المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأمّيّة* بسم الله الرحمن الرحيم   أيها الإخوة الكرام: إن الكمال والنقص وصفان يتعاقبان - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ١

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌هذه الآثار وتاريخ الجزائر:

- ‌ الحركة العلمية الإصلاحية الدينية

- ‌ الحركة السياسية

- ‌هذه الآثار وحياة الإبراهيمي:

- ‌ مرحلة التكوين والتحصيل الأولى (1889 - 1911):

- ‌ الرحلة المشرقية الأولى (1911 - 1920):

- ‌ مرحلة الإرهاصات (1920 - 1931):

- ‌ بدايات جمعية العلماء (1931 - 1940):

- ‌ قيادة الحركة الدينية والثقافية بالجزائر (1940 - 1952):

- ‌ الرحلة المشرقية الثانية (1952 - 1962):

- ‌ المرحلة الأخيرة (1962 - 1965):

- ‌مشروع الإبراهيمي النهضوي:

- ‌العلم

- ‌ الدين

- ‌الأخلاق

- ‌الإقتصاد

- ‌شخصية الإبراهيمي:

- ‌ الإسلام

- ‌الأقانيم الثلاثة في حياة الإبراهيمي وآثاره:

- ‌العروبة

- ‌الجزائر

- ‌هذه الطبعة الجديدة:

- ‌السياق التاريخي (1929 - 1940)

- ‌قبل تأسيس جمعية العلماء

- ‌محمد بن شنب*

- ‌التعاون الاجتماعي*

- ‌الإنسان أخو الإنسان*

- ‌الإنسانية: آلامها واستغاثتها*

- ‌خطبة جمعية*

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الخطابة والتمثيل*

- ‌نائب رئيس جمعية العلماء يتكلم

- ‌كيف تأسست جمعية العلماء الجزائريين*

- ‌القانون الداخليلجمعية العلماء المسلمين الجزائريين*

- ‌الفصل الأول: فيما يرجع إلى نظام الجمعية وإدارتها:

- ‌الفصل الثاني: لجنة العمل الدائمة:

- ‌الفصل الثالث: مقاصد الجمعية وغاياتها وأعمالها:

- ‌الفصل الرابع: في مالية الجمعية:

- ‌إفتتاح مسجد سطيف*

- ‌ديوان أبي اليقظان وجريدة النور*

- ‌الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس*

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريينالمجلس الإداري للجمعية

- ‌أعضاء مجلس الإدارة:

- ‌جلسة مساء الخميس:

- ‌جلسة يوم الجمعة الثاني عشر شوال 1350:

- ‌جلسة مساء يوم الجمعة:

- ‌جلسة يوم السبت:

- ‌جلسة مساء السبت:

- ‌مات شوقي

- ‌الإسلام والمسلمون*

- ‌وحدة الدين واللسان:

- ‌الإسلام والتاريخ:

- ‌الإسلام والبيان العربي:

- ‌هدي الإسلام في البيان العربي:

- ‌التربية الإسلامية والنقائص البشرية:

- ‌بُعد المسلمين عن الهداية الإسلامية:

- ‌جناية المسلمين على الإسلام:

- ‌شدّة تمسّك المسلمين بالنسبة للإسلام:

- ‌قاعدة الدعوة الإصلاحية وأسلوبها:

- ‌آية الإسلام في قوّة رسوخه في القلوب:

- ‌تعالوا نُسائلكم*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية

- ‌جمعيّة العلماء: دعوتها وغايتها*

- ‌ثلاث سنوات من عمر جمعيّة العلماء*

- ‌مُلخصُ خطاب ألقي بنادي الترقّي*

- ‌عرض الحالة العلميّة*

- ‌مقدّمة سجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء*

- ‌فلسفة جمعية العلماء*

- ‌تفرق أهل الكتب السماوية في الدين قبل الإسلام:

- ‌بدء تفرق المسلمين في الدين:

- ‌آثار الطرق السيئة في المسلمين:

- ‌دفع شبهة ونقض فرية في هذا المقام:

- ‌أول صيحة ارتفعت بالإصلاح في العهد الأخير:

- ‌نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر:

- ‌الخطوة الأولى:

- ‌الرأي الثاني

- ‌جمعية العلماء فكرة

- ‌جمعية العلماء عقيدة:

- ‌جمعية العلماء حقيقة واقعة:

- ‌موقف جمعية العلماء المسلمين من الطرق:

- ‌موقف الجمعية في التعليم:

- ‌موقف جمعية العلماء من البدع والمنكرات العامة:

- ‌موقف الجمعية من الالحاد:

- ‌موقف الجمعية من التبشير:

- ‌موقف الجمعية من بقية الرذائل:

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كما هي:

- ‌خاتمة

- ‌الأمّيّة*

- ‌إلى كتّاب "البصائر

- ‌كتاب "السعادة الأبدية

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌أشيخ الإسلام هو أم شيخ المسلمين

- ‌بين عالم وشاعر*

- ‌جواب الشاعر

- ‌لا يبني مستقبل الامّة إلا الأمّة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌اللغة العربية

- ‌الديانة

- ‌ 3

- ‌من آثار المؤتمر الإسلامي

- ‌يوم الجزائر*

- ‌أمس واليوم

- ‌سرّ تعليق الآمال على الجبهة الشعبية

- ‌فكرة المؤتمر

- ‌النقط التاريخية في المؤتمر:

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌قائمة القرارات:

- ‌قائمة الاقتراحات الفردية:

- ‌أهم مقررات المؤتمر:

- ‌اللجنة التنفيذية:

- ‌ما تمّ بعد المؤتمر ولم تنشره الصحف:

- ‌مطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌حقوق الأمّة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسية

- ‌مقدّمة

- ‌الأوضاع والمعاملات الخاصة:

- ‌النيابات:

- ‌أثر مشاركة جمعية العلماء في المؤتمر:

- ‌المؤتمر الجزائري الإسلامي العام:

- ‌كلمة عن وفد المؤتمر الإسلامي*

- ‌مقتل الشيخ كحول*

- ‌وقفة على أطلال الحادثة:

- ‌أول تحدِّ للمكيدة

- ‌مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي:

- ‌المستغربات في هذه الحادثة

- ‌مرامي الإشاعات الأولى:

- ‌الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه:

- ‌فتح نادي الترقّي وما يتّصل به:

- ‌آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائريةونتيجته للدّعوة الاصلاحيّة*

- ‌الإصلاح الدّيني لا يتمّ إلا بالإصلاح الإجتماعي

- ‌من قصيدة للأستاد الإبراهيمي*

- ‌إما سنّة وإما بدعة*

- ‌المؤتمر الإسلامي الجزائري*

- ‌إلى الطرقيين*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الدعوة إلى المناظرة:

- ‌إفتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان

- ‌ 1

- ‌الدعوة العامة

- ‌ 2

- ‌دعوة المجلس الإداري لجمعية العلماء

- ‌ 3

- ‌كلمة في «دار الحديث»

- ‌ 4

- ‌تحيّة «دار الحديث» للشاعر محمد العيد

- ‌تعطيل مدرسة «دار الحديث» *

- ‌المولد النبوي*

- ‌ختم ابن باديس لتفسير القرآن*

- ‌ تمهيد

- ‌ كلمة التصدير لهذا العدد*

- ‌ كلمة في الاحتفالات

- ‌ خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ

- ‌كلمة ببن يدي التلخيص:

- ‌سورة الفلق:

- ‌سورة الناس:

- ‌ خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم

- ‌ التعريف بالمشاركين في حفل ختم التفسير

- ‌تلمسان وابن خلدون*

- ‌العربية: فضلها علىالعلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية*

- ‌منشور إلى الأمتين الإسلامية والفرنسية*

- ‌الأستاذ محمد بن مرزوق*

- ‌ختم الدروس السنوية «بدار الحديث» *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌درس في التفسير(سعادة المسلمين في العمل بالقرآن)

- ‌من خطبة عيد الأضحى*

- ‌موقفنا من الطرقية وصحفها*

- ‌إلى جريدة "الإصلاح

- ‌تعزية الإبراهيمي فيفقدان السيد الرشيد بطحوش*

- ‌افتراء مستشرق*

الفصل: ‌ ‌الأمّيّة* بسم الله الرحمن الرحيم   أيها الإخوة الكرام: إن الكمال والنقص وصفان يتعاقبان

‌الأمّيّة*

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوة الكرام:

إن الكمال والنقص وصفان يتعاقبان على الفرد كما يتعاقبان على المجموع، وهذا الإنسان العاقل خُلق مستعدًّا للكمال، وقد هيّأ له خالقه الحكيم أسبابه ومكّن له وسائله، ونصب له في داخل نفسه وخارجها أمثالًا يحتذيها لبلوغ الكمال، ووضع بين عينيه صور الموجودات وعوارض الكمال والنقص فيها لينتزع من قوانين الكمال فيها قانون كماله، وليجتنب من علمه بأسباب نقصها أسباب نقصه، وإن كانت أصول الكمال والنقص في العالم الإنساني تختلف عن أصولها في غيره من العوالم، لأن لاختيار الإنسان مدخلًا كبيرًا وأثرًا قولًا في كماله ونقصه، والاختيار من خصائص هذا الإنسان.

ومما علمناه من شؤون الاجتماع البشري أن الكمال فيه نسبي إضافي، فما من كمال إلا وفوقه كمال، وأن الكمال في المجموع متوقف على الكمال في الأفراد، وأن النقص في المجموع مترتب على النقص في الأفراد؟ فمتى أخذ الأفراد بأسباب الكمال وسلكوا له وسائله كمل المجموع.

ومتى قعد الأفراد عن تعاطي أسباب الكمال فشت النقائص في المجموع.

وإنما تتفاوت حظوظ الأمم في الكمالات المكتسبة كالغنى والعلم والتضامن والتعاون والاتحاد والترقي في أسباب المعيشة.

* تقرير عن الأمية ألقي في مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي انعقد بنادي الترقي بالعاصمة في سبتمبر 1935، (كتاب سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المطبعة الإسلامية الجزائرية، قسنطينة، [ص:85 - 93]).

ص: 201

ويتضح من هذا كله أن كل ما يسمى من أحوال الأمم تطورًا هو في الحقيقة عبارة عن مداورتها بين النقص والكمال صعودًا وهبوطًا.

أيها الإخوة:

نحن نريد من الكمال هنا الكمال المكتسب الذي في مكنة الانسان الوصول إليه بالتعمل والتهمم والمزاولة، ولسنا نعي الكمال الخلقي التكويني الذي لا يد للمخلوق فيه، ذلك الكمال الذي يتفاوت فيه العاملون حتى يكونوا كما قال الشاعر:

وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا

إِلَى الْمَجْدِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ

وإن سنة الله في الأمم أنها تتقاعس عن الفضائل وتتناعس عن الكسب وتنغمس في النقائص فتتدهور إلى الحد الذي تقتضيه قوة تلك النقائص وأسبابها. فإذا أراد الله بها خيرًا بصّرها بتلك النقائص وأشعرها بمعنى الكمال، وأيقظ في نفوسها دواعيه فيأخذ أفرادها بأسباب الكمال متعاونين أو متنافسين حتى يصلوا إلى أقصى مراتبه.

فإذا شعروا ولم يعملوا لبلوغ الكمال مع القدرة على العمل فقد باءوا بالعيب الفاضح وكانوا هم المعنيين بقول المتنبي:

وَلَم أرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا

كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ

والكمالات- أيها الإخوة- كلما زادت في الأفراد كانت مقلدًا في قوة حيوية الأمم، كذلك النقائص هي نقص في حيوية الأمم، وقد تنتهي بالأمة إلى الفناء والعدم.

ومن الأمثلة الصريحة التي لا تحتاج إلى ترتيب الأقيسة في الاستدلال عليها، نقيصة الأميّة. فإنها لا تفشو في أمة وتشيع بين أفرادها إلا فتكت بها وألحقتها بأخس أنواع الحيوانات، ومكنت فيها للجهل والسقوط والذلة والمهانة والاستعباد.

الأميّة- بمعناها اللغوي العرفي- وهو الجهل بالقراءة والكتابة، مرض فتّاك، ونقيصة مجتاحة، ورذيلة فاضحة، وشلل وزمانة في جسم الأمّة التي تُبتلى بها. فإذا كنا نعرف من شؤون الأفراد أن من يصاب منهم بشلل تتعطل منه وظيفة العضو المصاب، كذلك يجب أن نعرف من شؤون الأمم هذه الآثار السيئة التي تنشأ عن الأمّية، وهي تعطيل المواهب والقوى مع الفرق العظيم بين تعطيل وظائف أجزاء الجسم وبين تعطيل أجزاء الأمّة.

لا تفشو الأميّة في أمّة إلا أفقدتها معظم خصائص الحياة.

وأكبر جناية تجنيها الأميّة على الأمم هي القضاء على التفكير. والتفكير هو المعيار الذي توزن به القيم العقلية في الأمّة سموًّا وإسفافًا. ومحال أن يسمو تفكير الأمي لأن فكره في

ص: 202

قفص من أمّيته، وهو كالطائر قصّ جناحاه فلا يغنيه مع ذلك أن يكون اسمه (طائر). وما دامت المدركات الإنسانية قاصرة على البسائط لا تتناول المدركات العليا، فإن التفكير يكون بسيطًا. فإن ارتفع قليلًا فذلك إما آت من فطرة سليمة أو من تجاريب صحيحة.

أما آفاق التفكير الفسيحة التي تسبح فيها أفكار المفكرين، فإنها لا تفتح إلا بالقراءة والدراسة. وأنّى للأمّي بهما. وان فيما نراه سائدًا في أوساطنا الجزائرية من بساطة التفكير وتدلّيه خصوصًا في الشؤون العامة، إن في ذلك الذي نراه ونشاهده ونتأسف له لدليلًا على أن هذه الأميّة هي أخت الوثنية في الفتك بالعقول وتعطيل مواهبها. فلا كانت الأميّة ولا كانت الوثنية، من رضيعتي لبان واحد، وربيبتي حجر واحد.

والأميّة، أيها الإخوان، تتفاوت شناعتها وقبحها في الأمم بتفاوت عهود البداوة والخضرمة والحضارة، فيهون أمرها نوعًا في الأمم البدوية القريبة من مناحي الفطرة في مظاهر حياتها. ومن هذا القبيل شأن العرب. فإن الأميّة لم تقعد بهم عن مجاراة أمم الحكمة وإن قعدت بهم عن مجاراة أمم العلم والصناعة. وما ذلك إلا لأن حياتهم كانت بسيطة غير معقدة. ومع ذلك فإن أهل الكتاب كانوا يعدّونها في العرب وصمة وحطة وسبب احتقار. فقد حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . والعرب أنفسهم كانوا يشعرون بغضاضة الأميّة كما يشعر الجاهل بغضاضة الجهل. وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} .

ونستثني من هذا كله حال نبيّنا صلى الله عليه وسلم ونعته بالأمّي، فإن ذلك كان لحكمة ظاهرة السر معقولة المعنى، وكان معجزة، والمعجزة من أفق آخر فوق العادات والقواعد والسنن.

ويتجلّى قبحها وشناعتها وغضاضتها في عهود الحضارة كحالنا اليوم، فإن الحياة في عهدنا تتطلب ممن يريدونها ويحرصون عليها تفكيرًا منظمًا ينبني عليه عمل منظم، وتتطلب منهم اضطرابًا في سكون وسلمًا في حرب وحربًا في سلم وأنواعًا شتّى من المصارعات بين الهوى والعقل في الحي الواحد وبين الحي والحي في الميدان الواحد وعلى المطلب الواحد. فهذا بعض ما تفرضه الحياة على الأحياء وتعدّه من شروطها. وأما الأميّة فإنها تطبع المصابين بها بطابع حيواني ساذج، فنراه حيًا كميت ومتحركًا كساكن، يضطرب من نفسه في المضطرب الضيّق ويقف عند حدود تفكيره وقفة الجبان الهيوب المتردّد، وتمرّ عليه مواكب الحياة المجدّة في السير والتنقّل، الممعنة في الحركة والتحوّل، وحظه من ذلك كله التفرج والاستغراب.

أيها السادة: إن الأمم الحية في وقتنا هذا ما حييت إلا بالعلم الاختباري التطبيقي، وأساس هذا العلم- وإن علا- القراءة والكتابة. ولما انتهى العلماء منهم إلى أبعد غاية في العلم وتسنموا منه أعلى ذروة، التفتوا يتبيّنون الطريق التي وصلوا منها إلى هذه الغايات

ص: 203

البعيدة، فرأوا أن مفتاح الباب الذي منه دخلوا ومبدأ الطريق الذي منه وصلوا هو "ألفبا"، وأن أول منعم عليهم بهذه النعم الجليلة هو أول من علّمهم هذه الحروف الضئيلة.

لذلك نرى من آثارهم ونسمع هن أخبارهم في نشر العلم ومحاربة الجهل ما يفوق الوصف، ونرى من أعمالهم ونسمع من أقوالهم في ذم الأميّة ومحاربة الأميّة ما نقضي معه بالعجب.

فهناك جهود تُبذل وأموال تُصرف وطرائق تُخترع للقضاء على الأميّة واقتلاع جرثومتها الخبيثة.

لأن القوم يعتبرونها- كما هي في الواقع- آفة اجتماعية مهلكة، فهم يحاربونها كما يحاربون الجراد والدود، ويقاومونها كما يقاومون الأوبئة والطواعين. ونحن نرى ظلّها كل يوم يتقلص من بين هذه الأمم، وطوفانها ينحسر حتى ليوشك أن لا يبقى في بعضها أمّي واحد.

وإن الإحصاءات الرسمية المدققة تدلّ دلالة قاطعة على أن القوم جادّون في هذه الحرب وأن عدد الأميّين كل يوم في تناقص، وأن نسبتهم كل عام في هبوط بحيث يقولون إن الأمّة الفلانية لم يبق فيها من الأميّين إلا عشرة في المائة والباقون كلهم قرّاء، وقد أصبحت هذه النسب محفوظة في تاريخ الأمم الحديثة ومعدودة من أحاديث فخرها ومجدها، إذ لا معنى لقلة الأميّين إلا كثرة المتعلمين وسعة انتشار العلم.

فأين نسبتنا من هؤلاء؟ وأين مساعينا من مساعيهم؟ وأين خطباؤنا؟ لم لا يحملون على الأميّة حملة شعواء؟ ولم لا يعطونها من الاهتمام ما أعطوه لقرن الثور وفضائل الشهور؟ وأين شعراؤنا؟ لم لا يشاركون في حملة منظمة ويدعون إليها بقصائدهم المثيرة المحركة؟ وأين علماؤنا الذين برّأهم الله من داء الأميّة؟ لماذا لا يسعون في تطبيب غيرهم منها؟ أم هم يريدون أن تبقى الأمّة أميّة ليبقوا سادات ومشائخ؟ فإن كان هذا مرادهم فأنبئوهم عني أنه ليس من الشرف السيادة على طغام، والرعاية على أغنام.

وأين أغنياؤنا؟ يخرجون الأموال ويشيّدون المدارس ويقفون في مكافحة هذا الداء الفتّاك موقف الأبطال؟

إخواني،

هذا حديث عن أضرار الأميّة وويلاتها. فهل حديث عن إزالتها ومقاومتها؟ وأي سلاح تحارب به هذه الأمّة الصمّاء؟

إني أظن أن أول هيئة اجتماعية فكرت في محاربة الأميّة بصورة منظمة في هذا الوطن هي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأن أول رجل أعرفه فكّر في مقاومة الأميّة بصورة

ص: 204

جدّية هو رئيسها المحترم. وأذكر أنني تحادثت معه في هذا المعنى، وقلّبنا وجوه الرأي فيه منذ سنوات، وربما كان ذلك قبل تأسيس الجمعية.

فبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هى أول هيئة علمية منظمة بهذا القطر، وعليها، لا على غيرها، يكون التعويل والاعتماد في هذه المسائل الكبيرة.

وبما أن هذا التقرير يلقى باسمها وفي مؤتمرها، فإن كل ما أعرضه عليكم يجب أن ينفّذ باسمها وأن تتوصل إلى تنفيذه بجاهها ونفوذها عند الأمّة من حيث إنها الجمعية الوحيدة التي أخذت على عاتقها خدمة الأمّة.

وأول ما يجب عليها أن تبدأ به هو توجيه نصائح عامة ونداءات صارخة تستفز بها شعور الأمّة، وتثير نخوتها وحماسها لتحمل على الأميّة بقضها وقضيضها حملة صادقة. وأقل ما يكون لهذه النصائح من التأثير أنها تهئ الأذهان وتشرع الطرق وتجعل لنا من الخامل الكسلان عونًا على نفسه.

وحيث إننا جرّبنا التعليم الموجود بقسميه فلم يفدنا في التخفيف من مصائب الأميّة، فقد قام الدليل على أنه غير كاف في المقصد الذي نتحدّث عنه وأن وسائله ناقصة، ووجب أن تضاعف الجهود وأن تنظم الخطط على قاعدة طبيعية بالنسبة إلينا، وهي أننا نريد تبديل الأميّة بتهذيب ولا نريد تبديلها بصناعة، لأننا نعتقد أن تبديل الأميّة بصناعة بالنسبة إلينا هو نوع من الأميّة وارد في غير اسمها.

والأميّة بالنسبة إلينا صارت مرضًا نفسانيًا، والأمراض النفسانية لا تداوى إلا بما يوافق المزاج الخاص.

هنا يتشعب العمل أمام جمعية العلماء لأنه كما يجب عليها أن تعالج الكبار من داء الأميّة، يجب عليها أن تحمي الصغار المعرّضين لغوائلها وفتكها.

أما الصغار، فإن المصل الواقي لهم من هذه العلة هي تلقينهم مبادئ القراءة والكتابة من الصغر.

وأقل ما يجب على الجمعية في هذا السبيل الوصايا والتحذيرات المؤكدة لآباء الناشئين لئلا يتراخوا أو يفرطوا في هذا الواجب.

ثم عناية خاصة مضاعفة بالتعليم الذي تقوم به الجمعية، يكون أساسه والقصد منه رفع الأميّة وحماية الناشئة منها.

وكلنا يعلم أن تعميم التعليم بقدر المستطاع قطع لانتشار الأميّة وتضييق لدائرتها.

ص: 205

ولقد كانت لجمعية العلماء جولات صادقة في هذا المضمار وهو تعليم الصغار رغم العراقيل والصعوبات. ولكنها الآن- وقد أرادت أن تحمل على الأميّة- أمام واجب أعظم يستدعي عملًا أوسع ومجهودًا أثقل.

وإذا نحن بذلنا كل ما يستطاع أن يبذل في سبيل تعليم الناشئة من أقوال وأفعال، رجعنا البصر إلى الكبار الذين فاتهم سن التعليم بحكم أعمارهم وشلّت الأميّة مواهبهم، فنجد الواحد منهم إنسانًا في صورته ونطقه، ولكنه ليس بإنسان إذا لزمه وضع خطه في وثيقة أو كتابة حرفين لأهله الغائبين أو قراءة ورقة استدعاء من حاكم أو قراءة تاريخ تتوقف على أجله المسمى مصلحة من مصالحه وتترتّب على فواته مفسدة ومضرّة.

وهذا القسم أحق بالشفقة والرحمة من سابقه، وأهم ما تعمله الجمعية في حق هؤلاء هو الجهود الفردية، فيجب أولًا أن تتقدم لكل أعضائها العامدين وتأخذ عليهم عهد الله وميثاقه على أن يعلم كل واحد منهم أميّا أو كثر من أقاربه مبادئ الكتابة والقراءة والعمليات الأربع في الحساب، ويحفظه سورًا من القرآن على صحتها.

وتتوسل الجمعية لهذا بطبع حروف الهجاء مركّبة ومفردة على صحائف من المقوى وبطبع الأرقام الحسابية كذلك، وبطبع سور من القرآن بالحرف الغليظ، وبطبع جمل تتضمن معاني مستقلة في العبادات والعقائد والفرائض.

ثانيًا: تعمد الجمعية إلى الجمعيات القانونية، وإن كانت قليلة عندنا، وإلى المجموعات التي يجتمع أفرادها في حرفة أو عمل كسائقي السيارات في بلدة أو صانعي الأحذية في سوق أو حومة (1)، فتتقدم إليهم بالنصيحة والإرشاد أولًا ثم بالعمل ثانيًا، لأن مثل هذه المجموعات أقرب إلى النظام والضبط لأنهم يجتمعون في الغالب في ساعة معيّنة وأكثر ما تكون في الليل.

وكيفية العمل مع هؤلاء أن تلزمهم بدفع مبلغ معيّن من المال في كل شهر ثم تلزم طالبًا من الطلبة أن يعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة وأرقام الحساب وبسائط عملياته في ساعتين من كل ليلة، في مقابلة ذلك المبلغ الشهري الذي يجمعونه.

مثلًا: ناد فيه مائة عضو منهم سبعون أميًّا يدفع كل واحد منهم ثلاثة فرنكات شهريًا فتلك 210 تعطى لطالب، ويعلّمهم الكتابة والقراءة، ويقال مثل ذلك في أصحاب الحرف المشتركين في الصنعة.

1) حيٌّ من أحياء مدينةٍ أو قرية.

ص: 206

فإذا استطعنا أن نعمم هذا الترتيب على عشرة نواد وعشرين مجموعة من أصحاب الحرف، فإننا نتوصل في مدة قريبة إلى تعليم نحو من ألفي رجل وإخراجهم من سجن الأميّة، وإلى إيجاد سبيل لمعيشة ثلاثين طالبًا أو إعانتهم على المعيشة.

وهما فائدتان مزدوجتان وغرضان شريفان يشرّف الجمعية جدًّا أن تقوم بهما.

فهاتان الطريقتان اللتان بسطناهما لتعليم الكبار هما أقرب الطرق تحققًا. وإذا كان في تنفيذ الثانية صعوبة، فإن في كل عمل صعوبة، ولكن همم الرجال تدك الجبال. وقد جرّبنا هذه الصعوبات فوجدناها دروسًا نافعة لنا وشاحذة لعزائمنا فلا ترمينا الليالي بحادثة إلا إذا أخذت من نفوسنا مأخذها ثم تركت فينا عزمًا وصلابة وتمرّسًا بمكاره الحياة.

هذا عرض مجمل للأميّة ومضارها وطرق مقاومتها، أعجلني الوقت عن استيعابه وإرسال القول فيه، وتحليله وتكثير طرائقه. وإذا ظهرت ثمراته، فسيكون ذلك داعيًا إلى إعادة القول وتفصيله. والله يأخذ بأيدينا وأيديكم.

ص: 207