الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محافظة على الفطرة الإنسانية، يشيع ذلك في أمثالهم، وأخلاقهم، وآدابهم، ولأن الله كرمهم باختيار آخر أنبيائه وخاتم رسله منهم، ولأن فرنسا عملت طيلة وجودها ب
الجزائر
على تحقير العروبة وتقليل شأنها في أعين الجزائريين لسلخهم منها وإبعادهم عنها، يقول الإمام الإبراهيمي: "إن العروبة جذم بشري من أرسخها عرقا، وأطيبها عذقا، عرفت التاريخ باديا وحاضرا، وعرف فيه الحكمة والنبوة، وعرفته الفطرة لأول عهودها فتبنته صغيرا وحالفته كبيرا
…
وإن العربية هي لسان العروبة، الناطق بأمجادها، الناشر لمفاخرها وحكمها، فكل مُدّعٍ للعروبة فشاهده لسانه، وكل معتز بالعروبة ذليل إلا أن تُمِدُّه هذه المضغة اللينة بالنصر والتأييد
…
إن الشعب الجزائري فرع باسق من تلك الدوحة الفينانة، وزهرة عبقة من تلك الروضة الغنّاء، عدَت عليه عوادي الدهر، فنسي مجد العروبة، ولكنه لم ينس أبوّتها، وابتلاه الاستعمار- عن قصد- بالبلبلة فانحرفت فيه الحروف عن مخارجها إلا الضاد" (24).
- الجزائر: يؤمن الإبراهيمي أن أوطان الإسلام كلها وطن المسلم، ولكنه لا ينكر الفطرة ولا يعاكسها في حنينها إلى مسقط الرأس وشوقها إلى مرابع الصبا والشباب، لذلك كانت الجزائر شغل خواطره، ونجوى سرائره، لأنها حازت الحُسْنَ كله فكانت "جَمْعًا" وكان غيرها "مفردات"، فلا عجب- إذًا- أن يلقى الأذى في سبيلها لذيذًا، والعذاب عَذْبًا، والنّصب راحة، والحياة لها سعادة، والموت من أجلها شهادة رغم أنه لم يملك من أرضها شبرًا، وقد لا يحوز في ثراها قبرًا. "إنه يعتقد أن في كل جزيرة قطعة من الحُسن وفيك الحسن جميعه، لذلك كُنَّ مفردات وكنت جَمْعًا، فإذا قالوا: "الجزائر الخالدات" رجعنا فيك إلى توحيد الصفة وقلنا "الجزائر الخالدة "، وليس بمستنكر أن تُجْمَعَ الجزائر كلها في واحدة
…
ويمينًا لو تبرجت لي المواطن في حُللها، وتطامنت لي الجبال بقُلَلِها، لتَفْتِنني عنك لما رأيت لك عديلا، ولا اتخذت بك بديلا
…
" (25).
ولعلّ مقاله "تحيّة غائب كالآيب" من أبلغ ما كُتب في حبّ الوطن.
هذه الطبعة الجديدة:
وفي الختام أتقدم بالشكر إلى كل من ساعدني على إخراج هذه الطبعة الجديدة، وأخص بالذكر:
24) ج 3، صلى الله عليه وسلم 57.
25) ج 4، صلى الله عليه وسلم 183 و184.
- الأخوين محمد خمار ومحمد الهادي الحسَني اللذين ساعداني في جميع مراحل إعدادها: جمع النصوص المطبوعة، قراءة النصوص المخطوطة، التصحيح وإعادة التصحيح، وضع الفهارس.
- الأستاذ سعد القاضي من مصر الذي قدم لي منذ عشرين سنة هدية ثمينة تتمثل في تسجيلات الأحاديث التي ألقاها الوالد بإذاعة "صوت العرب"، سنة 1955، والتي لم نجد لها نصا مكتوبا.
- الأستاذ الحبيب شيبوب من تونس الذي أرشدني إلى بعض النصوص لم تظهر في الطبعة الأولى، وهو الذي يحفظ كثيرا من آثار الوالد.
كما أتقدم بالشكر إلى الإخوة رفقاء الوالد وتلامذته الذين اتفقت رغبتهم مع رغبتي في تقديم هذه الآثار:
- الأستاذ عبد الرحمن شيبان الذي قدم الجزء الثاني.
- الدكتور أبي القاسم سعد الله الذي قدم الجزء الخامس.
- الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله الذي وعد بتقديم الجزء الرابع، ولكن حالت المنية دون الأمنية، فاخترت مقالًا كان كتبه عن الوالد سنة 1985، ليكون مقدمة للجزء الرابع.
- الشيخ أحمد سحنون الذي وعد بتقديم الجزء الثالث، ولكن حادثًا أليمًا حال دون ذلك.
- الدكتور عبد الرزاق قسوم الذي قدم الجزء الثالث، وهو من تلامذة تلامذة الوالد، ومغزى اختياره هو تواصل رسالة الإبراهيمي في الأجيال المتلاحقة.
- وقد طلبت من الأستاذ محمد الهادي الحَسَني أن يفتتح كل جزء بتوطئة عن "السياق التاريخي" للجزء، حتى لا يحكم القارئ على فترة معينة بعقلية اليوم ومقاييسه.
- الأستاذ الحبيب اللمسي، الذي أبى إلا أن يكون اسم " محمد البشير الإبراهيمي" ضمن قائمة مؤلفي "دار الغرب الإسلامي"، فله أسمى عبارات التقدير والامتنان، لما أحيى من تراث الغرب الإسلامي، ولما عرف بأعلام الغرب الإسلامي.
وقد استغرق العمل في تحضير هذه الطبعة الجديدة عامين كاملين، ولا أدعى له الكمال، بل أنا على يقين أن هناك مخطوطات وتسجيلات ومراسلات وحتى مطبوعات في كثير من أنحاء العالم الإسلامي لم نهتد إليها، لذا أغتنم هذه الفرصة لأوجه نداء لكل من يملك شيئا من هذا القبيل أن يوافينا بصورة منه حتى تكون الطبعة القادمة لـ"آثار الإمام الإبراهيمي" أوسع وأنفع.
ويلاحظ القارئ أنني أدرجت بعض رسائل الإبراهيمي في هذه "الآثار" وكان من المنطقي، وكان من المفروض أن يخصص جزء منها لرسائله، ولكنني- مع الأسف- لم أعثر على أهم رسائله التي اطلعت على كثير منها في ظروف لا بد أن أشير إليها.
في سنة 1948، اقتنى الوالد- رحمه الله آلة كاتبة، ولعلها أول آلة راقنة بالعربية دخلت الجزائر، وهي من نوع olivetti، وطلب مني أن أتعلم الرقن، وصار في كل ليلة- بعد أن ينام أفراد الأسرة- يملي علي رسائله، وهكذا من 1948 إلى 1951 أملى علي مئات الرسائل، كانت في البداية مقتصرة على أصدقائه: محمد نصيف بجدة، تقي الدين الهلالي ببغداد، محمد بهجة البيطار بدمشق. إبراهيم الكتّاني بالمغرب الأقصى، ثم كثر المراسلون بعد انتشار جريدة "البصائر" في أنحاء العالم، وأذكر من بين هؤلاء: عبد اللطيف دراز بالقاهرة، عبد الكريم جرمانوس بالمجر، بعض أدباء المهجر بالبرازيل. وما زلت أذكر رسائل إلى مصطفى النحاس، رئيس وزراء مصر، وطه حسين وزير المعارف سنة 1950 بعد أن قررت مصر فتح مركز ثقافي بالجزائر ثم تراجعت أمام ضغوط فرنسية.
من خلال هذه الآثار، ومسيرة الإبراهيمي تتجلى للقارئ صورة واضحة عن تاريخ الجزائر الحديث من ليل طويل للاستعمار الذي استولى على الأرض، وأراد استعباد أهلها، واقتلاعهم من جذورهم الضاربة في أعماق التاريخ، إلى تصدي الحركة الوطنية- وجمعية العلماء جزء منها- لتلك الممارسات وامتداداتها، من طرقية تشجع الشعوذة والخرافات، والإلحاد والتبشير والاستشراق، والمسخ الثقافي الخ
…
فهناك تلازم بين حياة الإبراهيمي ونضال الشعب الجزائري، بلغ أقصى درجات تفاعله الإيجابي في اللحظات الأولى لاندلاع الثورة المسلحة المباركة سنة 1954، حين حث الإبراهيمي من القاهرة أبناء وطنه على احتضان هذه الثورة والانضمام إليها، باعتبارها تتويجا لمرحلة طويلة من الإعداد المادي والمعنوي للشعب الجزائري.
كان الإبراهيمي- طيب الله ثراه- يدرك في أعماقه أن الاستقلال آت لا محالة، متى هانت التضحيات في سبيله، وكان يدرك أن هذا الاستقلال لن يكون سوى مرحلة في صراعنا الحضاري ضد قوى الاستعمار في مختلف أشكاله، أي أن أبناء الجزائر مطالبون بالإبقاء على تلك الجذوة الروحية حية في صدورهم، لأنها تعطي لحياتهم معنى، وتجعل لوجودهم عنوانا
…
وكان يحلم بذلك المجتمع الذي يضمن لكل أبنائه العفاف والكفاف، ويجمع في انطلاقته نحو المستقبل بين الأصالة والمعاصرة، بما تعنيانه من اعتزاز بمقوّمات الشخصية الوطنية، وأخذ سبيل العلم على مدارج الرقي والتقدّم.
الجزائر في الفاتح من نوفمبر 1996.
أحمد طالب الإبراهيمي