الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إفتتاح مسجد سطيف*
بسم الله الرحمن الرحيم
كانت فكرة تأسيس مسجد بهذا الربض من هذه المدينة هجستْ في نفوس بعض المصلحين ممن يريدون الخير لهذه البلدة، وأوّل خاطر تولدتْ عليه الفكرة في نفوسهم هو أنهم كانوا يقلبون وجوه الرأي في أي الوسائل أفعل وأي الطرق أقرب لمحاربة هذه الآفات المبيدة وهذه الجوائح المتلفة التي نسميها الخمر والقمار والفجور وأصولها وفصولها، هذه الجوائح التي طغت في السنوات الأخيرة وجاوزت حدود الستر والتعاون إلى درجة الهتك والاستهتار، وجرفت في طريقها بقية الأخلاق الصالحة والعادات المستحسنة، وأتتْ على ما هنالك من حياء وعرض، واستباحت مع الأخلاق الصالحة الأموال والأبدان.
فظهر لها- بعد إجالة الفكر وإعمال الروية- أن أنفع وسيلة لمحاربة هذه الأمراض الخطيرة هي محاربة أسبابها، ومن أقوى أسبابها ضعف الوازع الديني في نفوس المسلمين، ذلك الوازع الذي كان يفعل في النفوس التي استولى عليه ما لا يفعله السيف ولا الدرهم.
وتبيّن لهم أن الرجوع إلى الهداية الإسلامية هو الدواء الوحيد لهذه الأمراض، وأن أوكد الواجبات على كل من يريد الإصلاح لهذه الأمة هو تقوية الشعور الديني في نفوس الأفراد، لأنّ الناحية الدينية هي الناحية التي يسهل على المصلح استمالة الجمهور إليها، فإذا مال الجمهور إليها سهل جذبه بها إلى ما يراد به من خير وإصلاح.
ولكن بماذا تكون تقوية الشعور الديني وإعداد النفوس للرهبة منه والرغبة فيه؟ أَبِالكتابة في الجرائد؟ هذا زرع غير مثمر لأن القراءة مفقودة والأمة أمّية والأمر لله، أم بالمحاضرات
* وجدنا في أوراق الإمام هذه المسودة لخطاب أُلقي بمناسبة افتتاح مسجد سطيف. وقد تمّ الاحتفال بافتتاح المسجد يوم 20 أكتوبر 1931.
والخطب؟ وهذا أيضًا سبيل غير ميسور لعدم استكمال أسبابه، أم بترتيب دروس دينية بأسلوب لا تتجافى عنه أذهان العامة، وهذا أيضًا كالأول، وإذا أمكن هذا ففي أي محل؟ انتهى بهم كل ما ذكرناه إلى لزوم تشييد مسجد جامع بهذا القسم من البلدة حيث يكثر السكان المسلمون، تتولى الإشراف عليه هيأة إسلامية محضة، ليكون المسجد نفسه دعاية إلى الخير، ولتقام فيه الصلوات وهي دعاية أخرى، وليذكر فيه اسم الله وهي دعاية ثالثة، وليكون سببًا في اجتماع المسلمين وهي دعاية رابعة.
ولا يخفى أن هذه البلدة- ولا نكران للحق- تنقصها فضيلة من أمهات الفضائل وهي الاجتماع المثمر للتعارف، وقد فاتتها بفوات هذه الفضيلة مجموعة من مجاميع الأدب الغالية وهي آداب الاجتماع، وفَاتَها بفوات ذلك كله خير عظيم وهو ما يتمتع به المجتمعون من ثمرات الاجتماع.
وهذا في الحقيقة نقص معيب وتقصير شائن، خصوصًا وهو نقص فيما نستطيع الكمال فيه، والمتنبي يقول:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئاً
…
كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
…
خرجتْ هذه الفكرة من القول إلى الفعل، وكان خروجها عبرة للمعتبرين، فقد كان الناس فيها فريقين: فريق غلب عليه التفاؤل وصدق العزيمة وقوة الإرادة، فكان يرى النتائج مقرونة بالمقدمات، والخواتم متصلة بالْبِدَايات، وهذه الصومعة الشاهقة تكاد تلحق بأسباب السماء والأساس لم يحفر بعد، وهكذَا فلتكن العزائم، ومئات الآلاف كأنّها منقودة ولمّا يجمع منها فلس.
وفريق غلب عليه التشاؤم، فكان يرى أن تحقيق هذه الأعمال بعيد المنال، لأنها تتوقّف على الأموال، والأموال عليها أقفال، وتتوقف على صبر متين، ووقت هو في نظرهم ثمين، وفاتهم أن همم الرجال تهدّ الجبال، وكذلك كان، فقد وُضعتْ مسألة الجامع في سوق الخير كما توضع السلعة، فكثر المشترون للثواب بأموالهم، والمصدقون للأقوال بأفعالهم.
واستبشر المؤمنون ببيعهم الذي بايعوا به، وأصبحت مسألة الجامع ميدان زحام، ومنار همّة من كل همام.
أيها السادة: إن لله في هذا الجامع حكمة، فقد كان مصداقًا للمثل الذي ضربه نبيّنا صلى الله عليه وسلم بحال الثلاثة الذين دخلوا عليه وهو جالس مع أصحابه، فيما روينا في صحيح
البخاري فأقبل عليه اثنان منهم وأعرض الثالث، ووجد أحد الرجلين فرجة فجلس فيها، وجلس الأخر خلف الصف استحياءً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: ألا أخبركم عن الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بذل قوم في هذا الجامع أموالهم لا يرجون إلا الله والدار الآخرة، وتوقف قوم ابتلاهم الله بأن لا يخالفوا إلّا فيما اتفق عليه الناس، فكانوا سببًا في إثارة مشاكل ومعاكسات في وجه هذا المشروع عطلتْ السير ولكنها لم تأت عليه من القواعد، ومكايد ومعارضات جرحتْ ولكنها لم تصب المقتل، ولو كان شرّ هؤلاء الكائدين قاصرًا على أنفسهم لهان الأمر، ولكنهم أبوا إلّا أن يصدّوا عن سبيل الله مَن آمن به، وإلّا أن يكونوا كمن انخزل بالناس يوم أُحُد.
ولا غرابة عند العقلاء في شأن هؤلاء، فما زال الخير يُبتلى بالشرّ ليزداد الخير ثبوتًا في نفسه وثباتًا في نفوس الخيرين، وما زال الباطل يقف في جنب الحق لا ليعارضه ولكن ليكون حجّة ناطقة على أن الحق هو الحق.
أيها السادة: لقد كان في تاريخ هذا الجامع عبرة لأولي الألباب، فهو يحدثكم بالصدق أن التعاون يأتي بالعجائب، وهو يحدثكم أن الفئة القليلة تستطيع جمع الصبر والثبات وجمع الحكمة والنظام أن تأتي ما هو شبيه بخوارق العادات، وهو يحدثكم أن الباطل لا يغلب الحق وإنْ تظاهر بأعوانه وتكاثر بإخوانه، وهو يريكم رأي العين كيف يعمل الفرد للجماعة، وكيف تعمل الجماعة للأمة، وهو يحدثكم أن في هذه الأمة المسلمة المرزوءة في تربيتها وأخلاقها بقيّة خير، لو أحسن أولو الرأي منها استغلاله، ولو جروا في التصرف فيه على السداد لَجاءوها بالخير العميم، ولَمشوا بها على الصراط المستقيم.
أيها السادة: إن الرجل الوحيد الذي يعدّ بحق صاحب هذه الفكرة التي ما زلنا نبدئ القول فيها ونعيد، هو السيد الحكيم عبد القادر السماتي، رئيس الجمعية الدينية، وقد نكون ظالمين إذا سمّيناه صاحب الفكرة وسجلناها باسمه، بل هو صاحبها الذي فكّر فيها وقدّر، وهو صاحبها الذي أحكم فيها ودبّر، وهو صاحبها الذي دافع عنها وحامى، وناضل دونها ورامى، وهو صاحبها من لدن كانت في ذهنه فكرة إلى أن صارتْ على يديه جامعًا مشيّدًا، وسيبقى صاحبها بما عُرف به من جدّ وحكمة إلى أن تؤتي ثمراتها.
وإذا ذكرنا عبد القادر فإنما نذكر الإخلاص والجدّ والثبات والبصيرة، وهي خصال ما اجتمعتْ في رجل من رجالنا إلّا أخرجتْ لنا منه العمل المنظّم والتدبير المحكم، وكلَّ ذلك يجمع عبد القادر.
وإذا ذكرنا عبد القادر فلسنا بناسين أصحابه الذين آزروه على الخير، وأعانوه على الرشد، ووضعوا أيديهم في يده، متعاهدين على العمل إلى بلوغ الأمل، فلكل واحد منهم حظه ونصيبه في بناء هذه المنقبة الخالدة، وإنْ ننس فلا ننس فضيلة الشيخ التهامي معيزة قاضي البلدة، وفضيلة الشيخ الطيب الجودي مفتيها، وحضرة السيد بن عزوز بن الشيخ المختار عميد الجمعية وعمادها، والخيّر الفاضل السيد الأخضر بن المكّي، أجزل الله ثوابهم، وأحسن مآبهم، وجزاهم أحسن ما يجزي العاملين بالدين والعاملين للدين.
…
أيها السادة: هذا إجمال سمعتموه منا على الجانب المحسوس من هذه المنقبة الذي قام به إخوانكم أعضاء الجمعية الدينية، وهو الجانب الذي إذا عددنا أعمالهم قلنا ها هو، وإذا خرجوا عن التواضع وفاخروا به- وحق لهم الفخر- أشاروا إليه وقالوا ها هو، وإذا كذّب به مكذِّب أو ارتاب فيه مرتاب ردّ عليه الوجود بلسان فصيح: ها هو.
فاسمعوا مني إجمالًا آخر على الجانب المعنوي- الجانب المطوي في همم هؤلاء الرجال البررة- فإن لهم أعمالًا من دون هذا الجامع هم لها عاملون، ولعلّ في الكلام على هذا الجانب المطوي ما يُثير حماس الذين يسارعون في الخيرات، ويُذكي من هممهم فيزدادون احتقارًا للمال في جنب هذه الأعمال.
ولعلّ في ذكر هذا الجانب المطوي ما يذكّرنا بأفعال أسلافنا الأبرار الذين كانوا يُنفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله.
ولعلّ الجانب المطوي سيكون أروع وأبدع من هذا القسم الذي تمّ بناؤه، وأدلّ على بُعْد هِمَم القائمين بهذا العمل وإخلاصهم النيّة في خدمة هذا الوطن.
هذا الجانب الذي شوّقتكم إلى سماع الحديث عنه هو تعمير هذا الفراغ الغربي بعدّة مدارس قرآنية يُعلَّم فيها كتاب الله للبنين والبنات، وتعلّم فيها مبادئ العلوم العربية والدينية بصورة عملية مفيدة، وتخصص قاعة لمكتبة عمومية ستكون تابعة للجامع ومنسوبة إليه ومكملة له.
وتخصيص قاعة كبرى تلقى فيها محاضرات باللغة العامية في بيان ما تلزم معرفته من العقائد والعبادات والأحكام العملية والآداب الدينية والأخلاق الإسلامية العامة وخصوصًا ما يرجع إلى حسن العشرة وتربية الأولاد وسياسة الأهل والأقارب، لتكون العائلة الإسلامية
على أصول الاجتماع الإسلامي لتخفّف الجمعية ما استطاعت من مصائب التفكك الذي نراه في العائلات ومصائب الطلاق والعقوق.
ومحاضرات كذلك في بيان فوائد الاقتصاد والتوفير وتقبيح الإسراف والتبذير خصوصًا ما يتصل بالعموم كالإسراف في الأفراح والمآتم ويدخل في هذا الباب محاربة القمار. ومحاضرات كذلك في أصول حفظ الصحة البدنية والصحة العقلية، ويدخل في هذا الباب محاربة الخمر الفاتك بالعقول والفجور الفاتك بالأبدان.
كل ذلك على المنهج الديني في الترغيب والترهيب، والتبشير والتنفير حتى لا تخرج الجمعية عن مقصدها من تقوية الشعور الديني في نفوس سكان هذه البلدة إلى أن يرجع الوازع الديني إلى سلطانه.
وحتى لا تقع الجمعية فيما وقع فيه المتنطّعون من شبان الشرق، تركوا حكمة الدين في تحريم الخمر وزواجر القرآن في التعبير عنه والتمسوا تحريمه من قوانين أمريكا وقلدوها في تأسيس الجمعيات لمنع المسكرات.
تركوا فخرهم الذي يتيهون به على الأمم ووضعوا أنفسهم في مؤخرة الأمم وما أقبح بالمسلم أن يطلب الحكمة من غيره وعنده معدن الحكمة، وأن يتطفّل على موائد الغير وعنده الجفنة الرافدة.
أيها السادة: إن الجمعية الدينية تفخر بما تم على يدها من هذا المشروع الواسع وتعترف بأنها إنما قامت ببعض الواجب، وهي ساعية بتوفيق الله في إتمام بقية هذا الواجب وهي المدارس القرآنية، وهي تعترف بأن العهد الذي أخذته على نفسها ثقيل وأن الوفاء به أثقل، وتصرح للملإ بأنها إذا اقتصرت على تشييد الجامع فكأنها لم تصنع شيئًا، وأن الركن الأكبر لا زال مرهونًا للمستقبل وهو بناء المدارس، ثم وسائل تعمير الجميع ثم التعمير الفعلي للجميع، وما وسائل التعمير إلا المال الذي يرصد لتكون حياة الجامع مضمونة وحياة هذه المؤسسات مضمونة. وما التعمير الحقيقي إلا العلم والتعليم.
وهي على هذا تطلب من المحسنين أن يتعاهدوها بالإحسان ويمدوها بالمال فلا بقاء لهذه المؤسسات إلا بالإحسان المتواصل والمدد المتوالي.
وإنها تعد نفسها قائمة بواجب كفائي لا ترجو عليه من المخلوق جزاء ولا شكورا وقد أحسن إليها قوم وأساء إليها آخرون، فقالت للمحسنين أحسنتم وللمسيئين هداكم الله، عالمة أن من أساء اليوم سيحسن غدا إذا ظهر الحق واتضح السبيل، فهي تقابل الإساءة بالعذر تمهيدًا لمقابلة إحسانه بالشكر.
وتصرح بأن أعمالها مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها ولا سر، وأن أموالها مضبوطة بكيفية لا يدخلها الخلل ولا يتطرق إليها الريب، فليس عندها في المال رئيس ولا مَرْءُوس وقابضها هو البنك، وحسبكم بأعمال البنوك دقة ونظامًا.
وإن هذا الجامع بيت من بيوت الله، فهو وقف على جميع المسلمين، ومن نظامه أنه يفتح من طلوع الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء، فلا يمنع مصل ولا مدرس ولا متعلم، وعلى من أراد التدريس فيه أن يخبر رئيس الجمعية ويتفق معه على الساعة التي يلتزمها منعا للفوضى والاختلال.
أيها السادة: من موجبات الاغتباط والسرور أن المعنى الذي أسست لأجله الجمعية الدينية ببلدة سطيف هو بعض مما أسست لأجله جمعية العلماء، وحيث أني متشرف بكوني عضوًا في الجمعية الدينية ونائب رئيس في جمعية العلماء، فمن حقي أن أتكلم بكل صراحة أن جمعية العلماء تبتهج بالجمعية الدينية وكل ما يجري على منهاجها، وتعدّها من كبر المساعدات على نشر مبادئها وتنفيذ برنامجها، وتعد وعدا صادقًا بأنها لا تقصر في بذل النصائح الدينية والإرشادات العلمية.
وإن الجمعية الدينية تتقبل بيد الشكر كل ما يرد عليها من جمعية العلماء من النصائح والإرشادات في العدم والدين، وتعد ذلك من التواصي بالحق الذي أمر الله به في كتابه.