المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عرض الحالة العلمية* - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ١

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌هذه الآثار وتاريخ الجزائر:

- ‌ الحركة العلمية الإصلاحية الدينية

- ‌ الحركة السياسية

- ‌هذه الآثار وحياة الإبراهيمي:

- ‌ مرحلة التكوين والتحصيل الأولى (1889 - 1911):

- ‌ الرحلة المشرقية الأولى (1911 - 1920):

- ‌ مرحلة الإرهاصات (1920 - 1931):

- ‌ بدايات جمعية العلماء (1931 - 1940):

- ‌ قيادة الحركة الدينية والثقافية بالجزائر (1940 - 1952):

- ‌ الرحلة المشرقية الثانية (1952 - 1962):

- ‌ المرحلة الأخيرة (1962 - 1965):

- ‌مشروع الإبراهيمي النهضوي:

- ‌العلم

- ‌ الدين

- ‌الأخلاق

- ‌الإقتصاد

- ‌شخصية الإبراهيمي:

- ‌ الإسلام

- ‌الأقانيم الثلاثة في حياة الإبراهيمي وآثاره:

- ‌العروبة

- ‌الجزائر

- ‌هذه الطبعة الجديدة:

- ‌السياق التاريخي (1929 - 1940)

- ‌قبل تأسيس جمعية العلماء

- ‌محمد بن شنب*

- ‌التعاون الاجتماعي*

- ‌الإنسان أخو الإنسان*

- ‌الإنسانية: آلامها واستغاثتها*

- ‌خطبة جمعية*

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الخطابة والتمثيل*

- ‌نائب رئيس جمعية العلماء يتكلم

- ‌كيف تأسست جمعية العلماء الجزائريين*

- ‌القانون الداخليلجمعية العلماء المسلمين الجزائريين*

- ‌الفصل الأول: فيما يرجع إلى نظام الجمعية وإدارتها:

- ‌الفصل الثاني: لجنة العمل الدائمة:

- ‌الفصل الثالث: مقاصد الجمعية وغاياتها وأعمالها:

- ‌الفصل الرابع: في مالية الجمعية:

- ‌إفتتاح مسجد سطيف*

- ‌ديوان أبي اليقظان وجريدة النور*

- ‌الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس*

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريينالمجلس الإداري للجمعية

- ‌أعضاء مجلس الإدارة:

- ‌جلسة مساء الخميس:

- ‌جلسة يوم الجمعة الثاني عشر شوال 1350:

- ‌جلسة مساء يوم الجمعة:

- ‌جلسة يوم السبت:

- ‌جلسة مساء السبت:

- ‌مات شوقي

- ‌الإسلام والمسلمون*

- ‌وحدة الدين واللسان:

- ‌الإسلام والتاريخ:

- ‌الإسلام والبيان العربي:

- ‌هدي الإسلام في البيان العربي:

- ‌التربية الإسلامية والنقائص البشرية:

- ‌بُعد المسلمين عن الهداية الإسلامية:

- ‌جناية المسلمين على الإسلام:

- ‌شدّة تمسّك المسلمين بالنسبة للإسلام:

- ‌قاعدة الدعوة الإصلاحية وأسلوبها:

- ‌آية الإسلام في قوّة رسوخه في القلوب:

- ‌تعالوا نُسائلكم*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية

- ‌جمعيّة العلماء: دعوتها وغايتها*

- ‌ثلاث سنوات من عمر جمعيّة العلماء*

- ‌مُلخصُ خطاب ألقي بنادي الترقّي*

- ‌عرض الحالة العلميّة*

- ‌مقدّمة سجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء*

- ‌فلسفة جمعية العلماء*

- ‌تفرق أهل الكتب السماوية في الدين قبل الإسلام:

- ‌بدء تفرق المسلمين في الدين:

- ‌آثار الطرق السيئة في المسلمين:

- ‌دفع شبهة ونقض فرية في هذا المقام:

- ‌أول صيحة ارتفعت بالإصلاح في العهد الأخير:

- ‌نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر:

- ‌الخطوة الأولى:

- ‌الرأي الثاني

- ‌جمعية العلماء فكرة

- ‌جمعية العلماء عقيدة:

- ‌جمعية العلماء حقيقة واقعة:

- ‌موقف جمعية العلماء المسلمين من الطرق:

- ‌موقف الجمعية في التعليم:

- ‌موقف جمعية العلماء من البدع والمنكرات العامة:

- ‌موقف الجمعية من الالحاد:

- ‌موقف الجمعية من التبشير:

- ‌موقف الجمعية من بقية الرذائل:

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كما هي:

- ‌خاتمة

- ‌الأمّيّة*

- ‌إلى كتّاب "البصائر

- ‌كتاب "السعادة الأبدية

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌أشيخ الإسلام هو أم شيخ المسلمين

- ‌بين عالم وشاعر*

- ‌جواب الشاعر

- ‌لا يبني مستقبل الامّة إلا الأمّة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌اللغة العربية

- ‌الديانة

- ‌ 3

- ‌من آثار المؤتمر الإسلامي

- ‌يوم الجزائر*

- ‌أمس واليوم

- ‌سرّ تعليق الآمال على الجبهة الشعبية

- ‌فكرة المؤتمر

- ‌النقط التاريخية في المؤتمر:

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌قائمة القرارات:

- ‌قائمة الاقتراحات الفردية:

- ‌أهم مقررات المؤتمر:

- ‌اللجنة التنفيذية:

- ‌ما تمّ بعد المؤتمر ولم تنشره الصحف:

- ‌مطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌حقوق الأمّة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسية

- ‌مقدّمة

- ‌الأوضاع والمعاملات الخاصة:

- ‌النيابات:

- ‌أثر مشاركة جمعية العلماء في المؤتمر:

- ‌المؤتمر الجزائري الإسلامي العام:

- ‌كلمة عن وفد المؤتمر الإسلامي*

- ‌مقتل الشيخ كحول*

- ‌وقفة على أطلال الحادثة:

- ‌أول تحدِّ للمكيدة

- ‌مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي:

- ‌المستغربات في هذه الحادثة

- ‌مرامي الإشاعات الأولى:

- ‌الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه:

- ‌فتح نادي الترقّي وما يتّصل به:

- ‌آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائريةونتيجته للدّعوة الاصلاحيّة*

- ‌الإصلاح الدّيني لا يتمّ إلا بالإصلاح الإجتماعي

- ‌من قصيدة للأستاد الإبراهيمي*

- ‌إما سنّة وإما بدعة*

- ‌المؤتمر الإسلامي الجزائري*

- ‌إلى الطرقيين*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الدعوة إلى المناظرة:

- ‌إفتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان

- ‌ 1

- ‌الدعوة العامة

- ‌ 2

- ‌دعوة المجلس الإداري لجمعية العلماء

- ‌ 3

- ‌كلمة في «دار الحديث»

- ‌ 4

- ‌تحيّة «دار الحديث» للشاعر محمد العيد

- ‌تعطيل مدرسة «دار الحديث» *

- ‌المولد النبوي*

- ‌ختم ابن باديس لتفسير القرآن*

- ‌ تمهيد

- ‌ كلمة التصدير لهذا العدد*

- ‌ كلمة في الاحتفالات

- ‌ خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ

- ‌كلمة ببن يدي التلخيص:

- ‌سورة الفلق:

- ‌سورة الناس:

- ‌ خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم

- ‌ التعريف بالمشاركين في حفل ختم التفسير

- ‌تلمسان وابن خلدون*

- ‌العربية: فضلها علىالعلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية*

- ‌منشور إلى الأمتين الإسلامية والفرنسية*

- ‌الأستاذ محمد بن مرزوق*

- ‌ختم الدروس السنوية «بدار الحديث» *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌درس في التفسير(سعادة المسلمين في العمل بالقرآن)

- ‌من خطبة عيد الأضحى*

- ‌موقفنا من الطرقية وصحفها*

- ‌إلى جريدة "الإصلاح

- ‌تعزية الإبراهيمي فيفقدان السيد الرشيد بطحوش*

- ‌افتراء مستشرق*

الفصل: ‌عرض الحالة العلمية*

‌عرض الحالة العلميّة*

(المحاظرة التي ألقاها الشيخ في صباح اليوم الثالث من أيام الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين).

ــ

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أيها الإخوة الكرام،

إن موضوع هذه المحاضرة- عرض الحالة العلمية- هو ثمرة اقتراح اقترحه علي الأخ الرئيس (1) بالأمس، فمن حقّه علي أن أشكره على إرشادي لموضوع قد يكون مفيدًا إذا جمعت أطرافه، ولكن أنّى لي ذلك وإن غيري لأملك به منّي.

ولو ان الأخ الرئيس- سامحه الله- سلّط على هذا الموضوع نظرات المؤرّخ الصائبة المستقصية لكان خيرًا وأحسن تمثيلًا، وإذا كان من حقّه عليّ أن أشكره فمن حقّي عليه أن أحمِّله حظه من عهدة التقصير فيما قصرت فيه من موضوع يحتاج إلى بصيرة نافذة وذهن نيّر ووقت متّسع وأنا لا أملك شيئًا من هذه.

وإني اخترت كتابتها لتكون أعون على التنسيق والضبط، وتنشر إذا رأيتم انها تستحق النشر، ولتبقى لي تذكرة أتسلى بها إذا رأيتم رفضها وعدم استحقاقها للنشر، وإن أعصى ما يتعاصى على الكاتب والخطيب ضبط الموضوع. فقد يطغى الموضوع على الكاتب أو الخطيب فتتفلّت حواشيه فلا يملك لها جمعًا وتند على فكره أشياء وإذا هو مقصّر من حيث أراد الكمال ومخطئ من حيث توخّى الإصابة.

كثيرًا ما كنت أسمع الأخ الرئيس يعتذر في مقامات الكتابة ودواعيها (بأنه مدرّس)، كأن التدريس ومعاناته وأسلوبه واصطلاحاته ملكت عليه أمره وأضعفت منه ملكة الكتابة، وكنت أراه مع ذلك يأتي بالإبدل إذا كتب فأقول: لو أني كثرت من الدروس إكثاره،

* مجلة "الشهاب"، الجزء التاسع، المجلد العاشر، أوت 1934، [ص:386].

1) الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس.

ص: 143

لقفوت في الكتابة آثاره، فلما كثرت الدروس وساويته في عددها أو كدت تبلَّد طبعي وجمد فكري وجفّت قريحتي وجاءت النتيجة معي بالعكس، فعلمت أن كثرة الدروس قد تكون مددًا يمد، وقد تكون سدادًا يسدّ وعوائق تصدّ.

فاسمعوا أيها الإخوة، كلامًا موضوعه ابن فكرة وانشاؤه ابن فكرة، فإن جاد فمنهما وإن قصر ففي قصر الوقت شافع للتقصير.

أيها الإخوة الأعزاء،

إن الإصلاح العلمي هو ناحية من نواحي الإصلاح الكثيرة التي يجب أن تعطيها جمعية العلماء المسلمين فضل اهتمام واعتناء، ولو لم يحدث من الحوادث ما جعل اتجاه الجمعية إلى الإصلاح الديني أقوى لكان الإصلاح العلمي أول ما تعالجه، وتبذل فيه جهودها لأنه ألصق باسمها وأكثر ارتباطا بحرفة رجالها، ويكفينا دليلًا على خطر الإصلاح العلمي وقيمته ان أكبر عناصر الإصلاح الديني الذي لا يمتري في لزومه عاقل يستمدّ قوّته من شيء يسمّى علمًا ومن أشياء تسمّى علماء، وقد سمعنا بآذاننا من يقول وقرأنا لمن يقول: إن الرجوع إلى الكتاب والسنّة ضلال مبين، ولمن يقول: البدع الدينية والعوائد الدينية. وهو مع ذلك معدود في العلماء على رغم أنوفنا، وقوله هذا معدود في العلم على رغم أنوفنا، وإذا كانت هذه الأقوال من العلم فمن العلم أيضًا أن تؤول ظواهرها إذا لم ترق لكم بواطنها، ولا يزال ظهر التأويل ذلولًا عند هذه الطائفة، فأما أن لا نعد تلك الأقوال من العلم ولا نعد أصحابها من العلماء فأمر لا يسلمه لنا كثير.

إن تقديم الجمعية للإصلاح الديني على الإصلاح العلمي ضرورة اقتضاها طغيان الفساد في العقائد حتى أصبح من آثاره اللازمة التزهيد في العلم. وليس معنى هذا أن الجمعية لم تحم حول الإصلاح العلمي. فدروس رجالها واسلوبهم في دروسهم، كل ذلك أمثلة من الإصلاح العلمي ونهج جديد نهجوه له وطريقة تحتذى فيه، وإنما نريد أن المظهر الممتاز الذي ظهرت به الجمعية وتجلّت آثاره واشتهرت أخباره حتى غطّى على جميع مقاصدها هو الإصلاح الديني، وقد تكون دواعيه طبيعية ومنها ما أسلفناه.

وقد يظن الظانون وتنطق ألسنتهم بهذا الظن، أن هذه المنكرات التي نحاربها ونشتدّ في حربها هي قليلة الخطر ضعيفة الأثر، وأننا غلونا في إنكارها وأنفقنا من الأوقات والجهود في حربها ما كان حقيقًا أن يصرف في ناحية أخرى أهم كالإصلاح العلمي.

وفات هؤلاء الظانين أن من اللوازم القريبة لتلك المنكرات التي تشتدّ الجمعية في محاربتها التزهيد في العلم وإفساد الفطر وفشل العزائم وقتل الفضائل النفسية وإزالة الثقة بالنفس من النفس، وتضعيف المدارك وتخدير المشاعر وهي رذائل لا تجتمع واحدة منها مع ملكة علمية صحيحة فكيف بها إذا اجتمعت.

ص: 144

فكان من الحكمة أن تبتدئ الجمعية بتطهير النفوس من هذه الرذائل، وأن تجعل من صرخاتها عليها نذيرًا للناشئة أن تتلطخ نفوسهم بشيء من أوضارها، وأن تكون دروس رجالها مؤدية لغرضين: لغرض الإصلاح العلمي بأسلوبها ولغتها ومناهجها ونوع كتبها، ولغرض الإصلاح الديني بمعاليها ومواضيعها، حتى إذا تهيأت لها الأسباب لدراسات منظمة في مدارس منظمة وجدت نفسها وقد فرغت من وسيلة من أعضل الوسائل وأعصاها على العلاج وهي إعداد النفوس لانطباع الملكات العلمية الصحيحة فيها.

وإذا كان الإصلاح العلمي بمعناه العام المتعارف- وهو اختيار أقرب طرائق الإلقاء لذهن المتعلم واختيار أقرب الكتب لأداء المعنى الصحيح ولفهمه وتدريبه على تطبيق النظريات على العمليات- إذا كان هذا الإصلاح لم يتم في مصر وتونس- وحالهما غير حالنا- وهما تملكان من الوسائل لذلك ما لا نملك، وتتصلان من النظام والإدارة بما لا نتصل به- مع صراخ المتعلمين وإلحاحهم ومناداتهم بضرورة الإصلاح ومؤاتاة روح النظام العصري لهم- فكيف يتم لنا شيء من ذلك ونحن قليل مستضعفون، لا نملك بعد الاعتماد على الله إلا ثقتنا بأنفسنا وأبناء بررة من شبابنا الصالح المرجو للصالحات المدخر لحمل راية الإصلاح بعدنا، المرشح لاقتحام ميادينه الذي لم يفسد التعليم القديم الجاف عليه أمرهُ ولم يخدش ملكاته، ومع ذلك فقد استطعنا أن نخطو في الإصلاح العلمي خطوات واسعة وأن نلفت الأنظار إلى عملنا القليل.

وأمامنا سبيلان ستتخذهما الجمعية من وسائلها لغايتها من الإصلاح العلمي، أولهما: مؤتمر سنوي تعقده بالعاصمة العلمية مدينة قسنطينة يحضره كل القائمين بالتعليم من أعضائها العاملين، فتتبادل الآراء وتتلاقح الأفكار وتستفيض المباحث عن أصول التربية والتعليم وأقوم طرائقهما، وعن الأساليب والكتب التي تجمع بين العلم والعمل، وسيكون من نتائج هذا المؤتمر توحيد التعليم، وهو الرغبة التي لم تزل مناط آمال المصلحين بهذا الوطن.

وثانيهما: عكاظ علمي سنوي تقيمه في مدينة الجزائر على أثر اجتماعها العام، وتمتد أيامه إلى ما فوق الأسبوع، ويلقي كل أعضائها العاملين محاضرات ليتمرّنوا على الخطابة في مواضيع الدعوة والإرشاد.

وسيعمل المجلس الإداري لوضع نظام مفصّل لهذين المؤتمرين، فإذا تمّ لنا ما نريد منهما، ووفّقنا لتحقيقهما كانت الغاية منّا قاب قوسين أو أدنى.

أيها الإخوة الأعزاء،

عرض الحالة العلمية يتوقّف على مقارنة دقيقة بين الماضي والحاضر، وهذه المقارنة قد تشق على المؤرّخ الذي نريد أن يكون دقيقًا في مقارناته، فيستقي الحاضر من الواقع المشاهد ثم يرتقي السلّم ليشاهد القرن الثالث عشر آخره وأوله، والثاني عشر كذلك، فلا يجد من

ص: 145

الآثار العلمية الكتابية ما يكون مرآة تتجلّى فيها روح عصرها إلا بعض ما أبقته الليالي من رسائل في الاخوانيات تدلّ على مقام أصحابها في الأدب، ولا تدلّ على مقامهم في العلم، إذ كانوا لا يسمّون الأدب علمًا ولا يعتدون به ولا يقيمون له اعتبارًا، ومن أوراق في التوثيق والفتوى لا تدل على شيء، وليس بعد ذلك إلا توافه من لغو الحديث كانوا يسمّونها شعرًا وما هي من الشعر في شيء.

وقد اطّلعنا على أكثرها، فإذا هي من لون واحد وإذا هي مصروفة في الغالب إلى مدح المشائخ والكبراء، وإذا هي أخت الأشعار الملحونة الرائجة في السوق لأنها منقطعة الصلة بالشعر في أعاريضه وأضرُبه، ومنقطعة الصلة بالعربية في ألفاظها ومعانيها، ومنقطعة الصلة بالخيال في تصرفه وانتزاعه.

بل أنا أحكم بأن في الشعر الملحون ما هو شعر على الحقيقة، فقد سمعت من شعر القرن الماضي ما يفيض حكمة وحثًا على الفضائل والكمالات، وتخويفًا من الله والآخرة، وسمعنا منه ما يتضمّن المغازي والسير وإن كان معظمه كذبًا، ولكننا لم نجد لشعر إخواننا العلماء أثرًا في هذه المواضيع.

وإذا كانت هذه المقارنة تعسر على المؤرّخ الذي يريد إرضاء الحقيقة على طريقة الواقع ويحمله النهم بحبّ الاطّلاع على الإشراف على ما وراء ذلك، فيرى أن العلوم العربية ضعفت في هذا الوطن منذ خراب أمصار العلم الكبيرة فيه كبجاية وتلمسان، ثم يخرج بنتيجة وهي أن ذلك الضعف الذي حلّ بالعلم من أول المائة العاشرة ألحَّ عليه حتى أودى به، ويقول لو كان علم لكانت آثار. وإذا كانت المقلّمة، من آثار ابن خلدون بهذا الوطن في المائة الثامنة، وبدائع السلك من آثار ابن الأزرق في المائة التاسعة فأين آثار القرن العاشر إذا استثنينا مؤلفات الأخضري وطائفة لا تتجاوز عدد الأصابع. ثم أين آثار القرن الحادي عشر وما بعده إلا بضع رحلات لا قيمة لها إذا قيست برحلة ابن بطوطة في الإحاطة، أو برحلة خالد البلوي في الأدب، أو برحلة ابن رُشيْد الفهري في المحاورات العلمية والرواية، أو برحلة التيجاني التونسي في التنسيق التاريخي.

وإذا كان في هذه القرون عالم أجاد علمًا أو خلف أثرًا متقنًا- وهو ما لا ينكر- فهو كالشاذ من القاعدة فلا يرجح به ميزان المقارنة.

إذا كانت هذه هي العقبة التي تعترض المؤرّخ فإننا بمنجاة منها في طريقنا إلى عرض الحالة العلمية في الوقت الحاضر، لأننا إنما نقارن يومنا بأمسنا وطورًا بطور فإن زدنا فجيلًا بجيل وحالًا بحال، فقد خلقنا كلنا بهذا الوطن فوجدنا علمًا لا نشكّ في أنه مأخوذ من علم كان قبله بصورته أو بما يقرب منها قوة أو ضعفًا. ووجدنا علماء لا نشك في أنهم أخذوا عن

ص: 146

علماء كانوا قبلهم مثلهم أو على مقربة منهم، لا نشك في هذا وإن كنا نعلم أن طريقة السلف في التزام السند العلمي واعتباره جزءًا من العلم قد اندثرت من أيام بجاية. وأن الحال لم يزل على ذلك إلى أن هبّت على هذا الوطن نفحة من نفحات الله في هذا العهد الأخير فأصبح كتاب الله يدرّس بكيفية حية مثمرة وعلى أساس أنه هداية عامة لجميع البشر، وانه حجة الله البالغة على خلقه في كل زمان وفي كل مكان، وأصبحت سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تُدرّس من أصولها الصحيحة، ويبيّن فيها وفي كتاب الله مقارنة الحكمة للحكم والدليل للمدلول والعلم للعمل، وأصبحت العربية تدرّس بكيفية تؤدي إلى تحصيل الملكة القيّمة والذوق الصحيح، وأنتجت لنا هذه الدراسة شعراء نفاخر بهم وكتابًا وخطباء، وأصبح الشعر والكتابة والخطابة أدوات تقدّم ووسائل حياة لهذه الأمة إذا لم تنصرف في الفنون السخيفة التي كانت تنصرف فيها، ولم تضطرب في الميادين الضيّقة التي كانت تضطرب فيها، بل انطلقت أمام الحياة تمهّد لها السبيل وتفتح لها المغالق.

فإذا قارنّا الآن فلنقارن حالنا قبل هذه النهضة بحالنا الآن- ونحن في عنفوانها- لنعلم أي مدى بلغنا وإلى أية مرتبة وصلنا، وليكون ذلك حافزًا لنا إلى التقلّم، ولنأنس بذلك كما يأنس المسافر حينما يقطع مرحلة من مراحل السفر.

أيها الإخوة الأعزاء،

إن أكبر ميزة يمتاز بها هذا الطور الذي نحن فيه من أطوارنا العلمية هي الاستدلال، فلقد كان العلم إلى ما قبل النهضة مباشرة عبارة عن أقوال يسلمها الشيخ لكتابه، وسلّمها التلميذ لشيخه، فإذا استقامت تراكيب الكتاب وأفادت معنى صحيحًا لم يكن في ذهن الشيخ قوة على التماس الدليل، ولم يكن من حق التلميذ أن يطالبه بالدليل، إذا تاقت نفسه إلى الكمال بمعرفة الشيء بدليله، أو انقدح في نفسه خاطر من شك في صحة تلك القضية فأراد أن يطرده بالدليل كما يطرد خاطر الشر بالاستعاذة بالله.

ولقد كان التسليم أصلًا من أصول الأدب في جميع ما يعمر مجالسنا العلمية من الأحاديث، وإن هذا لهو المنفذ الواقع الذي دخلت علينا منه الخرافات والأحاديث الموضوعة والمبالغات السخيفة والآراء المضطربة وكبائر الغلو ومويقاته، حتى أصبحت كلها علمًا وأصبحنا مكرهين على تحمّله وأدائه، وإنما انتقلت إلينا عدوى هذه النزعة- نزعة التسليم- من مشائخ الطرق، فقد كانت مسيطرة على مجالسهم وخلواتهم وكانوا يأخذون أتباعهم فيما يأخذونهم به من أصول التربية بتحقيق معناها من أنفسهم ليروضوهم بها على الطاعة العمياء لهم، ومن كلماتهم التي سارت مثلًا "سلم تسلم" و "سلم للرجال في كل حال".

فكان من آثار هذه النزعة في النفوس ما أنتم تعلمون وما أنتم تشاهدون وما أنتم تعانون.

ص: 147

ثم انتقلت هذه النزعة إلى مجالس العلم فسيطرت عليها وفتكت بعقول المعلمين والمتعلمين، وكان من آثارها هذا الارتخاء الذي نشاهده في ملكاتنا العلمية وهذا الفتور المستحكم الذي استحال إلى انحطاط وتَدَلٍّ في العلم، وقد يستحيل- إذا تمادى- إلى موت وعدم.

فهذه إحدى جنايات القوم على العلم وإن لم يتعمدوها. ومن الحقائق أن العلم تأثر بالطرق وتعاليمها إلى حد بعيد، خصوصًا في هذا الوطن، ولو كان موضوع المحاضرة يسمح ببيان هذا التأثر وتحليله لبَيَّناه.

فالغرّة اللامعة في جبين هذه النهضة العلمية هي اقتران العلم بدليله، فأصبح علماؤنا يعملون بالدليل، ويدعون إلى الدليل ويطالبون بالدليل، ويحكمون الدليل ولو في أنفسهم.

ولقد هالت هذه النزعة القوية- نزعة الاستدلال- أُسراء المألوف وأحلاف الجمود فأكبروها ووسموها بأنها دعوى اجتهاد ودعوة إليه، واتّخذوا منها غميزة يَزِنون بها رجال الجمعية، وذريعة لصرف الأغرار من الطلبة عنها، وتحريك العامة عليها بما يهولون عليهم من أمر الاجتهاد ويعظمون من حرماته.

وما بالهم- عافاهم الله- لا يفرّقون بين الاستدلال والاجتهاد، ولو أنصفوا لعلموا أننا دعاة نظر لا دعاة اجتهاد، ندعو إلى العلم التطبيقي العملي ونأخذ به أنفسنا قبل كل أحد، وأن تطبيق الجزئيات على الكليات ليس من الاجتهاد في شيء، وإنما هو روح العلم ولا علم بدونه.

ثم ما لهم- سامحهم الله- يجمعون بين المتناقضات فيحجرون الاجتهاد على الأحياء والأموات إلا على طائفة معيّنة كانت في زمن معين، وقد مضت ومضى زمانها وجفّ القلم بأقوالها، ويبنون على هذا أنه لم يبق من سبيل في علم الدين إلا التقليد، قلنا ولمن؟ قالوا لأولئك المجتهدين، قلنا: سلّمنا فهلمّ بنا إلى كتبهم وآرائهم المتصلة الأسانيد إليهم، ولكنهم يتناقضون فيقلدون حتى في أدقّ دقائق العبادات العملية التي لا تؤخذ إلا من نص صريح من آية محكمة أو حديث صحيح- المهدي الوزّاني وابن الحاج- حتى فيما لا نسبة فيه للإمام ولا عزو لأحد من أهل التخريج.

ومن غرائب تأثير الحق في نفوس المستعدين له أن هذه النزعة الاستدلالية قد تجاوزت آفاق الطلبة المزاولين للعلم إلى الطبقات التي تليهم، فأصبحت نفوسهم نزاعة إلى طلب الدليل في أمور دينهم، وأصبحت أبصارهم تخشع وأعناقهم تخضع إذا أقيم لهم دليل من آية قرآنية أو حديث نبوي ممن يعتقدون أمانته وصدقه، وإذا كان قصور أفهامهم قد قعد بهم عن فهم ما بين الدليل والحكم من صلة، فقد كان من ثمرات هذه النزعة الجديدة فيهم أنهم

ص: 148

صاروا عارفين بقيمة الدليل، ولا يقبلون الباطل حين يلقى إليهم بالسهولة التي كانوا يقبلونه بها، بل يترددون ويتوقفون وقد يفتق ذلك التردد والتوقف عن المخرج إلى الحق.

وكم ألقموا المبطلين حجرًا وأغصوهم بِرِيقِهِمْ حينما يلقون إليهم بباطلهم فيقولون لهم: وأين الدليل؟ وما أثقلها من كلمة على نفوس ألفت التسليم وقادت الأمة بزمامه.

فهذا تطور في أحوال العامة يبدو غريبًا لمن لم يبل غرائب النفوس البشرية، ويدعو للاغتباط والسرور، وأخرى هي أدعى للسرور والاغتباط وهي أن هذه الطبقات العامية التي تواظب على سماع الدروس والمحاضرات قد أصبحت تفهم العربية الفصحى حق الفهم بتأثير الممارسة والمران فلا يلتوي عليها غرض من أغراضها ولا يغمض عليها معنى من معانيها.

ولقد بدأت دروسي ومحاضراتي في تلمسان بالعربية الفصحى وأَخَذْت نفسي بذلك أخذًا أصل فيه إلى درجة الاغراب أحيانًا، وكان لي من وراء ذلك الالتزام غرضان:

أحدُهُما إقامة الدليل للمتعلمين باللغات الأجنبية على أن الفصحى لا تعيا بحمل المعاني مهما تنوعت وعلت، وأنها تَبُذُّ اللغات في ميدان التعبير عن الحقائق والخيالات والخواطر والتصورات، وقد بلغت من هذا الغرض ما أريد.

والغرض الثاني أن أُحْدِث في نفوس العامة المحبين للعلم والدين أسفًا يقضّ مضاجعهم فَيَدُعُّهُم إلى تدارك ما فاتهم منها في أبنائهم.

وكنت أرى من عامة السامعين حسن إصغاء ينبئ باهتمام عميق فأتأوله على أنه تآثر بالآيات والأحاديث التي يكثر تردادها في الدرس منزلة على ما سيقت له- والتأثُّر بكلام الله وكلام رسوله طبيعي في المسلم- وكم كنت أخشى أن يَنْفَضُّوا من حولي يومًا لعدم فهم ما يسمعون لولا أنني آوٍ إلى ركن شديد من كلام الله ورسوله.

وما زلنا على هذا حتى فعل المران فعله وأصبحوا يفهمون ويذوقون ويخرجون وهم يتدارسون.

وقد رجعت إلى العامية في بعض الدروس فاستهجنوها ونبت عنها أذواقهم، وإني لا أدري لماذا لا نعجب للعامي يتعلّم الفرنسية بالسماع ونَعْجَب- بل لا نكاد نصدق- له أن يتعلّم العربية بالسماع، مع أن العربية أقرب إلى عاميته وفطرته وروحه.

وبلغني عن حاضري محاضرات الأخ العقبي في هذا النادي ما هو من هذا القبيل، ولقد سمعت بأذني من واحد منهم في طريقي إلى الحراش، وقد وقف بنا القطار في بعض مواقفه، فسمعنا رجلًا يسأل سؤالًا غير مشروع، فقال له صاحبنا بالعامية:"ما تقراش سورة الأنعام" إقرأ قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} الآية، وتلاها بلهجة صحيحة ثم تبيّن لي من حديثي معه أنه عامي وأنه واعٍ لما يسمع متأثر به.

ص: 149

أيها الإخوة الأعزاء،

إن مجلى العبرة في هذا الحديث أن جمعية العلماء إن استطاعت أن تكوّن جمهورًا علميًا يفهم العربية الفصحى بالسماع كما يفهم الفرنسية بالسماع، فقد استطاعت أن تأتي بأعجوبة الدهر وأن تفتح للعلم طريقًا غير طريق الكتابة، وأن تعيد للعربية معجزتها الأولى وهي تفتق الأمية عن الحكمة في العرب.

أيها الإخوة الأعزّاء،

هذه الظواهر التي أطلنا القول فيها كلها من آثار ميزة الاستدلال وآثار الشيء تابعة له، فنحن لم نخرج عن موضوعنا: عرض الحالة العلمية.

ومن أكبر الميزات التي يمتاز بها هذا الطور العلمي الذي نحن فيه العمل والإنتاج والدخول في الميادين العامة والتغلغل في شؤون الحياة، فقد كان الناس بهذا الوطن إلى ما يتصل بالنهضة لا يعرفون من العَالِمِ إلا رجلًا منعزلًا عن العالم. لا همّ له إلّا- بما يتصل بمعيشته، وأكبر أمره بينهم أن يفتيهم في المسائل الجزئية التي لا تتجاوز واحدًا كمسائل الصلاة والصوم أو اثنين كأحكام النكاح والطلاق أو حيًا وميتًا كموص ووصي أو إنسانًا وبهيمة كراعٍ وشاة وفذها.

فهو يفتي في الطلاق ولا يبحث عن أسباب الطلاق الفاشية، ويفتي في الأيمان ولا ينهى الناس عن الحلف ولا عن الحنث فيه بعد انعقاده، ويحرّم الخمر والميسر ولا يبيّن للناس مضارّهما ولا يزجرهم عن تعاطيهما- وبالجملة فهو رجل انقطعت الصلة بينه وبين أهل زمنه، فإن قدرت له ملابسة الناس جمع جماعة قليلة يقرئهم درسًا خاصًا لا علاقة له بحالهم أو يتلو معهم حزبًا.

أما المعرض العام، معرض الأمة الزاخر بالمفاسد والموبقات، فشيء لا شأن للعلم به، وأما هداية الأمة وضلالها فأمرهما- في نظره- موكول إلى الله الذي وكله إلى العلماء

وبهذه السيرة التي كانوا عليها خرجت قيادة الأمة من أيديهم إلى أيدٍ لا تحسن قيادة الأمة

ولو أنهم عملوا للصالح العام ولو قليلًا، لوجدنا الطريق معبّدًا ولخفّفوا علينا من هذا العناء الذي نقاسيه، ويا ليتنا خرجنا معهم كفافًا لا علينا ولا لنا، ولكنهم أبقوا من سكوتهم ضجة للمبطلين علينا، فما أنكرنا عليهم منكرًا تئط منه السماوات إلا وتصايحوا: لماذا لم ينكره العلماء قبلكم ومن العناد احتجاجك على ميت

وويل لك إن سكتَّ

وألف ويل إن نطقت

ص: 150

أيها الإخوة الكرام،

إن خروج قيادة الأمة الإسلامية من أيدي العلماء هو أكبر الأسباب فيما وصلت إليه من انحطاط، وهو أمر قديم العهد، ونحن نعلم علم القطع أن علماءنا في القرون الوسطى كانوا وليس بأيديهم من أمر الأمة شيء، وأهم جهات الاتصال بينهم وبين الأمة وهي التدريس والإمامة والفتوى والقضاء؛ كانت تعطى لهم من أيدي الأمراء المستبدّين تفضلًا لا استحقاقًا، فإذا خطب الخطيب منهم فيجوز أن ينسى شيئًا أو أشياء مما يهم المسلمين ولكنه لا ينسى- أبدًا- الدعاء لأمير نصبه، أو الترخم على واقف يعيش من فضل جرايته، ولا زالت ألفاظهم في الدعاء والترحّم جاربة في الخطب الدينية إلى الآن بالشرق.

أما مؤلفاتهم- رحمهم الله ورضي عنهم- التي خلفوها لنا في الفقه، فقد كتبوها وهم في ديارهم وخلواتهم، ولم يُبْنَ الكثير منها على مراعاة الأحوال العامة، وقد يبنون الأحكام في المعاملات على ما تقتضيه أنظارهم الخاصة، ويولدون من كلام من قبلهم اقتضاءات ووجوهًا من التأويل، فإذا خرجوا إلى السوق وجدوا اليد المصرفة لأزمة الأمة غير يدهم، والقانون الذي تسأس به الأمة تابعًا لأهواء الأمراء لا لما سَطَّروه وأتعبوا أنفسهم في تدوينه، ووجدوا سيف الاستبداد يأمر وينهى، ووجدوا أنفسهم في غمار العامة مسيرين بتلك اليد وبتلك الأهواء وبذلك السيف. ولذلك يرى الباحثون المحققون أن هذه التفريعات التي امتلأت بها كتب الفتوى لا ينطبق الكثير منها على مصالح الناس، لأنها لم تبنَ على رعاية تلك المصالح التي هي أساس حكمة التشريع، ولا سبب لذلك إلّا خروج القيادة الفعلية من أيدي العلماء. وكان من آثار ذلك أن جهل العلماء أنفسهم وأضاعوا مكانتهم الحقيقية، وكثيرًا ما اتخذهم الأمراء آلات لتسخير العامة وتسكين ثائرها.

ثم انتقلت قيادة الأمة من أيدي الأمراء إلى أيدي الرؤساء الروحيين، وأصبح العلماء تبعًا لهؤلاء كما كانوا تبعًا لأولئك، ولا ذنب للعامّة في هذا كله وإنما الذنب ذنب العلماء الذين غفلوا أولًا وسكتوا آخرًا حتى خرج الأمر من أيديهم، وقد أدركنا من بقايا هذا السكوت المخزي أن شيخ الطريق الجاهل الأمِّي يجلس في مجالس الوعظ والتذكير، فيذكر مريديه بغير ما أنزل الله ويُجلِسُ بجنبه عالمًا مأجورًا على السكوت ليتّخذ من سكوته حجة وعونًا على إضلال العامة، ولعمري إن هذه شر نهاية وصل إليها المجتمع الإسلامي في كثير من أوطانه.

أيها الإخوة الكرام،

وما لي لا أذكركم بأوضح فارق جوهري بين حالتينا بالأمس واليوم وأجل ما استطعنا الوصول إليه في نهضتنا العلمية الحاضرة، وهو تكوين زعامة علمية حقيقية بهذا الوطن في أقرب مدة، وهي غاية قصرت عنها الأقطار الإسلامية الأخرى، فلم نعهد في الكثير منها إقرار الزعامة العلمية في نصاب. ولا زلنا نراها على كَثْرَةِ المتأهلين لها متغلغلة الركاب.

ص: 151

أما في وطننا هذا وفي نهضتنا هذه، فإننا نفخر بأنها بنيت على إقرار الزعامة العلمية، وأن النهضة العلمية كسائر النهضات لا تبنى إلا على أساس "الزعامة"، وأن جميع ما يعترض النهضات من بطء وإسراع تابع لوضع الزعامة ومستقرّها.

وما دامت الموازنة بين أمسنا ويومنا، فقد كان علماؤنا بالأمس- ولا زالت بقاياهم إلى اليوم- وأمرهم فوضى وشملهم شتيت لم يكوِّنوا زعامة، ولم يعترفوا لزعيم.

وإني لأذكر ذلك السكوت الذي يسود مجالسهم إذا اجتمعوا، وتلك النظرات التي يتبادلونها، وأذكر ذلك الملل الذي يغشى تلك المجالس. وأذكر تلك الأحوال التي تلبسهم إذا خلا كل واحد منهم بنفسه، فأصبح زعيم نفسه، وأذكر تلك الأساليب التي كنّا نسمعها من عالم إذا سئل عن ترجمة عالم وعن درجته في العلم أو عن فتوى أفتى بها أو رأي أبداه في مسألة نحوية، وأذكر تلك العبارات التي كانت تبدر منهم في تنقيص بعضهم بعضًا أمام العامة.

أيها الإخوة الكرام،

ومن الميزات التي لا يغفلها الباحث في عرض الحالة العلمية والموازنة بين الحالين، الاقتصار على لُباب العلم والرمي إلى أغراضه السديدة، واطراح القشور وما لا محصول له من المباحث، وإيثار العلم المفهوم على العلم المحفوظ. وقد بدأ اتجاه التعليم يستقيم، وظهر من آثاره اختيار الكتب العامرة المملوءة علمًا، المعينة على تكوين الملكات، الخالية من النظريات المجردة والمماحكات اللفظية، ولا نذهب بعيدًا في الفرق بين هذه الحالة وبين ما قبلها، فإن بقايا الحالة القديمة لا تزال موجودة ولا تزال هي الغالبة في مجالس التدريس، وإنما نريد التنويه بهذه الحالة التي بدأت بشائرها تخفق في جوّنا العلمي، مغتبطين بها راجين لها النمو السربع والرقي المستمرّ.

أيها الإخوة،

ومن مميزات هذا الطور الذي نحن فيه من أطوارنا العلمية روح التآخي المُنْبَثَّة بين هذه الطائفة من أعضاء الجمعية، والمحبّة التي ينطوون عليها لبعضهم ولإخوانهم في العلم، وإن تجافوا في المبدإِ، وأنهم إذا أغضبهم من عالم شيء فإنما هو خذله للحق أو نصره للباطل، وهو من نوع البغض في الله الذي أدبنا به الدين.

وإن السبب الأقوى في هذا التآخي وهذه المحبّة هو الاتصال والتعارف، وستعمل الجمعية على تقوية هذه الروح في النفوس بتقوية أسبابها، فلا أحد أحوج إلى التعاون من هذه الأسرة العلمية، ولا يتم هذا التعاون ويؤتي ثمراته إلا بتآخٍ يغمرهم، ومحبة تربط بين قلوبهم حتى يكونوا قدوة صالحة لغيرهم، فمن العار أن يدعوا الأمة إلى التآخي، وهم غير متآخين، وإلى المحبَة وهم غير متحابين.

ص: 152

ومن مميزات هذا الطور الذي نحن فيه، اقتران العلم بعزة النفس والعزوف عن الدنايا، والتخلّق بمحامد الأخلاق وإظهار صولة العلم في مواقف الدفاع عن الحق، وهي صفات لازمة للعلم، فمن عجز عن جمعها معه في نفسه كان علمه وبالًا عليه.

وإن هذه ميزة ما كنا نعرفها في الطبقة التي أدركناها من العلماء إلا قليلًا.

وإن جمعية العلماء تفتخر بأن هذه الميزة الأخلاقية هي الصفة الغالبة على رجالها، وأنها أول مظهر ظهروا به على الأيام، ثم امتحنتهم الأيام فلم يزدهم ذلك إلا اعتصامًا بهذه الخلال، ولم يزدهم ذلك الاعتصام إلا إجلالًا ومهابة، وقد نبزهم خصومهم بكل نقيصة حتى إذا وصلوا من قائمة النقائص إلى سقوط الهمّة والطمع والمداهنة في الحق جمجموا، فإن تقوَّلوا فيها أتوا بالهذر الذي يردّه العدو قبل الصديق.

ومن مميزات هذا الطور العلمي إتقان اللغة العربية علمًا وتعليمًا، وإجادتها تكلّمًا وكتابة وخطابة، فقد قامت هذه النهضة على ألسنة تنثر الدر من العلم، وألسنة تنفث السحر من البيان وأقلام تسيل رحمة في مواطن الرحمة، وتمجّ السمام أو تنثر السهام في مواطن الغضب للحق والذود عن الحق.

وقد كانت لدروس الأخ الأستاذ ابن باديس- ولا نكران للحق- أقوى الآثار في تكوين هذه الملكات وتقويم هذه الألسنة وتثقيف هذه الرماح. فمن تلامذته كتّاب القطر اليوم، ومن تلامذته شعراء القطر اليوم، ومن تلامذته المفكرون والدعاة الذين هم دعائم الحركة الإصلاحية.

وقد أصبح الطراز الأدبي الجزائري طرازًا مستقلًا يُحْتَذى ولا يَحتذي، ليست عليه مسحة التآثر والمحاكاة، وإذا كانت ناشئتنا متأثّرة بالتعاليم الزيتونية فإن ذلك التأثر لم يجاوز العلميات أما الأدبيات فلا.

إخواني الأعزاء،

بقيت عدة نواح عقلية روحية هي من مميزات هذا الطور العلمي الذي نحن فيه لم أشأ أن أقدّمها لكم بتراء مشوّهة لضيق الوقت.

وبقيت عدة جهات عملية نظامية هي في باب الإصلاح العلمي أدخل منها في عرض الحالة العلمية، وقد أشرنا إليها في عرض الحديث المتقدم.

ولعلّكم سمعتم ما يحمل محمل الإطراء لحالتنا والتنقيص لما سبقها؛ وهو أمر لا محيد عنه في باب الموازنة بين حالين.

ونحن في هذه الكلمة نزن حاضرًا بماضٍ، ولو كنا نزن حالنا بما يجب أن نكون عليه لكان لنا نحو آخر من القول ننحوه، ولكان حقًا علينا أن نذكر النقائص والعيوب، ولكان نقصًا ما سمّيناه اليوم كمالًا.

ص: 153

وإن من نقائصنا المتّصلة بحالتنا العلمية الحاضرة ثلاثًا لا كمال معها، ومن المؤسف أن ناشئتنا العلمية المستشرفة إلى الكمال لا تفكر في السلبي منها ولا الإيجابي.

هذه النقائص الثلاث هي:

- ضعف الميل إلى التخصّص.

- ضعف الميل إلى الابتكار.

- الكسل عن المطالعة.

وإذا كانت الأوليان متعسرتين لفقد دواعيهما، فإن الثالثة أقرب إلى الإمكان. الحقّ أقول إن شبابنا المتعلّم كسول عن المطالعة، والمطالعة نصف العلم أو ثلثاه. فأوصيكم يا شباب الخير بإدمان المطالعة والإكباب عليها، ولْتَكُن مطالعتكم بانتظام حرصا على الوقت أن يضيع في غير طائل.

وإذا كنتم تريدون الكمال فهذه إحدى سبل الكمال.

ص: 154