الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنه: [من الكامل]
يَأْتِي الْجوابَ فَما يُراجعُ هَيْبَةً
…
وَالسَّائِلُونَ نَواكسُ الأَذْقانِ
أدبُ الوقارِ وَعِزُّ سُلْطانِ التُّقَى
…
فَهْوَ الْمُطاعُ وَلَيْسَ ذا سُلْطانِ
ومن لطائف الشيخ يحيى الخباز: [من المتقارب]
وَقالُوا: امْتَدِحْ رُؤَساءَ الزَّمانِ
…
فَقُلْتُ: نِظامِي عِندِي أجَل
مَدَحْتُ النُّسورَ مُلوكَ الطُّيورِ
…
فَأَرْضَى امْتِداحَ فِراخِ الْحَجَلْ
*
تَنْبِيهٌ:
إنَّما كان العالم التقي موقَّراً لأنه موقَّرٌ لله تعالى، وكان جزاؤه من جنس عمله، والتوقير التعظيم.
وقد قال الله تعالى حكايةً عن نوح عليه السلام معاتباً لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]؛ أي: لا تخافون لله عظمةً؛ كما في "الصِّحاح" عن الأخفش (1).
(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 849)(مادة: وقر).
والرجاء يكون بمعنى الخوف ضِدٌّ.
وفي معناه قول ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في الآية: لا تخشون له عظمة (1).
ومن أوصاف النسر أنه أشد الطير طيراناً وأقواها جناحاً حتى قيل: إنه ليطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد (2)، فينبغي التشبه به في ذلك بأمرين:
الأول: أن يكون الإنسان قوي الهمة، بعيدها في تحصيل المعالي والكمالات فلا يستبعد شيئاً أن يحصل له، ولا يستصغر نفسه عن طلب شيء من الفضائل الممكن تحصيلها؛ فإنه إن لم يحصل على ذلك حصل على ثوابه بدليل الحديث الصَّحيح:"إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ تُكْتَبْ لَهُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا"(3).
وقال بعضهم: [من مجزوء الرجز]
جَمِيعُ ما قَدْ خَلَقَ اللـ
…
ـهُ وَما لَمْ يَخْلُقِ
(1) رواه الطبري في "التفسير"(29/ 95).
(2)
انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 474).
(3)
رواه البخاري (6126)، ومسلم (131) ولفظهما:"إِنَّ اللَّهَ كتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيئَاتِ، ثُمَّ بيَّنَ ذلك، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فلم يَعْمَلْهَا كتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بها فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عز وجل عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سبعمئة ضِعْفٍ إلى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بها فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله سَيِّئَةً وَاحِدَةً".
مُحْتَقَرٌ فِي هِمَّتِي
…
كَشَعْرَةِ فِي مفرِقي
رُوِيَ أن الشبلي كان يتمثل به.
والمعنى: إن كل ما خلق الله تعالى من تمتعات الدنيا والآخرة محتقر في همتي، فلا أطلبه دون الله تعالى.
ورُوِيَ أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: قيمة كل عالم همته (1)، فقال الشيخ أبو عبد الله القرشي: فمن كانت همته الدُّنيا فقيمته أقل من جناح بعوضة، ومن كانت همته الله ففضله وشرفه ماله قيمة.
وسُئِلَ الشبلي رحمه الله تعالى: هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشد: [من السريع]
وَاللهِ لَوْ أَنَّكَ تَوَّجْتَنِي
…
بِتاجِ كِسْرى مَلِكِ الْمَشْرِقِ
وَلَوْ بِأَمْوالِ الوَرى جُدْتَ لِي
…
أَمْوالِ مَنْ بادَ وَمَنْ قَدْ بَقِي
وَقُلْتَ لِي: لا نَلْتَقِي ساعَةً
…
لاخْتَرْتُ يا مَوْلايَ أَنْ نَلْتَقِي (2)
الأمر الثاني: أن يكون العبد راجعاً إلى الله تعالى رجوع النسر إلى وكره، مسرعاً إلى طاعة الله تعالى كإسراع النسر إلى هواه.
روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن معمر، عن رجل من قريش قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! أخبرني عن أهلك
(1) رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 245) من قول إبراهيم القصار.
(2)
انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (65/ 66).
الذين هم أهلك.
قال: هم المتحابون في، الذين يعمرون مساجدي، ويستغفروني بالأسحار، الذين إذا ذُكِرت ذكروا بي، وإذا ذُكِروا ذكرت بهم، هم الذين يثوبون إلى طاعتي كما تثوب السنور إلى ركودها، الذين اذا استحلت محارمي غضبوا كما يغضب النمر إذا حرِب (1).
وروى الطَّبراني في "الأوسط" عن عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مُوْسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ! أَخْبِرْنِيْ بِأَكْرَمِ خَلْقِكَ عَلَيْكَ.
قَالَ: الَّذِيْ يُسَارِعُ إِلَىْ هَوَايَ إِسْرَاعَ النَّسْرِ إِلَىْ هَوَاهُ، وَالَّذِيْ يَأْلَفُ عِبَادِيَ الصَّالِحِيْنَ كَمَا يَأْلَفُ الظَّبِيُّ النَّاسَ، وَالَّذِيْ يَغْضَبُ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمِيْ كَغَضَبِ النَّمْرِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ النَّمْرَ لا يُبَالِيْ إِذَا غَضِبَ أقلَّ النَّاسُ أَمْ كَثُرُوا" (2).
وقد اشتمَل هذا الحديث على أمرين آخرين يرشد إلى التشبه ببعض الحيوانات فيهما:
فالأول: التشبه بالظبي في ألفة الصَّالحين إذا تآلف بالنَّاس ألفهم، وإن كان في أول أمره نفوراً حتَّى لا يقدر بعد ذلك على الوحشة.
وفي المثل: آلف من الظبي بالحرم، وآلف من حمام مكة؛
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 71).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(2/ 234).
أوردها الزمخشري (1).
وفي الحديث: "الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيْمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ". رواه الدارقطني في "الأفراد"، والضياء المقدسي في "المختارة" عن جابر رضي الله عنه (2).
الأمر الثاني: التشبه بالنمر في الغضب، إلا أن غضب العبد يكون لله تعالى، وغضب النمر لنفسه، وشدة الغضب لله تعالى ممدوحة بحيث لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا تبالي أقَلَّ الناس أم كثروا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه أو كان لا يغضب إلا لله، فإذا غضب لا يقوم لغضبه شيء (3).
وكان عمر رضي الله عنه كما هو موصوف في التوراة قرناً من حديد، لا تأخذه في الله لومة لائم (4).
وكذلك يرشد إلى التشبه بالنمر بالجد والاجتهاد خصوصاً في أمور الآخرة؛ فإن العرب تقول في المثل: جد واتزر والبس جلد النمر، يُضرب في الأمر بالجد والاجتهاد والجَلَد في تحصيل المراد (5).
(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 9).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "الشمائل المحمدية" للترمذي (ص: 185).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(120).
(5)
انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (ص: 362).
- ومن أوصاف النسر: الحنين إلى الوطن، والحزن على فراق الإلف؛ فإنه أشد الطير حزناً على فراق إلفه إذا فارق أحدهما مات حزناً.
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزُّهد والرقائق" عن معمر، عن رجل من قريش قال: قال موسى عليه السلام: يا رب! أخبرني عن أهلك الذين هم أهلك.
قال: المتحابون فيَّ، الذين يعمرون ويستغفروني، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بهم، الذين يُنيبون إلى طاعتي كما تُنيب النسور إلى وكورها
…
الحديث، وتقدم سابقاً.
يثوبون - بالمثلثة، والواو - من: ثاب يثوب: إذا رجع بعد ذهابه، وثاب النَّاس: اجتمعوا وجاؤوا.
وأما يُنيبون في هذه الرواية: بالنون والياء: من الإنابة، وهي الإقبال على الله والتوبة.
وروى البيهقي في "الشعب" عن عبد الرحمن الهندي قال: سمعت الجنيد رضي الله عنه يقول: حق الشكر أن لا يعصى الله بنعمته فيما أنعم، ومَنْ كان لسانه رطبًا بذكر الله تعالى دخل الجنة وهو يضحك، قال: وقال: إن لله عباداً يأوون إلى ذكر الله تعالى كما يأوي النسر إلى وكره (1).
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6045).
- ومن أوصاف النسر: أنه أطول الطير عمراً حتى قيل: إنه يبقى ألف سنة، ولذلك اختار لقمان ابن عاد حين سأل طول العمر وخير، فطلب أعمار سبعة أنسر كما تقدم.
وقالوا في المثل: أعمر من نسر (1).
ومع ذلك فإنه يقول في صياحه: ابن آدم! عش ما شئت فإن الموت مُلاقيك؛ كما رواه الثعلبي عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما (2).
فينبغي للإنسان أن يتشبه بالنسر خصوصاً إذا كان معمَّراً في أنه لا يغتر بإنسائه في الأجل وطول عمره، ولا يطول أمله، بل يعلم أنه ميت آخراً ومُجازى على أعماله، وليعلم أن طول العمر نعمة، فلا ينبغي أن يصرف في غير الشكر وهو الطاعة.
وقد روى أبو داود الطيالسي عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ رُوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِيْ رُوْعِيْ، أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَعِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُجَازَى"(3).
(1) انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (2/ 75).
(2)
انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 474).
(3)
رواه الطيالسي في "المسند"(1755)، وكذا البيهقي في "شعب الإيمان"(7/ 348).