الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثلاث سنوات من عمر جمعيّة العلماء*
ألحّت طائفة كبيرة من حاضري الاجتماع العام على الأستاذ الإبراهيمي أن يقول كلمة على أثر تلاوة الرئيس للتقرير الأدبي المنشور بهذا العدد من الشهاب، فارتجل خطبة بليغة كان لها وقع عظيم في نفوسهم فألحّوا عليه مرة أخرى أن يلخّص لهم تلك الخطبة لتنشر على قرّاء الشهاب في هذا العدد الخاص بالجمعية ففعل، وكتب ما وعته ذاكرته وذاكرة بعض الإخوان الحاضرين من معاني الخطبة وكثير من ألفاظها، وها نحن ننشرها شاكرين تفضّله، قال (1):
ــ
أيها الإخوة الكرام،
ثلاث سنوات مرّت على هذه الجمعية المباركة وكانها يوم مر أو ليلة تقضت بالسهر، فإذا كانت المبادئ تدلّ عدى الخواتم فستمرّ عديها- إن شاء الله- السنون الكثيرة، وستستقبدها نامية مباركًا فيها، فلا تستقبلها إلا كما يستقبل الصائم عيده مثولة وأجرًا، واطراح كلف، والملجج في البحر صعيده، فرحً! وبشرى واستدبار تلف، ولا تستقبلها إلا عن سنة تحيا وبدعة تموت وحق يُشاد وباطل يُهدم، وحقيقة تثبت ووهم يتلاشى وفضيلة تنشر ورذيلة تقبر.
ثلاث سنوات مرّت من عمر الجمعية وما هي بالشيء الكثير في أعمار المبادئ والمشاربع التي تستمدّ حياتها من العناصر الخالدة، وإن كانت شيئًا كثيرًا في أعمار الكائنات الحسية التي تستمذ حياتها من العناصر الفانية.
ثلاث سنوات مرّت فعددنا مبدأها باليوم والشهر والسنة إذ كان من حق التاريخ أن يقول عنها كلمة، ومن حق هذه الكلمة أن تكون منتظمة ومن حق النظام أن يكون على وضع زماني مخصوص.
* مجلة "الشهاب"، الجزء التاسع، المجلد العاشر، أوت 1934، [ص:402].
(1)
تعليق مجلة "الشهاب".
ثلاث سنوات مرّت على هذه الجمعية كما تمر لياليها السوداء على هذا البحر الأخضر فيعدها ولا تعده. وإذا كان أولها- وهو يوم- مبدأ لوجود الجمعية اصطلح عليه الناس يوم اصطلحوا على أن يقولوا: ولد فلان ومات فلان، فلا يكون بين وجوده وعدمه إلا مراحل تنتهي بيوم، فهل من معنى هذا أن لهذه الجمعية مراحل في الوجود تنتهي بيوم؟ كلا.
إن وجود هذه الجمعية هو وجود الحقائق الخالدة، وإذا كانت تعمل لمعنى لا يحدّه الزمان فهيهات أن يحدّها ليل ونهار.
إن هذه الجمعية كالسحاب ساقه الله إلى بلد ميت فلا يقلع حتى يحييه، وإذا كان إحياء المطر للأرض معنى فوق التحديد فكذلك معنى هذه الجمعية، وان سائق المطر للبلد الميت هو سائق هذه الجمعية لهذا الوطن المشرف على الموت.
وإن جاعل المطر سببًا في إحياء الأرض هو جاعل هذه الجمعية سببًا في إحياء هذا الوطن، فليكفكف المبطلون من غلوائهم وليقصر المرجفون عن إِفكهم وليعلموا أنه لا راد لما الله سائقه وأنهم ليسوا، وإن اجتمعوا، بمعجزي الله.
إن الحد الأخير الذي يحدده التاريخ لهذه الجمعية هو اليوم الذي يصبح فيه المسلمون كلّهم بهذا الوطن ولا مرجع لهم في التماس الهداية إلا كتاب الله وسنّة رسوله، ولا سلطان على أرواحهم إلا الله الحي القيوم، ولا مصرف لجوارحهم وإرادتهم إلا الإيمان الصحيح تنشأ عنه الأعمال الصحيحة فتثمر آثارًا صحيحة. هو اليوم الذي يصبح فيه المسلمون إخوانًا متناصرين أو أعوانًا متآزرين تجمعهم جامعة القرآن وإن فرّقت بينهم المناسب والأوطان. هو اليوم الذي يصبحون، وقد حطّموا القيود والأغلال التي أثقلتهم فذهبت بدينهم ودنياهم من أهواء اتّبعوها، وبدع في الدين ابتدعوها، وسفاسف ما أنزل الله بها من سلطان افتجروها واخترعوها.
يوم يصبحون كما كان سلفهم ذاتًا واحدة تدبرها روح واحدة وتصرفها إرادة واحدة.
يوم يصبح المسلمون متساوين في العبودية لله لا يعبدون غيره ولا يدعون سواه، ولا يسلمون وجوههم إلا إليه ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله. وقد عرفوا المقامات الثلاثة فأعطوا لكل مقام حقّه غير منقوص- عرفوا مقام الألوهية فأعطوه ما يستحق من توحيد وتمجيد، وعرفوا مقام النبوّة فأعطوه ما يستحقّ من تعظيم واحترام واقتداء وتأسٍّ، وعرفوا مقام أنفسهم فأعطوها ما تستحقّ من تزكية وتكميل بالاستقامة على صراط الدين، والتسابق إلى التفاضل بالتقوى والاهتداء بسنن الله في كونه وبسننه في دينه.
أيها الإخوة الكرام،
يقول فريق من الناس ممن لم يرزق صوابًا في الرأي ولا سدادًا في التفكير، إن الجمعية فرّقت كلمة الأمة وجلبت عليها الاضطراب والفتنة والتشويش، في كلمات من هذا القبيل لا تصدر إلا ممن لم يعرف موقعه من الأمة ولا موقع الأمة منه، وليت شعري، متى كانت هذه الأمة مجتمعة حتى يقول قائل إن الجمعية فرّقتها؟
وأنّى لها أن تجتمع، وان أمامها في كل طريق ناعقًا ينعق باسم طريق وداعيًا يدعو إلى التفريق؟
بل كيف تجتمع وللشيوخ فيها ما للذئاب الضارية في قطيع الغنم؟ أم كيف تجتمع والشيوخ قد قسموها إلى مناطق نفوذ، وأحاط كل شيخ رعيته بأسوار منيعة من الترغيب والترهيب؟
كيف تجتمع وأتباع كل طريقة يعتقدون أنهم أهدى سبيلًا من أتباع بقية الطرق، وأن طريقتهم تضمن لسالكها الغنى في الدنيا وحسن الخاتمة عند الموت، وإن قتل النفس التي حرّم الله بغير حق؟
أم كيف تجتمع وفيهم من يرى من واجبات طريقته ومن شروط المحافظة عليها أن لا يصلي خلف طرقي آخر يخالفه في الطريقة- وإن اشتركا في لقب الإسلام- لا لشيء سوى ذلك؟ ونحن نقول لهم إذا كانت الأمة قبل اليوم متفرّقة وكلها على باطل، فهي اليوم- بحمد الله وبفضل هذه الجمعية- متفرقة وبعضها على الحق. وإن أهون الشرّين ما بعضه خير.
ويقول فريق آخر إن هذه الجمعية ضالّة مضلّة، وإنها عاملة على هدم الدين في ألفاظ محوكة على نول من الباطل، وهؤلاء القائلون موتورون، والموتور معذور، فهم يتحاملون على الجمعية ويحملون لها بين جنوبهم مكائد وأضغانًا ويرون أنه لا يتم وجودهم إلا بعدمها، وقد ناصبها هذا الفريق العداوة من يوم تأسيسها، ورأى فيها نذير الشؤم وطائر النحس، ولمح فيها زوال سلطانه المحدود على هذه الأمة الضعيفة، فهو يرمي هذه الأقاويل بين أظهر الغافلين للنيل من كرامة الجمعية والتنقيص من قيمتها، إذ أعجزهم أن يقابلوا حقّها بباطلهم، وقد كانت هذه الطوائف كثيرة فقلّلها الله، ومعتزة بباطلها فأذلّها الحق.
ولو أن هذه الطائفة أوتيت قليلًا من الرشد والإنصاف لكانت للجمعية مكان الأخ من أخيه، ولحمدوا لها سعيها في خدمة الأمة، ولعادوا من نحلهم المفرّقة إلى دعوتها الجامعة التي هي دعوة الله لخلقه على لسان أنبيائه.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
أيها الإخوة الكرام،
إن هذه الجمعية التي هببتم لنصرها هي من جهة فكرة، وهي من جهة أخرى مشروع، وقد قام أفراد من أعضائها بخدمتها من الوجهة الأولى وبلغوا بها إلى درجة تغبط، وما كنا لنطمع بالوصول إليها في هذه المدة الوجيزة، وإن من أظهر آثار هذه الخدمة ما نراه من تيقّظ غشي الطبقات كلها، وما نراه من إشراق بدأَ يدبّ إلى مكامن السرائر من النفوس.
وأما خدمة الجمعية من الوجهة الثانية، وهي أنها مشروع يسير بنظام، ويدار على أعمال تحتاج إلى مدد من رأي ومدد من مال، فالله يشهد أننا كلّنا مقصّرون في هذه الناحية تقصيرًا لا يغتفر.
فقوموا بالواجب، أيها الإخوان، من خدمة المشروع كما قام إخوانكم بواجبهم في خدمة الفكرة، وإني أعيذكم بالله أن تكونوا من المقصّرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.