الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
3
- *
من آثار المؤتمر الإسلامي
طاف بالأمة الجزائرية في سنينها الأخيرة طائف من يقظة وانتباه لا عهد لها به في سنيّها الغابرة. وتفشت تلك اليقظة في جميع طبقات الأمة كما يتفشّى الروح الحيواني في أجزاء البدن كلها. وانتظم ذلك الانتباه جميع مرافق الحياة المادية والمعنوية في الأمّة فظهرت آثاره جلية في التفكير. وظهرت آثاره في الإقبال على العلم. وظهرت آثاره في الاقتصاد والعمل وظهرت أخيرًا في السياسة.
وكان من أول ما تنبّه له شعورها- وهي بين النوم واليقظة- أن تجلو ماضيها القريب معتبرة، وتبلو حاضرها المضطرب مختبرة، لتقدم على بناء مستقبلها مستبصرة، فإذا في ذلك الماضي ما تَزِرُّ العيون منه على مثل القذى، وتنقلب النفوس منه بما ينقلب به الحي من السوأة العريانة، أنقاض من الخرافات لابست الدين الحق حتى أصبحت تسمّى دينًا، وأشتات متناقضة من الاستسلام المطلق باسم الدين، مظهره الانقياد لتجار الدين، ومن الثوران الجامح باسم الحفاظ والغيرة. مَظْهَرُهُ عداء مستحر بين ذوي القربى في الوطن، ونزاع مستمر بين ذوي القربى في الرحم وقد أَمِرَ أَمْرُ هذه الرذائل حتى أصبحت تسمّى فضائل.
وأخلاط من عواري الميول والمشارب تلوّنت بها النفوس الجوفاء حتى أصبحت تسمّى أخلاقًا، وسفاسف من لغو الحديث لا تثير ذكرى ولا تذكي حماسًا، ولا تهز عاطفة، وقد غمرت المجامع حتى أصبحت تسمّى أدبًا.
* جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 26، الجمعة 13 ربيع الثاني 1355هـ/ 3 جويلية 1936م.
وكتب هذا المقال بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي الجزائري.
ومجموعة من الرطانات لا تجلي قصدًا ولا تبين مرادًا ولا تترجم عن مكنون، وقد استولت على الألسنة والأقلام فأصبحت تسمّى لغة.
وأمشاج متنافرة من التقاليد الزائفة والعادات المرذولة داخلت المجتمع فأصبحت تسمّى اجتماعًا، هذا هو الباب الأخير من تاريخ الماضي الذي استجلته الأمة الجزائرية فلم يجل لها إلا المحزن المكرث.
ثم انفتحت عينها من حاضرها على دين قد عبث به العابثون واتخذوه مكسبة، وأزهقوا روحه وجرّدوه من أسباب القوة والتأثير، وعطلوه من خصائصه ومزاياه، وكانوا عونًا لأعدائه على هدمه، وعلى دنيا ليست كدنيا الناس وكأنما اقتطعت من زمان غير هذا الزمان لتبقى أثرًا عاديًا في متحف الوجود ممثلة للعيان ما تمثّله الصورة الفوتوغرافية في كتاب تاريخ
…
وعلى رقعة من الأرض زكية الاغلال طيبة الغلال، تناهبتها الأيدي العاتية وتقاسمتها الكتائب المغيرة حتى لم يبق لها منها إلا حظ الميت، قبر يمسح بالشبر ولكنها على رغم ذلك تسمّى وطنًا.
وعلى أوشال من الرزق يبضّ بها الكد المرهق وينتضح بها العرق المتصبب، وينطف معها دم المهج، وتنتزع من أنياب الأفاعي انتزاعًا ولكنها مع ذلك كله تسمّى مالًا
…
وعلى غثاء من الأناسي كغثاء السيل المتساوي الغيبة والمشهد في تقدير حياته، لا يحكم ما يريد ولا يفقه ما يراد به، قد محت الأحداث من مخيلته معنى الماضي فهو يعيش بلا ماض، ومعنى المستقبل فهو لا يفكر في مستقبل إلا بأضعاث من الآمال لم تسندها أعمال، كل اعتماده في المستقبل على ميت مقبور أو معدوم (منتظر)، ولكن هذا الغثاء برغم ذلك كله يسمّى أمّة
…
وعلى قضايا ملفوظة ومسائل محفوظة، مقطوعة العلائق مع أدلّتها، مجفوة الأرحام من أصولها تسلخ عليها الأعمار، وتقطع عليها الأنفاس، لم يعمل فيها فكر ولم يرضها تمحيص، ولكنها مع ذلك تسمّى علمًا
…
وعلى عوائد متوالدة بين أب (باهلي) وأم حنظلية، وقد فاض عليها جلال الدين وقدسية العبادات فأصبحت تسمّى شعائر دينية
…
وعلى قيادة روحانية سفيهة شهوانية عارمة، تحكمت في أفكار الأمّة بالوهم، وتسلطت عليها بما يشبه التنويم المغناطيسي، ومكّنت فيها للذلة والفقر فهيأتها للفناء العاجل كل ذلك باسم الدين.
وعلى قيادة بدنية مستنزفة قد تعرقت القوى تعرّقًا وامتصتها امتصاصًا وعمدت إلى مواقع الشعور من الأمّة فضربت عليها بالخدر والترقيد، وإلى منابع الرجولة فيها، فغورت قلبها ولم تستبق فيها من أسباب التفكير إلا ما يهيئُهَا للتسخير.
وقد اصطلحت تلك القيادة وهذه السيادة على كل ما يفسد الأمّة ويضعف روحها ويشلّ حيويتها من جهل وفقر وكل ما يلده الجهل والفقر من مفاسد وموبقات.
هل رأيت جسمًا اصطلحت عليه الأدواء والعلل وتآخت على هيكله حتى كأن بينها- على تباين أسبابها- رحمًا مبرورة؟
ذئاب من القادة تتخطف، وصوالجة من السادة تتلقف، أفيبقى على هذين باقية من أمّة أو بقية من كائن؟ اللهم لا.
وآخر ما فتحت عليه عينها سياسة مضطربة الجوانب، مقلقة الركائب، لا يقرّ لها قرار إلا على المنشور "والقرار"، ولا تبنى أبياتها إلا على الوتد المفروق، والقاعدة ذات الشذوذات والفروق، والأسباب الخفية المتقلبة مع الغروب والشروق.
إن أمّة تفتح عينها على مثل هذا وتشعر بعواقبه ومصايره، ثم لا تموت من شدة الفزع والهول لأمّة ممدودة أسباب البقاء متراخية حبال العمر، جزيلة الحظ من الحياة وكذلك تكون الأمّة الجزائرية إن شاء الله.
بلى، وإن سنن الله في الأمم غير سننه في الأفراد {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} . دهش هؤلاء القادة الروحانيون لهذه الحالة المفاجئة التي ظهرت على الأمّة الجزائرية وعدّوها غريبة، واعتبروها نذير شؤم على سلطانهم الوهمي ومخيلة اضمحلال لقوّتهم الكاذبة. وأقبلوا على الأمّة يهدّئونها كما يهدّأ الصبي، يحاولون المحال من ردّها إلى النوم الذي نفضته جفونها والمهاد الذي جافته جنوبها. وأنّى يستطيب المهاد، أو يعاود النوم من لفحته الشمس المهجرة وفاتته الركبان المبكرة واستشعر التخلف فاعتزم اللحاق، هذا ما لا يكون.
ولما استيأس القادة وكذّبهم الأمل، كرّوا على الأصوات التي أيقظت الأمّة والنذر التي أهابت بها إلى الانتباه يوسعونها لعنًا وسبًّا، ويصبّون الشتم والقذف عليها صبًّا، ويبذلون الوسع في إخماد نأمتها وإخفات أصواتها، ولكن صدق عليهم المثل "أوسعتُهم سبًّا وراحوا بالإبل".
ووجم السادة لهذه الحالة وعدّوها مريبة، وامتدت ظنونهم السيئة بها إلى غير حدّ، ينتحلون الأسباب، ويخترعون العلل ويبتكرون من الوسائل ما يعيد النائم إلى نومه. ولكن هيهات للسيل إذا أتى أتيه أن يقف قبل أن يمدّ مدّه، ويبلغ حدّه.
ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟
وقد كان بين دهشة الأولين، وبين وجوم الآخرين مجال لعمل العاملين. ومهّدت دهشة المفاجأة ووجوم البغت لهذه الحالة الطارئة فأصبحت حالة طبيعية قارة يحفها من جلال الحق ما يزيدها روعة، ويمدّها من أهل الحق وأنصاره في كل يوم ما يرفدها بالمعونة والأخذ باليد، ويوليها على الزمان رسوخًا واتساعًا. وليس بعد التثاؤب والتمطي إلا الانتعاش والانبعاث، ولكن ماذا يصنع خائر القوى من فعل السنين، مقصوم الظهر من ثقل الأحداث، واني الخطا من طول الخدر، متخاذل الأعصاب من كثرة السكون؟ .. أيتحامل على ضلع ويتكلف القوة ليغبر في وجوه السابقين، لم له عذره إن سقط في مقدمة الركب من الإعياء؟ أم يستجم ليعدّ العدّة وإن طالت المدة؟
إن الأمّة الجزائرية لم تعدم من لطف الله ما يبيّن لها السداد في أوجه الرأي المختلفة ويهديها إلى سلوك المنهج الواضح، إذا دقت الموالج والمخارج، فقد أفاقت من نومتها في عجيج من الأصوات اختلط فيها الناصح بالغاش، وعلى فتنة متماحلة التبس فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال. ولكن الله اللطيف- جلت قدرته- خار لها وألهمها رشدها ووفّقها لبناء حياتها- على بصيرة- على قديم ديني مستقيم وجديد دنيوي واضح. ورأت على ضوء ذلك الإلهام أنه لا يستقيم لها عمل، ولا يواتيها نجاح فيما هي مقدمة عليه من تجديد في حياتها إلا مع التنقيح المعجّل لكل ما ورثته من أخلاق، لا تنهض بصاحبها في عصر النهوض، والعزل البات لأولئك الذين كانوا يتحكمون في إرادتها وضميرها ويصرفونها كما يشاؤون وتشاء أهواؤهم، لا على ما تقتضيه مصلحتها والقطع الحاسم لتلك الأيدي الآثمة وتلك الألسن الخاطئة التي كانت تسعى للتفريق وتدعو إلى التفريق.
وقد بدأت الأمّة تنفّذ ما صمّمت عليه فأصبحت تربأ بمقادتها أن تضعها في يد من تلك الأيدي التي قادتها زمنًا طويلًا، فما قادتها إلا إلى الخزي والنكال، وتبعد عن صفوفها كل أفاك أثيم يزيّن لها الباطل ويشوّه لها الحق، ويغريها بالتفرق لتذل ويحقرها إلى نفسها لتمتهن، وهي ماضية في هذا التنقيح ممعنة فيه واصلة منه- إن شاء الله- في الزمن القريب إلى أشرف الغايات.