الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتقدم في الحديث: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ"(1).
وروى الإمام أحمد عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ عز وجل مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِيْ الإِسْلامِ لِتَكْبِيْرِهِ وَتَحْمِيْدِهِ وَتَسْبِيْحِهِ وَتَهْلِيْلِهِ"(2).
-
ومن ذلك البازي:
قال في "حياة الحيوان": يُضرب به المثل في نهاية الشرف، كما قال الشاعر:[من الوافر]
إِذا ما اعْتَزَّ ذُو عِلْمٍ بِعِلْمٍ
…
فَعِلْمُ الفِقْهِ أَشْرَفُها اعْتِزازا
وَكَمْ طِيبٍ يَفُوحُ وَلا كَمِسْكٍ
…
وَكَمْ طَيْرٍ يَطِيرُ وَلا كَبازا (3)
وذكر الشَّيخ أبو إسحاق الشيرازي في "طبقاته": أن أبا العباس ابن سريج رحمه الله تعالى كان يُقال له: الباز الأشهب (4).
ونقل الحافظ الذهبي، وغيره عن الشيخ داود بن يحيى بن داود الجريري - وكان صدوقاً - قال: كان الشيخ أحمد بن الرفاعي
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 163)، وكذا النسائي في "السنن الكبرى"(10674).
(3)
انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 158).
(4)
انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص: 118).
رحمه الله تعالى قد دار النخل الذي له وعين واحدة منها، وقال لأصحابه: إذا استوت هذه أهديناها إلى الشيخ أرسلان، فمرَّ بها بعد مدة فوجد أكثر ما عليها قد ذهب، فسألهم فقالوا: لم يطلع إليها أحد، ولكن في كل يوم يجيء باز أشهب يأكل منها ولا يقرب غيرها، ثم يطير.
فقال لهم: الباز الأشهب هو الشيخ أرسلان، فلذلك يُقال له: الباز الأشهب (1).
قلت: وهذا تشكل الأبدال وتبدلها في صور مختلفة (2).
وذكر الشيخ عبد الله اليافعي في "كفاية المعتقد" أبياتاً للشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى سمَّى نفسه فيها الباز الأشهب، ووصف نفسه فيها بأنه بلبل الأفراح، وهي هذه الأبيات:[من الكامل]
ما فِي الْمَناهِلِ مَنْهلٌ مُسْتَعْذَبُ
…
إِلَاّ وَلِي فِيهِ الأَلَذُّ الأَطْيَبُ
أَوْ فِي الوِصالِ مَكانةٌ مَخْصُوصَةٌ
…
إِلَاّ وَمَنْزِلَتِي أَعَزُّ وَأَقْرَبُ
(1) انظر: "تاريخ الإسلام" للذهبي (38/ 346).
(2)
تقدم التعليق على مثل هذا الاعتقاد في مبحث: التشبه بالملائكة، فلينظر.
وَهَبَتْ لِيَ الأَيَّامُ رَوْنَقَ صَفْوِها
…
فَحَلَتْ مَناهِلُها وَطابَ الْمَشْربُ
وَغَدَوْتُ مَخْطُوباً لِكُلِّ كَرِيْمَةٍ
…
لا يَهْتَدِي فِيها اللَّبِيبُ وَيَخْطِبُ
أَنا مِنْ رِجالٍ لا يَخافُ جَلِيسُهُمْ
…
رَيْبَ الزَّمانِ، وَلا يَرى ما يَرْهَب
قَوْمٌ لَهُمْ فِي كُلِّ مَجْدٍ رُتْبةٌ
…
عُلْوِّيةٌ، وَلِكُلِّ جَيْشٍ مَوْكِبُ
أَنا بُلْبُلُ الأَفْراحِ أَمْلأُ دَوْحَها
…
طَرباً، وَفِي العَلْياءِ بازٌ أَشْهَبُ
أَضْحَتُ جُيوشُ الْحُبِّ تَحْتَ مَشِيئَتِي
…
طَوْعاً، وَمَهْما رُمْتُهُ لا يَعْزُبُ
أَصْبَحْتُ لا أَمَلاً وَلا أُمْنِيَّةً
…
أَرْجُو وَلا مَوْعُودَةً أترَقَّبُ
ما زِلْتُ أَرْتَعُ فِي مَيادِينِ الرِّضا
…
حَتَّى وهِبْتُ مَكانَةً لا تُوْهَبُ
أَضْحَى الزَّمانُ كَحُلَّةِ مَرْقُومَةٍ
…
تَزْهُو، وَنَحْنُ لَها الطِّرازُ الْمُذْهَبُ
أَفَلَتْ شُموسُ الأَوَّلِينَ وَشَمْسُنا
…
أَبداً عَلى فَلَكِ العُلى لا تَغْرُبُ (1)
قال: ولمَّا أَنشد الشيخ عبد القادر هذه الأبيات أجابه الشيخ أبو
المظفر الواعظ المعروف بجرادة رحمه الله تعالى منشداً: [من البسيط]
بِكَ الشُّهورُ تُهَنَّى وَالْمَواقِيت
…
يا مَنْ بِأَلْفاظِهِ تَغْلُو اليَواقِيتُ
البازُ أَنْتَ فَإِنْ تَفْخَرْ فَلا عَجَبٌ
…
وَسائِرُ النَّاسِ فِي عَيْنِي فَواخِيتُ
أَشَمُّ مِنْ قَدَمَيْكَ الصِّدْقَ مُجْتَهِداً
…
لأَنَّهُ قَدمٌ فِي نَعْلِهِ الصِّيتُ
وقال في "حياة الحيوان": قال الشيخ الزاهد أبو العباس
القسطلاني: سمعت الشيخ أبا شجاع زاهر بن رستم الأصبهاني إمام
مقام إبراهيم بمكة المشرفة يقول: سمعت الشيخ أحمد خادم الشيخ
حمَّاد يقول: دخل الشيخ عبد القادر على الشَّيخ حماد الدباس يزوره،
فنظر إليه الشيخ وكان قد رأى أنه اصطاد بازياً، فأثَّرت نظرة الشيخ فيه،
(1) وانظر: "مرآة الجنان" لليافعي (3/ 350).
فخرج من عنده وتجرد عن أسبابه وكان من أكابر أصحابه قال: ولهذا كان الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى يقول: [من الكامل]
أَنا بُلْبُلُ الأَفْراحِ أَمْلأُ دَوْحَها
…
طَرباً، وَفِي العَلْياءِ بازٌ أَشْهَبُ (1)
وفي معنى كلام أبي المظفر المذكور آنفاً ما روي أن بكر بن سوادة قال في خالد بن صفوان: [من الطويل]
عَلِيمٌ بِتَنْزِيلِ الكِتابِ مُلَقَّنٌ
…
ذَكُورٌ بِما أَسْداهُ أَوَّلَ أَوَّلا
يُرَى خُطَباءُ النَّاسِ يَومَ ارْتجالِهِ
…
كَأَنَّهُمُ الكِرْوانُ عاينَ أَجْدَلا (2)
الكروان - بكسر الكاف، وإسكان الراء -: جمع كَرَوان - بفتحهما - على غير قياس، وهو طائر شبيه بالبط لا ينام الليل؛ سمي بضده من الكَرَى؛ يُضرب به المثل في الجبن لأنه إذا قيل له:[من مجزوء الرجز]
أَطْرِقْ كَرا، أَطْرِقْ كَرا
…
إِنَّ النَّعامَ فِي القُرى
(1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 159).
(2)
انظر: "البيان والتبيين" للجاحظ (1/ 179).
التصق بالأرض، فيُلقى عليه ثوب فيُصاد (1).
والأجدل من أسماء الصقر، ويقال له: الأجذل، وهي صفة غالبة.
وفي المثل: بيض القطا يحضنه الأجدل؛ يُضرب للشريف يأوي إليه الوضيع فيتقوى به ويشرف، فيكون مدحاً (2).
والتشبه بالأجدل في ذلك بأن يربأ الإنسان إلى معالي الأمور والأخلاق، وإذا انضم إليه دنيء حقير عظم به وحمى ذِمامه، وتعلم من أخلاقه، وزَكَت نفسه به، ويحمد لذلك الحقير انضمامه إليه تحصيلاً لكمال نفسه كما قيل:[من الطويل]
عَلَيْكَ بِأَرْبابِ الصُّدُورِ فَإنَّ مَنْ
…
يُضافُ لأَرْبابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرا
فَرَفْعُ أَبو مِنْ ثَمَّ جَرٌّ مُؤثل
…
يُبَيِّنُ قَوْلي مُغْرِياً وَمُحَذِّرا
أو يُضرب للشريف إذا ضم إليه الوضيع ليكون وصلة له إلى تحصيل الدنيا ومجاوزة الحدود، فيكون ذمًّا، فلا ينبغي التشبه بالأجدل في ذلك، وقد قيل:[من الطويل]
(1) انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 45).
(2)
انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 267).
وَمَنْ رَبَطَ الكَلْبَ العَقُورَ بِبابِهِ
…
فَإِنَّ بَلاءَ النَّاسِ مِنْ رابِطِ الكَلْبِ (1)
وقريبٌ من هذا المثل قولهم في المثل الآخر: إنَّ البغاث بأرضنا تستنسر؛ أي: من جاورنا عزَّ بنا (2).
والبغاث - مثلث الأول، وغينه معجمة، وثاؤه مثلثة -: طائر أغبر، جمعه: بغثان كغزلان، أو هو شرار الطير.
وقال الزمخشري: يستنسر؛ أي: يصير نسراً، فلا يقدر على صيده؛ يُضرب في قوم أعزاء، يتصل بهم الذليل فَيُعَز بجوارهم، انتهى (3).
فإن كان حين عزَّ بجوارهم استطال على الناس بالأذى، فالمثل ذم.
وإن كان حين عزَّ بهم صفا عيشه، وأطاع ربه وسلم بانضيافه إليهم من يحاول امتهانه واستذلاله، فالمثل مدح.
وفي المثل معنى آخر: أنَّ الضعيف يتقوى علينا؛ إما لضعفنا ولين جانبنا، وقلة استنصارنا وأنصارنا، وإما لعدم رواج الخير الذي منا عنده وعدم اكتراثه بنا.
(1) انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص: 117).
(2)
انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (3/ 34).
(3)
انظر: "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (1/ 402).
ولنا في وصف الزمان: [من المتقارب]
أَرى عَصْرَنا الزَّمِنَ الأَغْبَرا
…
وَكُلَّ بُغاثٍ بِهِ اسْتَنْسَرا
فَكَمْ مِنْ كَرِيْمٍ يَمَلُّ الْحَياةَ
…
لِكُلِّ لَئِيمٍ قَدِ اسْتَقْدَرا
حَلا فِي ذَوِيهِ الْمَرِيرُ الكَرِيهُ
…
وَطابَ الَّذِي كانَ مُسْتَقْذَرا
وَما فِيهِ لِلْحَقِّ مِنْ ناصِرٍ
…
وَلَوْ كُنْتَ لِلْحَقِّ مُسْتَنْصِرا
فَكُنْ بِاعْتِزالِكَ مُسْتَأثِراً
…
وَفِي طاعَةِ اللهِ مُسْتَبْصِرا
- ومن أوصاف البازي: أنه لا يقنع في الصيد بالأمور الجزئية، بل همته ترتفع عن صيد نحو جرادة أو ذبابة.
وقد قيل كما تقدم: [من الوافر]
وَلِلزُّنْبورِ وَالبازِيِّ جَمِيعاً
…
لَدى الطَّيَرانِ أَجْنِحَةٌ وَخَفْقُ
وَلَكِنْ بَيْنَ ما يَصْطادُ بازٌ
…
وَما يَصْطادُهُ الزُّنْبُورُ فَرْقُ
وكذلك ينبغي للإنسان أن يربأ بهمته عن سفساف الدنيا ودنيء ما
فيها، وكل ما فيها دنيء عند العارفين لأنها لا تساوي عند الله جناح
بعوضة، فما كان رفيع الهمة بدون دار القرار داراً، وبدون الجنة عقاراً.
وقد قدمنا في صدر الكتاب: أن رجلاً قال لبعض الحكماء: فلان بعيد الهمة.
قال: إذاً لا يرضى بمنزلة دون الجنة.
ولامرئ القيس: [من الطويل]