الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ما رأيتُ هناك درجة أرفع من العلماء، ومن بعدها درجة المحزونين (1).
روى هذه الآثار ابن أبي الدُّنيا في "الحزن".
-
ومن أوصاف الحمام: الصبر على المصيبة وعدم الجزع
؛ فإن الحمامة إذا ذُبحت فراخها لم تنفر من وكرها، ولم تَطِرْ منه، بل تبقى على ألفة أهلها وملازمتهم.
قرأت من خط البرهان بن جماعة في "تذكرته": قال عيسى عليه السلام: يا بني إسرائيل! تكون في بيوتكم الحمام تفرخ وتذبحون فراخها، فلا تنفر عنكم لما أسلفتم من العلف والماء والإحسان، يأخذ الله بعض أولادكم فتسخطون عليه، وتفرون منه؟ فبئس المثل لكم! انتهى.
فلا ينبغي للمؤمن أن يكون أعجز من الحمام في الصبر وعدم الجزع، بل يصبر إذا أُصيب بولده ونحوه، ويسترجع ويحمد الله على كل حال.
نعم، جرت عادة الأدباء بنسبة الشَّجن والحزن والنوح إلى الحمام، ولعل الأصل في ذلك ما ذكره الأستاذ أبو القاسم القشيري في "التحبير": أن يوسف عليه السلام كان له زوج حمام، فلما فارق
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الهم والحزن"(ص: 95).
يوسف يعقوب عليهما السلام، فكلما أراد يعقوب أن يتبسم أو يخاطب أحداً أو يتكلم، جاء الحمام ووقع بحذائه، فذكره عهد يوسف بهديره، فكان يُنَغص عيشه.
فلا يبعد أن يكون هذا أصلاً فيما اعتاده أهل الأدب من نسبة الأحزان والأشجان للحمام.
كما قال نصيب: [من الطويل]
لَقَدْ هَتَفَتْ فِي جُنْحِ لَيْلٍ حَمامَةٌ
…
عَلى فَنَنٍ وَهناً وَإِنِّي لَنائِمُ
وَأَزْعُمُ أَنِّي هائِمٌ ذُو صَبابةٍ
…
بِلَيْلَى وَلا أَبْكِي وَتَبْكِي البَهائِمُ
كَذَبْتُ وَبَيْتِ اللهِ لَوْ كُنْتُ عاشِقاً
…
لَما سَبَقَتْنِي بِالبُكاءِ الْحَمائِمُ
وقال عدي بن الرقاع العاملي: [من الطويل]
وَهَيَّجَ وَجْدِيَ بَعْدَ ما كُنْتُ نائِماً
…
هَتُوفُ الضُّحَى مَشْغوفةٌ بِالتَّرَنُّمِ
بَكَتْ ساقَ حُرِّ قَدْ نَأى، فَتَبادرَتْ
…
إِلَيْها دُمُوعُ العَيْنِ مِنْ كُلِّ مُنْتَمِي
وَلَوْ قبلَ مَبْكاها بَكَيْتُ صَبابةً
…
بِسُعْدَى شَفَيْتُ العَيْنَ قَبْلَ التَّنَدُّمِ
وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلي فَهَيَّجَ لِيَ البُكا
…
بُكاها، فَقُلْتُ: الفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ
وقال مجنون ليلى، أو غيره:[من الطويل]
وَلَوْ لَمْ يَرُعْنِي الرَّائِحُونَ لَهاجَنِي
…
حَمائِمُ ورْقٌ فِي الدِّيارِ وقوعُ
تَداعَيْنَ شَتَّى مِنْ ثَلاثٍ وَأَرْبعٍ
…
وَواحِدَةٍ حَتَّى أسين جميعُ
تَجاوَبْنَ فَاسْتَبْكَيْنَ مَنْ كانَ ذا هَوى
…
نَوائحُ لا تَجْرِي لَهُنَّ دُموع (1)
وقال حميد بن ثور: [من الطويل]
وما هاجَ هَذا الشَّوْقَ إِلا حَمامةٌ
…
رَقتْ ساقَ حُرٍّ تَرْحَةً وَتَرَنُّما
عَجِبْتُ لَها أَنَّى يَكُونُ غِناؤُها
…
فَصِيحاً وَلَمْ تَفْغَرْ بِمَنْطِقها فَما
(1) انظر: "الحيوان" للجاحظ (3/ 207).
وَلَمْ أَرَ مَحْزُوناً لَهُ مِثْلُ صَوْتها
…
وَلا عَرَبِيًّا شاقَهُ صَوْتٌ أُعْجِما (1)
وقال توبة: [من الطويل]
حَمامةَ بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّحِي
…
سَقاكِ مِن الغُرِّ الغَوادِي مَطيرُها
أَبِيْنِي لَنا لا زالَ بَيْتُكِ ناعِماً
…
وَلا زِلْتِ فِي خَضْراءَ غَضٍّ نَضِيرُها
وأنشد أبو عمرو الشيباني المجنون: [من الطويل]
دَعاكِ الْهَوى وَالشَّوْقُ لَمَّا تَرَنَّمَتْ
…
هَتُوفُ الضُّحى بَيْنَ الغُصونِ طَروبُ
تجاوِب وُرْقاً قَدْ أَرعنَ لِصَوْتِها
…
فَكُلٌّ لِكُلٍّ مُسْعِدٍ وَمُجِيبٌ
أَلا يا حَمامَ الأَيْكِ ما لَكَ باكِياً
…
أَفارَقْتَ إِلْفاً أَمْ جَفاكَ حَبِيبُ (2)
(1) انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (5/ 377).
(2)
انظر: "ديوان مجنون ليلى"(ص: 6).
وقال جهم بن خلف: [من المتقارب]
وَقَدْ شاقَنِي نَوْحُ قُمْرِيَّةٍ
…
طَروبِ العَشِيِّ هَتُوفِ الضُّحَى
مِنَ الورْقِ هَتَافَةٌ باكَرَتْ
…
عَشِيَّةَ يَومٍ بِذاتِ الغضا
فَغَنَّتْ عَلَيْهِ بِلَحْنٍ لَها
…
يُهَيِّجُ لِلصَّبِّ ما قَدْ مَضَى
مُطَوَّقَةٌ كَسَبَتْ زِينةً
…
بِدَعْوَةِ نُوْحٍ لَها إِذْ دَعا
فَلَمْ أَرَ ناطِقةً مِثْلَها
…
تَبْكِي وَدَمْعَتُها لا تُرى
أَطافَتْ بِفَرْخٍ لَها هالِكٍ
…
وَقَدْ عَلِقَتْهُ حِبالُ الرَّدَى
فَلَمَّا بَدا اليأسُ مِنْهُ بَكَتْ
…
وَماذا يَرُدُّ عَلَيْها البُكا (1)
وقال اليافعي: سُئِلَ الشيخ الكبير العارف بالله أبو بكر الشبلي: ما بال الرجل يسمع الشيء وربما لا يفهم معناه، ويتواجد عليه؟ فأنشأ يقول:[من الرمل]
رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ فِي الضُّحَى
…
ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ فِي فَنَنِ
ذَكَرَتْ إِلْفاً وَدَهْراً صالِحاً
…
فَبَكَتْ حُزْناً وَهاجَتْ حَزَنِي
فَبُكائِي رُبَّما أَرَّقَها
…
وَبُكاها رُبَّما أَرَّقَنِي
وَلَقَدْ تَشْكُو فَما أَفْهَمُها
…
وَلَقَدْ أَشْكُو فَما تَفْهَمُنِي
(1) انظر: "الحيوان" للجاحظ (3/ 199).
فَتَرانِي بِالْجَوى أَعْرِفُها
…
وَهِيَ أَيْضاً بِالْجَوى تَعْرِفُنِي (1)
وقال حجة الإسلام في "الإحياء": رُوِيَ أنه كان أبو الحسين النوري في دعوة، فجرت بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت، ثم رفع رأسه، فأنشدهم:
رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ فِي الضُّحَى
…
إلى آخر الأبيات
قال: فما بقي في القوم أحد إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جداً وحقاً (2).
وقال الشيخ العارف بالله المحيوي بن العربي رحمه الله تعالى: [من الكامل]
ناحَتْ مُطَوَّقَة فَحَنَّ حَزِينُ
…
وَشَجاهُ تَرْجِيعٌ لَها وَحَنِينُ
جَرَتِ العُيُونُ مِنَ العُيُونِ تَفَجُّعاً
…
لِحَنِينِها فَكَأَنهنَّ عُيونُ
طارَحْتُها ثَكْلَى لِفَقْدِ وَحِيدِها
…
وَالثُّكْلُ مِنْ فَقْدِ الوَحِيدِ يَكُونُ
طارَحْتُها وَالوَجْدُ يَمْشِي بَيْنَنا
…
ما إِنْ تُبِينُ، وَإِنَّنَي لأُبِينُ
وقال الشيخ العارف بالله أبو الحجاج الأقصرائي - كما قرأت من خط العارف بالله الحافظ صلاح الدين العلائي الأقصرائي -: كان الشيخ أبو الحسن الصباغ رضي الله تعالى عنه سائراً في بعض الأيام وقت الضحى بين بساتين قُوص، فرأى حمامة على شجرة تغرد بصوتٍ شج، فوقف
(1) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (66/ 70).
(2)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 299).
يسمعها، ثم تواجد واستغرق في وجده، وأنشد:[من المتقارب]
حَمامَ الأَراكِ أَلا فَاخْبِرِينا
…
بِمَنْ تَهْتِفِينَ، وَمَنْ تَنْدُبِينا
فَقَدْ شِقْتِ بِالنَّوْحِ مِنَّا القُلُوبَ
…
وَأَرْدَفْتِ وَيْحَكِ ماءً مَعِينا
تَعالَي نُقِمْ مَأْتَماً لِلْفِراقِ
…
وَنندُبَ أَحْبابَنا الظَّاعِنِينا
وَأَسْعَدُ بِالنَّوْحِ كَيْ تُسْعِدِينا
…
كَذاكَ الْحَزِينُ يُواسِي الْحَزِينا
قال: ثم بكى رحمه الله تعالى طويلاً، وأنشد:[من الطويل]
أَيَبْكِي حَمامُ الأَيْكِ مِنْ فَقْدِ إِلْفِهِ
…
وَأَصْبِرُ عَنْهُ كَيْفَ ذاكَ يَكُونُ
وَلِمْ لا أُبَكي، ثُمَّ أندُبُ ما مَضَى
…
وَذاكَ الْهَوى بَيْنَ الضلُوعِ دَفِينُ
وَإِنْ كانَ قَلْبِي قَبْلَ ذلكَ قاسِياً
…
فَإِنْ دامَتِ البَلْوَى بِهِ سَيَبِينُ
أَلا هَلْ عَلى الشَّوْقِ المُبَرِّحِ
…
وَهَلْ لِي عَلى الوَجْدِ الشَّدِيدِ مُعِينُ
سَلامٌ عَلى قَلْب تَعَرَّضَ بِالْهَوى
…
سَلامٌ عَلَيْهِ أَحْرَقَتْهُ شُجُونُ
وَعَذَّبَهُ هَمٌّ يُهَيِّجُ حُزْنَهُ
…
فَلِلْهَمِّ وَالأَحْزانِ فِيهِ فُنونُ
ثم خرَّ مغشيًّا عليه، فلمَّا أفاق أنشد:[من الخفيف]
غَنِّنِي فِي الفِراقِ صَوْتاً حَزِيناً
…
إِنَّ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَوْقاً دَفِيناً
ثُمَّ جُدْ لِي بِدَمْعِ عَيْنَيْكَ بِاللـ
…
ـهِ وَكُنْ لِي عَلى البُكاءِ مُعِينا
فَسَأَبْكِي الدِّماءَ فَضْلاً عَنِ الدَّمْـ
…
ـعِ، وَمِثْلُ الفِراقِ أَبْكَى العُيونا
فَكُلُّ أَمْرِ الدُّنا حَقِيرٌ يَسِيرٌ
…
غَيْرَ فَقْدِ القَرِينِ فِيها القَرِينا
قال: فجرى الدمع من مُقلتيه، وسقطت الحمامة إلى الأرض بين يديه، وجعلت تُصَفق بجناحيها حتى ماتت، فانشد رحمه الله تعالى:[من الطويل]
وَرَدْنا عَلى أَنَّ الْهَوى مَشْربٌ عَذْبُ
…
وَحَطَّ بِهِ لِلسَّيْرِ أَشْواقَهُ الرَّكْبُ
فَلَمَّا وَرَدْنا ماءَهُ أَلهَبَ الظَّما
…
فَيا مَنْ رَأى ظَمْآنَ أَلْهَبَهُ الشُّرْبُ
أَكَبَّ الْهَوى يُذْكِي عَلَيَّ زِنادَهُ
…
أَيا قادِحاً أَمْسِكْ فَقَدْ عَلِقَ الْحِبُّ
وَلَوْ أَنَّنِي أَخْلَيْتُ قَلْبِي لِغَيْرِكُمْ
…
مِنَ النَّاسِ مَحْبُوباً لَما وَسِعَ الْقَلْبُ
تُرى تَسْمَحُ الأَيَّامُ مِنْكُمْ بِنَظْرَةٍ
…
فَتُلْقَى عَنِ الأَيْدِي الرَّسائِلُ وَالكُتْبُ
أُعاتِبُكُمْ لا عَنْ قِلَى وَمَلامَةٍ
…
وَلَكِنْ إِذا صَحَّ الْهَوَى حَسُنَ الْعَتْبُ
وذكر ابن خلكان في "وفيات الأعيان": أنَّ المسعودي حكى عن جماعة من أهل البصرة قالوا: خرجنا نريد الحج، فلمَّا كان ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجة وهو ينادي: يا أيها الناس! هل
فيكم أحدٌ من أهل البصرة؟
قال: فعَدَيْنا إليه، وقلنا له: ما تريد؟
قال: إنَّ مولانا لما به يريد أن يوصيكم، فملنا إليه، فإذا بشخصٍ مُلقى على بُعدٍ من الطريق تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله، فأحس بنا، فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول:[من المنسرح]
يا غَرِيبَ الدَّارِ عَنْ وَطَنِهْ
…
مُفْرَداً يَبْكِي عَلى شَجَنِهْ
كُلَّما جَدَّ البُكاءُ بِهِ
…
دَبَّتِ الأَسْقامُ فِي بَدَنِهْ
ثم أُغميَ عليه طويلاً ونحن جلوسٌ من حوله إذ أقبل طائرٌ، فوقع أصل شجرة، وجعل يُغرد، ففتح عينيه، وجعل يسمع تغريد الطائر، ثم أنشأ يقول:[من المنسرح]
وَلَقَدْ زادَ الفُؤادَ جَوًى
…
طَائرٌ يَبْكِي عَلى فَنَنِهْ
شفَّهُ ما شفني، فَبَكى
…
كُلُّنا يَبْكِي عَلى سَكَنِهْ
قال: ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه منه، فلم نبرح من عنده حتى فرغنا من دفنه، فسألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف رحمه الله تعالى (1).
والتشبه بالحمام في البكاء والنوح يحسن من الإنسان إذا كان من
(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 26).
التفريط في العمر في غير طاعة الله تعالى، ومن التقصير في طلب مرضاة الله تعالى والعمل بمقتضى حب الله تعالى المشروط في صحة الإيمان؛ كما حُكي أن أبا بكر الشبلي مرَّ في المقابر على امرأة تنوح وتقول: ويلاه من فقد الولد!
فقال الشبلي: ويلاه من فقد الأحد!
وكذلك البكاء من خشية الله تعالى؛ ومنه البكاء عند قراءة القرآن من القارئ والمستمع كما وصف الله تعالى الذين أنعم الله عليهم من النبيين بقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
والعلماءَ بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].
قال عبد الأعلى التميمي رحمه الله تعالى: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109]. رواه ابن أبي شيبة، والمفسرون (1).
وروى الترمذي وحسنه، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35360)، والطبري في "التفسير"(15/ 182)، وكذا الدارمي في "السنن"(291).
اللهِ، وَعَيْنْ باتَتْ تَحْرسُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ" (1).
وفي الباب أحاديث صحيحة كثيرة.
وقال شهر بن حوشب رحمه الله تعالى: كان داود عليه السلام يسمَّى: النَّواح (2).
وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] قال: نوحي معه، والطير تساعدك على ذلك، وكان داود إذا نادى بالنياحة أجابت الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، قال: فصدى الجبال الذي يسمع الناس من ذلك (3).
وقال زيد بن أسلم رحمه الله تعالى: كان داود عليه السلام إذا رفع صوته بقراءة الزبور تركت الطير أوكارها، وعكفت عليه حول محرابه، حتى يفْرُغَ من قراءته، وكان يبكي حتى تجريَ دموعُه على الأرض، وكان إذا أتي بالشراب بكى حتى يمتزج شرابه بدموعه.
وقال الأوزاعي: بلغني أن داود عليه السلام كان إذا رفع صوته عكفت الوحوش والسباع حول محرابه، يموت بعضها هزلاً قبل أن تفارقه.
(1) رواه الترمذي (1639) وحسنه.
(2)
انظر: "العظمة" للأصبهاني (5/ 1747).
(3)
انظر: "تفسير القرطبي"(14/ 265).
وقال وهب: كان داود عليه السلام إذا رفع صوته بالزبور لم يسمعه شيء إلا حَجَل؛ أي: رقص. رواه ابن أبي الدنيا في "البكاء"(1).
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" وابن أبي الدنيا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله، ورواه الترمذي وحسنه، وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله! ما النجاة قال: "أمسِكْ عليكَ لسانَك"، وفي لفظ:"أملِكْ عليكَ لِسَانَكَ، وليسَعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتكَ"(2).
وروى الطبراني في "الأوسط" و"الصغير" -وحسن إسناده- عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طُوبى لِمَنْ مَلَكَ لسانَه، ووسِعَهُ بيتُه، وبَكَى على خطيئه"(3).
وروى ابن أبي الدنيا في "البكاء" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: لو ملكت البكاء لبكيت أيامَ الدنيا، ولولا أن يقول الناس مجنون، لوضعت التراب على رأسي، ثم نُحْتُ على نفسي في الطرق
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء"(ص: 249)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(17/ 99).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 15)، وابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء" (ص: 139)، والترمذي (2456).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(2340)، و"المعجم الصغير"(212).