الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج، وقد وصف الحكماء له أنواعًا من العلاج فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء للغزالي.
سورة الناس:
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} : قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان)، وعلمنا أنها تسمية نبوية وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما، أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو: الناس، كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى: الفَلَق، والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام ومن ثلاثة أنلا منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة.
والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام: قسم يصدر عنه الضرر ويعمله، وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه وهو شر من الأول، وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح ومالك هديها وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فهو يحسن له الأشياء القبيحة، ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح وإرادة الخير، ويزين للإنسان كل ما يُرديه من القبائح، ويأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قريبًا منه متصلًا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك، ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرًا وأكثر شرًا وأخسر عاقبةً خصص التعوذ منه بسورة كاملة.
رب الناس: هو مربّيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود ما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما منّ به عليهم فيما ينفعهم، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، وأصله من رَبَّه يَرُبُّه ربًا إذا قام على إنشائه وتعاهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال، ولفظه لفظ المصدر، ولكن معناه معنى اسم الفاعل كالعدل يراد به العادل.
ومالك الناس: هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية.
وإله الناس: هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية.
وبلاغة الترتيب إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني. فالأول: طور التربية والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية، والثانى: طور القوّة والتدبير، وهما من مظاهر الملك، والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية.
والمستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه، وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته، وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها أو بما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوّة الموسوسة مثل قوله تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} . أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وخالقه كقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . وكقوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} . وكقوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها.
والرب رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته. ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجّه الخطاب وإليهم يساق التحذير، وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما، فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم لتثبيت سنّة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم.
ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربويين وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال. وقد ضلوا بالفعل في ربويية الله وفي ألوهيته. ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ويصدّوهم عما شرع الله. وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء.
واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية، لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق، وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسبًا عليه، وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر.
ففي تخصيص الناس بالذكر تنبيه إلى أنهم أحوج المربُويِينَ إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد.
ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم، وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنَّة من استعباد الأقوياء.
ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس،
وهو الأماثل والأخيار منهم، الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب فإنهم كثيرًا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى:{آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} .
ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس، توضيح المعنى وإلفات النفس إليه وإيقاظ شعورها به، والتسجيل على الناس بأن لهم ربًا هو مالكهم وإلههم.
من شر الوسواس: الوسواس هنا صفة الموسوس وإن خالف المعهود في أبنية الصفات، أو هو اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال والزلزلة، وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء، والعرب تسمي حركة الحلي وسواسًا، وهذا المعنى واضح في المراد هنا فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع، وبحْكم الحيلة في ذلك ولا يرمي رميته إلّا في الخلوات. وإن الناس ليعرفون عرفانًا ضرورًّيا من الفرق بين المصلحين والمفسدين أن الأولين يصدعون بكلمة الحق مجلجلة، ويرسلون صيحته داوية ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق، وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا، ويستترون إذا فعلوا، ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية، ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات.
والخناس: وصف مبالغة في الخانس من الخنوس وهو التأخر بعد التقدم، ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي، إغراقًا في الكيد وتقصيًا في التطور حتى يبلغ مراده. فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرًا وفرًا، وهجومًا وانتهازًا، واستطرادًا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ). يرشدنا بذلك لنُعِدَّ لكل حالة من حالاته عدتها. ولنُضيِّق عليه المسالك التي يسلكها، كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد، لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية ثم دواليك حتى تملّ أو يملّ. وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد فهو مبالغة في التحذير منه لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره.
الذي يوسوس في صدور الناس: قال يوسوس بالمضارع إشعارًا بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها، وقال في صدور الناس. والصدر ملتقى حنايا الأضلع ومستوح القوى التي كان الإنسان إنسانًا بها، ومجمع المضغ التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر وإنما هو فيه، ولذلك قال:{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردًا وجمعًا والحكم عليها بالشرح
والحرج والضيق والشفاء والإخفاء والإكنان- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية ولا أجزاءها المادية وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس يوجّه كيده ووسوسته دائمًا إلى هذه القلعة التي هي الصدر لأنها مجمع القوى.
وقال في صدور الناس ولم يقل في قلوب الناس، لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنًا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يَظْهَرُه ولا يستطيع له نقبًا.
من الجِنّة والناس: الجِنَّة جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين. واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون في قوله تعالى:{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} . ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة ليلتئم طرفا الكلام ويحصل التقصي الوصفي في المستعاذ به والمستعاذ منه.
وقد قسم القرآن الشياطين وهم القائمون بوظيفة الوسوسة إلى قسمين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وذكر أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول، وشيطان الجن ميسر للشر، فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله، ومن شياطين الإنس بطانة السوء وقرين السوء.
وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينًا من الجن، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} ، وهو من باب توزيع الجمع على الجمع أي لكل واحد قرين، فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن لم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس، يزينون له ما بين يديه وما خلفه، ويصدّونه عن ذكر الله، فماذا يصنع؟ ما عليه إلّا أن يلتجئ إلى الله ويستعيذ به ويتذكر، فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ، وإنما يؤخذ إذا كان غافلًا، قال تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} .
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية لسرّ من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى لسرّ آخر، فيقدم السماء على الأرض في مقام ويؤخرها عليها في مقام آخر، ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن في آية الأنعام لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء وهي من الإنس أظهر ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح. وفي آية "الناس" قدم الجنة على الناس لأن الحديث عن الوسوسة وهي من شياطين الجنّ أخفى وأدقّ، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمرّ، فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد فيربى عليه ويكون شرًّا
منه لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به، ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جِنِّيٌ لإنسي ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولّد منها فتن ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل، وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفّل كان شرّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملإ الأعلى وأوشك أن يكون خيرًا محضا لولا أن العصمة لم تكتب إلّا لطائفة منه وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فإلإنسإن إذا انحط يكون شرًا من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس كان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال.
انتهى تلخيص الدرس وقد حرصنا على ما وعته الذاكرة من معانيه وقيده القلم من ألفاظه، ثم تصرفنا في المواضيع التي طرقها الأستاذ بما لا يخرج عن مراده ولا يخالف طريقته في تفسير كلام الله. والله ينفعنا بالقرآن ويوفقنا إلى خدمته.