الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدلّ أسلوب الفصلين على أن المؤلف كان متوجهًا إلى توليد فصل ثالث من الفصلين وهو فصل في الهيجان. وعلى هذا الفصل تتفرّع اللواحق التي بها يتمّ الكتاب
…
يا لله لهذه الأمة المسكينة! أكلّما طلبت رفدًا أو استنجزت وعدًا أو تعلّقت بسبب من أسباب الحياة وقف لها الكائدون بكل مرصد، وحالوا بينها وبين ما تريد، وركبوا الصعب والذلول في سبيل حرمانها من حقّها في الحياة، وقد كانوا قبل اليوم يركبون جميع الوسائل لمنع صوتها من الوصول إلى آذان العدل؟ فلما أعياهم هذا، واخترق الصوت الحجب على محافتها وأسمع داعيه وأوشك أن يستجاب، عدلوا إلى ما رأيت أثره، وسمعت خبره.
بدت بوارق الأمل في الحكومة الشعبية وآنست الأمة الجزائرية تبدّلًا في الأوضاع، فاجتمعت وعقدت المؤتمر وقرّرت المطالب، وأرسلت الوفد وأعلنت ثقتها بالحكومة الشعبية، لأنها بدأت بالجميل ووضعت كلمة الشفاء في أذن "العليل"، وبدأت بوادر الإصلاح تظهر، هنالك كبر على هؤلاء الكائدين أن يروا هذا الشعب متمتعًا ببعض حقوقه الطبيعية، متحليًا- تحت راية فرنسا- بما يناسب سمعة فرنسا وشرف فرنسا، فاهتبلوا حادثًا بسيطًا عاديًا- إن لم يكونوا سببًا فيه- وبنوا عليه ما أحرج الأمة ليخرجوها عن صوابها فيقع منها ما يسمّى في اصطلاحهم ثورة، ويسمّى مرتكبه في نظرهم ثائرًا، فإذا تمّ لهم ذلك كله تقطعت الصلات بين الأمة الجزائرية وبين الحكومة الشعبية، ولم يبق لجانب ثقة بالجانب الآخر وكان الربح المعجّل لهؤلاء الكائدين هو حرمان هذه الأمة من حقوقها والإمعان في إرهاقها وإذلالها إلى أن لا يبقى فيها عرق ينبض بالمطالبة بحق، ولولا أن الله- وله المنة وحده- فضح الكائدين بظهور الحق في الحادثة، لتمّ لهم ما يريدون وفوق ما يريدون ولقضوا على هذه الأشباح التي تؤرق جفونهم وتقضّ مضاجعهم ولكن تدبير الله فوق كل تدبير.
أول تحدِّ للمكيدة
اغتيل الشيخ كحول في رابعة النهار وفي يوم احتشدت فيه عشرات الألوف من الأمة الإسلامية لتسمع أعمال الوفد من رجاله ولتعلن ابتهاجها بالمرحلة التي قطعتها من حياتها الجديدة وهي إسماع صوتها لفرنسا .. وكانت خطبة أخينا الأستاذ العقبي في هذا الاجتماع الرائع صريحة في تحديد الآراء، فصيحة في التبليغ والأداء، بليغة في النصح بلزوم السكون.
وبلغنا خبر الاغتيال ونحن في غمرة من الفرح بنجاح الوفد في تبليغ أمانة الأمة للحكومة وفي تبليغ جواب الحكومة للأمة، فاستفظعنا الحادثة وقلنا: محال أن تسفك الدم يد صفقت طربا بيوم المؤتمر وبيوم سفر الوفد وبيوم رجوعه، ومحال أن يملي القتل قلب أفعم سرورًا بهذه المشاهد الثلاثة، ومحال أن تعيه أذن واعية للنصائح التي بثّت يوم المؤتمر ويوم الوفد،
وهما يومان لهما ما بينهما وما بعدهما، ومحال أن يرتكب هذا الجرم شخص يشعر بما تشعر به الأمة في هذه الأيام، إذًا فالقاتل ليس من الأمة إما حقيقة وإما حكمًا، وإذن فَهُوَ عدو للأمة يريد هو أو يريد من حرّكه للقتل أن يكدّر عليها صفوها وينغّص عليها سرورها، ولعلّ له من وراء ذلك مآرب أخرى أرادها وأدار الجريمة عليها، ولم يكن موضع الغرابة عندنا في ذلك اليوم قاتلًا ومقتولًا فهذا أمر اعتيادي يقع مثله في كثير من الأيام، ولكن موضع الغرابة أن يكون المقتول فلانًا وأن يكون قتله في ذلك اليوم وفي تلك الحصة التي هي منتصف الساعة العاشرة والاجتماع لم ينفضّ بعد.
شممنا رائحة الكيد من تلك اللحظة، ثم قرأنا في بعض الخطب والمقالات جملًا فيها دس وفيها تحريش، وفيها إشارات مبهمة فوكلنا الأمر إلى الله الحق، وانتظرنا التحقيق العدلي وبدأت الألسنة تهرف، والأقلام ترجف، والتحقيق يدور في طريق طامس إلى أن صدر الأمر بتفتيش نادي الترقّي وإدارة جمعية العلماء وإدارة جريدة البصائر، وعقب ذلك اعتقال الأستاذ الشيخ الطيب العقبي.
لم نندهش للتفتيش لعلمنا بنتائجه، ويقيننا أنه شيء اقتضته الاجراءات العدلية، وإنما أخذناه دليلًا مجسمًا على أن الحادثة رواية محبوكة الأطراف، وبعد التفتيش والختم وقع اعتقال الأستاذ العقبي فتجلّت المكيدة وتمّ تمثيل دورها الثاني في جو يدعو إلى الاستفزاز: الجمهور محتشد تتخلله قوات البوليس السري والعلني ومن ورائه الحرس المدني وقوات السينيقال (1) بمعداتها، وهذا المظهر كله يجمعه قولك: جذوة وريح.
وكيف لا يؤثر هذا المنظر في نفوس ترى، مع احترامها للأجراءات العدلية، ان من الحكمة الوصول إلى غايتها بغير هذه الصورة وعلى غير هذا الوجه؟
كانت النفوس ثائرة، ولكن الله لطف فكانت القيادة للعقل لا للعاطفة، وكانت الجماهير المحتشدة عند حسن الظن بها، ومن خفي لطف الله أن كان الأستاذ الأكبر الشيخ (عبد الحميد بن باديس) رئيس جمعية العلماء حاضرًا ومعه الأستاذ (محمد خير الدين) وكاتب هذه الأسطر وجماعة من الأساتذة العاملين في الجمعية فتقدمنا إلى الجمهور الحاشد أن يتلقّى الصدمة بالصبر، وأن يقابل المكيدة بما يحبطها ففعل وانقاد، وبثثنا في الأحياء دعاة يدعون إلى الهدوء والسكينة فامتثل الناس، ومرّت أيام اعتقال الأستاذ المظلوم من دون أن يحدث فيها ما يكدّر الأمن أو يخلّ بالنظام، وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبّريها وردّهم الله بغيظهم لم يبلغوا أملًا والحمد لله.
1) الجنود السنغاليون المجندون في الجيش الفرنسي.