنا في هذا الفصل من ورد النص على أنهم من شرار الناس، أو من شرارهم تحذيرًا من مثل ما سموا لأجله شرارًا؛ ليكون هذا الكتاب كالمبين والمفسر لما أجملته هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} [البينة: 6، 7].

بيَّن في هاتين الآيتين الكريمتين مجموع أمر القسمين من البرية.

وبيَّن في الآية الأولى مقام شر الشرار وقدَّمها؛ إشارةً إلى أنَّ من سوى أهل هذا الوصف مرجو له؛ فإن قوله: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]؛ أي: البالغون في الشر، المُعْرِقون فيه، المتناهون فيه بسبب الكفر، ومن سواهم خير البرية.

إلا أنَّ هؤلاء يتفاوتون في الخيرية؛ فإنَّ الشر إذا حضر في قوم

ص: 324

فالخير في من عداهم لأنَّ الخير والشر ضدان، ولا واسطة بينهما من حيث أصل الاعتقاد؛ إذ هما كفر وإيمان لا غير، فأهل الكفر لا تفاوت بينهم في أصل دخول النار ولا في الخلود فيها، وإنما التفاوت بينهم في العذاب الدائم؛ لا في دوامه، بل في إيلامه، وعمل هؤلاء الذي ظاهره حسن لا عبرة به ولا وزن له.

وأهل الإيمان متساوون في أصل التصديق واليقين، وإنما تفاوتهم في الأعمال، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19]؛ فكلما استكثر المؤمن من الأعمال الصَّالحات، وحسَّنها وأحسن فيها، ازداد بذلك إيمانًا مع إيمانه؛ أي: اتضح إيمانه ورسخ يقينه، فينتقل من أصل اليقين إلى عين اليقين وحق اليقين، وأهل الإيمان كلهم على خير وإلى خير.

نعم، تنقص أحوالهم بارتكاب الأعمال غير الصَّالحة، والنقصان في الأحوال شر بالنظر إلى الكمال فيها، فمن هنا أطلق اسم الشر، وشر الناس في بعض العبارات على مُرتكبي كثير من المعاصي دون الشرك تنفيرًا منها، ولأنها قد تُوصل مرتكبها بالإصرار عليها، أو بالاستصغار لها إلى حد الشر البالغ والسوء المتناهي.

وبهذه الجملة يتضح لك وجه اختلاف إطلاق اسم الشر على نوع من المعاصي تارةً، وعلى نوع آخر منها تارة.

ومن شان الفَطِن الْحَذِر أن يتباعد عن كل ما يطلق عليه اسم الشر -وإن قلَّ بالنسبة إلى غيره- لئلا يتناهى فيه فيكون ممن دخل تحت

ص: 325

قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6].

وإذا انتهى به الحذر إلى اجتناب صغير المعاصي وكبيرها، فينبغي أن تسلك به الرغبة مع ذلك سبيل الترقي في الخيرات ليتناهى في الخيرية إلى المقام الذي قدَّر الله تعالى له من المقامات التي بيَّناها وشرحناها في القسم الأول؛ فإنه بالترقي في الأعمال الصالحات في دار الدُّنيا يزداد رضى عنه من الله تعالى، ورضى منه عن الله تعالى؛ فإنَّ الله تعالى يقول بعد أن فتح لخير البرية باب الترقي في الخيرية بذكر عمل الصالحات معطوفًا على الإيمان:{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 8].

فانظر كيف أخبر عن جزائهم بأنه جنات، فذكر الجنة بلفظ الجمع إشارة إلى أنَّ لكل واحد منهم جنة، أو أكثر من جنة تليق بعمله، وأضاف الجنات إلى عدن إشارة إلى الخلود؛ إذ العدن الإقامة، ولا يخفى ما بين (عند) و (عدن) من الجناس المحرف، وما أحسنه من جناس تابع مقصود بديع لأجله ذكر لفظ:{عِنْدَ} وهو الإشارة إلى أن هذا الجزاء مقرون بالقرب وحسن التربية؛ فإنه أضاف: {عِنْدَ} الدالة على الحضور إليه باسم الرب مضافًا إليهم.

وفي قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} نكتة أخرى، وهي حسن الضمان والتكفل، كما تقول لمن تريد تسكين خاطره عن ماله: حقك عندي، وجزاؤك عندي؛ أي: في قبلي، وأنا المتكفل به.

ص: 326

ثم وصف الجنات بقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، ولم يقل: تجري فيها الأنهار، إشارة إلى أن أنهارها نفع محض، ومتاع صِرْف، ونعيم خالص، لا طغيان لمآبها، ولا خطر ولا محذور فيها.

ثم أشار إلى الخلود فيها بعد وصفها بأنها جنات عدن، فقال:{خَالِدِينَ فِيهَا} .

ثم أكَّد الخلود فيها بقوله: {أَبَدًا} .

وقيد الخلود بقوله: {فِيهَا} إشارة إلى أنهم ليسوا بخارجين منها، بل هم دائمون فيها باقون، ثم أكدَ هذا البقاء والخلود والدوام بذكر سببه، فقال:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وفاقًا لرضاه عنهم، دام رضاه عنهم.

ثم ذيَّل على وصفهم، ووصف جزاءهم بعد تمامه بقوله:{ذَلِكَ} ؛ أي: ذلك الجزاء الحسن الدائم والرضا {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] من العباد، إشارةً إلى أن العبد لا يتم له الإيمان والعمل الصَّالح، والخيرية ودخول الجنَّة، والفوز بالرضا، بل لا يكون له ذلك إلَاّ بالخوف والخشية؛ كما قال تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] الآيات.

وكما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]؛ أي: له.

ثم في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] مع قوله: {إِنَّمَا

ص: 327

يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] إشارة إلى فضل العلم، وأن هذه السَّعادة لا تتم إلا به، فالعلم وصف الأخيار، والجهل وصف الأشرار، وكل خصلة جميلة فالعلم أوَّلُها، وكل خصلة قبيحة فالجهل أولها، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من العلماء العاملين، ونعوذ بالله أن نكون من الجاهلين.

فالجهل منبع كل شر، ثم تتضاعف الشرية على قدر الإغراق في الجهل، فمن ثمَّ حَسُن فيهم قوله تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22، 23].

قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في الآية: عدَّهم من البهائم، ثم جعلهم شرَّها لإبطالهم ما مُيزوا به وفضلوا لأجله (1).

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]: لا يتبعون الحق (2).

وروى الشيخان، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ائْذَنُوْا لَهُ؛ فَبِئْسَ أَخُوْ العَشِيْرَةِ"، فلما دخل أقبل عليه، فلما خرج راجعته، فقال:"إِنَّ شَرَّ النَّاسِ الَّذِي يُكْرَمُ اتَّقَاءَ شَرِّه"(3).

(1) انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 98).

(2)

رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1678).

(3)

بهذا اللفظ هو في "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 159).

ص: 328

وفي رواية: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتَّقَاءَ فُحْشِهِ"(1).

وفي رواية: فقال: "يَا عَائِشَةُ! مَتىَ عَهِدْتِنيْ فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكُهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّه"(2).

وفي رواية للترمذي وقال: حسن صحيح: "يَا عَائِشَةُ! إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ"(3).

ومعنى: من تركه الناس؛ أي: ترك الناس الإنكار عليه.

أو هو على ظاهره؛ أي: مَنْ هجره خوفًا من شره أو من فحشه.

والأول أليق بسياق سبب الحديث.

وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَخَافُ النَّاسُ شَرَّه"(4).

وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة" عن أنس رضي الله تعالى

(1) رواه البخاري (5757)، ومسلم (2591)، وعندهما:"من تركه، أو وَدَعَه" بدل "من أكرمه".

(2)

رواه البخاري (5685).

(3)

رواه الترمذي (1996) وقال: حسن صحيح.

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5307). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 17): فيه عثمان بن مطر، ضعيف جدًا.

ص: 329

عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يُخَافُ لِسَانُهُ، أَوْ يُخَافُ شَرُّهُ"(1).

وروى الخطيب في "المتفق والمفترق"، وابن النجار عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ النَّبيَّ قال: "شَرُّ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَن اتُّقِيَ مَجْلِسُهُ لِفُحْشِهِ"(2).

وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَجِدُوْنَ النَّاسَ مَعَادِنَ؛ فَخِيَارُهُمْ فيْ الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فيْ الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوْا، وَتَجِدُوْنَ خَيْرَ النَّاسِ فيْ هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيةً قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ، وَتَجِدُوْنَ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ اللهِ ذَا الوَجْهَيْنِ؛ الْذِي يَأْتِي هَؤُلاء بِوَجْهٍ وَيَأتِي هَؤُلاء بَوَجْهٍ"(3).

وهذا داخل في من يُكرم، أو يترك اتقاء شره أو فحشه، ومن يخاف شره، فلا معارضة بين الحديثين.

ثم قوله: "شَرُّ الناسِ"؛ أي: في كل زمان، أو من كل قوم؛ فالكفار شرهم ذو الوجهين، والمسلمون شرهم ذو الوجهين.

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة والنميمة"(ص: 87). قال ابن طاهر المقدسي في "ذخيرة الحفاظ"(2/ 917): رواه عثمان بن مطر، وهو ضعيف، والحديث من غير طريقه صحيح.

(2)

ورواه ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس"(ص: 35).

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 524)، والبخاري (3355)، ومسلم (2526).

ص: 330

وذو الوجهين إذا كان كافرًا شر من ذي الوجهين إذا كان مسلمًا، فبذلك ونحوه يرتفع تعارض الأحاديث في مثل ذلك.

وروى ابن ماجه، والطَّبراني في "الكبير" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ".

وفي لفظ: "إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ"(1).

وأخرجه أبو نعيم من حديث أبي هريرة، ولفظه:"مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ"(2).

وروى الخِلَعي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في "فوائده" بلفظ: "شَرُّ الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ"(3).

وروى البخاري في "تاريخه" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُل بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ"(4).

وروى الطَّبراني في "الأوسط"، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آخِرُ الكَلامِ في القَدَرِ

(1) رواه ابن ماجه (3966)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7559).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 65).

(3)

ورواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(1/ 244).

(4)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(6/ 128).

ص: 331

لشَرِارِ أُمَّتيْ" (1).

وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله تعالى عنه، والطبراني في "الكبير" عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُ أُمَّتيْ الَّذِيْنَ إِذَا رُؤُوْا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ أُمَّتيْ المَشَّاؤُوْنَ بِالنَّمِيْمَةِ، المُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُوْنَ البُراَءَ الْعَنَتَ"(2).

وروى البيهقي في "الشعب" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه (3).

وأخرج من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُكُمْ أَحَاسِنكُمْ أَخْلاقًا، المُوَطِّئُوْنَ أَكنَافًا، وَشِرَارُكُمْ الثَرْثَارُوْنَ الْمُتَفَيْهِقُونَ المُتَشَدِّقُوْنَ"(4).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5909)، والحاكم في "المستدرك"(3765)، وكذا البزار في "المسند" (14/ 231) وقال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الزهري عن سعيد إلا عنبسة، وهو لين الحديث.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 227) عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله عنه.

ورواه البزار في "المسند"(2719) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 93): رواه الطبراني، وفيه يزيد بن ربيعة، وهو متروك.

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6708).

(4)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4969) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، و (4970) عن أبي هريرة رضي الله عنه، (7988) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 332

والثرثرة: كثرة الكلام وترديده.

والثرثار: المهذار.

وقال الفراء: فلان يتفيهق في كلامه، وذلك إذا توسع فيه وتقطع؛ قال: وأصله الفهق، وهو الامتلاء، كأنه مَلأَ به فمه (1).

والمتشدق: الذي يلوي شدقيه؛ أي: جانبي فِيْه للتفصح.

وروى ابن أبي الدُّنيا في "ذم النَّميمة"، والبيهقي في "الشعب" عن فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شِرَارُ أُمَّتي الَّذِيْنَ غُذُّوْا بِالنَّعِيْمِ، الَّذِيْ يَأْكُلُوْنَ ألوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبَسُوْنَ ألوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ"(2).

وروى الترمذي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه -وحسنه-: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِليَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّيْ فيْ الآخِرَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِليَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي في الآخِرَةِ الثَّرْثَارُوْنَ وَالْمُتَفيهِقونَ المُتَشَدِّقُوْنَ".

قالوا: يا رسول الله! قد عَلِمنا الثرثارون والمتشدقون؛ فما المتفيهقون؟

(1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 314)(مادة: فهق).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة والنميمة"(ص: 13)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5669). قال الدارقطني في "العلل" (15/ 184): وروي مرسلًا وهو أشبه.

ص: 333

قال: "المُتكبِّرُوْنَ"(1).

وهذا الحديث عند الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه بدون هذا التفسير.

وزاد فيه: "وَأَبْعَدَكُمْ مِني في الآخِرَةِ أَسْوَؤُكُمْ أَخْلاقًا الثَّرْثَارُوْنَ"

إلى آخره (2).

وروى أبو الشيخ في كتاب "التوبيخ" عن العلاء بن الحارث - معضلًا -: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الهَمَّازُوْنَ وَاللَّمَّازُوْنَ وَالمَشَّاؤُوْنَ بِالنَّمِيْمَةِ وَالبَاغُوْنَ البُرَآءَ العَنَتَ يَحْشُرُهُمْ اللهُ في وجُوْهِ الكِلابِ"(3)؛ أي: في وجوهٍ مثل وجوه الكلاب.

وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشَر عِبَادِ اللهِ؟ الفَظُّ المُسْتَكْبِرُ.

أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ عِبَادِ اللهِ؟ الضَّعِيْفُ المُسْتَضْعَفُ ذُوْ الطِّمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ بِهِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَىْ اللهِ لأَبَرَّهُ" (4).

(1) رواه الترمذي (2018) وقال: حسن غريب.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 193)، وابن حبان في "صحيحه"(5557).

(3)

رواه أبو الشيخ في "التوبيخ والتنبيه"(ص: 97).

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 407). قال ابن حجر في "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد"(ص: 28): قال ابن الجوزي: هذا =

ص: 334

وروى البخاري في "تاريخه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ النَّاسِ الَّذِيْ يَسْأَلُ بِاللهِ ثُمَّ لا يُعْطَى"(1).

وروى الترمذي -وقال: حديثٌ حسن، واللفظ له- والنسائي، وابن حبان في "صحيحه" من حديثه رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِ النَّاسِ؟ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فيْ سَبِيْلِ اللهِ.

أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِيْ يَتْلُوْهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فيْ خَيْمَةٍ لَهُ يُؤَدِّيْ حَقَّ اللهِ تَعَالىْ فِيْهَا.

أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟ رَجُلٌ يُسْأَلُ بِاللهِ ثُمَّ لا يُعْطى" (2).

وروى الطبراني، وغيره بسند ضعيف، من حديثه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا أُنبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ ".

قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله.

= حديث لا يصح؛ محمد بن جابر، قال يحيى: ليس بشيء، وقال أحمد: لا يحدث عنه إلا من هو شر منه. قلت: وأبو البختري، اسمه سعيد بن فيروز، لم يدرك حذيفة، ولكن مجرد هذا لا يدل على أن المتن موضوع، فإن له شواهد.

(1)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 362).

(2)

رواه الترمذي (1652) وقال: حسن غريب، والنسائي في (2569)، وابن حبان في "صحيحه"(604).

ص: 335

قال: "إِنَّ شِرَارَكُمْ الَّذِيْ يَنْزِلُ وَحْدَهُ وَيجْلِدُ عَبْده، وَيَمْنعُ رِفْدَهُ؛ أفلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ ".

قالوا: بلى يا رسول الله إن شئت.

قال: "الَّذِيْنَ لا يَقِيْلُوْنَ عَثْرَةً، وَلا يَغْفِرُوْنَ ذَنْبًا".

قال: "أفلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ ".

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: "مَنْ لا يُرْجَىْ خَيْرُهُ، وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ"(1).

وروى الإمام أحمد عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا لِلناسِ فيْ الدُّنْيَا"(2).

وشدة العذاب شر ما في الآخرة، وهي مترتبة على شدة الشر في الدُّنيا.

والأصل في ذلك قسوة القلب الناشئة عن الغفلة عن الله عز وجل، وعن ذكره وذكر عظمته، وانتقامه وشدة عقابه.

وفي "موطأ مالك" رضي الله تعالى عنه: أنه بَلَغَهُ أنَّ عيسى بن مريم

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10775). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 183): فيه عنبسة بن ميمون، وهو متروك.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 95)، وكذا البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 143).

ص: 336

عليه السلام كان يقول: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ فإنَّ القلب القاسي بعيدٌ من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد؛ فإنما الناس مُبتلى ومُعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية (1).

وهذا ثابتٌ في الحديث المرفوع؛ رواه الترمذي وحسنه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُكْثِرُوْا الكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ قَسْوَة لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ القَلْبُ القَاسِيْ"(2).

ولنا في هذا المعنى: [من السريع]

اتَّقُوا اللهَ عَلَا وَلْيَكُنْ

مِنْكُمْ لَكُمْ عَنْ جَهْلِكُمْ ناهِيَةْ

ثُمَّ اذْكُرُوا رَبَّكُمُ وَاتْرُكُوا

مَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا إِلَى ناحِيَةْ

لا تُكْثِرُوا فِي غَيْرِ ذَا قَولَكُمْ

قُلُوبُكُمْ تَغدُو بِهِ قاسِيَةْ

إِنَّ قُلُوبَ النَّاسِ مَهْمَا قَسَتْ

كانَتْ عَنِ اللهِ علا قاصِيَةْ

وَالنَّاسُ ذو عاقِبَةٍ أَوْ ذَوُو

بَلِيَّةٍ تَظْهَرُ أَوْ خَافِيَةْ

أَلا ارْحَمُوا أَهْلَ البَلا كُلَّهُمْ

ثُمَّ احْمَدُوا اللهَ على العافِيَةْ

فَالعَبْدُ بِالرَّحْمَةِ يَرْقى وَبِالـ

حَمْدِ إِلَى الْمَرْتَبَةِ العَالِيَةْ

(1) انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 986).

(2)

رواه الترمذي (2411) وقال: حسن غريب.

ص: 337

وفي الحديث: "ثَلاثُ خِصَالِ تُوْرِثُ القَسْوَةَ فيْ القَلْبِ: حُبُّ الطَّعَامِ، وَحُبُّ النَّوْمِ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ". رواه الديلمي عن عائشة رضي الله عنها (1).

وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة"، والبيهقي في "الشعب" عن فاطمة رضي الله تعالى عنها: أنَّ أباها صلى الله عليه وسلم قال: "شِرَارُ أُمَّتيْ الَّذِيْنَ غُذُّوْا بِالنَّعِيْمِ، الَّذِيْنَ يَاْكُلُوْنَ ألْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبسُوْنَ ألوَانَ الثِّيَابِ، وَتتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ"(2).

ولعل معناه: شرار كل نوع من الأمة الذين هذا حالهم من ذلك النوع، أو: الذين ليس لهم إلا ذلك بحيث لَهُوا به عمَّا يُراد منهم.

وروى الحاكم وصححه -وتُعُقِّبَ تصحيحه- عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شرَارُ أُمَّتيْ الَّذِيْنَ ولِدُوْا فيْ النَّعِيْمِ، وَغُذُّوْا يَأْكُلُوْنَ مِنَ الطَّعَامِ ألْوَانًا، وَيَلْبسُوْنَ مِنَ الثِّيَابِ ألوَانًا، وَيَرْكَبُوْنَ مِنَ الدَّوَابِّ ألوَانًا، يَتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ"(3).

وروى الطَّبراني في "الكبير"، و"الأوسط" بسند ضعيف، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيَكُوْنُ رِجَالٌ مِنْ

(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8950).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه الحاكم في "المستدرك"(6418).

ص: 338

أمَّتيْ يَأكلوْن ألوَان الطَّعَامِ، وَيَشرَبُوْن ألْوَانَ الشَّرَابِ، وَيَلبَسُوْن ألوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُوْنَ فيْ الْكَلامِ، فَأُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ" (1).

وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنُ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ"(2).

وروى مسلم عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِيْنَ تُحِبُّوْنهمْ ويُحِبُّوْنكُمْ، وَتُصَلُّوْنَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّوْنَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِيْنَ تُبْغِضُوْنهمْ وَيُبْغِضُوْنكُمْ".

قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟

قال: "لا؛ مَا أَقَامُوْا فِيْكُمُ الصَّلاةَ، وَإذَا رَأَيْتُمْ مِنْ ولاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُوْنَهُ فَاكْرَهُوْا عَمَلَهُ، وَلا تَنْزِعُوْا يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ"(3).

وروى الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والطَّبراني في "الكبير" عن عائذ بن عمرو المزني رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ الرِّعَاءِ الْحُطَمةُ"(4).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(2351). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 890).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه مسلم (1855).

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 64)، وابن حبان في "صحيحه"(4511)، والطَّبراني في "المعجم الكبير"(18/ 17).

ص: 339

وهو في "صحيح مسلم"، ولفظه:"إِن شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمةُ"(1).

وهو من الأمثال التي تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم.

والحطمة -على وزن الهُمزة-: وهو الذي يَحْطِم الماشية؛ أي: يكسرها ويضربها، إذا ساقها عنَّف بها، وإذا أَسمَامها قصَّر في إسامتها، يضرب في سوء الملكة والسياسة؛ قاله الزمخشري (2).

وفي "الصحاح": رجل حطم، وحطمة أيضًا: قليل الرحمة للماشية، يَهْشِم بعضها ببعض (3).

وفي "القاموس": إنه الظلوم للماشية (4).

وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "شِرَارُ أُمتيْ مَنْ يَلي القَضَاء، إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَمْ يُشَاوِرْ، وَإِنْ أَصَابَ بَطِرَ، وَإِنْ غَضِبَ عَنَّفَ، وَكَاتِبُ السُّوْءِ كَالْعَامِلِ لَه"(5).

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ القَاضِيْ الَّذِيْ يُخَالِفُ إِلىْ غَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ".

(1) رواه مسلم (1830).

(2)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب"(2/ 129).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1901)(مادة: حطم).

(4)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1415)(مادة: حطم).

(5)

ورواه ابن عدي في (الكامل)(5/ 146) وأعله بعمرو بن بكر السكسكي، وقال: وله أحاديث مناكير عن الثقات.

ص: 340

وروى الطبراني في "الصغير"، والبيهقي في "الشعب" عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِم لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ"(1).

وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"شِرَارُ أُمَّتيْ العُلَمَاءُ الَّذِيْنَ يَأْتُوْنَ الأُمَرَاءَ"(2)؛ أي: لغير ضرورة.

وروى أبو بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ الخَلْقِ إِلىْ اللهِ العَالِمُ يَزُوْرُ العُمَّالَ"(3).

وروى ابن عبد ربه في "عقده": أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الناسِ؟ ".

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: "العُلَمَاءُ إِذَا فَسدُوْا"(4).

والمعروف أنه من كلام سفيان؛ قيل له: أي الناس شر؟

(1) رواه الطبراني في "المعجم الصغير"(507)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(1778)، وكذا ابن عدي في "الكامل"(5/ 158) وأعله بعثمان البري، وقال: عامة أحاديثه مما لا يتابع عليه إسنادًا ولا متنًا، وهو مما يغلط الكثير، وهو في الجملة ضعيف.

(2)

رواه ابن ماجه (256) بلفظ: "إن من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء". وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحايث الإحياء"(1/ 41).

(3)

ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(822).

(4)

انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 86).

ص: 341

قال: اللهم غُفْرًا! العلماء إذا فسدوا. رواه أبو نعيم (1).

وروى البزار عن معاذ رضي الله تعالى عنه، وصححه أبو نعيم عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شِرَارُ النَّاسِ شِرَارُ العُلَمَاءِ فيْ النَّاسِ"(2).

وروى ابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَشَدُّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ أَمْكَنَهُ العِلْمُ فيْ الدُّنْيَا فَلَمْ يَطْلُبْهُ، وَرَجُلٌ عَلِمَ عِلْمَا فَانتفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ دُوْنهُ"(3).

وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "الأربعين"، والديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ يُرِيْ النَّاسَ أَنَّ فِيْهِ خَيْرًا وَلا خَيْرَ فِيْهِ"(4).

وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: قيل للقمان: أي الناس شر؟

قال: الذي لا يُبالي أن يراه الناس مُسِيْئًا (5).

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه، وأبو يعلى عن عطية بن بسر

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 6).

(2)

رواه البزار في "المسند"(2649)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 220) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(3)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(51/ 138) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: منكر، ولا أدري على من الحمل فيه.

(4)

رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(1458).

(5)

رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 50).

ص: 342

رضي الله تعالى عنه، وهو والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ".

وفي رواية أبي ذر: "وَأَرَاذِلُ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ"(1).

زاد ابن عدي في حديث أبي هريرة: "رَكْعَتَانِ مِنْ مُتَأَهِّلٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِيْنَ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ"(2).

ولعل الشَّرِّية هنا باعتبار مقابلة الأعزب بالمتأهل.

أو المراد بالعُزاب: الذين يؤثرون العزوبة رغبة عن السُّنة التي هي النكاح.

أو هو في غير الأزمنة المتأخرة التي تحل فيها العزوبة حين يكون هلاك الرجل على يدي أهله.

وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ النَّاسِ الضَّيِّقُ عَلَىْ أَهْلِهِ".

قالوا: يا رسول الله! وكيف يكون ضيقًا على أهله؟

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 163) عن أبي ذر رضي الله عنه.

وأبو يعلى في "المسند"(6856) عن عطية بن بسر رضي الله عنه.

وأبو يعلى في "المسند"(2042)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(4476) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 404): لا تخلو من ضعف واضطراب، ولكنه لا يبلغ الحكم عليه بالوضع.

(2)

رواه ابن عدي في "الكامل"(7/ 163) وقال: باطل.

ص: 343

قال: "الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ خَشَعَتِ امْرَأتهُ، وَهَرَبَ وَلَدُهُ وَفَرَّ، فَإِذَا خَرَجَ ضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ وَاسْتَأْنسَ أَهْلُ بَيْتِهِ"(1).

ومن شواهده حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ".

صححه الترمذي (2).

وروى أبو القاسم البغوي، والبيهقي في "السُّنن" عن أبي أذينة الصدفي من أهل مصر -قال البغوي: ولا أدري له صحبة أم لا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَائِكُمْ الْوَلُوْدُ الْوَدُوْدُ، وَالمُؤَاتِيَةُ المُوَاسِيَةُ، إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمْ المُتَبَرِّجَاتُ المُتَخَيِّلاتُ، وَهُنَّ المُنَافِقَاتُ، لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مثلُ الغُرَابِ الأَعْصَمِ"(3).

وروى الإمام أحمد، والنسائي عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْران، فإذا بغِربان كثيرة فيهن غراب أعصم أحمر المنقار، فقال:"لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النّسَاءِ إِلَاّ مثلُ هَذَا الْغُرَابِ".

(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(8798). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 25): فيه عبد الله بن يزيد بن الصلت، وهو متروك.

(2)

رواه الترمذي (3895) وقال: حسن غريب صحيح، وكذا ابن ماجه (1977).

(3)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 82) وقال: روي بإسناد صحيح عن سليمان بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا إلى قوله: "إذا اتقين الله".

ص: 344

قال العراقي: وإسناده صحيح (1).

قال في "الصحاح": والغراب الأعصم: الذي في جناحه ريشة بيضاء، ويقال هذا كقولهم: الأبيض العقوق، وبيض الأنوق لكل شيءٍ يَعِزُّ وجودُه (2).

وذكر في "القاموس" معنى آخر في الغراب الأعصم: أنه الأحمر الرجلين والمنقار (3).

وروى أبو يعلى، والطَّبراني في "الكبير" -وضعف - عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ شَبَابِكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِكُهُوْلكُمْ، وَشَرُّ كُهُوْلكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِشَبَابِكُمْ"(4)، وتقدم بيانه.

وروى ابن عدي في "الكامل" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"شِرَارُ أُمَّتيْ أَجْرَؤُهُمْ عَلَىْ صَحَابَتيْ"(5).

وروى أبو نعيم في كتاب "حرمة المساجد" عن ابن عباس رضي

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 197)، والنسائي في "السنن الكبرى"(9268). وصحح العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 395).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1989)، (مادة: عصم).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1470)(مادة: عصم).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

رواه ابن عدي في "الكامل"(7/ 297) وأعله بأبي بكر بن أبي سبرة، وقال: وهو من جملة من يضع الحديث.

ص: 345

الله تعالى عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَحَبُّ البِقَاعِ إِلىْ اللهِ المَسَاجِدُ، وَأَحَبُّ أَهْلِهَا إِلَيْهِ أَوَّلُهُمْ دُخُوْلًا وَآخِرُهُمْ خُرُوْجًا"(1).

وذكر الغزالي في "الإحياء" بلفظ: خير، وشر (2).

والحديث معروف من رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بلفظ: "خَيْرُ البِقَاعِ المَسَاجِدُ، وَشَرُّ البِقَاعِ الأَسْوَاقُ". صححه ابن حبان، والحاكم (3).

وتقدم في التشبه بالشيطان: أنه يكون مع أول داخل إلى السوق، وآخر خارج منها، وكفى بذلك شرًّا.

وروى العقيلي، والديلمي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَبْغَضُ الْعِبَادِ إِلىْ اللهِ مَنْ كَانَ ثَوْبَاهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ؛ أَنْ يَكُوْنَ ثِيَابُهُ ثِيَابَ الأَنْبِيَاءِ، وَعَمَلُهُ عَمَلَ الجَبَّارِيْنَ"(4).

وروى ابن أبي الدُّنيا في "الإخلاص" عن أبي قِلابة -مرسلًا-

(1) كذا عزاه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 431)، ورواه أبو الشيخ في "العظمة"(2/ 675).

(2)

انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 86).

(3)

رواه ابن حبان في "صحيحه"(1599)، والحاكم في "المستدرك"(306).

(4)

رواه العقيلي في "الضعفاء"(2/ 163) وقال: سليم بن عيسى مجهول في النقل، حديثه منكر غير محفوظ، والديلمي في "مسند الفردوس"(1481).

ص: 346

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلانِ: رَجُلٌ لا يُراقِبُ اللهَ فيْ السِّرِ، وَرَجُلٌ يُجَالِسُ الأُمَرَاءَ كُلَّمَا قَالُوْا شَيْئًا قَالَ: صَدَقَ الأَمِيْرُ".

وروى الشيخان، وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلىْ اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ"(1).

وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلىْ اللهِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فيْ الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فيْ الإِسْلامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبٌ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيْقَ دَمَهُ"(2).

وروى مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِيْ إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِيْ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا"(3).

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُوْنَ"(4).

وروى أبو نعيم عن وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام قال:

(1) رواه البخاري (2325)، ومسلم (2668).

(2)

رواه البخاري (6488).

(3)

رواه مسلم (1437).

(4)

رواه مسلم (2159)، وكذا البخاري (5606).

ص: 347

يا رب! أي عبادك أشقى؟

قال: من لا تنفعه موعظة، ولا يذكرني إذا خلا (1).

وفي كتاب الله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل: 15 - 16].

وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي عثمان النَّهْدي -مرسلًا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ عِبَادِ اللهِ إِلىْ اللهِ العِفْرِيْتُ النِّفْرِيْتُ الَّذِيْ لَمْ يَرْزَأْ فِي مَالٍ وَلا وَلَدٍ"(2).

وروى أبو الشيخ، والديلمي عن ثابت بن ثوبان، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِرَارُ أُمَّتيْ الْوحْدَانُ المُعْجَبُ بِدِيْنِهِ، المُرَائِيْ بِعَمَلِهِ، المُخَاصِمُ بِحُجَّتِهِ، قَلِيْلُ الرِّيَاءِ شِرْكٌ"(3).

والوحدان -بضم الواو-: جمع واحد؛ أي: المنفردون عن الناس المباينون لهم.

ثم بيَّن أوصافهم بوصف واحد منهم فقال: المعجب بدينه

إلى آخره.

وروى أبو نعيم عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: شر

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 45).

(2)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(9910).

(3)

رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3648).

ص: 348

الناس العيابون (1)؛ [أي]: المكثرون من ذكر معايب الناس، المفتشون عن عيوبهم.

وروى الديلمي عن عائشة رضي الله عنها.

قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِرَارُكُمْ أَسْوَأُكُمْ خُلُقًا، وَأَشَدُّكُمْ مُؤْنَةً، وَأثقَلُكُمْ عَلَىْ أَهْلِهِ"(2).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شِرَارُ النَّاسِ الَّذِيْنَ يَشْرُوْنَ النَّاسَ وَيَبِيْعُوْنهمْ"(3).

ولعل معناه: شرار الناس حرفةً وكسبًا.

وكذلك ما رواه الديلمي أيضًا عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ أُمَّتيْ الصَّائِغُوْنَ وَالصَّيَّاغُوْنَ"(4).

أي: شر أمتي حرفةً.

والمعنى فيه وفيما قبله: إنَّ من كان نَخَّاسًا كان قليل الحياء والشفقة قاسي القلب، ولا يكاد يطيب له كسب، وإن الصائغ والصياغ يُعاشران النساء وسفلة الناس، ويزخرفان أمتعة الدنيا للناس ويدعوانها، وهما مع ذلك يعتادان الكذب، كما في حديث أبي هريرة

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 92).

(2)

رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3655).

(3)

رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3654).

(4)

ورواه ابن عدي في "الكامل"(6/ 286) بلفظ: "أكذب الناس الصواغون والصباغون"، وقال: وهذا عن أنس بهذا الإسناد باطل.

ص: 349

رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّيَّاغُوْنَ وَالصَّوَّاغُوْنَ". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وسنده مضطرب (1).

وروى إبراهيم الحربي في "غريبه" عن أبي رافع الصائغ قال: كان عمر يمازحني فيقول: أكذب الناس الصواغ؛ يقول: اليوم وغدًا (2).

ولعل معنى: أكذب الناس: أقربهم إلى الكذب.

وروى الدارقطني في "الأفراد"، وأبو نعيم، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ بَعَثَني مَلْحَمَةً وَمَرْحَمَةً، وَلَمْ يَبْعَثْني تَاجِرًا وَلا زَرَّاعًا، وَإنَّ شَرَّ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ التُّجَّارُ وَالزَّرَّاعُوْنَ إِلَاّ مَنْ شَحَّ عَلَىْ دِيْنِهِ"(3).

والمعنى في ذلك: أنَّ هذين الصنفين من الناس شغلهم تجارتهم وزراعتهم عن الطاعة التي هي جِماع الخير؛ فهم إذا استغرقتهم صناعتهم وحرفتهم عن الطاعة - كما هو دأب الغالب منهم - شر الناس، لا ينقذهم من هذه الشرِّية إلا الشح على الدين، فإذا شحوا

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 292)، وابن ماجه (2152). قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 317): حديث مضطرب الإسناد.

(2)

كذا عزاه ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة"(7/ 148) إلى الحربي في "غريب الحديث"، وقال: سنده جيد.

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 72)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(14/ 302)، وكذا ابن عدي في "الكامل" (3/ 312) وقال: هذا عن حمزة الزيات غير محفوظ.

ص: 350

على دينهم فلم تشغلهم حالهم عن الواجبات والمفروضات، ولا وقعت بهم على حرام ولا معصية، كانوا من خيار الناس.

وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ؟ خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَىْ خَيْرُهُ، ويؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لا يُرْجَىْ خَيْرُهُ، وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ"(1).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرَ النَّاسِ وَشَرِّ النَّاسِ؟ إِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ رَجُلًا حَمَلَ فيْ سَبِيْلِ اللهِ عز وجل عَلَىْ ظَهْرِ فَرَسِهِ، أَوْ عَلَىْ ظَهْرِ بَعِيْرِهِ أَوْ عَلَىْ قَدَمَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهِ المَوْتُ، وَإِنَّ من شَرِّ الناسِ رَجُلًا فَاجِرًا جَرِيْئًا، يَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ لا يَرْعَوِيْ إِلىْ شَيْءٍ مِنْهُ"(2).

وروى ابن عساكر عن معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُنبِّئُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ؟ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ، وَسَافَرَ وَحْدَهُ، وَضَرَبَ عَبْدَهُ.

أَلا أُنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ -أَيْ: فيْ غَيْرِ ذَاتِ اللهِ تَعَالىْ- وَيُبْغِضُوْنَهُ.

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 386)، والترمذي (2263) وقال: حسن صحيح، وابن حبان في "صحيحه"(528).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 41)، وكذا النسائي (3106).

ص: 351

أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ يُخْشَىْ شَرُّهُ وَلا يُرْجَىْ خَيْرُهُ.

أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِ.

أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا بِالدِّيْنِ" (1).

وروى الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِرَارُ النَّاسِ فَاسِقٌ قَرَأَ كِتَابَ اللهِ وَتَفَقَّهَ فيْ دِيْنِ اللهِ، ثُمَّ بَذَلَ نَفْسَهُ لِفَاجِرٍ، إِذَا نَشَطَ تَفَكَّهَ بِقِرَاءَتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ، فَيَطْبَعُ اللهُ عَلَىْ قَلْبِ القَائِلِ وَالمُسْتَمعِ".

وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شَرُّ النَّاسِ ثَلاثَةٌ: مُتكَبِّرٌ عَلَىْ وَالِدَيْهِ يُحَقرُهُمَا، وَرَجُلٌ سَعَىْ فيْ فَسَادٍ بَيْنَ النَّاسِ بِالكَذِبِ حَتَّى يَتَبَاغَضُوْا أَوْ يَتَبَاعَدُوْا، وَرَجُلٌ سَعَىْ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ بِالكَذِبِ حَتَّى يغيِّرَهُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الحَقِّ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَخْلُفُهُ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ".

وروى تمَّام في "جزءٍ من حديثه" عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شِرَارُ أُمَّتيْ أَولُ مَنْ يُسَاقُ إِلىْ النَّارِ الأَقْمَاعُ مِنْ أُمَّتيْ، إِذَا أَكَلُوْا لَمْ يَشْبَعُوْا، وَإِذَا جَمَعُوْا لَمْ يَسْتَغْنُوْا".

والأقماع في الأصل: جمع قَمع -بفتح أوله وإسكان ثانيه، وكسر أوله وإسكان ثانيه وفتحه-: ما يوضع في فم الإناء، ينصب فيه الدُّهن وغيره.

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(51/ 133).

ص: 352

فشبه به الذين لا ينتفعون في الآخرة بما يجمعون في الدنيا، كأن ما يأكلونه ويجمعونه يمر بهم مجتازًا غير ثابت النفع لهم، ولا باقي عندهم، كما يمرُّ الشراب والدهن بالقمع اجتيازًا؛ ذكره صاحب "النهاية"، وغيره (1).

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْل"(2): شبه أسماع الذين يسمعون القول ولا يَعُونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئًا مما مرَّ بها ولا يبقى فيها.

ويحتمل أن يراد بالأقماع في الحديث: من أهل البطالات الذين لا همَّ لهم إلَاّ في ملْء بطونهم وأكياسهم، وتفريغها من غير فائدة، والذين لا همَّ لهم إلا سماع أخبار الناس من قوم، وإلقاؤها إلى آخرين (3).

وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مِنْ شِرَارِ أُمَّتيْ مَنْ يَتَّخِذُ القُبُوْرَ مَسَاجِدَ"(4).

(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 109).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 165)، والبخاري في "الأدب المفرد"(380)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7236) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 140): رواه أحمد بإسناد جيد.

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 109).

(4)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(1586). وله شواهد باللفظ نفسه من حديث أبي عبيدة بن الجراح، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

ص: 353

وروى أبو نعيم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ما لي أراكم تَحْرِصُون على ما كفل لكم به، وتضيعون ما وكلتم به؟ لأَنَا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل؛ هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرًا، ولا يسمعون إلا هُجْرًا، ولا يُعتق محرروهم (1).

وعن معاذ رضي الله تعالى عنه: تصديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فقلت: يا رسول الله! أرنا شرَّ الناس.

فقال: "سَلُوْا عَنِ الخَيْرِ، وَلا تَسْألوْا عَنِ الشَّرِّ؛ شِرَارُ النَّاسِ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ فيْ النَّاسِ".

وقد تقدم من حديث جابر (2).

والمعنى: أن العلماء إذا كانوا شرارًا كانوا شرًا من الجهلاء إذا كانوا شرارًا؛ لأن شرار الجهلاء لا وازع لهم من علم يمنعهم من ارتكاب الشر، والعالم له وازع من العلم، فإذا ارتكب الشر مع الوازع لم يكن له من العذر في ذلك صغير ولا كبير.

وروى الدينوري في "المجالسة" عن الشعبي قال: شرار أهل كل دين علماؤهم غير المسلمين (3).

وهذا يناقضه الحديث المذكور؛ فإنه عام ولا يصلح لحمل

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 221).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 204).

ص: 354

الحديث عليه إلا إن ثبت هذا في الحديث المرفوع.

وروى الشافعي، والبيهقي في "المعرفة" عن ابن أبي ذئب رحمه الله تعالى -معضلًا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِرَارُ قُرَيْشٍ خَيْرُ شِرَارِ النَّاسِ"(1).

وليس المراد بالشرار في الحديث من لا خير فيه أصلًا، بل المراد من غلب عليهم الشر حتى سُمُّوا أشرارًا وشرارًا وإن كان فيهم خير.

ومحصل معنى الحديث: أنَّ قريشًا أقرب من غيرهم إلى الخير حتى شرارهم.

وروى الطبراني في "الأوسط" عن جابر رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ قَتِيْلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ المُلْكَ"(2).

أي: واحد منها يطلب الملك، ويقصد حصوله بالمقاتلة لفساد نيته.

وهو محمول على أن الصفين مسلمون لا يقاتلون لإعلاء كلمة الدين، بل لطلب الملك، فمن قتل منهم على هذه النية فهو شر القتلى.

(1) رواه الإمام الشافعي في "المسند"(ص: 279)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(1/ 89).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6469). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 292): فيه عبد الأول أبو نعيم، لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

ص: 355

وروى أبو نعيم عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ الرَّقيْقِ الزِّنْجُ؛ إِنْ شَبِعُوْا زَنَوْا، وَإِنْ جَاعُوْا سَرَقُوْا"(1).

واعلم أن شَرِّية ابن آدم ليست من حيث الأصل والنسب؛ فإن أصله كريم ونسبه طيب، وإنما تكون شريته من حيث اتصافه بالشر خلقًا أو عملًا أو قولًا، فينبغي له أن يتجنب شرار الأخلاق، والأعمال والأقوال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:"إِنمَّا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُمِ، وَالحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوْقَهُ"(2)، فإنما يتصف بالشر أهله والشر للشر خلق.

وقد روى البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود بسند جيد، وآخرون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ مَا فيْ الرَّجُلِ شُحٌّ مُطَاعٌ، وَجُبْن خَالِعٌ"(3).

وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي عن رافع بن خَديج رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِي وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الحَجَّامِ"(4).

(1) رواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان"(2/ 139).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(6/ 8)، وأبو داود (2511). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (2/ 910): سند جيد.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 464)، ومسلم (1568)، والنَّسائي (4294).

ص: 356

وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَليْمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيْهَا، وَيُدْعَىْ إِليْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لا يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَىْ اللهَ وَرَسُوْلَهُ"(1).

وروى الطَّبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَليْمَةِ، يُدْعَىْ إِلَيْهِ الشَّبْعَانُ، وَيُحْبَسُ عَنْهُ الجَائِعُ"(2).

وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شَرُّ المَالِ فيْ آخِرِ الزَّمَانِ المَمَالِيْكُ"(3).

وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ البُيُوْتِ الحَمَّامُ، تَعْلُوْ فِيْهِ الأَصْوَاتُ، وَتُكْشَفُ فِيْهِ الْعَوْرَاتُ، فَمَنْ دَخَلَهُ لا يَدْخُلْ إِلَاّ مُسْتَتِرًا"(4).

(1) رواه مسلم (1432)، وكذا البخاري (4882).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12754). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 53): فيه عمران القطان، وثقه أحمد وجماعة، وضعفه النسائي وغيره.

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 94)، وكذا ابن عدي في "الكامل" وأعله بأبي فروة، محمد بن يزيد بن سنان.

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10926). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 278): فيه يحيى بن عثمان، ضعفه البخاري والنسائي، ووثقه أبو حاتم وابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 357

وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ بَيْتٍ فيْ المُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتِ فيْ المُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ، أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيْمِ فيْ الجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ"(1).

وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَمَّا بَعْدُ! فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدِ، وَشَرُّ الأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا"، الحديث (2).

وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث: "أَلا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيْءَ الْغَضَبِ سَرِيْعَ الرضَا، وَشَرُّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيْعَ الْغَضَبِ بَطِيْءَ الرِّضَا، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَطِيْءَ الْغَضَبِ بَطِيْءَ الْفَيْءِ، وَسَرِيْعَ الْغَضَبِ بَطِيْءَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بهَا، أَلا إِنَّ خَيْرَ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ، وَشَرُّ التُّجَارِ مَنْ كَانَ سَيِّءَ الْقَضَاءِ سَيِّءَ الطَّلَبِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَسَنَ الْقَضَاءِ سَيِّءَ الطَّلَبِ أَوْ كَانَ سَيِّءَ

(1) رواه البخاري في "الأدب المفرد"(137)، وابن ماجه (3679).

وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 514).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 310)، ومسلم (867)، والنسائي (1578)، وابن ماجه (45).

ص: 358

الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ فَإِنَّهَا بهَا" (1).

وروى الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" بسند ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَسْبُ المُؤْمِنِ مِنَ الشَّرِّ إِلَاّ مَنْ عَصَمَهُ اللهِ أَنْ يُشِيْرَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِالأَصَابعِ فيْ دِيْنِهِ وَدُنْيَاه"(2).

وذكره في "الإحياء" عن جابر، ولا يُعرف من حديثه، كما قال العراقي (3).

ورواه البيهقي من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه:"حَسْبُ امْرِئٍ مَنَ الشَّرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابعِ"(4)، مُقْتَصِرًا عَلَىْ ذَلِكَ.

وحديثه في "مسلم" بلفظ: "كَفَىْ بِالمَرْءِ إِثْمًا"(5).

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 19)، والترمذي (2191) وقال: حسن صحيح، والحاكم في "المستدرك"(8543).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6890)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6978) وقال: الإسناد ضعيف.

(3)

انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 275)، و"تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي (2/ 923).

(4)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6977). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 923).

(5)

قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 923): وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من =

ص: 359

ورواه الإمام أحمد في "الزهد" عن الحسن مرسلًا، ولفظه:"كَفَىْ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الشَرِّ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالأَصَابعِ إِلَاّ مَنْ عَصَمَ اللهُ وَرَحِمَ"(1).

وذلك أنه إذا أُشير إليه وعول عليه رأى لنفسه مزية وفضلًا، ومتى رأى فضل نفسه ومزيتها عَمِيَ عن معايبها فلم يجتنبها، ولم يحذر من غوائل شهوات.

ومن هنا مُدِحَ اتهامُ الإنسان لنفسه وظنُّه الشرَّ بها.

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى: أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ائتوني بخيركم رجلًا، فأتوه برجل؛ قال: أنت خير بني إسرائيل؟

= السوء أن يشير الناس إليه، إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". حديث جابر:"بحسب امرئ من الشر" الحديث مثله وزاد في آخره: "إن الله لا ينظر إلى صوركم" الحديث هو غير معروف من حديث جابر، معروف من حديث أبي هريرة رواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" بسند ضعيف، مقتصرين على أوله، ورواه مسلم مقتصرًا على الزيادة التي في آخره، وروى الطبراني والبيهقي في "الشعب" أوله من حديث عمران بن حصين بلفظ:"كفى بالمرء إثمًا". ا. هـ.

إذن فحديث مسلم هو: "إن الله لا ينظر إلى صوركم

".

وحديث: "كفى بالمرء إثمًا" هو حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عند الطبراني والبيهقي، وليس عند مسلم، كما أوهم صنيع المؤلف رحمه الله.

(1)

ورواه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 12).

ص: 360

قال: كذلك يزعمون.

قال: اذهب فائتني بشرهم.

قال: فذهب، فجاء وليس معه أحد، فقال: جئني بشرهم؟

قال: أنا ما أعلم من أحدٍ منهم ما أعلم من نفسي.

قال: أنت خيرهم (1).

ومن هنا لمَّا سُئِلَ أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: متى يكون الرجل متواضعًا؟

قال: إذا لم يَرَ لنفسه مقاما ولا حالًا، ولا يرى أنَّ في الخلق من هو شرٌ منه (2).

وسُئل يوسف بن أسباط رحمه الله تعالى عن التواضع، فقال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيته خيرًا منك (3).

وسُئِل سفيان الثوري، أو عبد الله بن المبارك: متى يكون الرجل متكبرًا؟

قال: متى رأى أن في الناس من هو شرٌ منه، فهو متكبر (4).

ووجه ذلك: أنه من ذَنْبِه وعَيبِ نفسِه على يقين، وهو من عيب

(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 74).

(2)

انظر: "الرسالة القشيري"(ص: 184).

(3)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 252).

(4)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 36) عن أبي يزيد.

ص: 361

غيره على ظن وتخمين؛ كما أشار إلى ذلك صاحب موسى عليه السلام.

وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ وَقَاهُ اللهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجَنَّةَ"(1).

وروى البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وقِيَ شَرَّ لقلقهِ وَقبقبهِ وَذبذبهِ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَةُ"(2).

اللقلق: اللسان.

والقبقب: البطن.

والذبدب: الذكر.

وروى الإمام أحمد -ورواته يحتج بهم في "الصحيح" - عن حميد بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! أوصني.

قال: "لَا تَغْضَبْ".

قال: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع

(1) رواه الترمذي (2409) وحسنه، وابن حبان في "صحيحه"(5703)، والحاكم في "المستدرك"(8059).

(2)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5409) وقال: في إسناده ضعف.

ص: 362

الشر كله (1).

وروى الحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوْا الخَمْرَ؛ فَإِنَّها مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ"(2).

وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في كلامٍ له: وشر العمى عمى القلب، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم (3).

ويروى مرفوعاً من حديث عقبة بن عامر، وأبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنهما (4).

واعلم أن القول الجامع في هذا الباب، والحكمة البالغة قول الله عز وجل:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].

ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسمي هذه الآية: "الجامعة الفاذَّة".

أخرجه عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى (5)، وشاهده في "الصحيح"(6).

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 373). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 69): رجاله رجال الصحيح.

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(7231)، وكذا البيهقي في "شعب الإيمان"(5588).

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34552).

(4)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 692).

(5)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 596).

(6)

رواه البخاري (4678)، ومسلم (987) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 363

وروى الإمامان عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وأحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أو جده: أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه يقرأ هذه الآية:{فَمَنْ يَعْمَلْ}

إلى آخره، فقال: حسبي حسبي، لا أُبالي أن أسمع غيرها.

وفي رواية: أن لا أسمع من القرآن غيرها (1).

وروى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع رجلاً إلى رجلٍ يعلمه، فعلمه حتى بلغ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} فقال: حسبي.

فقال الرجل: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي أمرتني أن أُعلمه لمَّا بلغ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} قال: حسبي.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ؛ فَقَدْ فَقُهَ"(2).

وروى الإمام أحمد في "الزهد"، وغيره عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه قال: لولا ثلاث لأحببتُ أن لا أبقى في الدنيا: وضعي وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار تقدمةً لحياتي، وظمأ الهواجر، ومقاعدة أقوام ينتقون الكلام كما تُنتقى الفاكهة.

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 27)، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 59)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11694)، والحاكم في "المستدرك"(6571).

(2)

رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 388)، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (8/ 596).

ص: 364

وتمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه في مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً حتى يكون حاجزاً بينه وبين الحرام؛ إنَّ الله قد بين للناس الذي هو مصيرهم إليه:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]؛ فلا تحقرن شيئاً من الشر أن تتقيه، ولا شيئاً من الشر أن تفعله (1).

وروى ابن سعد في "طبقاته" عن شدَّاد بن أوس رضي الله تعالى عنه: أنه خطب الناس، فحمد الله أثنى عليه، وقال: يا أيُّها الناس! ألا إنَّ الدنيا عَرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة أجلٌ مستأخر، يقضي فيه ملكٌ قادر.

ألا وإنَّ الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار.

ألا واعلموا أنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (2).

وروى المفسرون، والطَّبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشُّعب" عن أنس رضي الله عنه قال: بينما أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزل عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا

(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 212).

(2)

كذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 598) إلى ابن سعد، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5599) مرفوعاً.

ص: 365

يَرَهُ} الآية، فرفع أبو بكر يده، وقال: يا رسول الله! لراءٍ ما عملت من مثقال ذرة من شر.

فقال: "يَا أَبَا بَكْر! أَرَأَيْتَ مَا تَرَىْ فيْ الدُّنْيَا ممَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيْلِ ذَرِّ الشَّرِّ، وَيُدَّخَرُ لَكَ مَثَاقِيْلُ ذَرِّ الخَيْرِ حَتَّى تُوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(1).

ورواه إسحاق بن راهويه، والحاكم عن أبي أسماء قال: بينما أبو بكر يتغدى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ} إلى آخره، فأمسك أبو بكر، وقال: يا رسول الله! كل ما عملنا من سوء رأيناه؟

فقال: "ما تَرَوْنَ مِمَّا تَكْرَهُونَ فَذاكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ، ويؤَخَّرُ الْخَيْرُ لأَهْلِهِ فِي الآخِرَةِ"(2).

* تَنْبِيهٌ:

ينبغي للعبد أن يعتزل أهل الشر ويعزل شره عن أهل الخير، ولا يشارَّ أهل الشر، بل يدفع بالتي هي أحسن، ويعفو أو ينتقم من غير مجاوزة، وقد سبق الحديث:"وَمَنْ يَتَوَقَّى الشَّرَّ يُوقَهُ"(3).

وروى ابن عساكر عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِيَّاكَ وَقَرِينَ

(1) رواه الطبري في "التفسير"(30/ 268)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(8407)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9808).

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(3966).

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 366

السُّوءِ؛ فَإِنَّكً بِهِ تُعْرَفُ" (1).

وروى ابن أبي الدنيا في "المداراة" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَمُشارَّةَ النَّاسِ؛ فَإِنَّها تَدْفِنُ الغُرَّةَ، وَتُظْهِرُ الْعَوْرَةَ"(2).

وروى الشيخان، وغيرهما عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟

قال: "مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فيْ سَبِيْلِ اللهِ".

قال: ثمَّ من؟

قال: "ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فيْ شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، ويدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ".

وفي رواية: "يَتَّقِي اللهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ"(3).

وما أحسن قولَ من قال: [من مجزوء الخفيف]

يا خَلِيلَيَّ عَدِّيا

عَنْ حَدِيثِ الْمَكارِمِ

مَنْ كَفى النَّاسَ شَرَّهُ

كانَ فِي جُودِ حاتِمِ

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(14/ 46).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس"(ص: 112)، وكذا الطبراني في "المعجم الصغير" (1055). وفيه سيف بن أبي مغيرة ضعفه الدارقطني وغيره. انظر:"لسان الميزان" لابن حجر (3/ 133).

(3)

رواه البخاري (6129)، ومسلم (1888).

ص: 367

وقلتُ في هذا الباب: [من مجزوء الرمل]

افْعَلِ الْخَيْرَ يَسُرُّكْ

وَاكْفِ كُلَّ النَّاسِ شَرَّكْ

إِنَّ ذا يَجْلُو لَكَ الْفِكْـ

ـرَ وَيُخْلِي لَكَ بِرَّكْ

وَاحْتَسِبْ بِاللهِ تُكْفَى الشَّـ

ـرَّ حَتَى لا يَضُرَّكْ

اسْمَعِ النُّصْحَ وَلا تُصْغـ

ـغِ إِلَى مَنْ كان غَرَّكْ

إِنَّ مَنْ حَرَّكَ شَرًّا

ذُمَّ ما قَدْ كانَ حَرَّكْ

مَنْ يُثِرْ مِنْكَ بِما قا

لَ لَمَّا غاظَ مقرَّكْ

فَهْوَ ما رامَ لَكَ الْخَيْرَ

وَلا بِالنُّصْحِ بَرَّكْ

رُبَّ ما قَلَّ مِنَ الشَّرِّ

إِلَى الأَكْثَرِ جَرَّكْ

رُبَّما قُلْتَ لِمَا اسْتَحْـ

ـلَيْتَ ما كانَ أَمَرَّكْ

رُبَّ فِعْلٍ كُنْتَ تَرْضَى

تَرْكَهُ قَدْ كانَ أَبْرَكْ

رُبَّما كانَ مِنَ القَوْلِ

الَّذي قَدْ خَفَّ معرَّكْ

رُبَّ ذِي صَمْتٍ لِما شا

ءَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَدْرَكْ

إِنَّ خُبْرَ الندبِ يُجدِيـ

ـكَ وَإِنْ خالَفَ خُبْرَكْ

وَالتَّأنِّى بِكَ أَوْلَى

بِكَ أَنْ تُحْكِمَ أَمْرَكْ

عَمْرَكَ اللهَ اسْتَمِعْ لِي

فَعَسى تُحْمَدُ عَمْرَكْ

ص: 368

* تَتِمَّةٌ:

تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوْقَهُ"(1).

هذا التوقي - وإن كنا مأمورين به - فإنه لا يكون إلا بتوفيق الله وإعاذته إيانا من الشر.

ثم جاءت الاستعاذة من الشر وذوات الشر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكفاك إن كنت مكتفياً السورتان المعوذتان.

روى النسائي عن ابن عابس الجهني رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يَا ابْنَ عَابِسٍ! أَلا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلَ مَا تَعَوَّذَ بِهِ المُتَعَوِّذُوْنَ؟ ".

قلت: بلى يا رسول الله.

قال: " {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]؛ هُمَا المُعَوِّذَتَان"(2).

وروى ابن أبي شيبة عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا سَأَلَ سَائِلٌ وَلا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيْذٌ بِمِثْلِهِمَا"(3)؛ يعني: المعوذتين.

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه النسائي (5432).

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29604)، وكذا الدارمي في "السنن"(3440).

ص: 369

وروى الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، عن أبي ذر، والإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله تعالى عنه: "يَا أَبَا ذَرٍّ! تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ شَرِّ شَيَاطِيْنِ الإِنْسِ وَالجِنِّ".

قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟

قال: "نعَمْ"(1).

وروى أبو داود الطَّيالسي، والطَّبراني في "الكبير" عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ"(2).

وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ"(3).

وروى ابن ماجه، والحاكم وصححه، من حديثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الطيالسي في "المسند"(786)، والطبراني في "المعجم الكبير" 2058). قال ابن طاهر المقدسي في "ذخيرة الحفاظ" (3/ 1783): فيه قيس بن الربيع ضعيف.

(3)

رواه مسلم (2716)، وأبو داود (1550)، والنسائي (1307)، وابن ماجه (3839).

ص: 370

قال لها: "عَلَيْكِ بِالجَوَامعِ الْكَوَامِلِ، قُوْليْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهُ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَسْألُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَسْألكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَرَسُوْلُكَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وَأَسْتَعِيْذُكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَرَسُوْلُكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ ليْ مِنْ أَمْرٍ أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ رُشْدًا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ"(1).

وروى الترمذي، والحاكم عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه: أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فيْ الأَمْرِ، وَالْعَزِيْمَةَ عَلَىْ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيْمًا، وَخُلُقًا مُسْتَقِيْمًا، وَلِسَاناً صَادِقًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوْبِ"(2).

وروى الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي من حديثه رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ: اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّيْ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، خَلَقْتَنيْ وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَىْ عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوْءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوْءُ بِذَنْبيْ

(1) رواه ابن ماجه (3846)، والحاكم في "المستدرك"(1914).

(2)

رواه الترمذي (3407)، والحاكم في "المستدرك"(1872)، وكذا النسائي (1304).

ص: 371

فَاغْفِرْ ليْ، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُنُوْبَ إِلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالهَا مِنَ النَّهَارِ مُوْقِنًا بهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنةِ، وَمَنْ قَالهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوْقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ" (1).

وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهُمَّ أَصْلِحْ ليْ دِيْنيْ الَّذِيْ هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِيْ، وَأَصْلحْ ليْ دُنْيَايَ الَّتيْ فِيْهَا مَعَاشِيْ، وَأَصْلِحْ ليْ آخِرَتيْ الَّتيْ فِيْهَا مَعَادِيْ، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيادَةً ليْ فيْ كُل خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةَ ليْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ"(2).

وروى أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، وصححوه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! مُرني بكلماتٍ أقولهن إذا أصبحتُ وإذا أَمْسيت.

قال: "قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيْكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِيْ وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ".

قال: "قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ"(3).

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 122)، والبخاري (5947)، والنسائي (5522).

(2)

رواه مسلم (2720).

(3)

رواه أبو داود (5067)، والترمذي (3392) وصححه، وابن حبان في "صحيحه"(962)، والحاكم في "المستدرك"(1892).

ص: 372

وروى الترمذي وحسنه، عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: "يا حُصَيْنُ! كَمْ تَعْبُدُ اليَوْمَ إِلَهاً؟ ".

قال أبي: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحداً في السماء.

قال: "فَأيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ ".

قال: الذي في السَّماء.

قال: "يا حُصَيْنُ! أَما إِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعانِكَ".

قال: فلمَّا أسلم حصين رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! علِّمني الكلمتين اللتين وعدتني.

فقال: "قُلْ: اللَّهُمَّ ألهِمْني رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي"(1).

رواه الترمذي، والنَّسائي، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، من حديث حصين رضي الله تعالى عنه (2).

وروى أبو داود، والترمذي، وحسنه، عن شكل بن حميد رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! علمني دعاءً.

قال: "قُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِيْ، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِيْ، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِيْ، وَمِنْ شَرِّ قَلْبيْ، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّيْ"(3).

(1) رواه الترمذي (3483) وقال: غريب.

(2)

رواه النسائي في "السنن الكبرى"(10830)، والحاكم في "المستدرك"(1880).

(3)

رواه أبو داود (1551)، والترمذي (3492) وحسنه، وكذا النسائي (5456).

ص: 373

ورواه الطَّبراني في "الدُّعاء" بسند ضعيف، عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنه قيل له: قد احترقت دارك، وكانت النار قد وقعت في محلته.

فقال: ما كان الله ليفعل ذلك.

فقيل له ذلك ثلاثاً.

فقال: ما كان الله ليفعل ذلك.

ثم أتاه آتٍ فقال له: يا أبا الدرداء! إنَّ النار حيثُ دنَتْ من دارك طُفِئتْ.

قال: قد علمت.

فقيل: ما ندري من أي قوليك أعجب؟

فقال: إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ يَقُلْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فيْ لَيْلٍ أَوْ نهارٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ"، وقد قُلْتُهُن.

وهن: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، عَلَيْكَ تَوَكَلْتُ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ الْعَلِي الْعَظِيْمِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لمَ يَشَأْ لمَ يَكُنْ، أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَىْ كُل شَيْءٍ قَدِيْرٌ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِيْ، وَشَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّيْ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيْمٍ"(1).

وروى ابن حبان في "صحيحه" عن عثمان بن أبي العاص،

(1) رواه الطبراني في "الدعاء"(ص: 128)، وكذا ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 54).

ص: 374

وامرأة من قريش: أنهما - رضي الله تعالى عنهما - سَمِعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهُمَّ اغْفِرْ ليْ ذُنُوْبيْ وَخَطَئِيْ وَعَمْدِيْ".

وقال الآخر: سمعته يقول: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْتَهْدِيْكَ لأَرْشَدِ أَمْرِيْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِيْ"(1).

وليس في هذه الأحاديث صريح استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من شرِ نفسه إلا في هذا الحديث، وهو تشريع منه، أو لهضم نفسه، أو لأنه لا يأمن مكر الله، ولا شكَّ أن في هذا اعتباراً ظاهراً لأهل البصائر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قد استعاذ من شر نفسه وهي أشرف النفوس وأكرمها وأفضلها، فكيف بغيره؟ خصوصاً من استولت عليهم شهوات نفوسهم.

وروى أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً - سمَّاه باسمه: عمامة، أو قميصاً، أو رداء - يقول:"اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيْهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ". قال النووي: حديث صحيح (2).

وروى أبو داود، وابن ماجه بسند جيد، عن عمرو بن شعيب،

(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(901)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(4/ 21).

(2)

رواه أبو داود (4020)، والترمذي (1767) وقال: حسن غريب صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى"(10141).

ص: 375

عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشْتَرىْ أَحَدُكُمْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهُ عَلَيْهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهُ عَلَيْهِ".

وفي رواية: "إِذَا اشْتَرَى أَحَدُكُم الجَارِيَةَ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّىْ أَسْأَلُكَ خَيرَهَا وَخَيرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا، وَلْيَدْعُ بِالبَرَكَةِ، وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ بَعِيرًا فَلْيَأْخُذْ بِذُرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَدْعُ بِالبَرَكَةِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ"(1).

وروى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عَصَفت الريح قال: "اللهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيْهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيْهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ"(2).

وروى النسائي، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" عن صهيب رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يرَ قريةً يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرَضِيْنِ السَّبع وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِيْنِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَنَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا

(1) رواه أبو داود (2160) واللفظ الثاني له، وابن ماجه (1918) واللفظ الأول له.

(2)

رواه مسلم (899).

ص: 376

وَشَرِّ مَا فِيْهَا" (1).

وروى ابن السني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشرف على أرض يريد دخولها قال: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ وَخَيْرِ مَا جُمَعْتْ فِيْهَا، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَمَعْتَ فِيْهَا، اللهُمَّ ارْزُقْنَا حبَاهَا وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا، وَحَبِّبْنَا إِلىْ أَهْلِهَا، وَحَبِّبْ صَالحِيْ أَهْلِهَا إِلَيْنَا"(2).

وروى أبو داود، والنسائي في "اليوم والليلة" بإسناد صحيح، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَجْعَلُكَ فيْ نحُوْرِهِمْ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شُرُوْرِهِمْ"(3).

وروى ابن السني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأراني القمر حين طلع فقال:"تَعَوَّذِيْ مِنْ شَرِّ هَذَا الْغَاسِقِ إِذَا وَقَبْ"(4).

وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول أذا رأى الهلال: "اللهُمَّ إِنِّيْ

(1) رواه النسائي في "السنن الكبرى"(8826)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 472)، وكذا ابن خزيمة في "صحيحه"(2565).

(2)

رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(ص: 474).

(3)

رواه أبو داود (1537)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (ص: 392).

(4)

رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(ص: 648)، وكذا الترمذي (3366) وقال: حسن صحيح.

ص: 377

أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الحَشْرِ" (1).

وفي لفظ أخرجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه": كان إذا رأى الهلال قال: "اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذا الشَّهْرِ، وَخَيْرَ القَدَرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْحَشْرِ".

وفي لفظ أخرجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه": كان إذا رأى الهلال قال: "اللهُ أَكْبَرُ، الحَمْدُ للهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ، اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَمِنْ شَرِّ يَوْمِ المحَشَرِ"(2).

وروى الطبراني في "الكبير" عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: "هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذَا ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذَا الشَّهْرِ وَخَيْرِ الْقَدَرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ"؛ ثلاث مرات (3).

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(9727)، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 329).

(2)

كذا أوردهما المصنف رحمه الله وعزاهما للإمام أحمد وابن حبان، ولم أقف عليهما عندهما، والله أعلم.

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4409). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 139): إسناده حسن.

ص: 378

وروى أبو يعلى، وابن السني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى يدعو بهذه الدعوات: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَسْأَلُكَ مِنْ فَجْأَةِ الخَيرِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ فَجْأَةِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَدْرِيْ مَا يَفْجَؤُهُ إِذَا أَصْبَحَ وإِذَا أَمْسَىْ"(1).

وروى أبو داود بإسناد جيد، عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، اللهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُوْرَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيْهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، وإِذَا أَمْسَىْ فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ"(2).

وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ لَدْغَةُ حُمَةٍ (3) تِلْكَ اللَيْلَةِ"(4).

(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(3371)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 40). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 115): فيه يوسف بن عطية، وهو متروك.

(2)

رواه أبو داود (5084).

(3)

حمة: الحم: السم، ويطلق على إبرة العقرب.

(4)

رواه ابن حبان في "صحيحه"(1022)، والحاكم في "المستدرك"(8280). وكذا مسلم (2709)، وأبو داود (3899) نحوه.

ص: 379

ورواه ابن عدي في "الكامل"، وأبو نصر السجزي في "الإبانة"، ولفظه:"مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبحُ: أَعُوْذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ - ثَلَاثَ مَرَّاتِ - لَمْ تَضُرَّهُ عَقْرَبٌ حَتَّى يُمْسِي، وَمَنْ قَالهَا حِينَ يُمْسِيْ لَمْ تَضُرَّهُ حَئى يُصْبحَ"(1).

وروى الإمام أحمد عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يخَرُجُ مِنْ بَيْتِهِ، يُرِيْدُ سَفَراً أَوْ غَيْرَهُ فَقَالَ حِينَ يخَرُجُ: آمَنْتُ بِاللهِ، اعْتَصَمْتُ بِاللهِ، تَوَكَّلتُ عَلَىْ اللهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ إِلَاّ رُزِقَ خَيرَ ذَلِكَ المَخْرَجِ، وَصُرِفَ عَنْهُ شَرَّ ذَلِكَ المَخْرَجِ"(2).

* تَنْبِيهٌ:

لا تخلو المخلوقات من خير أو شر.

ثم كل مكلف فإما من الخِيَار، وإما من الشرار، ومآلُ كل مكلف إما إلى خير، ولا خير إلا خير الجنة، وإما إلى شر، ولا شر فوق شر النار.

وكل ما يتعلق به المكلف من شيء فهو إما خير، وإما شر، فعليه طلب كل خير واجتناب كل شر لتنجو نفسه يوم القيامة من الشر وتفوز بالخير، ومتى قصر في ذلك فإن تقصيره في حق نفسه كما قال تعالى:

(1) رواه ابن عدي في "الكامل"(7/ 243).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 65). وفيه رجل لم يسم.

ص: 380

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].

وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ أي: بذي ظلم لهم، فالعبد مبتلى بالخير والشر، وإنما ينجو من الفتنة فيهما بالتوفيق للطاعة، والتقوى من الله تعالى ثم بالتقوى.

وقد سبق في الحديث: "مَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوْقَهُ"(1).

وطريق توقية الشر حسم مواده عنه؛ بأن يقطع عنه شهوات نفسه إلا ما احتاج إليه في معاشه المُعين له على صلاح معاده من طعام أو شراب، أو نكاح، أو غير ذلك.

وأصل الاسترسال في الشهوات المؤدية إلى الهلاك ومنبعها شهوة الطعام والشراب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ"(2).

ثم يرغب في مخالطة أهل الخير ما دامت المخالطة خيراً، وما دامت تدعو إلى خير، فاذا تجاوز ذلك فليس له خير من الاعتذار عنهم.

ويرهب ويبعد عن مخالطة أهل الشر، ومن فيه مظنة الشر إلا إذا

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الترمذي (2380)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (3349) عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه.

ص: 381

اضطر، فيقدر اضطراره لا غير، كما تقدم عن حاتم الأصم رحمه الله تعالى قال: قال لي شقيق البَلْخي: اِصحب النَّاس كما تصحب النار؛ خذ منفعتها واحذر أن تحرقك (1).

ويبعد عن مشاهدة المناكر، بل يعرض عن مشاهدة زخارف الدنيا وزينتها بالكلية؛ فإنها إما شر، وإما تؤدي إلى الشر.

كما روى الدينوري في "المجالسة" عن عبد الله بن جعفر الرقي، قال: وشى واشٍ برجل إلى الإسكندر، قال: أتحب أن نقبل منك ما قلت فيه على أنا نقبل منه ما قال فيك؟

فقال: لا.

فقال له: فكُفَّ عن الشر يُكَفُّ الشر عنك (2).

وهذا القول من الإسكندر حكمة بالغة.

والكف عن الشر شامل لكف اللسان عن الغيبة والنميمة، والسعاية والكذب، وغير ذلك، وغض البصر عما لا يحل، وعما يُكره من زينة الدُّنيا وغيره، وكف السَّمع عما ينبغي، وكف اللسان عن التكلم به، وكف اليد عن ضرر الناس بقتلٍ أو ضرب، أو إشارة، أو غير ذلك، وكف الرجل عن المشي في معصية، بل وعما سوى الطَّاعة، وكف الشم والذوق والمس عما لا يليق، وكف النفس عن

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 77).

(2)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 197).

ص: 382

الشَّهوات، وعن موافقة الأصدقاء والخلان فيما لا ينبغي، وعن مقابلة الأضداد بالخصومات والمجادلات وغيرها؛ فإنه يتعوض عن تشفي النفس بذلك بفضيلة العفو وثواب الحلم والكرم.

وقد روى الدَّينوري في "المجالسة" عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما: أنَّه قال لرجل: أتحب أن تغلب شر الناس؟

قال: نعم.

قال إنك إن تغلبه تكنْ شراً منه (1).

ويبعد أشد الإبعاد عن معاشرة الملوك والأغنياء إلا على حد الضَّرورة؛ فإن معاشرتهم تؤدي إلى استحسان ما هم فيه، وذلك يجر إلى الوقوع فيه وإلى مُراءاتهم ومنافقتهم، وكفى بذلك شراً.

وهؤلاء في هذه الأعصار لا يسلمون ولا يسلم أصحابهم من الوقوع في الآثام والمعاصي في لباسهم، ومساكنهم، ومطاعمهم ومشاربهم، وغير ذلك، وكفى بالمعاصي وما يجر إليها شراً، وإذا زعم تقي في عشرتهم على حد الحرص منهم، والحذر من مشاركتهم فيما هو فيه، وكان صادقاً في زعمه، فقد أوقع النَّاس في الوقوع فيه، وأساء الظن به، كما قال بشر بن الحارث رحمه الله تعالى: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار (2).

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 237).

(2)

رواه القشيري في "رسالته"(ص: 328).

ص: 383

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: صحبة من لا يخاف العار عار (1).

وروى الأصبهاني في "ترغيبه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني! اجتنب الأشرار؛ فإنك إن لم تعمل بأعمالهم أخذتَ من أخلاقهم.

وليحذر من كثرة محادثة النساء ولو كنَّ محارم؛ فإن صحبة النساء والصبيان تؤدي بالرجل إلى التنزل إلى عقولهم وأخلاقهم، وموافقتهم على هواهم، وهم يريدون منه ما هَوِيَتْه نفوسهم وإن أدى به إلى الهلاك والسواف، والدخول في مداخل الشر.

وقد نقل الدميري في "حياة الحيوان": أنَّ لقمان قال في وصيةٍ لابنه: اتق المرأة السوء؛ فإنها تشيبك على المشيب، واتق شرار النساء؛ فإنهن لا يدعون إلى خير، وكن من خيارهن على حذر (2).

واعلم أن ما ذكره من التقوى والحذر مطلوب من كل مسلم، لكنه مطلوب أشد من العلماء، وإذا كان العالم واقعاً فيما التقوى الإبعاد منه، فكيف حال غيره إذا رآه على خلاف ذلك من اتباع الشهوات ومعاشرة أهل الغرور وهو عنده قدوة؟ فكيف لا يقتدي به فيما يُوافق هواه؟

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(32/ 226).

(2)

انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 236).

ص: 384

وهذا حال أكثر المتلبسين بالعلم اليوم، وكلما تأخر الزمان كان علماؤه أسوء حالاً من الزمان قبله، ويكون عوامه لاحقين بهم حتى تقوم السَّاعة على شرار الخلق.

كما روى ابن ماجه، والحاكم وصححه، وأبو نعيم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْدَادُ الأَمْرُ إِلَاّ شِدَّةً، وَلَا الدُّنْيَا إِلَاّ إِدْبَاراً، وَلَا النَّاسُ إِلَاّ شُحًّا، وَلَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ إِلَاّ عَلَىْ شِرَارِ النَّاسِ"(1).

ورواه الحاكم وصححه، عن أبي أمامة، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن معاوية رضي الله تعالى عنهما بلفظ:"لَا يَزْدَادُ الأَمْرُ إِلَاّ شِدَّةً، وَلَا يَزْدَادُ المَالُ إِلَاّ إِفَاضَةً، وَلَا يَزْدَادُ النَّاسُ إِلَاّ شُحًّا، وَلَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ إِلَاّ عَلَىْ شِرَارِ النَّاسِ"(2).

والقول الجامع في هذا الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَيْءٍ يَنْقُصُ إِلَاّ الشَّرُّ؛ فَإِنَّهُ يُزَادُ فِيْهِ". أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي

(1) رواه ابن ماجه (4039)، والحاكم في "المستدرك"(8364)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 262). قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/ 67): خبر منكر.

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(8359)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7757) عن أبي أمامة رضي الله عنه.

والطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 357) عن معاوية رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 14): رجاله رجال الصحيح.

ص: 385

الدَّرداء رضي الله تعالى عنه (1).

وأخرجه العسكري في "الأمثال" بلفظ: "كُلُّ شَيْءٍ يَغِيْضُ إِلَاّ الشَّرَّ، فَإِنَّهُ يُزَادُ فِيْهِ"(2)، وهو بمعنى: ينقص.

وروى ابن أبي الدُّنيا في "العقوبات" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سيأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، مساجدهم يومئذ عامرة، وهي من التقوى خراب، ومن الهدى خاوية، علماؤهم شَرُّ مَنْ تحت أديم السماء، منهم تخرج الفتنة، وإليهم تعود (3).

ولا يشكل عليك ما تجده من قيام صورة الدين وإجراء الأحكام على وفق الشرع في بعض الأحيان، وسريان سر السياسات في إصلاح بعض الناس، والقائمون بذلك إن لم يكونوا كلهم فالغالب منهم على أمور لو عرضت أفرادها على الشريعة لم تجدها موافقة؛ فإن هذا من باب تأييد الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خَلاق لهم، كما في الحديث:"إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ".

وفي لفظ: "بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ".

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 441). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 220): فيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف، ورجل لم يسم.

(2)

ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(4752).

(3)

ورواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 88).

ص: 386

وفي لفظ: "مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ"(1).

وبذلك يتضح لك معنى ما رواه الإمام أحمد، والطَّبراني في "الكبير" عن ميمون بن سنباذ رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قِوَامُ أُمَّتيْ بِشِرَارِهَا"(2).

وقوام الشيء: عماده الذي يقوم به.

فإنه محمول على غير زمان النبى صلى الله عليه وسلم وزمان الصحابة رضي الله عنهم حين صار الأمر بعد الخلافة ملكاً عَضُوضاً.

فاعلم يا أخي - أرشدني الله وإياك، وإن كنا في زمان بالسوء أليق، ولأهل الشر أوفق - أنَّ من وفقه الله في هذه الأزمنة - وما ذلك على الله بعزيز - إلى الاستقامة على قدم التقوى من أهل العلم بقدر طاقته واستطاعته، فهو قطب الوقت المطلق، وولي الزمان المحقق، ولا أعني بذلك أن يعرف الخير من الشر فقط حتى يفعل الخير كما أمر، ويحذر الشر كما أمر، كما روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: ليس العالم الذي يعرف الخير من الشر، إنما العالم الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه (3).

(1) تقدم تخريج هذه الألفاظ جميعاً.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 227)، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 353). قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/ 1488): ليس إسناد حديثه بالقائم، وقد أنكر بعضهم أن تكون له صحبة.

(3)

رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 167).

ص: 387

وروى أبوه فيه عن زبيد اليامي رحمه الله تعالى قال: قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قولوا خيراً تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله (1).

فَهِمَ - رضي الله تعالى عنه - أن مَنْ عرف الخير فقالَ به، صار معروفاً به في الناس، موسوماً به عندهم، ولكنه لا يكون من أهل الخير حقيقةً حتى يعمل به مخلصاً فيه؛ وبالله التوفيق.

ثم اعلم أنَّ من وفقه الله تعالى من الحكام والقضاة إلى الوقوف مع الشرع، ثم إلى الاستقامة على ذلك إلى وفاته - وأنى لنا بهذا في هذه الأزمنة التي قوام الأمة فيها شرارها - فهو من الأوتاد في الأرض لأنهم ظل الله في الأرض، فإذا كان الظل لطيفاً معتدلاً وَرِيفاً عاش الناس في كَنَفه في أهنى عيش، بخلاف مالم يكن كذلك؛ فإن الناس -وإن عاشوا في كنفه- إلا أنه لا هَنَاء في عيشهم، بل هو منغص مكدر، فهم إذا صبروا أُجزوا على الطاعة والانقياد، وأثيبوا على الصبر على جفاء الولاة ومقاساة الأمور، وأهل الاستقامة من هذا الصنف أعز من الكبريت الأحمر والأبيض العقوق، وعنقاء مغرب، ولا أحسب منهم أحداً موجوداً الآن؛ لأن الشر غالب على الناس، فكيف يتوهم أهل الخير والله تعالى يقول في كتابه العزيز:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].

(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 161).

ص: 388

قال منصور بن الأسود: سألت الأعمش عن قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129] ما سمعتهم يقولون فيه؟

قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أُمِّر عليهم شرارهم. رواه أبو الشيخ (1).

وقال الحسن رحمه الله تعالى: إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: سَلْ لنا ربك يُبين لنا عَلَمَ رضاه عنا وعَلَمَ سَخَطِه.

فسأله فقال: يا موسى! أنبئهم أنَّ رضاي عنهم أن أستعمل عليهم خيارهم، وأن سخطي عليهم أن أستعمل عليهم شرارهم (2).

وقال الأصمعي: حدَّثنا مالك عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حدثت أنَّ موسى أو عيسى عليهما السلام قال: يا رب! ما علامة رضاك عن خلقك؟

قال: أن أنزل عليهم الغيث إبان زرعهم، وأحبسه إبان حصادهم، وأجعل أمورهم إلى حلمائهم، وفَيئهم في أيدي سمحائهم.

قال: يارب! فما علامة السُّخط؟

قال: أن أنزل عليهم الغيث إبان حصادهم، وأحبسه إبان زرعهم، فأجعل أمورهم إلى سفهائهم، وفيئهم في أيدي بخلائهم (3).

(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 51).

(2)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(7388).

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(7392).

ص: 389

رواهما البيهقي في "الشعب".

وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءكُمْ، وَأُمُوْرُكُمْ شُوْرَى بَيْنَكُمْ، فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءكُمْ، وَأُمُوْرُكُمْ إِلى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا"(1).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا مَشَتْ أُمَّتيْ المُطَيْطَاء، وَخَدَمَهَا أَبْنَاءُ المُلُوْكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّوْمِ، سُلِّطَ شِرَارُهَا عَلَى خِيَارِهَا"(2).

* وَهَذهِ فَوائِدُ مُهِمَّاتٌ لِهَذا الفَصْلِ:

روى الترمذي، وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَسْرَعُ الخَيْرِ ثَوَابًا الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَأَسْرَعُ الشَّرِّ عُقُوْبَةً الْبَغْيُ وَقَطِيْعَةُ الرَّحِمِ"(3).

وروى الإمام أحمد، والأئمة الستة عن أبي هريرة رضي الله

(1) رواه الترمذي (2266) وقال غريب، لا نعرفه إلا من حديث صالح المري، وصالح في حديثه غرائب، لا يتابع عليها، وهو رجل صالح.

(2)

رواه الترمذي (2261) وقال: غريب.

(3)

رواه ابن ماجه (4212). وله شاهد عند الترمذي (2511) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ما من ذَنْبِ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ الله لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ في الدُّنْيَا مع ما يَدَّخِرُ له في الآخِرَةِ من الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ".

ص: 390

تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْرِعُوْا بِالجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيرٌ تُقَدِّمُوْهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُنْ سِوَىْ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُوْنَهُ عَلَىْ رِقَابِكُمْ"(1).

وروى ابن سعد في "طبقاته" عن القاسم بن محمَّد مرسلاً: أنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب النساء حين فسدن عليهم، فقال:"اضْرِبُوْهُنَّ، وَلَا يَضْربُ إِلَاّ شِرَارُكُمْ"(2).

وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَعَالىْ قَالَ: أَنَا خَلَقْتُ الخَيرَ وَالشَّرَّ، فَطُوْبَىْ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَىْ يَدِهِ الخَيرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَيْهِ الشَّرَّ".

وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيْحُ لِلْخَيرِ مَغَالِيْقُ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيْحُ لِلشَّرِّ مَغَالِيْقُ لِلْخَيرِ، فَطُوْبَىْ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَىْ مَفَاتِيْحَ الخَيْرِ عَلَىْ يَدِيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيْحَ الشَّرِّ عَلَىْ يَدَيِهِ"(3).

وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 240)، والبخاري (1252)، ومسلم (944)، وأبو داود (3181)، والترمذي (1015)، والنسائي (1910)، وابن ماجه (1477).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(8/ 204).

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 391

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا نَظَرَ إِلَيْهَا ثمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ثمَّ قَالَ: وَعِزَّتيْ وَجَلَاليْ لَا أَنْزَلْتُكِ إِلَاّ فيْ شِرَارِ خَلْقِيْ"(1).

أي: في قلوب شرار خلقي، فهي - وإن وُجدت بأيدي بعض الأخيار كبعض الأنبياء والصَّالحين - فهي ليست في قلوبهم ولا لها عندهم منزلة؛ فإنهم بذلوها في سبيل الله تعالى، فهي - وإن كانت دنيا صورة - فإنما هي لطلب الآخرة.

وروى البخاري، ومسلم - واللفظ له - والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ".

ومرَّ بجنازة فأثني عليها شراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ".

فقال عمر رضي الله تعالى عنه: فداك أبي وأمي! مُرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، ومر بجنازة فأثني عليها شراً، فقلت:"وَجَبَتْ، وَجَبَت، وَجَبَتْ"؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أثنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيرًا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ أثنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فيْ الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فيْ الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فيْ الأَرْضِ"(2).

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(55/ 117).

(2)

رواه البخاري (1301)، ومسلم (949)، والترمذي (1058)، والنسائي (1932)، وابن ماجه (4221).

ص: 392

وروى البخاري عن أبي الأسود قال: قدمتُ المدينة فجلستُ إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمرَّت بهم جنازة فأثنوا على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت.

ثم مرَّ بأخرى فأثنوا على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت.

ثم مرَّ بالثالثة فأثنوا على صاحبها شراً، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وجبت.

قال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟

قال: قلتُ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ".

قال: فقلنا: وثلاثة؟

فقال: "وَثَلَاثةٌ".

فقلنا: واثنان؟

قال: "وَاثْنَانِ".

ثم لم نسأله عن الواحد (1).

وروى البزار بسند ضعيف، عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ وَاللهُ يَعْلَمُ مِنْهُ شَرًّا، وَيَقُوْلُ النَّاسُ خَيرًا، قَالَ اللهُ عز وجل لملَائِكَتِهِ عليهم السلام: قَبِلْتُ شَهَادةَ عِبَادِيْ عَلَى عَبْدِيْ، وَغَفَرْتُ لَهُ عِلْمِيْ فِيْهِ"(2).

(1) رواه البخاري (1302).

(2)

رواه البزار في "المسند"(3800). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 5): وفيه محمد بن عبد الرحمن القشيري، وهو متروك الحديث.

ص: 393

أي: معلومي فيه.

وهذا من كمال الكرم، وهو أهل للعفو والكرم سبحانه وتعالى.

وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن قتادة: أن لقمان عليه السلام قال لابنه: يا بني! اعتزل الشر كيما يعتزلك؛ فإن الشر للشر خُلِق (1).

وعن سفيان - يعني: الثوري - قال: قيل للقمان عليه السلام: أي الناس شر؟

قال: الذي لا يُبالي أن يراه النَّاس مُسيئاً (2).

وعن معاوية بن قرة قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني! جالس الصالحين من عباد الله؛ فإنك تُصيبك بمجالستهم خيراً، ولعله أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم الرحمة فتصيبك معهم.

يا بني! لا تجالس الأشرار؛ فإنك لا يُصيبك من مجالستهم خير، ولعلَّ أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم عقوبة فتصيبك معهم (3).

وروى ابن أبي شيبة عن أبي عبد الله الجدلي قال: كان يقول داود عليه السلام: اللهم إني أعوذ بك من جارٍ عينه تراني وقلبه يرعاني، إن رأى خيراً دفنه، وإن رأى شراً أشاعه (4).

(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 49)، وكذا ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس" (ص: 114).

(2)

رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 50).

(3)

رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 106).

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29891).

ص: 394

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن سفيان بن عيينة قال: كان عيسى ويحيى عليهما السلام يأتيان القرية، يسأل عيسى عليه السلام عن شرار أهلها، وشمال يحيى عليه السلام عن خيار أهلها، فقال - يعني: يحيى - لعيسى عليهما السلام: لم تنزل على شرار الناس؟

قال: إنما أنا طبيب أُداوي المرضى (1).

فمعاشرة الأشرار ومخالطتهم بهذه النية لهذه المصلحة من أعمال الخير.

لكن هذا لا يتم إلا لمن كمل في نفسه، ثم صلح في تكميل غيره، وكان له كلمة نافذة فيمن يأمره وينهاه ممن يُعاشره، إما لشرف مقامه عنده، وإما لمحبته إياه واعتقاده فيه.

فأما من لم يكن كذلك فيوشك أن يغلب خلق من يعاشره من أهل الشر على ما عنده من خلق الخير، ومن المعلوم أن كثيراً من العسل يفسده قليلٌ من المر، وكثيراً من الطيب يفسده قليلٌ من النتن، وهذا ينبغي له أن يسلك مسلك يحيى عليه السلام؛ فإنه أحوط لدينه، وأبعد عن فتنته؛ فافهم!

وروى ابن عساكر عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليهما السلام مرَّ بقومٍ فشتموه، فقال خيراً، ومرَّ بآخرين فشتموه وزادوا، فزادهم خيراً، فقال رجلٌ من الحواريين:

(1) تقدم تخريجه.

ص: 395

كلما زادوك شراً زدتهم خيراً كأنك تغريهم بنفسك؟

فقال عيسى عليه السلام: كل إنسان يُعطي ما عنده (1).

وفي معناه المثل: كل إناءٍ ينضح بما فيه.

وقلتُ مضِّمناً: [من الطويل]

سَتَسْمَعُ مِنِّي صالِحاً ما لقِيتَنِي

وَأَسْمَعُ مِنْكَ الدَّهْرَ ما لَيْسَ يَصْلُحُ

كِلانا وَفِيٌّ بِالِّذِي فِيهِ كامِنٌ

وَكُلُّ إِناءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ

وروى ابن أبي الدنيا عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مرَّ بعيسى بن مريم عليهما السلام خنزير، فقال: مُر بسلام.

فقيل له: يا روح الله! لهذا الخنزير تقول؟

قال: أكره أن أعوِّد لساني الشر (2).

وقيل: [من البسيط]

عَوِّدْ لِسانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ وَارْضَ بِهِ

إِنَّ اللِّسانَ لِما عَوَّدْتَ مُعْتادُ (3)

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(47/ 437).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 323).

ص: 396

وروى الإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي في "الشعب" عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: رأيت ابن عباس رضي الله عنه آخذاً بثمرة لسانه وهو يقول: يا لساناه! قل خيراً تغنم، أو اسكت عن شرٍ تسلم قبل أن تندم.

فقال له رجل: ما لي أراك آخذاً بلسانك تقول كذا وكذا؟

قال: إنه بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه (1).

وروى ابن أبي الدُّنيا في "الصمت" عن سفيان رحمه الله تعالى قال: قالوا لعيسى بن مريم عليهما السلام: دُلَّنا على عمل ندخل به الجنة.

قال: لا تنطقوا أبداً.

قالوا: لا نستطيع ذلك.

قال: فلا تنطقوا إلا بخير (2).

وروى أيضاً - بإسناد جيد - عن البراء رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: دُلني على عمل يُدخلني الجنة.

فقال: "أَطْعِمِ الجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالمَعْرُوْفِ، وَانْهَ عَنِ

(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 189)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4940).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 397

المُنْكَرِ، فَإِنْ لمَ تَسْتَطِعْ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَاّ مِنْ خَيْرٍ" (1).

وروى الطَّبراني في "الصغير" عن أبي سعيد الخُدْريِّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اُخْزُنْ لِسَانَكَ إِلَاّ مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ"(2).

والحديثان يُرشدان إلى حبس اللسان عن المباح فضلاً عن الشر، وذلك أنَّ ما صرفه العبد من أعضائه فيما لا ثواب فيه كأنه مُضاع.

ومما يُحمد الصمت فيه الاستعجال بالدعاء على النفس أو الولد أو المال؛ فإنه ربما يُستجاب للداعي به فيندم.

قال الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]؛ أي: ضجراً لا صبر له على سرَّاء ولا ضرَّاء؛ كما روى ابن جرير عن ابن عبَّاس (3).

وقال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 72)، وكذا البخاري في "الأدب المفرد"(69)، وابن حبان في "صحيحه"(374).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الصغير"(949). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 301): فيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وقد وثق هو وبقية رجاله.

(3)

رواه الطبري في "التفسير"(15/ 48).

ص: 398

روى المفسرون، واللالكائي في "السنة" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّه قال في الآية: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة (1).

والبلاء والابتلاء: الاختبار، وهو معنى الفتنة، ولذلك نُصبت نصب المصدر بـ (نبلوكم).

وذلك أن الله تعالى يبتلي العبد بالنعمة والسَّراء والخير ليظهر شكره أو كفره، كما قال سليمان بن داود عليهما السلام:{لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40].

كما يبتليه بالنقمة والضراء والشر ليظهر صبره أو جزعه.

ولعل فتنة السَّراء أعظم من فتنة الضراء؛ لأن السَّراء معها البطر والغرُور والعجب، وهي موافقة لهوى النفس بخلاف الضراء؛ فإنها تورث الذلة والضعف والمسكنة، وإن كانت تلجئ إلى الجزع والضجر.

ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنَا لِفِتْنَةِ السَّرَّاءِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ، إِنَّكُمْ ابْتُلِيْتُمْ بِفِتْنَةِ الضَّرَّاءِ فَصَبَرْتُمْ، وإِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ". رواه أبو يعلى، والبزار عن سعد بن أبي وقاص رضي الله

(1) رواه الطبري في "التفسير"(17/ 25)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(3/ 567).

ص: 399

تعالى عنه (1).

وأخرجه أبو نعيم بلفظ: "لأَنَا فيْ فِتْنَةِ السَّرَّاءِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ"

إلى آخره (2).

وروى ابن عساكر عن المنكدر بن محمد بن المنكدر قال: بلغني أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لأَنَا أَشَدُّ عَلَيْكُمْ خَوْفًا مِنَ النِّعَمِ مِنِّي مِنَ الذُّنوبِ، أَلَا إنَّ النِّعَمَ الَّتيْ لَا تُشْكَرُ هِيَ الحَتْفُ القَاضِيْ"(3)؛ أي: المُهلك.

ولا شك أن المال - وإن كان يُسمى خيراً كما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، "وقوله:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]- إلا أنَّه يعود شراً إذا جرَّ إلى الشر.

ومن هنا كان أولياء الله تعالى إذا فتحت عليهم الدنيا وَجِلُوا منها خشية أن يغتروا بها، وأن يكون إقبالها عليهم إملاء لهم واستدراجاً لهم، ألا ترى إلى ما يفتح من الدُّنيا على الفجار والفساق؟

وقال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى

(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(780)، والبزار في "المسند" (1168). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 246): رواه أبو يعلى والبزار، وفيه رجل لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 93).

(3)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(26/ 135).

ص: 400

{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 178 - 180].

فالبلاء للمؤمن بمنزلة السَّبك للذهب؛ فإنه يخرج بالبلاء عبداً خالصاً له مخلصاً له، كما يخرج الذهب مهما سبك إبريزاً خالصاً ونضاراً محضاً، والمنافق كالدرهم الزيف يخرج بالسبك أسود مظلماً.

ولما كان أهل العمى الذي هو شر العمى وهو عمى القلب والبصيرة كما تقدم في الحديث: "وَشَرُّ الْعَمَىْ عَمَىْ الْقَلْبِ"(1) لا يرون المال ومتاع الدنيا إلا خيراً، ولم يفطنوا أنه قد يصير شراً لشر عاقبته، بل لا يرون الخير إلا ما هم فيه، رأوا من لم يكن له مثلما لهم من زخارف الدُّنيا شراراً، حتَّى إنهم يستديمون ذلك إلى ورود الآخرة بدليل ما حكاه الله تعالى عن الطاغين:{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62].

نزلت الآية في أصحاب قليب بدر، وفي فقراء المهاجرين؛ كعبد الله بن مسعود، وعمار، وبلال، وصهيب، وخباب رضي الله تعالى عنهم؛ كان صناديد قريش يَعُدُّونهم من أشرار الناس (2)، فلما

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(23/ 180)، و"تفسير القرطبي"(15/ 224).

ص: 401

نظروا وهم في النار فلم يجدوهم فيها، وكانوا يرونهم أشراراً، ولا يرون أنفسهم أشراراً، ودخلوا هم النار التي هي دار الأشرار ولم يجدوهم فيها، وكانوا يرونهم أحق منهم بها، فتعجبوا حين لم يروهم فيها، ولم يعلموا أنهم نَجُوا منها من حيث كانوا يعتقدون كلهم أنهم به يلقون فيها؛ فإن الذي كانوا يعتقدون شَرِّيتهم به من الزهد في الدنيا، وإيثار الفقد والفقر فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أنقذهم منها.

ثم إن قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] مما استدلَّ به أهلُ السنة على إثبات القدر.

قال علماء البلاغة: وإنما قُدم الشر على الخير لأنَّ الابتلاء به أكثر، ولأنَّ أكثر الناس لا يعدُّون شيئاً من الخير بلاء بخلاف الشر.

وفي تقديمه مبالغة في الرد على من يقول من القدرية: إن الخير من الله، وإن الشر من الشَّيطان، ويعتقدون أن ذلك تنزيه منهم.

وقد ردَّ عليهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنهم يوافقون أهل السنة في أن الله تعالى خالق إبليس، وهو أبو كل شر وأخوه، فقد لزمهم ما أنكروه.

وقد روى اللالكائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: "يَا أَبَا بَكْر! لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ لَا يُعْصَىْ مَا خَلَقَ إِبْلِيْسَ"(1).

(1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(4/ 619)، وكذا ابن عدي في "الكامل"(5/ 115).

ص: 402

وروى ابن عدي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ دَاعِيًا وَمُبَلِّغًا، وَلَيْسَ إِليَّ مِنَ الهُدَىْ شَيْءٌ، وَخُلِقَ إِبْلِيْسُ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ شَيْءٌ"(1).

وروى الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه: أنِّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لمَ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لمَ يَكُنْ لِيُصِيْبَهُ"(2).

وروى هو والإمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن علي رضي الله عنه: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ الله وَأَنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ بَعَثَنيْ بِالحَقِّ، ويُؤْمِنُ بِالمَوْتِ، ويُؤْمِنُ بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، ويُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَره"(3).

وروى اللالكائي عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سَيَكُوْنُ فيْ أُمَّتيْ قَوْمٌ يَكْفُرُوْنَ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُوْنَ".

قال: قلت: يقولون ماذا يا رسول الله؟

(1) رواه ابن عدي في "الكامل"(3/ 39) وقال: وفي قلبي من هذا الحديث شيء. وكذا رواه ابن حبان في "المجروحين"(1/ 281).

(2)

رواه الترمذي (2144) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون، وعبد الله بن ميمون منكر الحديث.

(3)

رواه الترمذي (2145)، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 97)، وابن ماجه (81)، والحاكم في "المستدرك"(92).

ص: 403

قال: "يَقُوْلُوْنَ: الخَيْرُ مِنَ اللهِ، وَالشَّرُّ مِنْ إِبْلِيْسَ وَيُقِرُّونَ عَلَىْ ذَلِكَ كِتَابَ اللهِ، وَيَكْفُرُوْنَ بِاللهِ وَبِالْقُرْآنِ بَعْدَ الإِيمَانِ وَالمَعْرِفَةِ، فَمَا تَلْقَىْ أُمَّتِيْ مِنْهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ثُمَّ يَكُوْنُ المَسْخُ فِيْهِمْ عَامًّا، أُوْلئِكَ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيْرُ، ثمَّ يَكُوْنُ الخَسْفُ، قَلَّ مَنْ يَنْجُوْ مِنْهُمْ، المُؤْمِنُ يَوْمَئِذٍ قَلِيْلٌ فَرَحُهُ، شَدِيْدٌ غَمُّهُ"(1).

وفي دعاء القنوت الثابت من رواية الحسن رضي الله تعالى عنه: "وَاكْفِنِي شَرَّ ما قَضَيْتَ"(2).

فإن قلت: ما تصنع بقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح الثابت في "صحيح مسلم": "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيرُ فيْ يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ"(3).

فالجواب عنه كما قال النووي رحمه الله تعالى من وجوه: أشهرهما قاله النضر بن شميل، والأئمة بعده: أن معناه لا يتقرب به إليك.

والثاني: لا يصعد إليك.

(1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(4/ 617)، وكذا الفريابي في "القدر" (ص: 178)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 357) وقال:[رواه] عطية بن أبي عطية عن عطاء بن أبي رباح مجهول بالنقل، وفي حديثه اضطراب، ولا يتابع عليه.

(2)

رواه أبو داود (1425)، والترمذي (464) وحسنه، والنسائي (1746)، وابن ماجه (1178).

(3)

رواه مسلم (771) عن علي رضي الله عنه.

ص: 404

والثالث: لا يُضاف إليك، فلا يُقال: يا خالق الشر وإن كان خالقه، كما لا يُقال: يا خالق الخنازير وإن وإن خالقها.

والرابع: ليس شراً بالنسبة إلى حكمك؛ فإنك تفعل ما تريد (1).

والخامس: ولم يذكره النووي: والشر لا يصل إليك ولا يلحقك لأنَّك القدوس.

وأما قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، فإنه على حَدِّ قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد.

والتقدير: بيدك الخير والشر، حذف ذكر الشر للعلم به وتعليماً لنا كيف نتأدب في خطاب الله تعالى، ولا سبيل إلى غير ذلك لأنه يقول بعد ذلك:{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، والشيء شامل للخير والشر.

وقد قال أولاً: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، والإذلال كله أو بعضه من الشر الذي هو بيده سبحانه وتعالى.

وأما قوله تعالى حكايةً عن الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] فإنما حذف الفاعل في قوله:

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 59).

ص: 405

{أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، والمُريد هو الله تعالى تأدباً مع الله تعالى، وأظهره في قوله:{أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} مذكوراً باسم الرب مضافاً إليهم مبالغة في الثناء عليه، وإشارةً إلى أن إرادة الرشد بهم من تمام ربه إياهم وكمال تربيته لهم ورحمته عليهم، وقد جاء إسناد إرادة الشر إلى الله تعالى إيثاراً للبيان ومبالغة في العِظَة.

وما رواه الترمذي، والحاكم وصححه، عن أنس، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الله بن مغفل، والطبراني في "الكبير" عن عمار بن ياسر، وابن عدي في "الكامل" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوْبَةَ فيْ الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(1).

ورواه أبو نصر السجزي في "الإبانة" عن حبان بن أبي جَبَلة رضي الله تعالى عنه، والديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ

(1) رواه الترمذي (2396)، والحاكم في "المستدرك"(8799) عن أنس رضي الله عنه.

والحاكم في "المستدرك"(8166) والبيهقي في "شعب الإيمان"(9817)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(4/ 87)، وابن حبان في "صحيحه"(2911) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.

وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 192): إلى الطبراني عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه، وقال: إسناده جيد.

وابن عدي في "الكامل"(5/ 188) وضعفه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 406

النَبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ خَيرًا أَكْثَرَ فُقَهَاءَهُمْ وَأَقَلَّ جُهَّالهَمْ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْفَقِيْهُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وَإِذَا تَكَلَّمَ الجَاهِلُ قُهِرَ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ شَرًّا أَكْثَرَ جُهَّالَهُمْ وَأَقَلَّ فُقَهَاءَهُمْ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الجَاهِلُ وَجَدَ أَعْوَاناً، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْفَقِيْهُ قُهِرَ"(1).

وروى البيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَرَادَ اللهُ بَعَبِيْدِهِ خَيرًا رَزَقَهُمْ الرِّفْقَ فيْ مَعَاشِهِمْ، وَإِذَا أَرَادَ بهِمْ شَرًّا رَزَقَهُمْ الخَرْقَ فيْ مَعَاشِهِمْ"(2).

وروى الدَّارقطني في "سننه" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيرًا فَقَّهَهُمْ فيْ الدِّيْنِ، وَوَقَّرَ صَغِيْرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَرَزَقَهُمْ الرِّفْقَ فيْ مَعِيْشَتِهِمْ، وَالْقَصْدَ فيْ نَفَقَاتهِمْ، وَبَصَّرَهُمْ عُيُوْبَهُمْ فَيَتُوْبُوْنَ مِنْهَا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ تَرَكَهُمْ هَمَلاً"(3).

وروى الحكيم الترمذي في "نوادره"، والديلمي عن أبي هريرة

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6561).

(3)

رواه الدارقطني في "الأفراد" كما في "أطراف الغرائب والأفراد" لابن طاهر المقدسي (2/ 234)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس"(956)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (18/ 78) من طريق الدارقطني وقال: قال الدارقطني غريب من حديث ابن المنكدر عن أنس، تفرد به ابنه المنكدر عنه.

ص: 407

رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فيْ نَفْسِهِ، وَتُقَاهُ فيْ قَلْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَينَ عَيْنَيْهِ"(1).

روى الطبراني في "الكبير"، والخطيب البغدادي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ شَرًّا خَضَّرَ لَهُ فيْ اللَبِنِ وَالطِّيْنِ حَتَّى يَبْنِيَ"(2).

وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِالأَمِيرِ خَيرًا جَعَلَ اللهُ لَهُ وَزِيْرَ صِدْقٍ، إِنْ نسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانهُ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزيرَ سُوْءٍ، إِنْ نسِيَ لمَ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لمَ يُعِنْهُ"(3).

ويكفي دليلاً على أنه لا يكون خير ولا شر إلا بإرادة الله تعالى: إسناد إرادة الفتنة والسوء والإضلال والمس بالضر إليه سبحانه وتعالى، كما أسندتُ إليه أضدادها مع قوله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102].

(1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 214)، والديلمي في "مسند الفردوس"(940)، وكذا ابن حبان في "صحيحه"(6217).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1755)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (11/ 381). قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 13): رواه الطبراني في الثلاثة، بإسناد جيد.

(3)

رواه أبو داود (2932).

ص: 408

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

وفي الحديث: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ"(1).

ومن هنا نهي عن التطير والتشاؤم، كما روي أنَّ ابن عباس كان عنده رجل، فَنَعَبَ غراب، فقال الرجل: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر (2).

أي: لا يكون عند نعيب الغراب ولا به خير ولا شر، بل كل شيء فهو من الله تعالى؛ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88].

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه كان إذا نعَبَ الغراب قال: اللهم لا شرَّ إلا شرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك (3).

وروى الترمذي وحسنه، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيْ الْقَلْبِ لَمَّتَانِ، لَمَّةٌ مِنْ المَلَكِ إِيْعَادٌ بِالخَيرِ وَتَصْدِيْقٌ بِالحَقِّ، وَلَمَّةٌ

(1) رواه مسلم (2655) عن ابن عم رضي الله عنهما.

(2)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 162).

(3)

رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 238).

ص: 409

مِنَ الْعَدُوِّ - يعني: الشيطان - إِيْعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيْبٌ بِالحَقِّ" (1).

وهذا هو القدر الذي يملكه الشيطان من قلب العبد، ولا يقدر على إحداث ضلال فيه ولا شر، وإنما إضلاله وإغواؤه تزيين ووعد وإشارة بما يُوافق الهوى، ولذلك يقول يوم القيامة لمن ضلوا:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].

وقال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].

ثم عرفنا طريق النجاة منه بقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: 1 - 4].

وروى ابن أبي شيبة عن مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لو كان لي نفسان لقدَّمْتُ إحداهما قبل الأخرى، فإن هجمت على شيء اتبعتها الأخرى وإلا أمسكتُها، ولكن أنا في نفس واحدة ما أدري على ما تهجم خير أو شر (2).

وعنه أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر السلطان، ومن شر ما تجري به أقلامهم (3).

(1) رواه الترمذي (2988) وقال: حسن غريب.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35122).

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35116).

ص: 410

وروى أبو نعيم عن إسحاق بن سويد قال: تعبَّدَ عبد الله بن مطرف، فقال له أبوه: أي عبد الله! العلم أفضل من العمل، والسيئة بين الحسنتين، وشر السير الحَقْحَقَة.

قال أبو نعيم: كذا قال، وقد قيل: الحسنة بين السيئتين (1).

قال في "الصحاح": والحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر.

قال ويقال: هو السير أول الليل، ونهي عن ذلك (2).

وذكر الزمخشري من الأمثال: شر السير الحقحقة، وقال: يُضرب في ذم الإفراط (3).

وروى أبو نعيم عن حُميد بن هلال: كان مطرف بن عبد الله يقول: نظرت ما خير لا شرَّ فيه ولا آفة، ولكل شيءٍ آفة، فما وجدته إلا أن يُعافى عبدٌ فيشكر.

ومن الأمثال ما ذكره الزَّمخشري: شر إخوانك مَنْ لا يعاتب، أو من لا يُعاتبك (4).

وبيانه: أنه إذا بلغه عنك شيء يكرهه، فإن عاتبك أعتبته واعتذرت

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 209).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1462)(مادة: حقق).

(3)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 192).

(4)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 128)، و"مجمع الأمثال" للميداني (1/ 373).

ص: 411

إليه، أو تنصلت مما بلغه عنك، فإن لم يُعاتبك حقد عليك وعادَ عدواً.

وفي المثل: شر الرأي الدبري - بالتحريك وياء النسبة -، وهو الذي يسنح أخيراً بعد فوت الحاجة (1).

وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: والذي فلقَ البحر لبني إسرائيل: إن لفي التوراة مكتوباً: يا ابن آدم! اتقِ ربك، وأبرر والديك، وصِلْ رحمك، أمدُد لك في عمرك، وأيسر لك يسرك، وأصْرف عنك شرَّك (2).

وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أنه قال لابنه عبد العزيز: يا بني! إذا سمعت كلمة من امرئٍ مسلم، فلا تحملها على شيءٍ من الشر ما وجدتَ لها محملاً من الخير (3).

وعن جعونة قال: استعمل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عاملاً، فبلغه أنه عمل للحجاج، فعزله، فأتاه يعتذر إليه، فقال: لم أعمل له إلا قليلاً.

فقال له عمر: حسبك من صحبة شر يوم أو بعض يوم (4).

وقلت في المعنى مضمِّناً: [من الرجز]

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 128).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 150).

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 278).

(4)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 289).

ص: 412

حَسْبُكَ مِنْ صُحْبَةِ شَرٍّ يَوْمُ

أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ، فَهْوَ بِئْسَ اليَوْمُ

فَالشَّرَّ دَعْهُ وَلَوِ اسْتَقْلَلْتَهُ

فَرُبَّما نالَكَ مِنْهُ اللَّوْمُ

وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى قال: لو انتهيت إلى مسجد وهو ملآن مغص بالرجال فقال لي قائل: أي هؤلاء خير؟

لقلت لقائلي: أي هؤلاء أنصح لجماعتهم؟

فإذا قال: هذا، قلت: هو خيرهم.

ولو انتهيت إلى المسجد يوم الجمعة وهو ملآن مغص، فقال: أي هؤلاء شر؟ لقلت: أيهم أغش لجماعتهم؟

فإذا قال: هذا، قلت: هو شرهم.

وما كنت أشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان إذاً لشهدتُ أنه من أهل الجنة، وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان إذاً لشهدتُ أنه من أهل النار، ولكن أخشى على مُحسنهم، وأرجو لمُسيئهم (1).

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي رحمه الله تعالى قال: ما من أحد يُريد خيراً أو شراً إلا وجدتَ في قلبه آمراً وزاجراً، آمراً يأمر بالخير وزاجراً يزجر عن الشر، انتهى (2).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 224).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 283).

ص: 413

وهذا الأمر الزاجر إما الملك يلم بالقلب لمَّة، وإما واعظ من القلب، وهو المُشَار إليه بقول بعض العارفين: من لم يكن له في قلبه واعظ لم تنفعه المواعظ (1).

وروى أبو نعيم عن سليمان التيمي رحمه الله تعالى قال: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلَّة كل عالم اجتمع فيك الشرَّ كلَّه (2).

وروى هو والسجزي في "الإبانة" - واللفظ لأبي نعيم - عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سَيَكُوْنُ فيْ آخِرِ الزَّمَانِ دِيْدَانُ الْقُرْآنِ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ شَرِّهِمْ"(3).

كأنه شبههم بالدود من حيث إنه يُفسد الطعام إذا نشأ منه، وتقدم الحديث في الباب.

وروى أبو نعيم عن يحيى بن أبي بشر رحمه الله تعالى قال: قال سليمان عليه السلام لابنه: لا تكثر الغيرة على أهلك ولم ترَ سُوءاً، فتُرمى بالشرِّ من أجلك وإن كانت منه بريئة (4).

وعنه قال: خير الإخوان الذي يقول لصاحبه: تعال نصم قبل أن

(1) انظر: "ذم الهوى" لابن الجوزي (ص: 665).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 32).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 414

نموت، وشر الإخوان الذي يقول لصاحبه: تعال نأكل ونشرب حتى نموت (1).

ومعناه: أنَّ خير إخوان المرء من يدعوه إلى الطاعة ومجاهدة النفس، وشرهم من يدعوه إلى شهوات النفس.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَهْلُ الْبِدَعِ شَرُّ الخَلْقِ وَالخَلِيْقَةِ"(2).

وتقدم أن عيسى عليه السلام قال: واضع الحكمة في غير أهلها كمقلِّد الخنازير الدُّر (3)، والحكمة خيرٌ من الدُّر ومن لا يريدها شر من الخنازير.

وروى أبو نعيم عن أبي الجوزاء رحمه الله تعالى قال: لأن أُجالس القردة والخنازير أحب إليَّ من أن أُجالس رجلاً من أهل الأهواء.

وفي رواية: والذي نفسي بيده لأن تمتلئ داري قردة وخنازير أحبُّ إليَّ من أن يجاورني أحد من أهل الأهواء (4).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 71).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 291)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط" (3958). قال ابن حجر في "لسان الميزان" (5/ 361): غريب جداً.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 78).

ص: 415

فجعلهم شرًّا من القردة والخنازير.

ووجهه: أنها يوم القيامة تكون تراباً، وأهل الأهواء والبدع يُقاسون نكالاً وعقاباً.

ونظيره ما قدمناه عن الواعظ الذي سأله بعض القوم: أنت خير أم الكلب؟

فقال: إن دخلت الجنة فأنا خير من الكلب، وإن دخلت النار فالكلب خيرٌ مني (1).

وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْ مَلأَ اللهُ أُذُنيهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ خَيرًا وَهُوَ يَسْمَعُ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنْ مَلأَ اللهُ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ شَرًّا وَهُوَ يَسْمَعُ"(2).

وروى أبو نعيم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: قال محمد ابن علي بن الحسين - يعني: أبا جعفر الباقر - رحمه الله تعالى: من أُعطيَ الخلق والرفق فقد أُعطي الخير والراحة، وحَسُن حاله في دنياه وآخرته، ومن حُرم الرفق والخلق كان ذلك سبيلاً إلى كل شر وبلية إلا من عصمه الله (3).

وقلتُ في معناه: [من الرجز]

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه ابن ماجه (4224)، وكذا الطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 170).

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 186).

ص: 416

مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِالرِّفْقِ

فِي كُلِّ أُمُورِهِ وَحُسْنِ الْخُلْقِ

بِالرَّاحَةِ وَالْخَيْرِ غَدا مُغْتَبِطاً

فِي النَّاسِ وَحَسُنَ حالُهُ فِي الْخَلْقِ

وروى أبو نعيم عن سفيان بن عيينة قال: دخل أبو حازم رحمه الله تعالى على أمير المدينة، فقال له: تكلم.

فقال له: انظر الناس ببابك؛ إن أدْنيت أهل الخير ذهبَ أهل الشر، وإن أدْنيت أهل الشر ذهب أهل الخير (1).

وعن أبي حازم: أن رجلاً قال له: ما شكر العينين يا أبا حازم؟

قال: إن رأيت بهما خيراً أَعْلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته.

قال: فما شكر الأذنين؟

قال: إن سمعت بهما خيراً وَعَيته، وإن سمعت بهما شراً وقيته.

قال: فما شكر اليدين؟

قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله عز وجل هو فيهما.

قال: ما شكر البطن؟

قال: أن يكون أسفله طعام وأعلاه علم.

قال: فما شكر الفرج؟

قال: كما قال الله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 6 - 7].

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 240).

ص: 417

قال: فما شكر الرِّجْلين؟

قال: إن رأيت شيئاً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت شيئاً مَقتَّه ففتهما عن عمله وأنت شاكرٌ لله عز وجل في كل شيء.

فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذ بطرفه ولم يلبسه فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر (1).

وعن يوسف بن أسباط رحمه الله تعالى قال: أخبرني بُجير: أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم، فأتاه وعنده الإفريقي والزهري وغيرهما، فقال له: تكلم يا أبا حازم.

فقال: إنَّ خير الأمراء من أحبَّ العلماء، وإنَّ شر العلماء من أحب الأمراء، وإنه كان فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء بأبدانهم يسألونهم، وكان في ذلك صلاح الأمراء وصلاح العلماء، فلما رأى ذلك ناسٌ من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم، فأتوا الأمراء، فحدثوهم، فرخصوا لهم، فقبلوا منهم، فخزيت العلماء على الأمراء، وخزيت الأمراء على العلماء (2).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 243).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 244).

ص: 418

ومعنى خزيت - بفتح الخاء المعجمة، وكسر الزاي -: هانت.

وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخل رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ومعه أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، فصلى أسامة بن زيد ركعتين ثم احتبى، فأطال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، فلمَّا قضى صلاته قال:"يَا أُسَامَةُ! لَقَدْ أَقْصَرْتَ فيْ الصَّلَاةِ وَأَطَلْتَ الحَبْوَةَ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا خَلَفْتَ فيْ قَوْمٍ يَقْصُرُوْنَ الصَّلَاةَ، ويطِيْلُوْنَ الحَبْوَةَ، فَيَأْكلُوْن أَلْوَانَ الطَّعَامِ، ضِحْكُهُمْ الْقَهْقَهَةُ وَضِحْكُ المُؤْمِنِ الْتَبَسُّمُ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتيْ"(1).

وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن فضيل بن عياض قال: أخذ بيدي سفيان بن عيينة في هذا الوادي، فقلت له: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك، فبئس ما نرى (2).

وروى أبو الحسن بن جهضم عن شعيب بن حرب رحمه الله تعالى قال: بينا أنا في الطواف إذ لَكَزَني رجلٌ بمرفقه، فالتفت فإذا أنا بالفضيل بن عياض رحمه الله تعالى، فقال لي: يا أبا صالح!

قلت: لبيك يا أبا علي.

فقال: إن كنت تظن أنه شهد الموسم شر مني ومنك فبئسما ظننت (3).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 323).

(2)

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 101).

(3)

ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6/ 303).

ص: 419

وهذا من باب هضم النفس والحَيدة بها عن التزكية، وقد سبق في ذلك خبر عن موسى عليه السلام.

فالمؤمن متضع في نفسه متواضعٌ لغيره، يحقِرُ نفسه ويتهمها، ويُحسن الظن بغيره ولا يُحقر أحداً من المسلمين.

وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْلِمُ أَخُوْ المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَىْ هَاهُنَا التقْوَىْ هَاهُنَا -ويشير إلى صدره- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَىْ المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ"(1).

وروى الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نبَيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانتَانِ، بِطَانَهٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوْفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالمَعْصُوْمُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ"(2).

ورويا ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ نبَيٍّ وَلَا وَالٍ إِلَاّ وَلَهُ بِطَانتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ باِلمَعْرُوْفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوْهُ خَبَالاً، وَمَنْ وَقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وَقِيَ، وَهُوَ مَعَ الَّتيْ تَغْلِبُ

(1) رواه مسلم (2564).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 39)، والبخاري (6237)، والنسائي (4202).

ص: 420

عَلَيْهِ مِنْهُمَا" (1).

وأخرجه النسائي، ولفظه:"مَا مِنْ أَمِيرٍ وَلَا وَالٍ إِلَاّ وَلَهُ بِطَانتَانِ مِنْ أَهْلِهِ - أي من خاصته -، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوْفِ وَتَنْهَاهُ عَنْ المُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوْهُ خَبَالاً، فَمَنْ وَقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وَقِيَ، وَهُوَ مَعَ الَّتيْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا"(2).

والبطانة: السريرة؛ بمعنى: صاحب السريرة.

والبطانة أيضاً: الصاحب، الوليجة.

والوليجة: خاصتك من الرجال، أو ممن تتخذه معتمداً عليه من غير أهلك، كما في "القاموس"(3).

وبطانة الرجل: صاحب سره، وداخلة أمره الذي يشاهده في أحواله، كما في "النهاية"(4).

وتقدم ما ورد في الوزير.

وروى الطبراني بسند جيد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَخَوَّفَ أَحَدُكُمْ السُّلْطَانَ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ، كُنْ ليْ جَارًا مِنْ شَرِّ فُلَانٍ بْنِ

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 237)، والبخاري (6773).

(2)

رواه النسائي (4201).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 267)(مادة: ولج).

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 136).

ص: 421

فُلَانٍ، وَشَرِّ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَأتْبَاعِهِمْ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيرُكَ" (1).

وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا أتيت سلطاناً مَهيباً تخاف أن يَسْطو بك فقل: الله أكبر، أعز من خلقه جميعاً، أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو، الممسك السماوات أن يقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبده فلان ابن فلان وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس، اللهم كن لي جاراً من شرهم، جلَّ ثناؤك، وعزَّ جارك، وتبارك اسمك، ولا إله غيرك (2).

وقال الدينوري في "المجالسة": ثنا أحمد بن عبدان الأزدي قال: ثنا يعلى بن أيوب قال: بينما الرشيد هارون يطوف بالبيت إذ عرض له رجل قال: يا أمير المؤمنين إني أُريد أن أُكلمك بكلامٍ فيه غلظة فاحتمله لي.

قال: لا ولا قرة عين ولا كرامة، قد بعث الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني، فأمره أن يقول له قولاً ليناً (3).

وفي "الإحياء" عن هذه القصة عن المأمون بن الرشيد، وهما

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(9795). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 137): فيه جنادة بن سلم، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29177).

(3)

انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 172).

ص: 422

واقعتان لهما توافقتا (1).

وروى ابن أبي الدنيا في "الإخلاص" عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: ما من عبدٍ يسر سريرةً إلا ردَّاه الله رداءها علانيةً، إن خيراً فخير وإن شراً فشر (2).

ويؤيده ما رواه الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم وصححاه، والضياء في "المختارة" - وهو جيد الإسناد - عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ عَمِلَ فيْ صَخْرَةٍ لَا بَابَ لهَا وَلَا كُوُّةَ، لأَخْرَجَ اللهُ عَمَلَهُ كَائِنًا مَا كَانَ"(3).

وروى الطبراني في "الكبير" عن جندب البجلي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيْرَةً إِلَاّ أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، إِنْ خَيرًا فَخَيرٌ، وإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ"(4).

(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 334).

(2)

ورواه الطبري في "التفسير"(8/ 149)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1458).

(3)

رواه الإمام أحمد في "مسنده"(3/ 28)، وأبو يعلى في "مسنده"(1378)، وابن حبان في "صحيحه"(5678)، والحاكم في "المستدرك"(7877).

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1702). قال ابن كثير في "التفسير"(4/ 205): فيه محمد بن عبيد الله العرزمي متروك.

ص: 423

وروى الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق" عن أبي جعفر - يعني: عبد الله بن مسور الهاشمي - رضي الله تعالى عنه (1) قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بارك الله للمسلمين فيك، فخُصَّني منك بخاصة خير، قال:"أَمُسْتَوْصٍ أَنْتَ"؟ أراه قال ثلاثاً.

قال: نعم.

قال: "اِجْلِسْ، إِذَا أَرَدْتَ أَمْرًا فَتَدَبَّر عَاقِبَتَهُ، فإنْ كَانَ خَيرًا فَأَمْضِهِ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَانتهِ"(2).

فقلت عاقداً للحديث: [من الوافر]

تَدَبَّرْ إِنْ أَرَدْتَ الأَمْرَ وَانْظُرْ

عَواقِبَهُ وَنَفْسَكَ فِيهِ ناصِحْ

فَدَعْ ما كانَ شَرًّا وَامْضِ فِيما

إِلَى خَيْرٍ، وَحاوِلْ كُلَّ صالِحْ

وقلت: [من الوافر]

تَدَبَّرْ إِنْ أَرَدْتَ الأَمْرَ وَانْظُرْ

عَواقِبَهُ، وَكُنْ مِمَّنْ تَدارَكْ

فَدَعْ ما كانَ شَرًّا وَامْضِ فِيما

إِلَى خَيْرٍ بنا تُوقَى بَوارَك

فَذَلِكَ فِي وَصِيَّةِ سَيِّدِ الْخَلْـ

ـقِ فِي خَبَرٍ رَواهُ ابْنُ الْمُبارَكْ

وفي كتاب الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى

(1) عبد الله بن مسور ليس صحابياً كما يوهم صنيع المصنف رحمه الله، فالحديث مرسل، وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (2/ 861): عبد الله بن مسور الهاشمي ضعيف جداً.

(2)

رواه ابن المبارك في "الزهد والرقائق"(1/ 14).

ص: 424

أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].

روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! اِرْضَ عَن اللهِ بِمَا يُقَدِّرُهُ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ هَوَاكَ، فَإِنَّهُ مُثَبَّتٌ فيْ كِتَابِ اللهِ تَعَالى".

قلت: يا رسول الله! فأين وقد قرأت القرآن؟

قال: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216](1).

ومن الأمثال ما ذكره الزمخشري: شر ما رام امرؤ، ما لم ينل؛ قاله الأغلب العجل؛ يضرب في طلب المتعذر (2)؛ وهو كلام صحيح.

وقد ذكر بعض العلماء أن من آداب الدعاء وأسباب إجابته: أن لا يطلب العبد ما لا يليق به مما هو متعذر، كأن يطلب رتبه النبوة.

أو ما هو بعيد في العادة، كأن يطلب الحجَّام مقام السلطنة.

قال في "الصحاح": وفي المثل: شر ما يجيئك إلى مخ عرقوب (3).

وأورده الزمخشري بلفظ: شر ما أجاءك - أي: ألجأك واضطرك -

(1) رواه الطبري في "التفسير"(2/ 346).

(2)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 130).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 430)(مادة: مخخ).

ص: 425

يُضرب للمضطر جداً، وفي الفاقة والحاجة إلى البخيل (1).

قال الأصمعي في المثل: وذلك أن العرقوب لا مخَّ فيه، وإنما يحوج من لا يقدر على شيء (2).

وفي المثل: شر الغريبة يعلَن، وخيرها يدفن؛ يُضرب في التحذير من الاغتراب، والرغبة في مصاهرة غير الجنس، ومعاشرة الغرباء، والرغبة في غير الأوطان.

وأول من قاله من العرب عتبة بنت مطر البجلي لأختها خود، وقد رغبت في النزوح بمدرك بن مالك وهو من غير قومها (3).

وفي المثل: شر المال القُلْعة؛ ذكره الزمخشري، وقال: هو الذي لا يبقى على صاحبه، وإنما يقلع منه (4).

والقُلْعة - بضم القاف، وإسكان اللام -: قال في "الصحاح": المال العارية (5).

قال في "القاموس": أي: ما لا يدوم (6).

(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 131).

(2)

انظر: "الأمثال" لأبي عبيد (ص: 59).

(3)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 26).

(4)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 129).

(5)

انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1271)(مادة: قلع).

(6)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 975)(مادة: قلع).

ص: 426

قال في "الصحاح": وفي الحديث "بِئْسَ المَالُ القُلْعَةُ"(1).

أورده بهذا اللفظ حديثاً.

وأورده أيضاً صاحب "النهاية"، وفسره بالعارية لأنه غير ثابت في يد المستعير ومتقلع إلى مالكه (2).

قال في "الصحاح": وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع (3).

وفي المثل: شر المال ما لا يزكى ولا يذكى؛ يعني: الحمر؛ يُضرب فيما يُعاب من المال؛ ذكره الزمخشري (4).

وقال العقيلي: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شَرُّ الحَمِيرِ الأَسْوَدُ الْقَصِيْرُ"(5).

وفي أمثال العوام: لا يقعد على المعالف إلا شر الدواب.

وأورد يعقوب بن السكيت في "إصلاح المنطق" لكُثيِّر: [من الطويل]

(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1271)(مادة: قلع).

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 102).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1273)(مادة: قنع).

(4)

انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 130).

(5)

رواه العقيلي في "الضعفاء"(4/ 235) وأعله بمبشر بن عبيد، وقال: قال الإمام أحمد: مبشر بن عبيد أحاديثه أحاديث موضوعة كذب.

ص: 427

وَأَنْتَ الَّذِي حَبَّبْت كُلَّ قَصِيرَةٍ

إِلَيَّ وَما تَدْرِي بِذاكَ القَصائِر

عَنَيتُ قَصيراتِ الْحِجالِ وَلَمْ أُرِدْ

قِصارَ الْخُطا، شَرُّ النِّساءِ الْبَحاتر (1)

أراد بالقصائر: جمع قصيرة، أو قصورة، وهي المحبوبة المحجوبة.

وأما البحاتر، ويروى: البهاتر لهما جميعاً بحتره وبهتره، وهي القصيرة ضد الطويلة، والعرب تذم بزيادة الطول والقصر، وتحمد الرَّبعة من الرجال والنساء، وهي صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى الحسن المروزي في "زوائد الزهد" للإمام عبد الله بن المبارك عن مكحول - مرسلاً - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فيْ اللهِ إِلَاّ كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ، وَمَا افْتَرَقَا إِلَاّ عَنْ ذَنْبٍ وَأَشَرَّهُمَا المُحَدِثُ".

أي: شرهما الذي أحدث ذلك الذنب؛ استعمل الشر وهو الأصل، والأصل في خير وشر أخير وأشير، إلا أنه أصل متروك.

وروى ابن أبى شيبة عن أبي إسحاق السبيعي، عن رجل من جهينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ مَا أُعْطِيَ المُؤْمِن خُلُقٌ حَسَنٌ،

(1) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 184).

ص: 428

وَشَرُّ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ قَلْبُ سُوْءٍ فيْ صُوْرَةٍ حَسَنَةٍ" (1).

وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: إنَّ للشر أهلاً، وللخير أهلاً، ومن ترك شيئاً كفيه (2).

وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى، قال: من العجز أن يُظَنَّ بأهل الشر الخير (3).

قلت: ومن الجَور أن يُظَنَّ بأهل الخير الشر.

وقلت في عقد ذلك مع عقد الآية الكريمة: [من الرمل]

ظَنُّكَ الْخَيْرَ بِأَهْلِ الشَّرِّ عَجْزٌ

ظَنُّكَ الشَّرَّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ ظُلْمُ

فَاتَّقِ اللهَ علا فِي الظَّنِّ وَاقْرَأْ

قَوْلَ رَبِّي: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمُ)

وروى الدينوري في "المجالسة" عن مؤوخ قال: دعا أعرابي بعرفة، فسمعته يقول: اللهم إنِّي أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، فأعطني الخير واجعلني له أهلاً، وجنبني الشر ولا تجعلني للشر مثلاً (4).

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(25331).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35293)، وكذا الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 285).

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 52).

(4)

رواه الدينووي في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 288).

ص: 429

وروى ابن أبي شيبة عن سليط بن عبد الله قال: قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: رُوا بالخير ولا ترُوا بالشر (1).

أي: إذا كان لكم رأي فليكن مصحوباً بقصد الخير وإرادته، ولا يكن مصحوباً بإرادة الشر؛ أي: فليكن مستعملاً في الخير.

والباء بمعنى في؛ أي: استعملوا رأيكم في الخير، ولا تستعملوه في الشر؛ فإن الرأي في الحقيقة اجتهاد قد يقع فيه الخطأ، والخطأ في الخير فوات وفي الشر تفويت، والتفويت جناية بخلاف الفوات.

ويحتمل أنه ضمن الرأي معنى الإشارة بالشورى؛ أي: إذا كان لك شورى فلتكن بالخير؛ فإنها مصلحة، ولا تكن بالشر؛ فإنها غش وخيانة.

وروى أبو نعيم عن الأعمش رحمه الله تعالى قال: كنا نَعُدُّ أهل السوق شرارنا، وإنا لنعدهم اليوم خيارنا (2).

ووجه ذلك: أنهم كانوا في صدر الإسلام وإقبال الدِّين يؤثرون التوكل ويقبلون على العبادة والعلم، فلما وهن كثير منهم وتعرض لمخالطة الملوك والأغنياء طمعاً فيما في أيديهم صار أهل الكسب والاجتزائية عما في أيدي الناس خيراً منهم، وكان أهل السوق إذ ذاك لهم اهتمام بالدين في معاملاتهم وأحوالهم.

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(7/ 118).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 50).

ص: 430

وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي حازم قال: إذا كنت في زمان ترضى فيه من العمل بالقول، ومن العلم بالعمل فأنت في شر زمان وشر ناس (1).

أي: ترضى فيه بالقول والدعوى بدلاً من العمل، وترضى فيه بالعمل كيف كان بدلاً من العلم، ومعناه التعبد على جهل.

وقال الدينوري: حدثنا عباس بن محمد الدوري قال: أنشدنا يحيى بن معين هذا الشعر، وذكر أنه للعمري العابد رحمه الله تعالى:[من الطويل]

وَما لِي مِنْ عَبْدٍ وَلا مِنْ وَلِيدَةٍ

وَإِنِّي لَفِي فَضْلٍ مِنَ اللهِ واسِعِ

بِنِعْمَةِ رَبِّي ما أُرِيدُ مَعِيشَةً

سِوى قَصْدِ حِلٍّ مِنْ مَعِيشةِ قانِعِ

وَمَنْ يَجْعَلِ الرَّحْمنُ فِي قَلْبِهِ الرِّضا

يَعِشْ فِي غِنًى مِنْ طَيِّبِ العَيْشِ واسِعِ

وَلَمْ أَبْتَغِ الدُّنْيا بِدِينٍ أَبِيعُهُ

فَبائِعٌ دِينَ اللهِ مِنْ شَرِّ بائِعِ

وَلَمْ تَسْتَمِلْنِي الْمُرْدِياتُ مِنَ الْهَوى

وَلَمْ أَتخَشَّعْ لامْرِئٍ ذِي بَضائِعِ

جَموعٍ لِشَرِّ الْمالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ

ضَنِينٍ بِقَولِ الْحَقِّ لِلزُّورِ راتِعِ

قال يحيى: كنت أظن أن هذا الشعر للعمري حتى قال لي ابنه: هذا قاله عبد الله بن إدريس رحمه الله تعالى (2).

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 262).

(2)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 226).

ص: 431

وروى ابن أبي الدنيا، والدينوري من طريقه عن أبي عبيدة قال: قال أكثم بن صيفي: الشر بدؤه صغار، فاصفح عنه لكيلا يخرجك إلى أكبر منه (1).

وقلت في معناه: [من المجتث]

الشَّرُّ يَبْدُو صِغاراً

فَاصْفَحْ بِحِلْمِكَ عَنْهُ

كَيْلا يَصِيرَ كِباراً

يَعْسُرْ خَلاصُكَ مِنْهُ

وروى ابن أبي الدنيا في "العقوبات" عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: إذا لم يَلِ الوالي لله، ولم يؤدِّ المولى ما عليه من حق الله، فاحذروا مكر الله وأخذه، فقد اجتمع الشر عليكم.

وروى ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي عنه قال: كنت ألعب في الكنيسة بالأكرة وأنا حَدَث، فدخلت الكرة إلى المسجد حتى وقعت بالقرب من المعافى ابن عمران، فقال لي: يا فتى! ابن من أنت؟

فقلت: أنا ابن عوف.

قال: ابن سفيان؟

قلت: نعم.

قال: أما إنَّ أباك كان من إخواننا، وكان ممن يكتب معنا الحديث والعلم، والذي كان يشبهك أن تتبع ما كان عليه والدك،

(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 182).

ص: 432

فصرتُ إلى أمي فأخبرتها.

فقالت: صدق يا بني! هو صديق لأبيك، فألبستني ثوباً من ثيابه وإزاراً من إزاره، ثم جئت إلى المعافى بن عمران ومعي محبرة وورق، فقال: اكتب: حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد ربه بن سليمان قال: كتبت لي أمُّ الدرداء في لوحي مما تعلمني: اطلبوا العلم صغاراً تعملوا به كباراً؛ فإن لكل حاصدٍ ما زرع - خيراً كان أم شراً - فكان أول حديث سمعته (1).

وفي معنى كلام أم الدرداء رضي الله تعالى عنها: الحديث الذي أورده النحاة مستشهدين به على حذف فعل الشرط، وعلى حذف كان واسمها:"النَّاسُ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمالِهِم؛ إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ"(2)؛ أي: إن كان العمل خيراً فجزاؤه خير، وإن كان شراً فجزاؤه شر.

وبهذا اللفظ أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفاً عليه (3).

وروى الديلمي بسند ضعيف، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَوَىْ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُوْنٌ، وَمَنْ كَانَ آخِرُ

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(55/ 49).

(2)

انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 258).

(3)

رواه الطبري في "التفسير"(1/ 68)، وكذا ابن أبي حاتم في "التفسير"(1/ 29)

ص: 433

يَوْمَيْهِ شَرًّا فَهُوَ مَلْعُوْنٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فيْ الزِّيَادَةِ فَهُوَ فيْ النُّقْصَانِ" (1).

وروى الغزالي في "الإحياء" بلفظ: "مَنِ اسْتَوَىْ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُوْنٌ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرًّا مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُوْنٌ"(2).

وقال العراقي في تخريجه: لا أعرف هذا إلا في منام لعبد العزيز ابن أبي روَّاد.

قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أوصني، فقال ذلك (3).

وروى الدينوري في "المجالسة" عن ابن المبارك قال: إنَّ شاعراً امتدح ابن شهاب الزهري، فأعطاه فأجزل، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّ من السخاء في الخير اتقاء الشر (4).

وروى ابن السمعاني في "تاريخه" عن ضميرة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يشكو جاره، فقال: الحجارة تجيئني من الليل يرمى بها، فقال: أعدها من حيث تجيئك، ثم قال: إنَّ الشر لا يُصلحه إلا الشر.

وقلت في المعنى:

(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(5910).

(2)

انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (4/ 335).

(3)

انظر: "تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي (2/ 1155).

(4)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 182).

ص: 434

عَفْوُ الفَتَى عَنِ الوَرى مِنْ فَضْلِهِ

إِلَاّ مُلِحًّا فِي الأَذى مِنْ جَهْلِهِ

فَإِنَّما جَزاؤُهُ مِنْ فِعْلِهِ

قَدْ يُدْفَعُ الشَّرُّ بِشَرٍّ مِثْلِهِ

وفي معناه قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

وكذلك المثل: الجزاء من جنس العمل.

وروى ابن عساكر في ترجمة محمد بن وضاح الأندلسي القرطبي عنه قال: سمعت سحنون يقول [سمعت الأشهب يقول]: أغنج النساء المدنيات، وأخبث النساء المكيات، وأعف النساء البصريات، وشر النساء المصريات (1).

قلت: وأشد النساء حياءً الدمشقيات، وأرغب النساء في الرجال الروميات.

وقد تقدم حديث أبي أُذينة: "خَيْرُ نِسَائِكُمْ الْوَلُوْدُ الْوَدُوْدُ، المُوَاتيةُ المُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ الله، وَشَرُّ نِسَائِكُمْ المُتَبَرِّجَاتُ المُتَخَيِّلَاتُ"(2).

وروى ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُ أُمَّتيْ مَنْ دَعَا إِلىْ اللهِ وَحَبَّبَ إِلَيْهِ عِبَادَهُ، وَشِرَارُ أُمَّتيْ التُّجَّارُ مَنْ

(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(56/ 180).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 435

كَثُرَتْ أَيْمَانُهُ وإِنْ كَانَ صَادِقًا" (1).

ويشهد له ما رواه الإمام أحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب" عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ".

فقيل: يا رسول الله! أليس الله قد أحلَّ البيع؟

قال: "نعَمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُوْنَ فَيَأْثَمُوْنَ، وَيُحَدِّثُوْنَ فَيَكْذِبُوْنَ"(2).

وروى أبو داود الطيالسي، وابن منيع، وابن أبي أسامة في "مسانيدهم"، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ مَعَادِنُ فيْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، خِيَارُهُمْ فيْ الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فيْ الإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوْا"(3).

وروى البيهقي، والديلمي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ مَعَادِنُ وَالْعِرْقُ دَسَاسٌ، وَأَدَبُ السُّوْءِ كَعِرْقِ السُّوْءِ"(4).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 428)، والحاكم في "المستدرك"(2145)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4844).

(3)

رواه الطيالسي في "المسند"(2476)، والديلمي في "مسند الفردوس"(6880)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(2/ 485)، وابن حبان في "صحيحه"(92)، وأصله في "الصحيحين".

(4)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(10974)، والديلمي في "مسند الفردوس"(6878)، وكذا ابن عدي في "الكامل"(6/ 207) وأعله =

ص: 436

وروى الإمام أحمد، ومسلم عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ في الخَيرِ وَالشَّرِّ"(1).

وروى أبو نعيم عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنما الخير والشر بعد اليوم (2).

وأراد باليوم مدة زمان الدنيا؛ أي: لا يكون الخير الحقيقي والشر الحقيقي إلا ما كان في الآخرة.

وروى أبو نعيم بإسنادٍ صحيح، عن كعب رضي الله تعالى عنه قال: يؤتى بالرئيس في الخير يوم القيامة، فيُقال له: أجب ربك، فَيُنطلق به إلى ربه عز وجل فلا يحجب عنه، فيؤمر به إلى الجنة فيرى منزله ومنازل أصحابه الذين كانوا يتابعونه على الخير، فيعينونه عليه بخير، فيقال له: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعدَّ الله لهم في الجنَّة، ويوضع على رأسه تاج، ويغلف من ريح الجنة، ويشرق وجهه حتى يكون مثل القمر.

قال همام: أحسبه قال: ليلة البدر.

قال: فيخرج فلا يراه أهل ملأ إلا قالوا: اللَّهُمَّ اجعله منهم حتَّى

= بمحمد بن سليمان بن مشمول، وقال: وعامة مما يرويه لا يتابع عليه في إسناده ولا متنه.

(1)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 331)، ومسلم (1819).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 199).

ص: 437

يأتي أصحابه الذين كانوا يجامعونه على الخير ويعينونه عليه، فيقولون: بشِّرنا يا فلان.

فيقول لهذا: إنَّ الله أعدَّ لك في الجنة كذا، ولهذا: إنَّ الله أعدَّ لك في الجنة كذا، وأعدَّ لك كذا، فما يزال يُخبرهم بما أعدَّ لهم في الجنة من الكرامة حتى يعلو وجوههم من البياض مثلما علا وجهه، فيعرفهم الناس ببياض وجوههم.

قال: ويؤتى بالرئيس في الشر فيُقال له: أجب ربك، فينطلق به إلى ربه عز وجل، فيُحجب عنه، ويؤمر به إلى النَّار، فيرى منزله ومنزل أصحابه، فيقال: هذه منزلة فلان، وهذه منزلة فلان، فيرى ما أعدَّ لهم فيها من الهوان، ويرى منزلته أشر من منازلهم، قال: فيسود وجهه، وتزرقُّ عيناه، ويوضع على رأسه قلنسوة من نار.

قال: فيخرج فلا يراه أهل ملأ إلا تعوذوا بالله منه، فيأتي أصحابه الَّذين كانوا يجامعونه على الشر ويعينونه عليه، فما يزال يخبرهم بما أعدَّ لهم في النار حتى يعلو وجوههم من السواد مثل ما علا وجهه، فيعرفهم الناس بسواد وجوههم فيقولون: هؤلاء أهل النار (1).

وإنما يكون الرئيس الخير بالرتبة المذكورة إذا كان عاملاً بما يعلم، مؤتمراً بما يؤمر، مُنتهياً عما يُنهى.

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 370)، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف"(35334).

ص: 438

وكذلك ينبغي لكل عالم يعلم الناس كما قال بعض السلف: إذا أمرت بخير، فكن آخَذَ الناسِ به، وإذا نهيتَ عن شر، فكن أبعد الناس عنه.

وإلا فإنه من أشد الناس عذاباً، أو هو أشدهم كما في الحديث:"أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ عَالمٌ لمَ يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ"(1).

وروى الشيخان، وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يُؤْتَىْ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَىْ فيْ النَّارِ، فتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ؛ أي أمعاؤه، فَيَدُوْرُ بهَا كَمَا يَدُوْرُ الحِمَارُ فيْ الرَّحَا، فَيَطِيْفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُوْلُوْنَ لَهُ: مَالَكَ؟ فَيَقُوْلُ: كُنْتُ آمُرُ بِالخَيرِ وَلَا آتِيْهِ، وَأَنْهَىْ عَنِ الشَّرِّ وَآتِيْهِ".

وفي رواية: "آمُرُ بِالمَعْرُوْفِ وَلَا آتِيْهِ، وَأَنْهَىْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيْهِ"(2).

وروى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "يَا عُدَّتيْ فيْ كُرْبَتيْ، وَيَا صَاحِبي عِنْدَ شِدَّتيْ، وَيَا وَليَّ نِعْمَتيْ، يَا إِلهَيْ وَإِلَهَ آبَائِيْ، لَا تَكِلْنيْ إِلى نَفْسِيْ فَأَقْتَرِبَ مِنَ الشَّرِّ وَأَتَبَاعَدَ عَنِ الخَيرِ، وَآنِسْنيْ فيْ قَبرِيْ مِنْ وِحْشَتيْ، وَاجْعَلْ ليْ عَهْدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَسْؤُوْلاً"(3).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8145).

ص: 439

وروى الطَّبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالى قَالَ: أَنَا خَلَقْتُ الخَيرَ وَالشَّرَّ، فَطُوْبَىْ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَىْ يَدَيْهِ الخَيرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَىْ يَدَيْهِ الشَّرَّ"(1).

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أسماء بن عبيد رحمه الله تعالى قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: اِستعذ بالله من شرار النساء، وكن على خيارهن على حذر؛ فإنهن لا يُسارعن إلى الخير، بل هنَّ إلى الشَّر أسرع (2).

وروى أبو عمرو الداني في "الفتن" عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: في آخر الزمان الزموا الصوامع.

قلنا: وما الصوامع؟

قال: البيوت؛ فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه (3).

وروى الإمام أحمد، والترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتي خَمْسَ عَشْرَةَ خَلَّةَ، حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ" قيل: وما هنَّ يا رسول الله؟

قال: "إِذَا كَانَ المَغْنَمُ دُوْلاً، وَالأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12797). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 192): فيه مالك بن يحيى النكري، وهو ضعيف.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(2/ 367).

ص: 440

صَدِيْقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ فيْ المَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيْمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الخُمُوْرُ، وَلُبِسَ الحَرِيْرُ، وَاتُّخِذَتِ القِيَانُ وَالمعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوْا عِنْدَ ذَلِكَ رِيْحًا حَمْرَاءَ أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا" (1).

وروى أبو عمرو الداني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: إنَّ من أشراط السَّاعة أن توضع الأخيار، وترفع الأشرار، ويسود كل قبيلة منافقوها (2).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يأتي على الناس زمان، يمتلئ فيه جوف كل امرئٍ شراً [حتى يجري الشر] فضلاً، ولا يجد جوفاً يلجُ فيه (3).

وعن حذيفة قال: ليأتين على الناس زمان، يمتلئ فيه كل قلب شراً حتى لاتجد قلباً يَعِيْه (4).

وعن الحسن رحمه الله -مرسلاً - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللهِ وَفيْ كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَالِئْ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَلَمْ يُزَكِّيْ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا، وَمَا لَمْ ينمُّ خِيَارُهَا أَشْرَارَهَا، فَإِذَا فَعَلُوْا

(1) تقدم تخريجه، وهو ضعيف.

(2)

رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(4/ 799).

(3)

رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(3/ 672).

(4)

رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(3/ 672).

ص: 441

ذَلِكَ رَفَعَ اللهُ الْكَرِيْمُ يَدَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ يَسُوْمُوْنهمْ سُوْءَ الْعَذَابِ، وَضَرَبَهَمْ بِالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَمَلأَ قُلُوْبَهُمْ رُعْبًا" (1).

وأورده الماوردي في "أدب الدِّين والدُّنيا" بلفظ: "مَا لَمْ يَملل قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَلَمْ يُزَكِّ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارُهَا، وَيُمَالِ أَخْيَارُهَا شِرَارَهَا"(2).

يقال: مالأته على الأمر، ممالأة: ساعدته عليه وشايعته، وتمالؤا: اجتمعوا، ويقال: نميت الشيء على الشيء: إذا رفعته عليه.

والتزكية: المدح والثناء.

وأما الإملال فمعناه زيارة القراء للأمراء حتى يملُّوهم.

وجميع ما في هذا الحديث صفات أهل هذا الزمان.

ومن هنا وقع الناس في وعيده من تسليط الجبارين على النَّاس حتى ساموهم سوء العذاب من تكليفهم الأموال ومضايقتهم في المساكن وانتزاع أملاكهم منهم، ومن وقوع أكثر الناس في الرعب والخوف، وابتلاؤهم بالفقر والفاقة، وإن جمعوا الأموال محقت منهم أُخرى بتغريم الظَّلمة إياهم، واستلاب السُّرَّاق والقطاع إياها منهم، وتسليطهم على أموال أنفسهم بالسرف والتبذير في المعاصي وما لا يُجدي وغير ذلك، وقانا الله الأسواء والسيئات، وكفانا البلاء والخطيئات.

(1) رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(3/ 696).

(2)

انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 97).

ص: 442

وروى أبو يعلى عن أبي سعيد، وأبي هريرة معاً رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"لَيَأْتِيَنَّ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ يَكُوْنُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ سُفَهَاءُ، يُقَدِّمُوْنَ شِرَارَ النَّاسِ، ويُظْهِرُوْنَ حُبَّ أَخْيَارِهِمْ، ويؤَخِّرُوْنَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيْتِهَا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلَا يَكُوْنَنَّ عَرِيْفًا وَلَا شُرْطِيًّا وَلَا جَابِيًا وَلَا خَازِنًا"(1).

وروى سمُّويه عن ثوبان رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سَيَكُوْنُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتيْ، يُغَلِّطُوْنَ فُقَهَاءَهُمْ بِمُعْضِلِ الْمَسَائِلِ، أُوْلَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِيْ"(2).

ورواه الطبراني في "الكبير" -وضعف - ولفظه: "سَيَكُوْنُ فيْ أُمَّتيْ أَقْوَامٌ يَتَعَاطَىْ فُقَهَاؤُهُمْ عُضْلَ المَسَائِلِ، أُوْلَئِكَ أَشْرَارُ أُمَّتيْ"(3).

والعضل: جمع عُضلة - بالضم -: وهي الدَّاهية، ثم أطلق على الأمر

الشديدِ المُشْكلِ: عضلة.

وروى الطبراني في "الأوسط" بسند جيد، عن حذيفة رضي الله

(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(1115). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 240): رجاله رجال الصحيح، خلا عبد الرحمن بن مسعود، وهو ثقة.

(2)

ورواه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(2/ 21)، والديلمي في "مسند الفردوس"(8723).

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1431). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 155): فيه يزيد بن ربيعة، وهو متروك.

ص: 443

تعالى عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! متى يُترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما سيدا أعمال أهل البر؟

قال: "إِذَا أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَ بَنيْ إِسْرَائِيْلَ".

قلت: يا رسول الله! وما أصاب بني اسرائيل؟

قال: "إِذَا دَاهَنَ أَخْيَارُكُمْ فُجَّارَكُمْ، وَصَارَ الْفِقْهُ فيْ شِرَارِكُمْ، وَصَارَ المُلْكُ فيْ صِغَارِكُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَلْبَسُكُمْ فِتْنَهٌ تَكُرُّوْنَ عَلَيْهَا وَتَكُرُّ عَلَيْكُمْ"(1)؛ أي: ترجع عليكم.

وروى الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يَأْتيْ عَلَيْكُمْ عَامٌ وَلَا يَوْمٌ إِلَاّ وَالَّذِيْ بَعْدَهُ شَرُّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ"(2).

وروى الدينوري في "المجالسة" عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قال هَرِم بن حيَّان رحمه الله تعالى: اللهم إني أعوذ بك من شر زمان يتمرد فيه صغيرهم، ويأمل فيه كبيرهم، وتقرب فيه آجالهم (3).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(144). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 286): فيه عمار بن سيف؛ وثقه العجلي وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 132)، والبخاري (6657)، والترمذي (2206).

(3)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 62).

ص: 444

وقال نعيم بن حمَّاد في "الفتن": أنا عبد الرزاق عن أمه، عن ميناء مولى عبد الرحمن بن عوف قال: رأيت أبا هريرة رضي الله تعالى وسمع صبياناً يقولون: الآخر شر، الآخر شر، فقال أبو هريرة: إي والذي نفسي بيده إلى يوم القيامة (1).

وأخرج بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن شر الليالي والأيام والشهور والأزمنة أقربها إلى السَّاعة (2).

وروى الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بَادِرُوْا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، مَا تَنْتَظِرُوْنَ إِلَاّ فَقْرًا مُنْسِياً، أَوْ غِنىً مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَالَ فَإِنَّهُ شَرُّ مُنْتَظَرٍ، أَوِ السَّاعَةُ وَالسَّاعَةَ أَدْهَىْ وَأَمَر"(3).

وروى الدَّارقطني عن مجاهد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحَبَّ الْعَبْدُ لِقَاءَ رَبِّهِ، أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ الْعَبْدُ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ".

قال: فذكر ذلك لعائشة رضي الله تعالى عنها فقالت: يرحمه الله، حدثكم بآخر الحديث ولم يحدثكم بأوله.

قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيرًا، بَعَثَ

(1) رواه نعيم بن حماد في "الفتن"(1/ 42).

(2)

رواه نعيم بن حماد في "الفتن"(1/ 650).

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 445

إِليْهِ مَلَكًا فيْ عَامِهِ الَّذِيْ يَمُوْتُ فِيْهِ، فَيُسَدِّدُهُ وَيُبَشِّرُهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتهِ أَتَىْ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ اُخْرُجِيْ عَلَىْ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرُضْوَانٍ، فَتهوَّعُ نَفْسُهُ رَجَاءَ أَنْ تَخْرُجَ، فَذَلِكَ حِيْنَ يُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ ويحِبُّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ شَرًّا بَعَثَ إِليْه شَيْطَاناً فيْ عَامِهِ الَّذِيْ يَمُوْتُ فِيْهِ، فَأَغْرَاهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتهِ أَتَاهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ اُخْرُجِيْ إِلى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبِهِ، فتفَرَّقُ فيْ جَسَدِهِ، فَذَلِكَ حِيْنَ يُبْغِضُ لِقَاءَ اللهِ ويبْغِضُ اللهُ لِقَاءَهُ" (1).

قال في "الصحاح": هاع يَهُوع هواعاً وهيعوعة؛ أي: قاء، والتهيع: التقيؤ (2).

وروى الأستاذ أبو منصور البغدادي في مؤلفه "فيما استدركته عائشة على الصحابة رضي الله عنهم" عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقال مسروق: قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَه"، فقالت عائشة: يرحم الله تعالى أبا عبد الرحمن، حدَّث بأول الحديث، ولم تسألوه عن آخره: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ

(1) انظر: "الإجابة لما استدركت عائشة على الصحابة" للزركشي (ص: 124)، والحديث عند مسلم (2685) نحوه.

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1309)(مادة: هوع).

ص: 446

خَيرًا قَيَّضَ اللهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ مَلَكاً يُوْفِّقُهُ وَيُسَدِّدُهُ حَتَّى يَقُوْلَ النَّاسُ: مَاتَ فُلَانٌ عَلَىْ خَيرِ مَا كَانَ، فَإِذَا حَضَرَ وَرَأَىْ ثَوَابَهُ مِنَ الجَنَّةِ تهَوَّعُ نَفْسُهُ أَوْ قَالَ تَهَوَّعَتْ نَفْسُهُ، فَذَلِكَ حِينَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ شَرًّا بَعَثَ اللهُ لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ شَيْطَاناً، فَافْتَتَنَهُ حَتَّى يَقُوْلَ النَّاسُ: مَاتَ فُلَانٌ عَلَىْ شَرِّ مَا كَانَ، فَإِذَا حَضَرَ وَرَأَىْ مَا يَنزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ فَبَلَعَ نَفسه بِذَلِكَ حِينَ كِرَهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ" (1).

وقولها: فبلع نفسه - بكسر اللام - أي: حاول أن يبتلعها ويردها لئلا تخرج.

وروى الإمام أحمد - ورواته رواة "الصحيح" - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ لِقَاءَ اللهِ بَغَضَ اللهُ لِقَاءَهُ".

قلنا: يا رسول الله! كلنا يكره الموت؟

قال: "لَيْسَ كَرَاهَةَ المَوْتِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَ جَاءَهُ الْبَشِيْرُ مِنَ اللهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ لَقِيَ اللهَ فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ أَوِ الْكَافِرَ إِذَا حَضَرَ جَاءَهُ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ أَوْ مَا يَلْقَىْ مِنَ الشَّرِّ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ"(2).

(1) ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 346)، وانظر:"الإجابة لما استدركت عائشة على الصحابة" للزركشي (ص: 133).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 107). وصحح ابن كثير إسناده في=

ص: 447

وروى أبو نعيم عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت أنه تعالى يقول: يا ابن آدم! ما أنصفتني؛ تذكرني وتنساني، وتدعو إلي فتفر مني، خيري إليك نازل، وشرك إليَّ صاعد (1).

وعن وهب في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47]

قال: إنما توزن من الأعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً خَتَم له بخير عمله، وإذا أراد بعبده شراً ختم له بشر عمله (2).

وعن وهب أيضاً قال: لما أُهبط آدم عليه السلام إلى الأرض استوحش لفقد أصوات الملائكة عليهم السلام، فهبط عليه جبريل عليه السلام فقال: يا آدم! هلا أعلمك شيئاً تنتفع به؟

قال: بلى.

قال: قل: اللهم أَدِم لي النعمة حتى تُهنيني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تُدخلني الجنة (3).

وروى ابن أبي الدنيا في "المنامات" عن الهيثم بن معاوية قال: حدثني فلان قد سمَّاه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت:

= "التفسير"(4/ 101).

(1)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 27).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 33).

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 28).

ص: 448

يا رسول الله! ادع لي بخير، فحَسَر عن ذراعيه ودعا، وقال: ليكن كلما تدعو: اللهم اختم لنا بخير (1).

* * *

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "المنامات"(ص: 75)، وعنده:"جل ما تدعو" بدل "كلما تدعو".

ص: 449