المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة ببن يدي التلخيص: - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ١

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌هذه الآثار وتاريخ الجزائر:

- ‌ الحركة العلمية الإصلاحية الدينية

- ‌ الحركة السياسية

- ‌هذه الآثار وحياة الإبراهيمي:

- ‌ مرحلة التكوين والتحصيل الأولى (1889 - 1911):

- ‌ الرحلة المشرقية الأولى (1911 - 1920):

- ‌ مرحلة الإرهاصات (1920 - 1931):

- ‌ بدايات جمعية العلماء (1931 - 1940):

- ‌ قيادة الحركة الدينية والثقافية بالجزائر (1940 - 1952):

- ‌ الرحلة المشرقية الثانية (1952 - 1962):

- ‌ المرحلة الأخيرة (1962 - 1965):

- ‌مشروع الإبراهيمي النهضوي:

- ‌العلم

- ‌ الدين

- ‌الأخلاق

- ‌الإقتصاد

- ‌شخصية الإبراهيمي:

- ‌ الإسلام

- ‌الأقانيم الثلاثة في حياة الإبراهيمي وآثاره:

- ‌العروبة

- ‌الجزائر

- ‌هذه الطبعة الجديدة:

- ‌السياق التاريخي (1929 - 1940)

- ‌قبل تأسيس جمعية العلماء

- ‌محمد بن شنب*

- ‌التعاون الاجتماعي*

- ‌الإنسان أخو الإنسان*

- ‌الإنسانية: آلامها واستغاثتها*

- ‌خطبة جمعية*

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الخطابة والتمثيل*

- ‌نائب رئيس جمعية العلماء يتكلم

- ‌كيف تأسست جمعية العلماء الجزائريين*

- ‌القانون الداخليلجمعية العلماء المسلمين الجزائريين*

- ‌الفصل الأول: فيما يرجع إلى نظام الجمعية وإدارتها:

- ‌الفصل الثاني: لجنة العمل الدائمة:

- ‌الفصل الثالث: مقاصد الجمعية وغاياتها وأعمالها:

- ‌الفصل الرابع: في مالية الجمعية:

- ‌إفتتاح مسجد سطيف*

- ‌ديوان أبي اليقظان وجريدة النور*

- ‌الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس*

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريينالمجلس الإداري للجمعية

- ‌أعضاء مجلس الإدارة:

- ‌جلسة مساء الخميس:

- ‌جلسة يوم الجمعة الثاني عشر شوال 1350:

- ‌جلسة مساء يوم الجمعة:

- ‌جلسة يوم السبت:

- ‌جلسة مساء السبت:

- ‌مات شوقي

- ‌الإسلام والمسلمون*

- ‌وحدة الدين واللسان:

- ‌الإسلام والتاريخ:

- ‌الإسلام والبيان العربي:

- ‌هدي الإسلام في البيان العربي:

- ‌التربية الإسلامية والنقائص البشرية:

- ‌بُعد المسلمين عن الهداية الإسلامية:

- ‌جناية المسلمين على الإسلام:

- ‌شدّة تمسّك المسلمين بالنسبة للإسلام:

- ‌قاعدة الدعوة الإصلاحية وأسلوبها:

- ‌آية الإسلام في قوّة رسوخه في القلوب:

- ‌تعالوا نُسائلكم*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية

- ‌جمعيّة العلماء: دعوتها وغايتها*

- ‌ثلاث سنوات من عمر جمعيّة العلماء*

- ‌مُلخصُ خطاب ألقي بنادي الترقّي*

- ‌عرض الحالة العلميّة*

- ‌مقدّمة سجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء*

- ‌فلسفة جمعية العلماء*

- ‌تفرق أهل الكتب السماوية في الدين قبل الإسلام:

- ‌بدء تفرق المسلمين في الدين:

- ‌آثار الطرق السيئة في المسلمين:

- ‌دفع شبهة ونقض فرية في هذا المقام:

- ‌أول صيحة ارتفعت بالإصلاح في العهد الأخير:

- ‌نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر:

- ‌الخطوة الأولى:

- ‌الرأي الثاني

- ‌جمعية العلماء فكرة

- ‌جمعية العلماء عقيدة:

- ‌جمعية العلماء حقيقة واقعة:

- ‌موقف جمعية العلماء المسلمين من الطرق:

- ‌موقف الجمعية في التعليم:

- ‌موقف جمعية العلماء من البدع والمنكرات العامة:

- ‌موقف الجمعية من الالحاد:

- ‌موقف الجمعية من التبشير:

- ‌موقف الجمعية من بقية الرذائل:

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كما هي:

- ‌خاتمة

- ‌الأمّيّة*

- ‌إلى كتّاب "البصائر

- ‌كتاب "السعادة الأبدية

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌أشيخ الإسلام هو أم شيخ المسلمين

- ‌بين عالم وشاعر*

- ‌جواب الشاعر

- ‌لا يبني مستقبل الامّة إلا الأمّة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌اللغة العربية

- ‌الديانة

- ‌ 3

- ‌من آثار المؤتمر الإسلامي

- ‌يوم الجزائر*

- ‌أمس واليوم

- ‌سرّ تعليق الآمال على الجبهة الشعبية

- ‌فكرة المؤتمر

- ‌النقط التاريخية في المؤتمر:

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌قائمة القرارات:

- ‌قائمة الاقتراحات الفردية:

- ‌أهم مقررات المؤتمر:

- ‌اللجنة التنفيذية:

- ‌ما تمّ بعد المؤتمر ولم تنشره الصحف:

- ‌مطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌حقوق الأمّة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسية

- ‌مقدّمة

- ‌الأوضاع والمعاملات الخاصة:

- ‌النيابات:

- ‌أثر مشاركة جمعية العلماء في المؤتمر:

- ‌المؤتمر الجزائري الإسلامي العام:

- ‌كلمة عن وفد المؤتمر الإسلامي*

- ‌مقتل الشيخ كحول*

- ‌وقفة على أطلال الحادثة:

- ‌أول تحدِّ للمكيدة

- ‌مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي:

- ‌المستغربات في هذه الحادثة

- ‌مرامي الإشاعات الأولى:

- ‌الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه:

- ‌فتح نادي الترقّي وما يتّصل به:

- ‌آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائريةونتيجته للدّعوة الاصلاحيّة*

- ‌الإصلاح الدّيني لا يتمّ إلا بالإصلاح الإجتماعي

- ‌من قصيدة للأستاد الإبراهيمي*

- ‌إما سنّة وإما بدعة*

- ‌المؤتمر الإسلامي الجزائري*

- ‌إلى الطرقيين*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الدعوة إلى المناظرة:

- ‌إفتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان

- ‌ 1

- ‌الدعوة العامة

- ‌ 2

- ‌دعوة المجلس الإداري لجمعية العلماء

- ‌ 3

- ‌كلمة في «دار الحديث»

- ‌ 4

- ‌تحيّة «دار الحديث» للشاعر محمد العيد

- ‌تعطيل مدرسة «دار الحديث» *

- ‌المولد النبوي*

- ‌ختم ابن باديس لتفسير القرآن*

- ‌ تمهيد

- ‌ كلمة التصدير لهذا العدد*

- ‌ كلمة في الاحتفالات

- ‌ خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ

- ‌كلمة ببن يدي التلخيص:

- ‌سورة الفلق:

- ‌سورة الناس:

- ‌ خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم

- ‌ التعريف بالمشاركين في حفل ختم التفسير

- ‌تلمسان وابن خلدون*

- ‌العربية: فضلها علىالعلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية*

- ‌منشور إلى الأمتين الإسلامية والفرنسية*

- ‌الأستاذ محمد بن مرزوق*

- ‌ختم الدروس السنوية «بدار الحديث» *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌درس في التفسير(سعادة المسلمين في العمل بالقرآن)

- ‌من خطبة عيد الأضحى*

- ‌موقفنا من الطرقية وصحفها*

- ‌إلى جريدة "الإصلاح

- ‌تعزية الإبراهيمي فيفقدان السيد الرشيد بطحوش*

- ‌افتراء مستشرق*

الفصل: ‌كلمة ببن يدي التلخيص:

------------------------------

4 -

‌ خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ

الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي ختم به تفسير القرآن*

------------------------------

‌كلمة ببن يدي التلخيص:

أكمل طرائق المتقدمين من علماء هذه الملة في تلقين العلوم- طريقة الإملاء. والإملاء نتيجة لاستِحْكام الملكة في العلم واستقلال الفكر فيه، أوسعة المحفوظ ورحابة آفاق الحافظة. واستحكام الملكة واستقلال الفكر وقوّة الحافظة مزايا تكاد تكون خالصة لعلماء سلف هذه الأمة لم يبلغ علماء الأمم الأخرى مُدَّ أحدهم فيها ولا نصيفه.

وكانت وظيفة السامعين كتابة ما يُملى عليهم كله أو خلاصته، وكانت المحابر والأقلام والأوراق هي الأدوات اللازمة لروّاد مجالس العلم، إلّا في مقامات مقابلة الأصول وضبطها. فهنا لا بدّ من إحضار النسخ الكاملة من الكتب.

ومن ثمرات تلك الطريقة المثلى في التلقين والتلقي كتب الأمالي في الحديث واللغة والأدب، وفي تراجم المحدثين والأدباء الشيء الكثير من ذلك، وإن لم يُبق لنا الدهر منها إلّا الأقل من القليل.

ولما انتهى عصر الرواية بجمع روايات السلف في التفسير ورواياتهم للأحاديث والسنن، ودُوّنت أصول اللغة والأدب والعلوم المتفرعة عنها وجاء دور الاستغلال لها، نشأت عوامل الانحطاط في العلوم الإسلامية، وكان من أظهر مظاهرها جفاف القرائح وجدب الأفكار وضعف القوى الحافظة، وانحطت طرائق التلقين تبعًا لذلك وانحصرت في الطريق الشائعة إلى اليوم، وهي التزام كتاب تتعدّد نسخه بتعدّد المتلقين له، يحلّل الشيخ عباراته ويشرح معانيه، وانحطت وظيفة السامعين من الكتابة والتقييد إلى الاستماع المجرد.

ولسنا نعيب طريقة التزام الكتب وشرح معانيها بالكلام، فذلك في حقيقته نوع قاصر من الإملاء، وإنما نَنْعَى على السامعين إهمالهم لكتابة ما يسمعون فتضيع عليهم الفوائد التي يلقيها الأستاذ وقد تكون قيّمة، كما تضيع في عصرنا هذه الخطب والمحاضرات المرتجلة التي لا يكتبها ملقيها ولا متلقيها.

* "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان- جويلية 1938، [ص:186]، قسنطينة.

ص: 341

ولسنا بصدد التأريخ لهذه الطرائق والمقارنة بينها، وبيان وجوه النقص والكمال فيها، وإنما ننبّه في هذا المقام إلى أن أسوأ أثر لهذه الطريقة الشائعة اليوم هو القضاء على الملكة العلمية، لأنها شغلت المعلم والمتعلم معًا بالكتاب عن العلم، إذ أصبح همّهما كله مصروفًا إلى تحليل الكتاب وفكّ عباراته والقيام على اصطلاحاته الخاصة، وفي بعض هذا ما يستغرق الوقت ولا يُبقي سعة لإدراك قواعد العلم وتطبيق جزئياته على كلّياته، وبعيد جدًا على من يدرس علمًا على هذه الطريقة أن تستحكم ملكته فيه، وكيف تستحكم ملكة الفقه مثلًا لمن يقرأه من مثل مختصر خليل على هذه الطريقة فيمضي وقته في تحليل عباراته وتراكيبه المعقدة التي ذهب الاختصار بكثير من أجزائها، وفي بيان التقديم والتأخير في الألفاظ، وربط المعمولات بالعوامل البعيدة، وإرجاع الضمائر المختلفة إلى مراجعها، والطفرة بالذهن من مذكور إلى مقدر، وهذا هو كل ما يشغل وقت المعلم والمتعلم، وهم في الحقيقة لا يدرسون علم الفقه وإنما يدرسون كتابًا في الفقه، ودراسة الكتب لذاتها أصبحت اليوم فنًّا كماليًّا من التاريخ لا أصلًا في تعلّم العلوم.

والدارس لتاريخ العلوم الإسلامية يتجلّى له هذا في تراجم علماء تلك العلوم، إذ يجد فيها دائمًا أشباه هذه العبارة: كان أقوم الناس على كتاب الجمل للخونجي، أو على كتاب التهذيب للبرادعي، أو على كتاب الشامل لابن الصباغ. كان نافذًا في إقراء المحصّل للرازي. كان سديد البحث في مختصر ابن الحاجب الأصلي، كثير المناقشة لعباراته. وأين سداد البحث وكثرة المناقشة في عبارة كتاب من تحصيل الملكة في علم؟ إن الأصولي الحقيقي هو الذي يُنفق ممّا عنده أو يُقرئه من أي كتاب كان، ولا يفتتن بكتاب معين هذا الافتتان، وإن الفقيه الحقيقي هو الذي يفهم الفقه لا الذي يفهم كتابًا في الفقه، وفي وقتنا هذا نسمع علماء المعاهد المشهورة يتمدّحون بمثل هذا ويصفون من يحسن إقراء التنقيح للقرافي على هذه الطريقة بالأصولي المحقق

ولقد حاول جماعة من العلماء الحفّاظ في القرون الأخيرة إصلاح هذه الحالة وإحياء طريقة الأمالي فلم ينجحوا، لافتتان جمهور المتعلمين بالكتب وانصرافهم عن العلم إلى كتب في العلم. حاول ذلك الحافظ ابن حجر وهو أهل لذلك، ولكن أهل زمانه لم يكونوا أهلًا له، ونعى معاصره ابن خلدون المؤرخ طرق التلقين في زمنه وكثرة المؤلفات والمختصرات في العلم وعدّها عائقة عن التحصيل، وحاول ذلك بعد ابن حجر تلميذه الحافظ السيوطي وهو أهل لذلك على ما فيه من تبجّج واستطالة، وقد شكا في بعض رسائله إخفاقه في هذه المحاولة بعبارة مرّة، ووصف انصراف الجمهور عنها بأنه من غلبة الجهل وكلال الهمم وضعف العزائم.

نجمت في هذه العهود الأخيرة ناجمة اضطراب وتبرّم من طرائق التعليم المتبعة وكتبه الملتزمة، وارتفعت الأصوات بالشكوى من أضرارها وسوء عواقبها، وكان الأستاذ الإمام

ص: 342

الشيخ محمد عبده أعلى الحكماء صوتًا بلزوم إصلاحها وأبلغهم بيانًا لأضرارها وسوءاتها ومعايبها، وأسدّهم رَأْيًا في تغييرها بما هو أجدى منها وأنفع، وأكثرهم عملًا جديًّا في ذلك.

وكان من إصلاحاته العملية في هذا الباب درسه لكتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبقه إليه سابق، وكان- رحمه الله وهو مَن هو في استقلال الفكر واستنكار الطرائق الجامدة يجاري الطريقة الأزهرية بعض المجاراة لاعتبارات خاصة، ومن هذه المجاراة السطحية أنه كان يلتزم في تلك الدروس العامرة بالحكم العليا تفسير الجلالين ويستهلها بقراءة عبارته.

ولكن السامعين لتلك الدروس- على كثرتهم وجلالة أقدارهم في العلم والمعرفة، وتساويهم في الاعتقاد بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها ممّا لم تنطوِ عليه حنايا عالم ولا صحائف كتاب- لم تتسابق أقلامهم لتقييد تلك الدروس إلّا قليلا، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد، ولو لم يقيّض الله محمد رشيد رضا لهذا العمل الجليل لضاع كله، ولكن الله وفقه لحفظ معاني تلك الدروس وسدّد قلمه في أدائها، ثم نهج نهجه بعد موته وسار على شعاع هديه في تفسير كلام الله فأبقى لهذه الأمة الأسفار القيمة المعروفة بتفسير المنار.

مدّت حركة الاصلاح العلمي مدّها بعد موت الإمام وانتشرت في الأقطار الإسلامية وأسفرت عن إصلاح حقيقي لأساليب التعليم في المعاهد الحرّة، وعن إصلاح صوري في المعاهد الرسمية، ولا تزال الحرب قائمة في هذه المعاهد بين طلاب الإصلاح وبين أنصار الجمود، وستكون العاقبة للمصلحين بإذن الله. ولقد كان من حسن حظ الجزائر أن باعث النهضة العلمية فيها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قد وضع أساس هذه النهضة على قواعد صحيحة من أول يوم، فسلك في درس كلام الله أسلوبًا سلفي النزعة والمادة، عصري الأسلوب والمرمى مستمدًا من آيات القرآن وأسرارها أكثر ممّا هو مستمد من التفاسير وأسفارها. وقد قرأنا له في بعض افتتاحيات مجلة "الشهاب" أنه يعتمد في هذه الدروس على تفاسير مخصوصة في مواضيع مخصوصة، كالطبري في المأثور والكشاف للزمخشري في أسرار الإعجاز. وذلك صحيح ومفيد لمن يجعل فهوم الرجال مقاييس لفهمه، ولا يعطيها أكثر من أنها فهوم تصيب وتخطى، أما المعنى الصحيح لكتاب الله فيستجليه من البيان العربي والشرح النبوي ومن مقاصد الدين وأسرار التشريع، ومن عجائب الكون وسنن الله فيه ومن أحكام الاجتماع الإنساني، ومن تصاريف الزمن ونتائج العقول وثمرات العلوم التجريبية.

وإذا كان من دواعي الغبطة ختم تفسير القرآن على هذه الطريقة في القطر الجزائري، فإن من دواعي الأسف أنه لم ينتدب من مستمعي هذه الدروس من يقيّدها بالكتابة، ولو

ص: 343

وجد من يفعل ذلك لربحت هذه الأمة ذخزا لا يُقوَّم بمال، ولَاضْطلع هذا الجيل بعمل يباهي به جميع الأجيال، ولتمخض لنا ربع قرن عن تفسير يكون حجة هذا القرن على القرون الآتية. ومن قرأ تلك النماذج القليلة المنشورة في الشهاب باسم مجالس التذكير علم أي علم ضاع وأي كنز غطى عليه الإهمال.

ولما كان اليوم المشهود بختم هذه الدروس جمع أحد الحاضرين ما وعته ذاكرته وأمكنه تقييده من معنى درس الختم في تفسير المعوذتين وتصرف في ألفاظه بما لا يخرج عن معانيه، إذ لم يكن من الميسور أن يلتقط الألفاظ كلها. فجاء بهذه الخلاصة التي ننشرها على الناس في هذا العدد الخاص بالاحتفال لافتين أنظارهم إلى أن هذه الخلاصة محيطة بمعاني الدرس مع تصرف ضروري اقتضته مساوقة ما كتب لما قيل.

استهل الأستاذ الدرس بعد الاستعاذة والتسمية بالتحميد المأثور: الحمد لله إن الحمد لله. نحمده ونشكره ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد فما له من مضل، ونشهد أن لا إله إلّا الله ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

ثم عقّب بما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ به خطبه. وجرت عادة المُحدِّثين والمُفَسِّرين أن يفتتحوا به مجالس التحديث والتفسير، وإن اختلفت الروايات في ألفاظه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم قال توطئة للدخول في تفسير المعوذتين ما معناه مع تصرف وتوضيح:

بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا وأن يشتبها وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته، فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بهما دائرة بينهما موصوفة بأحدهما ولا بدّ. ذلك من قدر الله ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني.

وحكمته المبيَّنة في وحيه هي ابتلاء خلقه ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم بعد أن وهبهم العقل والتمييز، وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلًا منه تعالى ورحمة، وحكمة أخرى وهي تمرين هذا الإنسان في حياتيه العلمية والعملية، وتدريب فكره على اختيار

* الشهاب: هو الأستاذ الإبراهيمي كاتب التلخيص.

ص: 344

الأنفع على النافع، والنافع على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب وترويضها عليه.

والإنسان يكتسب القوّة والدربة بتمرّسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره، وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة، وسائق لها ومُهَيِّئٌ لما يظهر أنه من بدواتها.

وهذا العمل الفكري تظهر قوّته في نواح منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر، وأدق منه التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين. فإن الخير درجات وأنواع، والشر كذلك دركات وأنواع.

والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه. وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر. وقد أمدّه الله بهذه المعونة من دينه الحق، ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد، وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة، والمبصرات عند عروض الشبهة، والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان وطواف طائفه. ومن هذه المعوذات عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك وهي شر، وحقائق تقي صاحبها الوهم وهو شر.

وعبادات تربي مقيمها على الخير وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. وأعمال تثبِّتُ فاعلها على الحق. وأقوال يمليها القلب العامر بتقوى الله والخوف من مقامه على الألسنة لتكون شهادة لها وعنوانًا عليها، والألسنة تراجمة القلوب، فكان ممّا شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل، وأنزل الله عليه هاتين السورتين وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن، وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ باسم الله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة.

أما السورتان فيكفي في فضلهما ما أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ خَيْرٌ مِنْهُنَّ قَطُّ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . وفي رواية أخرى في مسلم عنه تسميتهما بالمعوذتين، وفي رواية أبي أسامة في مسلم أيضًا وصف عقبة بن عامر بأنه كان من رفعاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فتسمية هاتين السورتين بالمعوذتين تسمية نبوية مأثورة كأسماء جميع سور القرآن، وقد يقال المعوذات ويراد بها ما يشمل سورة الإخلاص. وكفى بما فيها من أصول العقائد معاذًا من الشرك وهو أصل الشرور كلها.

وحديث مسلم هو أصح ما ورد في نزولهما، وأما ما يذكر في نزولهما في قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لم يصح سببًا لنزولهما، وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن

ص: 345

الأعصم أصل ثابت في الصحيح، وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما، وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما، ولنا فيما صح غنية عما لم يصح.

وهذه الخيرية التي أثبتها لهما حديث عقبة عند مسلم هي خيرية نسبية في ناحية مخصوصة، وهي ناحية التعوّذ بهما من الشرور العامة والخاصة المذكورة فيهما، ودليل هذه النسبية ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:«يا ابن عابس ألا أدلّك، أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون» ، قال: بلى يا رسول الله، قال:«قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، هاتين السورتين» .

فبيّن صلى الله عليه وسلم أن خيريتهما وأفضليتهما من جهة ما تشتملان عليه من معنى التعوذ، وهو من المعاني الداخلة في دائرة ما كلفنا الله به.

ولهاتين السورتين خصوصية غير المناسبات التي يذكرونها في ارتباط بعض السور بالبعض، ويستخرجون منها بالتدبر ما لا يحصى من الأنواع، وهذه الخصوصية هي ختم القرآن بهما وهما كالسورة الواحدة. فما هي الحكمة في ختم القرآن بهما؟ وترتيب السور توقيفي ليس من صنيع جامعي المصحف كما ذكره السيوطي في الإتقان وجماعة.

يستطيع ممارس القرآن ومتدبره ومتلقيه بالذهن المشرق والقريحة الصافية أن يستخرج من الحكم في هذا الختم بهما أنواعًا، ولكن أجلاها وأوضحها أنهما ختم على كنوز القرآن في نفس المؤمن. وتحصين لهذه النعم المنثالة من القرآن عليه أن يكدرها عليه كيد كائد أو حسد حاسد. فإن من أوتي الشيء الكريم ورزق النعمة الهنية هو الذي تمتد إليه أيدي الأشرار وألسنتهم بالسوء، وتقذفه عيونهم بالشرر وتتطلع إليه نفوسهم بالحسد والبغضاء، ويشتد عليه تكالبهم سعيًا في سلبه منه أو تكديره عليه، وبقدر النعمة يكون الحسد، وعلى مقدار نفاسة ما تملك تكون هدفًا لمكائد الكائدين، وتأتيك البلايا من حيث تدري ولا تدري، ومن أوتي القرآن فقد طوي الوحي بين جنبيه وأوتي الخير الكثير، فهو لذلك مرمى أعين الحاسدين ومهوى أفئدة الكائدين، فكان حقيقًا، وقد ختم القرآن حفظًا أو مدارسة أو تلاوة، أن يلتجئ إلى الله طالبًا منه الحفظ والتحصين من شر كل كيد وحسد يصيبه على هذا الخير العظيم الذي كمل له، وهذه النعمة الشاملة التي تمت عليه.

هذه حكمة، وأخرى: وهي أن من أوتي القرآن وتفقّه فيه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأحاط بالعلم من أطرافه وملك كنزه الذي لا ينفذ. وان من آفات العلم اغترار صاحبه به، وقد يتمادى به الغرور حتى يسوّل له أن ما أوتيه من العلم كافٍ في وقايته من الأضرار ونجاته من الأشرار، فكان من رحمة الله بصاحب القرآن ولطف تأديبه له، وحسن عنايته به، أن ختم بهاتين السورتين كتابه لتكونا آخر ما يستوقف القارئ المُتَفَقِّه، وينبهه إلى

ص: 346

أن في العلم والحكمة مسألة لم يتعلمها إلّا الآن، وهي أنه مهما امتدّ في العلم باعه واشتد بالحكمة اضطلاعه، فإنه لا يستغني عن الله ولا بد له من الالتجاء إليه والاعتصام به، يستدفع به شر الأشرار وحسد الحاسدين، وكفى بهذه التربية قامعًا للغرور، وإنه لشر الشرور.

هذه هي المناسبة العامة بين جميع القرآن مرتبًا ترتيبه التوقيفي وبين هاتين السورتين في اتحاد موضوعهما.

وأما المناسبة الخاصة بين السورتين وبين سورة الإخلاص، فهي أن سورة الإخلاص قد عرَّفت الخلق بخالقهم بما فيها من التوحيد والتنزيه والتمجيد. فإذا قرأتَ القرآن وتدبّرتَه على ترتيبه، ووجدتَ توحيد الله منبثًا في آياته وسوره، متجليًّا ذلك التجلي الباهر بمعارضه وصوره، سادًّا ببراهينه على النفوس كل ثنية وكل مطلع، كانت آخر مرحلة يقطعها فكرك من مراحل التوحيد في القرآن، هذه السورة المعجزة على قصرها، فكأنها توكيد لما امتلأت به نفسك من معاني التوحيد، وكأنها وصية مودعّ مشفق بمهمّ يخشى عليك نسيانه فيعمد فيها من الكلام إلى ما قلّ ودلّ ولم يملّ.

ومِن صِدقِك في توحيدك لله في ربوبيته وإلهيته، أن تنقطع عن هذا الكون وتكون منه وكأنك لست منه، بصدق معاملتك لله وإخلاص توحيدك إياه. فأنت وقد آمنت وصدّقت وخرجت من سورة الإخلاص متشبعًا بمعانيها، ومنها معنى الصمد، تستشعر أن العالم كله عجز وقصور، وأن خيراته مكدّرة بالشرور، وأن لا ملجأ إلّا ذلك الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤًا أحد، فَتَجِيءُ المعوذتان بعد الإخلاص مبينتين لذلك الالتجاء الذي هو من تمام التوحيد.

ولأجل هذه المناسبة والارتباط بين السور الثلاث جمع بينهن في التَسْمِيَةِ، ففي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث عن نفسه بالمعوذات، وسياق النسائي لحديث عقبة بن عامر المتقدم أن رسول الله قرأ وقرأت معه الإخلاص ثم قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فلما ختمهن قال:«ما تعوّذ بمثلهن أحد» . وكما جمع صلى الله عليه وسلم بينهن في التسمية والتعوذ جمع بينهن عمليًّا في قراءة الوتر.

هذا إجمال المناسبة الخاصة بين السور الثلاث.

ص: 347