الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تَحْقِرَنَّ صَغِيراً فِي مُخاصَمَةٍ
…
إِنَّ الذُّبابَةَ أَدْمَتْ مُقْلةَ الأَسَدِ
-
ومن ذلك الجوارح:
وهي من الطير، والسباع ذوات الصيد، جمع جارحة للذكر والأنثى؛ سميت بذلك لأنها تكتسب من: جرح، واجترح عمل بيده، واكتسب، ومنه سميت أعضاء الإنسان التي يكتسب بها جوارح.
ومنه قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]؛ أي: اكتسبتم.
والاجتراح والاكتساب نتيجة العقل، وأحق ما يوصف به الإنسان لأنه هو العاقل المدرك بنهيته وهمته طرق الكسب.
وإنما سميت جوارح الطير جوارح: لأنها في الإدراك قريبة من الإنسان الكاسب، ولذلك يُنسب إليها العلم اللازم لقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4].
فلا ينبغي للإنسان أن يكون أعجر من كواسب الطير والسباع في اكتساب ما ينفعه دون ما يضره؛ ألا ترى أن العقاب يصطاد إناث الأرانب دون ذكرانها لأن الذكر يلتوي على عنق العقاب فيقتلها كما تقدم؟
والهر إذا أكل الحية اجتنب موضع السم منها.
والأيل يأكل الحيات أكلاً ذريعاً فلا تضره إلا إذا شرب الماء، فلذلك يجتنب الماء إذا أكلها حتى تنهضم عنه، فإذا عطش حام حول
الماء ولا يشرب منه.
فإذا كان الإنسان يتناول ما يضره مع علمه بمضرته فهو من أحمق الناس، كما قال بعض العارفين: أحمق الناس من يسره ما يضره.
وقال بيان الحمال رحمه الله تعالى: من كان يسره ما يضره كيف يفلح (1).
وقلت مُلماً بذلك من دوبيت:
أَلْفَيْتُكَ مُغْرَمًا بِجَمْعِ الضرَّةْ
…
تَحْتَجُّ بِأَنَّ ذاكَ خَوْفَ الضَّرَّةْ
ما ضَرَّكَ مِنْ دُنْياكَ فَاحْذَرْ ضرَّهُ
…
هَلْ يُفْلِحُ مَنْ يَسُرُّهُ ما ضَرَّهْ
الضرة في المصراع الأول هي: المال الكثير، وفي الثاني: الاسم من الاضطرار، وهي بمعنى سوء الحال أيضاً.
وضره في المصراع الثالث: الضر ضد النفع مضافاً إلى الضمير العائد إلى ما، وفي المصراع الرابع: فعل ناصب لهاء الضمير.
وللضَّرة - بالفتح - معان: القطعة من المال، والإبل، والغنم، والمال تعتمد عليه وهو لغيرك، والضرة للمرأة، وزوجتاك؛ الزوجتان كل واحدة ضرة الأخرى، والدنيا والآخرة ضرتان كما في الخبر.
وقلت أيضاً: [من الرجز]
(1) رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 225).
يا مَنْ جَمَعَ الأَمْوالَ خَوْفَ الضَّرَّة
…
حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْها لَدَيْكَ الضَّرَّة
ما الضَّرَةُ يا أُخِيَّ إِلَاّ الضَّرَّة
…
لا تَجْتَمِعُ الدُّنْيا مَعاً وَالضَّرَّة
وحكى حجة الإسلام في "الإحياء": أن عيسى عليه السلام كان يقول: الدنيا والآخرة ضرتان؛ فإذا أرضيت أحدهما أسخطت الأخرى (1).
وفي معناه ما رواه الإمام أحمد، والبزار، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فآثِرُوْا مَا يَبْقَى عَلَىْ مَا يَفْنَىْ"(2).
فينبغي للعاقل أن ينظر لنفسه في دنياه ويجترح ما يحمد عقباه؛ فإن الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 60).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 412)، وابن حبان في "صحيحه"(709)، والحاكم في "المستدرك" (7853). قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 84): رواه أحمد ورواته ثقات، والبزار وابن حبان والحاكم والبيهقي في "الزهد"وغيره، كلهم من رواية المطلب بن عبد الله ابن حنطب عن أبي موسى، والمطلب لم يسمع من أبي موسى، والله أعلم.
واعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، فما زرعت فيها حصدته في آخرتك؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
كاسبان لا يستويان؛ كاسب خير، وكاسب شر.
ثم الجوارح منها: ما لا يصيد إلا كبيراً كالنسر، والعقاب، والفهد.
ومنها ما يصيد صغيراً: وهو الأسد، والصقر؛ فإنهما يصيدان صغيرين، ولذلك قالوا في المثل: إن الشبل من الأسد، وإن هذا الشبل من ذاك الأسد.
وقال كشاجم: [من الرجز]
إن الفرازين من البيادق (1)
وفي المثل: القرم من الأفيل.
قال الزمخشري: يُضرب في كون الشيء الجليل في بدئه صغيراً، انتهى (2).
(1) انظر: "نهاية الأرب" للنويري (10/ 117).
(2)
انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 409).
والأفيل يُجمع على أفال كجمال، وأفائل: وهو صغار الإبل بنات المخاض ونحوها.
والقرم، ويقال له: مقرم - كمكرم - وهو البعير لا يُحمل عليه، ولا يُذلل، وإنما هو للفحلة.
قال في "الصحاح": ومنه قيل للسيد: قرم، ومقرم تشبيهاً بذلك (1).
والمعنى في ذلك: أنه لا ينبغي أن تستصغر أولاد الأشراف عن بلوغ مراتب آبائهم، وإنما تقال تلك الأمثال لولد النجيب مدحاً له وترغيباً له في مثل نجابة أبيه؛ لأن كل إنسان يميل إلى ما كان عليه آباؤه من الخير لأنه يعجب بآبائه، كما قالوا في المثل: كل فتاةٍ بأبيها مُعجبة (2).
ونظر إلي بعض العلماء وأنا في أوائل الطلب، فوجد مني فهماً وحذقاً، فقال: لا يُستكثر عليه ذلك؛ فإنه ابن فلان، ثم تمثل بالمثل، فقال: إن هذا الشبل من ذاك الأسد، فلم يزل ذلك يبعثني على طلب العلم والميل إلى التقوى والخير إلى يومنا هذا، وإلى الممات إن شاء الله تعالى بحيث إني أقول:[من مجزوء الرمل]
أَعْرَضَ القَلْبُ أَبِيًّا
…
عَنْ هَوى لُبْنَى وَلَيْلَى
(1) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2009)(مادة: قرم).
(2)
انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 350).
وَلَقَدْ شَمَّرْتُ حَزْماً
…
فِي رِضَى مَولايَ ذَيْلا
مائِلاً عَمَّا سِواهُ
…
فِي بَقايا العُمْرِ مَيْلا
أَمْتَطِي مِنْ هِمَّةِ القَلـ
…
ـبِ إِلَى لُقياهُ خَيْلا
طائِعاً رَبِّي نَهاراً
…
بِالَّذِي يَرْضَى وَلَيْلا
عائِذاً مِنْ أَنْ أُلاقِي
…
يَوْمَ أَلْقَى اللهَ وَيْلا
وروى الحاكم في "مناقب الإمام الشافعي" رضي الله عنه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يُشْبِهَ أَبَاهُ"(1).
يعني: في عمل الخير والأخذ به؛ فإن الخير هو الآخذ بيد أبيه إلى السعادة.
وقال رؤبة في عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: [من الرجز]
بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ فِي الكَرَمْ
…
وَمَنْ يُشابِهْ أَبَهُ فَما ظَلَمْ
وروى الشيرازي في "الألقاب" عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى - مرسلاً -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَىْ عَبْدِهِ أَنْ يَشْبَهَهُ وَلَدُهُ"؛ أي: في كل خير.
فأمَّا تشبه الولد بأبيه فيما هو بسبب الشقاوة، فهو من أبلغ أسباب
(1) كذا عزاه ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة"(3/ 23) إلى الحاكم في "مناقب الشافعي"، ورواه القضاعي في "مسند الشهاب"(299).
الشقاوة، ولذلك ذمَّ الله تعالى المقلدين لآبائهم في الكفر والمعاصي، والعادات المخالفة للحق في مواضع كثيرة من كتابه العزيز كقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]؛ أي: أَوَ لَوْ كان آباؤهم مُلْحَقِين بالبهائم في الجهالة والضلالة يتبعونهم ويدعون الحق الذي أنزله الله تعالى.
وقالت العرب في المثل في عكس ما تقدم، وهو شبه الولد بأبيه في الشر: لا تلد الحية إلا حُيية (1).
وهو في معنى قول نوح عليه السلام: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].
وقال الشيخ قطب الدين القسطلاني: [من الطويل]
إِذا طابَ أَصْلُ الْمَرْءِ طابَتْ فُروعُهُ
…
وَمِنْ عَجَبٍ جاءتْ يَدُ الشَّوْكِ بِالوَرْدِ
وَقَدْ يَخْبُثُ الفَرْعُ الَّذِي طابَ أَصْلُهُ
…
لِيَظْهَرَ صُنع اللهِ فِي العَكْسِ وَالطَّرْدِ (2)
واعلم أن الماجد إذا رغب في مجد أبيه فقد يكون ذلك لمقتضى طبعه، وقد يكون لتحرك نفسه للخير توفيقاً من الله تعالى، وهذا أفضل
(1) انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (2/ 259).
(2)
انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (8/ 44).