الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعطيل مدرسة «دار الحديث» *
تعوّدنا أن نكظم الغيظ إذا كربتنا الحوادث، وتعوّدنا أن نطوي النفوس على مكروهها إذا رمتنا الأيام بما لا صبر عليه، شنشنة من الصبر طبَعنا عليها دينُنا، وخُلُق من الرزانة هَدَتْنا إليه التجارب المتكررة، خصوصًا بعد أن أصبحنا نساوَم على الصبر، وأصبحنا نُرمى بالأحداث عن عمد، استفزازًا لعواطفنا، وتحريكًا لشواعرنا، واستدراجًا لنا إلى المعاطب إن غلبنا على الصبر فبدرت منا بادرة.
وتعطيل مدرسة «دار الحديث» مسألة لا تهمّ جمعية العلماء وحدها بل تهمّ الأمة الجزائرية كلها، وتثير شعورها كلها إلّا فلولًا من المنهزمين في معارك الحقّ لا يقام لهم وزن ولا تعتبر لهم قيمة، فكان اللائق أن يذل في الصحف خبر التعطيل، وأن تدوي حوله صرخات الغضب، وقد بلونا هذه الأمة الوفية في هذه السنوات الأخيرة، فرأينا من آيات شعورها بوجودها أنها أصبحت تتأثر فرحًا بالأعمال التي تحقّق ذلك الوجود فتندفع في الطرب والابتهاج إلى الحدّ الذي يشبع ذلك الشعور، وتتأثر حزنًا لحدوث المعاكسات لتلك الأعمال فتندفع في الغضب والاحتجاج على مقدار ذلك الشعور.
ومن المصائب "الاستثنائية" على هذه الأمة أن القوانين تفرض عليها أن تفرح بمقدار وأن تحزن بمقدار. وإنّ شرّ ما تبتلى به الأمم التحكّم في العقائد والتحكّم في الضمائر، وقد ابْتُلِيَت هذه الأمة بهذا الشر من جهة الجامدين الذين تحكّموا في عقائدها، ومن جهة المستبدّين الذين تحكّموا في ضمائرها، وهي الآن في دور اجتلاء بين شعورها بحقّها في الوجود، وبين هذه الحواجز والسدود، التي يُقيمها لها أهل الاستبْداد وأهل الجمود، والعاقبة للمتقين.
* جريدة "البصائر"، عدد 100، السنة الثالثة، 18 فيفري 1938 (بدون إمضاء).
وقد اجتمع الموجبان- موجب الفرح وموجب الحزن- حول «دار الحديث» ، فتحناها في 27 سبتمبر الأخير، فاحتشدت في تلمسان عشرون ألفًا من أبناء هذه الأمة في حفلة ضاحكة مستبشرة يعلوها جلال العلم ووقار الدين وسكينة التقوى وروعة النظام، وتجمعها جامعة الابتهاج بأعظم معهد علمي ديني شُيّد بأموال الأمة في الجزائر الحديثة، وينطق ذلك كله بأنّ الأمة المتمثّلة في تلك الألوف قد شعرت بوجودها، وأنها مندفعة اندفاعًا نفسانيًا إلى إقامة البرهان على ذلك الوجود، بشهودها لذلك المشهد وظهورها بذلك المظهر كانها تقول لِمَن يتمارى حتى في القمر إذا اتسق: ها أناذه أفكّر بفكري، وأقدّر برأيي، وأعمل بيدي، وأنفق من مالي. ولكن القانون الذي يفرض عليها أن تفرح هونًا ما، رأى أنها جاوزت الحدّ وأسرفت في الفرح فسَكَتَ ثلاثة أشهر يحاول هضم هذا التعدّي منها فلم يستطع، ويحاول محاكمة كل مَن حضر فلم يستطع، وبعد لَأْيٍ ظهر له أن يحاكم المتسبّب في تلك الأفراح وهو منشئ «دار الحديث» الإبراهيمي، بدعوى أنّه كان سببًا في جمهرة أو تجمهر الناس بدون رخصة
…
ودع حديث المحاكمة فله شأن آخر، وهات الحديث عن التعطيل.
…
في أوّل جانفي وهو يوم التهادي والتواصل واجتماع القلوب على السرور عند الغربيين خرج قرار تعطيل «دار الحديث» ، فجاء بدعة التحف في هدايا الموسم، وكان القرار مبهمًا غير مفسَّر الأسباب ولا مميَّز المقاصد، فسألنا رسميًا فقيل لنا إنّ التعطيل خاصّ بالتعليم الابتدائي وإن دروس الإبراهيمي لا تدخل في القرار ولا يشملها التعطيل، وتناقلت الأفواه الخبر وبدأت بوادر الغضب والاحتجاج الصارخ تبدو، ولو زاد الغضب والهيجان لكان بردًا على أفئدة لها في ذلك هوى ولها من ورائه مأرب، ولكننا سكتنا حتى تتجلّى الأسباب وتنجلي العماية، واقتصرنا على احتجاج جمعية العلماء بلسان مؤتمراتها العمالية.
ولو تعجّلنا فأذعنا في الأمة خبر التعطيل، وأعطيناه ما يستحقّ من التحليل، وصبغناه بما يقتضيه الحادث من التهويل، لانفجر الغضب وتوالت الصرخات، وتدفّق سيل الاحتجاجات والمظاهرات، وإذًا لوقف القانون الذي يفرض على الأمة أن تغضب بمقدار في الطريق، وإذًا لَسِيقَ إلى المحاكمة والتحقيق، لا رجل واحد بل فريق، ولو قال قائل للحكومة: أخبريني، لقالت له: سلْ قرار "ريني"، ولو قال لها: اعذريني، لقالت: يأبى ذلك قرار "ريني".
هذا بعض العذر في عدم استعجالنا بنشر الحادث وذيوله، وإنْ كنا نعلم أن الأمة متعطشة لذلك متلهّفة عليه، وأن الرأي العام ساخط على ذلك القرار متظلّم منه، وقد أوعزنا إلى بعض الصحف الفرنسية اللسان أن لا تتعجّل بنشر تفاصيل الحادث إلى حين، فعدّ ذلك
بعض قاصري النظر منا تقصيرًا، وعدّه بعضهم تهوينًا لحادث يستحقّ التهويل، وأشاع بعضهم أننا الْتجأنا إلى الاستجارة ببعض ذوي النفوذ عند الحكومة، وإن شيئا من ذلك كله لم يقع، فما عهدوا منا التقصير في حادث كهذا، ولا التهوين لما حقُّه التهويل، ولا الاستخذاء عند الصدمات، ولا الالتجاء إلى الشفاعات، وإنما يستخذي الجبان الوكل، وإنما يستجير المجرم المعتدي
…
ونحن فقد تمرّسنا بالأحداث الفعلية والتهويلات القولية حتى لا نبالي أيها طار وأيها وقع.
وإذا ضاع حقّ النفوس المتعطشة لمعرفة أسباب الحادث فما ضاع حقّ التاريخ الذي يقصّ الخبر، لاستجلاء العِبَر، ودَيْن التاريخ أحقّ أن يُقْضَى.