الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجمع الناس لمدارسة علم، وإنما تجمعهم لتحكيم وهم، وأقول في نفسي إذا لم تجتمع قلوبنا في حرم رسول الله على دين الله، فهل ينفعنا اجتماع الأبدان؟
ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن جمعية العلماء لم تنفق أوقاتها كلها ولم توجه قواتها بأجمعها إلى هذه الجهة فقط كما يتوهم بعض الواهمين، بل إن للجمعية برنامجًا إصلاحيًا عمليًا حكيمًا، وهي موزعة أعمالها على فصوله، معطية كل فصل ما يستحقه، واقفة في كل عمل عند ما يتهيأ لها من وسائله، ويتيسر من أسبابه، ولو لم يتجهم لها الزمن، ولم تصادمها العقبات المتنوعة، ولم تقف في وجهها العوائق المتكررة، لسارت في جميع فروع الإصلاح التي يشملها برنامجها سيرًا حثيثًا، ولكنها تحمد الله على تلك المكاره التي شددت من عزائمها، وسددت من خطاها، وكملت من حنكتها، وزادتها ثباتًا في الحق، أضعاف ما تحمده على المحابّ التي تسرّ وقد تغر.
موقف الجمعية في التعليم:
موقف الجمعية في التعليم العربي والديني هو أبرز مواقفها، فقد كان التعليم العربي الحر يدور في دائرة ضيقة من أمكنته وأساليبه وكتبه، فسعت الجمعية بما استطاعت من أسباب أن توسع دائرة الأمكنة بإحداث مكاتب حرة للتعليم المكتبي للصغار، وبتنظيم دروس في الوعظ والإرشاد الديني في المساجد، وبتنظيم محاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة في النوادي، وصحبها توفيق الله تعالى فنجحت مساعيها في هذا الباب نجاحًا عظيمًا، وأثمرت أعمالها اثمارًا نافعًا، ولولا موانع من الأحكام الإدارية الجائرة في غلق بعض المكاتب، والتضييق في إعطاء الرخص، وإيصاد المساجد في وجوه الوعاظ لكانت النتيجة اليوم مما تغتبط به الجمعية العاملة المخلصة، وتغتبط به الأمة المتعطشة المقبلة، وتغتبط به الحكومة التي يجب أن تحكم على الأشياء بنتائجها، وإن كانت حكومتنا إلى الآن- مع الأسف- تتجاهل هذه النتائج أو ترتاب فيها أو تتصورها على خلاف ما هي عليه.
كذلك سعت الجمعية إلى إصلاح أساليب التعليم، فقضت في تعليمها بقسميه المكتبي والمسجدي على تلك الأساليب العتيقة العقيمة التي كان يباشر بها التعليم، والتي ما زالت مثارًا للشكوى والتذمر في مكاتب التعليم ومعاهد العلم بغير الجزائر، ولم تستطع تلك المكاتب والمعاهد التخلص منها مع ظهور فسادها.
أما في المساجد فطريقة الجمعية في الوعظ والتذكير هي طريقة السلف، تذكر بكتاب الله، تشرحه وتستجدي عبره، وبالصحيح من سنّة رسول الله، تبينها وتنشرها، وبسيرته
العملية، تجلوها وتدل الناس على مواضع التأسي منها، ثم سير الصحابة وهديهم، ثم سير حملة السنة النبوية، وحملة الهدي المحمدي في أقوالهم وأعمالهم كذلك.
وأسلوب الجمعية في التعليم الديني في المساجد على إطلاقه العناية بالمعنى والنفوذ إلى صميمه من أقرب طريق يؤدي إليه، وتجليته للسامعين بالصور العملية التطبيقية، والإعراض عن اللفظيات والخلافات وكل ما يشوش أو يبعد عن تصور المعنى المقصود.
وأما التعليم المكتبي فأسلوب الجمعية في تلقين العربية هو أحد مفاخرها، فهي تعهد إلى الأساتذة الذين هم لنظرها بتلقين التلامذة أبسط القواعد في أسهل التراكيب، ثم تمكينها من نفوسهم بالتمرينات التطبيقية، والحرص على اشرابهم معنى ما يقرأون والاجتهاد في تربية ملكة الذوق والاستنتاج في نفوسهم، وفي إصلاح اللهجات التي حرفتها العامية عن سبيلها العربي وتقويم اللسان على الحروف وهيأتها ومخارجها، والتشجيع على التكلم أمام الناس بما يمليه الخاطر من غير اعتماد على وحي معلم أو كتاب، واقتلاع تلك العادة السيئة التي كانت سائدة في المكاتب، عريقة في الأوضاع المنزلية، وهي عادة الهيبة والحصر. وللجمعية- بحَمْدِ الله- في هذا الباب أساتذة لا يقصرون عن كمال، ولا يدفعون عن أولية.
وقد ظهرت نتائج هذا التعليم جلية في كل تلميذ قرأ في المكاتب التي لنظر الجمعية ولو مدة قليلة. فاستقامت الألسنة، وصحت اللهجات، وبدأت ملكة الخطابة تنطبع في بعض البلابل البشرية، ويرجى أن يكون لهذا مبدإ الحسن ختام أحسن منه.
ويدخل في باب التعليم المكتبي قراءة القرآن، فالجمعية تعطيه جزءًا من اهتمامها، وكيف لا تهتم بالقرآن وهو سلاحها الذي به تناضل، وسيفها الذي به تصول، وعدتها في الشدة، وعلى الدعوة إليه بنت مبدأها الإصلاحي، وفي الدعوة إليه لقيت الأذى، ورميت بالعظائم؟
إن جمعية العلماء على ما خدمت به القرآن من تبيين حقائقه للناس، ونشر فضائله بينهم، وتحبيبه إلى نفوسهم، وشرح مزاياه فيهم، وجعله أساسًا في التذكير والوعظ- على كل ذلك تتمنى لو تتفسح أمامها السبل، ويخف عنها ما تلاقيه في طريقها من معاكسة الطرقيين وأذنابهم، وإعنات الحكومة وعمالها- لتقوم كل القيام بما يجب عليها للقرآن من حق، فتنشئ من أبناء الأمة جيلًا قرآنيًا يتقن حفظ القرآن وأداءه، ويحسن فهمه والعمل به ويتخلق بأخلاقه ويتربى على هديه، ثم ينشر بواسطته دين الله في أرض الله.
ومن فروع التعليم المكتبي تعليم الأميين من الكبار مقدار ما يرفع الأمية عنهم، وهذا الفرع من أهم فروع التعليم في نظر الجمعية، ولها فيه الأمل الفسيح وإذا كانت أعمالها فيه
لحدّ الآن قليلة، ومساعيها ضئيلة، فإن مقاصدها في محاربة الأمية جليلة، ومتى تم استعدادها لهذه المسألة من تعميم الشُّعَب وتيسر المال فإنها ستشن على الأمية غارة شعواء، وستبلغ منها ما تريد ان شاء الله.
وأما المحاضرات التهذيبية فأسلوب الجمعية فيها أسلوب الخطابيات المؤثرة في العقول، الحافزة للنفوس، المنبهة للمشاعر على طريقة الترغيب والترهيب.
وللجمعية- من فضل الله- ألسنة سيالة، ومحاضرون قد بلغوا الغاية، فصاحة ورباطة جأش، ونصاعة لفظ، وتفننًا في المواضيع وملكًا لها، ومتانة إلقاء.
هذا شأنها في إصلاح الأسلوب، وأما إصلاح الكتب فإن عمدة الجمعية في التذكير على كتاب الله، وحديث نبيه عليه الصلاة والسلام، ومدرسوها ما منهم إلّا من له في العلم مقام معلوم، وهم يلتزمون في تذكيرهم الأحاديث التي صحت أسانيدها ومتونها، ودواوين الحديث الصحيحة المعتمدة موجودة متوافرة، فلا عناء في هذا الباب ومن بركات جمعية العلماء على هذا القطر أن أمهات التفسير الموثوق بها وكتب الحديث الصحيحة راجت بين الناس، وعمرت الخزائن، واكتسحت تلك الكتب التي ضللت الناس وقتلت مشاعرهم، وان الأحاديث الصحيحة بدأت تتداول على الألسنة، وتتناول في المجالس، وترصع أحاديث الناس في مواطن الاستدلال، وان رواية الحديث بدأت تنتعش.
أما الدروس الأخرى فإن الجمعية تختار لها من الكتب ما هو أقرب إلى الإفادة وأعون على تحصيل الملكة العلمية، وتجتنب الكتب الجامدة المعقدة التي لا تفتق ذهنًا ولا تبعث في نفس الدارس نشاطًا، وتختار للمطالعة في مختلف العلوم، الكتب الحية السهلة، وليس هذا محل تفصيل القول في الكتب وما لها من أثر في نفس الدارس والمطالع، وما لها من دخل في نتائج التعليم، وإن ميدان القول فيها وفي صالحها وفاسدها لفسيح وان في رجال الجمعية البارزين لمن هو من أهل الاختصاص في هذا الباب.
إن جمعية العلماء تبث في أساتذتها وتلامذتها وجميع أعضائها والمتعلمين على طريقتها روح المطالعة النافعة، والبحث العلمي السديد، وترشدهم إلى كيفية المطالعة وطرائق البحث في التاريخ والاجتماع والأدب، والرجال والكتب، وإذا كان المتأهلون لهذه المباحث الآن تصدهم عنها شواغل الدروس وغيرها، فإن النهضة الجزائرية العلمية التي كونتها جمعية العلماء، والحركة الفكرية التي غذتها ستتمخضان بناشئة تساهم في الابحاث العلمية ان شاء الله مساهمة قيمة.