المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بدء تفرق المسلمين في الدين: - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ١

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌هذه الآثار وتاريخ الجزائر:

- ‌ الحركة العلمية الإصلاحية الدينية

- ‌ الحركة السياسية

- ‌هذه الآثار وحياة الإبراهيمي:

- ‌ مرحلة التكوين والتحصيل الأولى (1889 - 1911):

- ‌ الرحلة المشرقية الأولى (1911 - 1920):

- ‌ مرحلة الإرهاصات (1920 - 1931):

- ‌ بدايات جمعية العلماء (1931 - 1940):

- ‌ قيادة الحركة الدينية والثقافية بالجزائر (1940 - 1952):

- ‌ الرحلة المشرقية الثانية (1952 - 1962):

- ‌ المرحلة الأخيرة (1962 - 1965):

- ‌مشروع الإبراهيمي النهضوي:

- ‌العلم

- ‌ الدين

- ‌الأخلاق

- ‌الإقتصاد

- ‌شخصية الإبراهيمي:

- ‌ الإسلام

- ‌الأقانيم الثلاثة في حياة الإبراهيمي وآثاره:

- ‌العروبة

- ‌الجزائر

- ‌هذه الطبعة الجديدة:

- ‌السياق التاريخي (1929 - 1940)

- ‌قبل تأسيس جمعية العلماء

- ‌محمد بن شنب*

- ‌التعاون الاجتماعي*

- ‌الإنسان أخو الإنسان*

- ‌الإنسانية: آلامها واستغاثتها*

- ‌خطبة جمعية*

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الخطابة والتمثيل*

- ‌نائب رئيس جمعية العلماء يتكلم

- ‌كيف تأسست جمعية العلماء الجزائريين*

- ‌القانون الداخليلجمعية العلماء المسلمين الجزائريين*

- ‌الفصل الأول: فيما يرجع إلى نظام الجمعية وإدارتها:

- ‌الفصل الثاني: لجنة العمل الدائمة:

- ‌الفصل الثالث: مقاصد الجمعية وغاياتها وأعمالها:

- ‌الفصل الرابع: في مالية الجمعية:

- ‌إفتتاح مسجد سطيف*

- ‌ديوان أبي اليقظان وجريدة النور*

- ‌الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس*

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريينالمجلس الإداري للجمعية

- ‌أعضاء مجلس الإدارة:

- ‌جلسة مساء الخميس:

- ‌جلسة يوم الجمعة الثاني عشر شوال 1350:

- ‌جلسة مساء يوم الجمعة:

- ‌جلسة يوم السبت:

- ‌جلسة مساء السبت:

- ‌مات شوقي

- ‌الإسلام والمسلمون*

- ‌وحدة الدين واللسان:

- ‌الإسلام والتاريخ:

- ‌الإسلام والبيان العربي:

- ‌هدي الإسلام في البيان العربي:

- ‌التربية الإسلامية والنقائص البشرية:

- ‌بُعد المسلمين عن الهداية الإسلامية:

- ‌جناية المسلمين على الإسلام:

- ‌شدّة تمسّك المسلمين بالنسبة للإسلام:

- ‌قاعدة الدعوة الإصلاحية وأسلوبها:

- ‌آية الإسلام في قوّة رسوخه في القلوب:

- ‌تعالوا نُسائلكم*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية

- ‌جمعيّة العلماء: دعوتها وغايتها*

- ‌ثلاث سنوات من عمر جمعيّة العلماء*

- ‌مُلخصُ خطاب ألقي بنادي الترقّي*

- ‌عرض الحالة العلميّة*

- ‌مقدّمة سجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء*

- ‌فلسفة جمعية العلماء*

- ‌تفرق أهل الكتب السماوية في الدين قبل الإسلام:

- ‌بدء تفرق المسلمين في الدين:

- ‌آثار الطرق السيئة في المسلمين:

- ‌دفع شبهة ونقض فرية في هذا المقام:

- ‌أول صيحة ارتفعت بالإصلاح في العهد الأخير:

- ‌نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر:

- ‌الخطوة الأولى:

- ‌الرأي الثاني

- ‌جمعية العلماء فكرة

- ‌جمعية العلماء عقيدة:

- ‌جمعية العلماء حقيقة واقعة:

- ‌موقف جمعية العلماء المسلمين من الطرق:

- ‌موقف الجمعية في التعليم:

- ‌موقف جمعية العلماء من البدع والمنكرات العامة:

- ‌موقف الجمعية من الالحاد:

- ‌موقف الجمعية من التبشير:

- ‌موقف الجمعية من بقية الرذائل:

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كما هي:

- ‌خاتمة

- ‌الأمّيّة*

- ‌إلى كتّاب "البصائر

- ‌كتاب "السعادة الأبدية

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌أشيخ الإسلام هو أم شيخ المسلمين

- ‌بين عالم وشاعر*

- ‌جواب الشاعر

- ‌لا يبني مستقبل الامّة إلا الأمّة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌اللغة العربية

- ‌الديانة

- ‌ 3

- ‌من آثار المؤتمر الإسلامي

- ‌يوم الجزائر*

- ‌أمس واليوم

- ‌سرّ تعليق الآمال على الجبهة الشعبية

- ‌فكرة المؤتمر

- ‌النقط التاريخية في المؤتمر:

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌قائمة القرارات:

- ‌قائمة الاقتراحات الفردية:

- ‌أهم مقررات المؤتمر:

- ‌اللجنة التنفيذية:

- ‌ما تمّ بعد المؤتمر ولم تنشره الصحف:

- ‌مطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌حقوق الأمّة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسية

- ‌مقدّمة

- ‌الأوضاع والمعاملات الخاصة:

- ‌النيابات:

- ‌أثر مشاركة جمعية العلماء في المؤتمر:

- ‌المؤتمر الجزائري الإسلامي العام:

- ‌كلمة عن وفد المؤتمر الإسلامي*

- ‌مقتل الشيخ كحول*

- ‌وقفة على أطلال الحادثة:

- ‌أول تحدِّ للمكيدة

- ‌مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي:

- ‌المستغربات في هذه الحادثة

- ‌مرامي الإشاعات الأولى:

- ‌الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه:

- ‌فتح نادي الترقّي وما يتّصل به:

- ‌آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائريةونتيجته للدّعوة الاصلاحيّة*

- ‌الإصلاح الدّيني لا يتمّ إلا بالإصلاح الإجتماعي

- ‌من قصيدة للأستاد الإبراهيمي*

- ‌إما سنّة وإما بدعة*

- ‌المؤتمر الإسلامي الجزائري*

- ‌إلى الطرقيين*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الدعوة إلى المناظرة:

- ‌إفتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان

- ‌ 1

- ‌الدعوة العامة

- ‌ 2

- ‌دعوة المجلس الإداري لجمعية العلماء

- ‌ 3

- ‌كلمة في «دار الحديث»

- ‌ 4

- ‌تحيّة «دار الحديث» للشاعر محمد العيد

- ‌تعطيل مدرسة «دار الحديث» *

- ‌المولد النبوي*

- ‌ختم ابن باديس لتفسير القرآن*

- ‌ تمهيد

- ‌ كلمة التصدير لهذا العدد*

- ‌ كلمة في الاحتفالات

- ‌ خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ

- ‌كلمة ببن يدي التلخيص:

- ‌سورة الفلق:

- ‌سورة الناس:

- ‌ خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم

- ‌ التعريف بالمشاركين في حفل ختم التفسير

- ‌تلمسان وابن خلدون*

- ‌العربية: فضلها علىالعلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية*

- ‌منشور إلى الأمتين الإسلامية والفرنسية*

- ‌الأستاذ محمد بن مرزوق*

- ‌ختم الدروس السنوية «بدار الحديث» *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌درس في التفسير(سعادة المسلمين في العمل بالقرآن)

- ‌من خطبة عيد الأضحى*

- ‌موقفنا من الطرقية وصحفها*

- ‌إلى جريدة "الإصلاح

- ‌تعزية الإبراهيمي فيفقدان السيد الرشيد بطحوش*

- ‌افتراء مستشرق*

الفصل: ‌بدء تفرق المسلمين في الدين:

ودونه تنافح، وما الحركة الإصلاحية في يومنا هذا بضئيلة الأثر ولا هي بقليلة الأتباع، وإن هذا لموضع الرجاء في رجوع المسلمين إلى القرآن.

أي شباب الإسلام: حملة الأمانة ومستودع الآمال وبناة المستقبل وطلائع العهد الجديد.

خذوها فصيحة صريحة لا تتستر بجلباب، ولا تتوارى بحجاب.

إن علتكم التي أعيت الأطباء واستعصت على حكمة الحكماء هي من ضعف أخلاقكم ووهن عزائمكم. فداووا الأخلاق بالقرآن تصلح وتستقم، وأسوا العزائم بالقرآن تقو وتشتد.

وإن الذي قعد بأمتكم عن الصالحات وأعدها لها في أخريات القافلة هو اختلاف قلوبها وتشتت أهوائها. فأجمعوا على القرآن آخرها كما جمع محمد صلى الله عليه وسلم أولها، ينتج لكم هذا الآخر ما أنتجه ذلك الأول من عزائم شداد، وألسنة حداد، وهمم كبيرة، وعقول نيرة.

وإن أول أمتكم شبيه بآخرها عزوفًا عن الفضائل، وانغماسًا في الرذائل فلم يزل بها هذا القرآن حتى أخرج من رعاة النعم، رعاة الأمم، وأخرج من خمول الأمية أعلام العلم والحكمة. فإن زعم زاعم أن الزمان غير الزمان، فقولوا: ولكن الإنسان هو الإنسان.

وإن هذا القرآن وسع الحياة الأبدية فبينها حتى فهمها الناس واعتقدوها وسعوا لها سعيها فكيف لا يسع حياتكم هذه

؟

أي شباب الإسلام: إن الأوطان تجمع الأبدان، وان اللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلفها ويصل بين نكرات القلوب فيعرفها هو الدين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيقة ولكن التمسوها في الدين والتمسوها من القرآن تجدوا الأفق أوسع، والدار أجمع، والعديد كثير، والقوى أوفر.

‌بدء تفرق المسلمين في الدين:

أقام سلفنا الصالح دين الله كما يجب أن يقام، واستقاموا على طريقته أتم استقامة، وكانوا يقفون عند نصوصه من الكتاب والسنة، لا يتعدونها ولا يتناولونها بالتأويل، وكانت أدواتهم لفهم القرآن، روح القرآن وبيان السنة ودلالة اللغة والاعتبارات الدينية العامة، ومن وراء ذلك فطرة سليمة وذوق متمكن ونظر سديد وإخلاص غير مدخول واستبراء للدين قد بلغ من نفوسهم غايته وعزوف عن فتنة الرأي وفتنة التأويل.

ص: 163

أدبهم قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، وقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، فكانوا أحرص الناس على وفاق، وكانوا كلما طاف بهم طائف الخلاف في مسألة دينية بادروه بالرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله فانحسم الداء وانجابت الحيرة.

وكان العلماء هم المرجع الأعلى للعامة في كل ما يحزبُها من شؤون دينها يرجعون إليهم بلا عصبية ويصدرون عن رأيهم بلا عصبية، وكان العلماء يمثلون الاستخلاف الديني والوراثة النبوية تمام التمثيل، يقودون الأمة بالحق إلى الحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا تأخذهم في الله لومة لائم.

وأول ما نشأ في المجتمع الإسلامي من جراثيم التفرق في الدين الكلام في القدر والخوض في الصفات، وقارن ذلك حدوث الخلاف في الخلافة هل هي شعبة من الدين تفتقر إلى تنصيص من الشارع، أو هي مصلحة دنيوية ترجع إلى اختيار أهل الرأي من الأمة، وقد سبق الخلاف العملي الخلاف العلمي في هذه المسألة، وهي المعترك الأول الذي اشتجرت فيه الآراء حتى تطرفت، بعد أن اشتجرت فيه الرماح حتى تقصفت، كما أنها أول مسألة امتزجت فيها الأنظار الدينية بالأنظار الدنيوية (أو السياسة) كما يقولون اليوم، وفي هذا المعترك نبتت جرثومة التعصب الخبيثة.

ثم توسعت الفتوحات وبسط الإسلام ظله على كثير من الممالك التي كانت لها أثارة من عمران وشيء من سلطان، ودانت له كثير من الأمم، وفي كل أمة طوائف دخلت في الإسلام وهي تحمل أوزارًا من بقايا ماضيها، وما كادت هذه المجموعات البشرية تمتزج ويفعل الإسلام فيها فعله، حتى ظهرت عليها أعراض التفرق.

فظهر أصحاب المقالات في العقائد، وأحدثوا بدعة التأويل الذي هو في الحقيقة تحريف مسمى بغير اسمه.

وتوفرت الدواعي لظهور المذاهب الفقهية والمذاهب الكلامية والمذاهب الصوفية في أزمنة متقاربة، وكان لترجمة الفلسفة اليونانية والحكمة الفارسية والهندية أثر قوي في تعدد المذاهب الكلامية والصوفية، بما أتت به الأولى من بحث في الالهيات على الطريقة العقلية الصرفة، وبما غذّت به المتكلمين من الأنظار المختلفة وأمدتهم به من طرائق الجدل وقوانينه، وهذا، هو مبدأ التفرق الحقيقي في الدين، لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام، والصوفية يقولون إن علومهم هي لباب الشريعة وحقيقتها.

أما المذاهب الفقهية فحدوثها ضرووي وطبيعي ما دامت السنة لم تجمع، وبعد جمعها لم تكن وافية بالتنصيص على الوقائع. الجزئية، ومتونها وأسانيدها بعد خاضعة للتزكية

ص: 164

والتجريح لأنها لم تنقل بطريق التواتر، وما دامت مدارك المجتهدين الذين هم المرجع في هذا الباب متفاوتة بالقوّة والضعف في الاستنباط ووجوه القياس وعلله، وما دامت الوقائع التي تناط بها الأحكام لا تنضبط، وقد استحدث العمران أنواعًا جديدة من المعاملات الدنيولة لا عهد للإسلام الفطري بها، وصورًا شتى من المعايش ووجوه الكسب لم تكن معروفة، فمن سماحة التشريع الإسلامي ومرونته أن تتناول هذه المستحدثات الجديدة بأنظار جديدة، وتستنبط من أصوله أحكام لفروعها، وكل هذا لا حرج فيه وليس داخلًا فيما نشكوه، بل نحن أول من يقدر قدر تلك الأنظار الصائبة والمدارك الراقية، ويقيمها دليلًا على اتّساع التشريع الإسلامي لمصالح الناس، وصلاحيته لجميع الأزمنة، وينكر على من سدّ هذا الباب على الأمة فزهّدها في استجماع وسائله، ونحن أول من يقدر قدر أولئك الأئمة العظام الذين هم مفاخر الإسلام.

والمذاهب الفقهية في حدّ ذاتها ليست هي التي فرقت المسلمين، وليس أصحابها هم الذين ألزموا الناس بها أو فرضوا على الأمة تقليدهم، فحاشاهم من هذا، بل نصحوا وبينوا وبذلوا الجهد في الإبلاغ وحكموا الدليل ما وجدوا إلى ذلك السبيل، وأتوا بالغرائب في باب الاستنباط والتعليل، والتفريع والتأصيل، ولهم في باب استخراج علل الأحكام، وبناء الفروع على الأصول، وجمع الأشباه بالأشباه، والاحتياط ومراعاة المصالح ما فاقوا به المشرعين من جميع الأمم.

وإنما الذي نعده في أسباب تفرق المسلمين هو هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدهم للمذاهب، والتي نعتقد أنهم لو بعثوا من جديد إلى هذا العالم لأنكروها على أتباعهم ومقلديهم، وتبرأوا إلى الله منهم ومنها، لأنها ليست من الدين الذي اؤتمنوا عليه، ولا من العلم الذي وسّعوا دائرته.

وكيف يرضون هذه العصبية الرعناء ويقرون عليها مقلدتهم، ومن آثارها فيهم جعل كلام غير المعصوم أصلًا وكلام الله ورسوله فرعًا يذكر للتقوية والتأييد إن وافق، فإن خالف أرغم بالتأويل حتى يوافق، وهذا شر ما بلغته العصبية بأهلها، ومن آثارها فيهم معرفة الحق بالرجال، ومن آثارها فيهم اعتبار المخالف في المذهب كالمخالف في الدين، يختلف في إمامته ومصاهرته وذكاته وشهادته إلى غير ذلك مما نعدّ منه ولا نعدده.

وقد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، وكان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وإنّ في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوبًا.

أما آثارها في العلوم الإسلامية فإنها لم تمدها إلّا بنوع سخيف من الجدل المكابر لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا عاصم من شرور هذه العصبية إلّا صرف الناشئة إلى تعليم

ص: 165

فقهي يستند على الاستقلال في الاستدلال، وإعدادها لبلوغ مراتب الكمال، وعدم التحجير عليها في استخدام مواهبها إلى أقصى حد.

وأما المذاهب الكلامية فلم يكن أثرها بالقليل في تفرق المسلمين وتمزق شملهم، ولكنها لما كان موضوعها البحث في وجود الله وإثبات صفاته، وما يجب له من كمال وما يستحيل عليه من نقص- كل ذلك من طريق العقل- كانت دائرتها محدودة وكان التعمق فيها من شأن الخواص، وقعد بالعامة عن الدخول في معتركها إحساسها بالتقصير في أدواته من جدل وعقليات يحتاج إليها في مقامات المناظرة والحجاج، فليس علم الكلام كعلم التصوّف مطية ذلولًا يندفع لركوبها العاجز والحازم. فالتصوف شيء غامض يسعى إليه بوسائل غامضة، ويسهل على كل واحد ادعاؤه والتلبيس به. فإن خاف مدعيه الفضيحة لم يعدم سلاحًا من الجمجمة والرمز وتسمية الأشياء بغير أسمائها. ثم الفزع إلى لزوم السمت والتدرع بالصمت والإِعراض عن الخلق، والانقطاع والهروب منهم ما دام هذا كله معدودًا في التصوف وداخلًا في حدوده. ولا كذلك علم الكلام الذي يفتقر إلى عقل نير وقريحة وقادة وذكاء نافذ، ويحتاج منتحله إلى براعة وَلِسْنٍ ومران على المنطق ومقدماته ونتائجه وأقيسته وأشكاله. ولم كل هذه العدد؟ كل هذه العدد للمناظرات وما تستلزمه من إيراد ودفع وإفحام وإلزام. وأين العامة من هذا كله؟ لذلك لم يكن لها من حظ في هذا العلم إلّا معرفة أسماء بعض الفرق والانتصار لها انتصارًا تقليديًا، ولذلك كانت آثار التفريق الناشئة عن هذه المذاهب الكلامية قاصرة على طبقات مخصوصة، ولم تتغلغل في العامة كما تغلغلت آثار التصوف.

وقد انقرضت تلك الفرق وانقرض بانقراضها سبب جوهري من أسباب التفرق، بل مات بموتها شاغل طالما شغل طائفة من خيرة علماء المسلمين ببعضهم، وجعل بأسهم بينهم شديدًا، وألهاهم بما يضر عما ينفع.

تلاشت تلك الفرق ولم تبق إلّا أخبار معاركها الجدلية في كتب التاريخ، والا آراؤها المدونة في كتبها فتنة للضعفاء وتبصرة للحصفاء. ولم يبق من تلك الأسماء التي كونت قاموسًا في الأنساب إلّا اسمان يدوران في أفواه العامة وأشباه العامة ويستعملونهما في أغراض عامية وهما (أهل السنة والمعتزلة).

ومن المحزن أن دراسة علم التوحيد حتى في كلياتنا (الراقية) كالأزهر والزيتونة لا تزال جارية على تلك الطرائق، وفي تلك الكتب، ولا تزال تقرر فيها تلك الآراء، ولا تزال تذكر فيها أسماء تلك الفرق التي لم يبق لها وجود. ويستعرض سيدنا المدرس تلك

ص: 166

الآراء ثم يدحضها ويقيمها ثم ينقضها. وتقتطع أوقات الطلبة المساكين في ذلك. ويا ضيعة الأعمار!

أما الشبهات التي يوردها كل يوم ملاحدة العصر ومبشرو المسيحية على الإسلام، ويفتنون بها العلماء فضلًا عن العوام، فإن كلياتنا (العلمية الدينية) ومدرسميها لا يعيرونها أدنى اهتمام، ولا يعمرون بها وقت الطلبة. فيا للفضيحة!

وإذا نحن وازنا بين ما أجداه علينا علم الكلام وبين ما خسرناه بسببه وجدنا الخسارة تربو على الربح. فتوحيد الله مقرر في القرآن بأجدى بيان وأكمل برهان. وصفاته لا يطمع طامع أن يأتي في إثباتها بأكمل مما أتى به القرآن. وطريقة القرآن في التنزيه أقوم طريقة، وقد جرى عليها الصحابة فكانوا أكمل الناس توحيدًا مع أنهم لا يعرفون الجوهر والعرض. وهل يبقى زمانين؟ ولا الكم ولا الكيف بمعانيها الفلسفية الدقيقة. وعلى هذا فما معنى إضاعة الوقت وإعنات النفس في معرفة هذا العلم المسمى بعلم الكلام.

ولو كان هذا العلم المستحدث ذا قواعد طبيعية لا تنقض، كقواعد الحساب أو الهندسة مثلًا، لخف ما يلقى الناس في تعلمه من عناء، ولكننا رأينا تلك القواعد تتهاوى في المناظرات القولية أو القلمية كفقاقيع الماء، فلا يكاد يبني الباني حتى ينبري له هادم ينقض ما بنى ويتبر ما علا.

فوا أسفاه على تلك الحملات العنيفة التي كانت جهادًا ولكن في غير عدو. ووالهفاه على ذلك النقع المثار وقد انجلى عن غير فتح ولا غنيمة. وواحسرتاه على ذلك الذكاء الذي كانت تكاد تشف له حجب الغيب، ذكاء أبى بكر الباقلاني وفخر الدين الرازي وأبي الهذيل وابن المعلم، وقد ضاع فيما لا تعود على الإسلام منه عائدة، ولا تنجرُّ له منه فائدة.

وإنك لتطالع تفسير الرازي مثلًا فتتلمح من جملته ذكاء يشع، وقريحة تتقد وألمعية تكاد تنتزع منك بنات صدرك، فتظن أن سيكشف لك عن الجهات المتصلة بنفسك من القرآن، ويجلي لك سنن الله في الأنفس والآفاق. وإذا بالظن يخيب والفال يكذب، إذ ترى تلك القوى مصروفة إلى جهة غير التي تريد. وترى الرجل وقد غلب على ذكائه وجرفته العادة التي تملكته إلى الآراء والعقليات وإثارة الشبهات. وترى ذلك الذهن العاتي يتخبط في مضائق هي دون قدر القرآن ودون قيمة ذلك الذهن، حتى ليسف فيزعم لك- مثلًا- أن أولي العلم في قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} ، هم أهل الاصول

ص: 167

ونحن نعتقد أن الرجل وأمثاله من الأذكياء ما أتوا إلّا من غرامهم بهذه المباحث الكلامية واستهتارهم فيها. ويمينًا لو أن تلك الجهود التي تفرقت على الكلام تألفت على جهة عقلية أخرى لفتحت في العلم فتحًا أغر زاهرًا، ولتعجلت به الفخر للإسلام وأهله.

وأما المذاهب الصوفية فهي أبعد أثرًا في تشويه حقائق الدين وأشد منافاة لروحه، وأقوى تأثيرًا في تفريق كلمة المسلمين، لأنها ترجع في أصلها إلى نزعة غامضة مبهمة، تسترت في أول أمرها بالانقطاع للعبادة والتجرد من الأسباب والعزوف عن اللذات الجسدية والتظاهر بالخصوصية، وكانت تأخذ منتحليها بشيء من مظاهر المسيحية، وهو التسليم المطلق، وشيء من مظاهر البرهمية وهو تعذيب الجسد وإرهاقه توصلًا إلى كمال الروح زعموا. وأين هذا كله من روح الإسلام وهدي الإسلام؟ ولم يتبين الناس خيرها من شرها لما كان يسودها من التكتم والاحتراس، حتى جرت على ألسنة بعض منتحليها كلمات كانت ترجمة لبعض ما تحمل من أوزار. فراب أئمة الدين أمرها، وانفتحت أعين حراس الشريعة فوقفوا لها بالمرصاد، فلاذ منتحلوها بفروق مبتدعة يريدون أن يثبتوا بها خصوصيتهم كالظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، إلى ألفاظ أخرى من هذا القبيل لا تخرج في فحواها عن جعل الدين الواحد دينين.

وما كاد السيف الذي سلّ على الحلّاج وصرعى مخرقته يغمد ويوقن القوم أنهم أصبحوا بمنجاة من فتكاته، حتى أجمعوا أمرهم وأبدوا للناس بعض مكنونات أسرارهم ملفوفة في أغشية جميلة من الألفاظ، ومحفوفة بظواهر مقبولة من الأعمال. وحاولوا أن يصلوا نحلتهم تلك بعجرها وبجرها بصاحب الشريعة أو بأحد أصحابه فلم يفلحوا، وافتضحت حيلتهم وانقطع الحبل من أيديهم، فرجعوا إلى ادعاء الكشف وخرق الحجب والاطلاع على ما وراء الحس إلى آخر تلك (القائمة) التي لا زلت تسمعها حتى من أفواه العامة وتجدها في معتقداتهم.

ثم أَمِرَ أمر هذه الصوفية وتقوّت على الزمن، والتقت مع الباطنية وغيرها من الجمعيات التي تبني أمرها على التستر على طبيعة دساسة وعرق نهل ومزاج متحد. واختلطت تعاليم هذه بتعاليم تلك، وتشابهت الاصطلاحات وابتلي المسلمون من هذه النحل بالداء العضال.

وقد اتسع صدرها بعد أن تعددت مذاهبها، واختلفت مشاربها في القرون الوسطى والأخيرة من تاريخ الإسلامء فانضوى تحت لوائها كل ذي دخلة سيئة وعقيدة رديئة حتى أصبح التصوف حيلة كل محتال، وحلية كل دجال. وأن هذه الطرق المنتشرة بين المسلمين والتي تربو على المذاهب الفقهية عدًّا، كلها، على ما بينها من تباين الأوضاع، واختلاف الطباع، وتنافر الأتباع، تنتسب إلى هذا التصوف. ولكنه انتساب صوري اسمي، وشتان ما بين الفرع وأصله. فمبنى التصوف في أغلب مظاهره- كما أسلفنا- على الانقطاع والزهد في الدنيا، والتجرد والتقشف ورياضة النفس على المشاق وفطمها عن الشهوات. ومبنى هذه

ص: 168