الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب "السعادة الأبدية
"*
-
1
-
لسنا في هذا المقال ننقد كتابًا ولا كاتبا وإنما ننقد فكرة خبيثة تمدها عقول وتغذّيها أسباب، ثم تبرز على الألسنة والأقلام بصور مختلفة، فلا يقولن قائل قرأ الكتاب: ما أهون الصيد وما أعظم الصائد؟! وليقرأ المقال إلى آخره فسيتبيّن ما نعني.
"الكاتب"
وقع في يدي، على سبيل المصادفة، كتاب صغير الحجم، فقرأت على غلافه ما يقرأه الناس عادة من اسم الكتاب واسم المؤلف ومحل الطبع الخ.
فإذا هو من النوع الذي يواجه قارئه بجهل مؤلفه من أول سطر. فقد كتب جامعه على الغلاف "السعادة الأبدية" لأبي مدين الخ، فأوهمني كما يوهم كل قارئ أن الكتاب من تأليف "الشيخ أبي مدين" مع أنك لا تكاد تنحدر ببصرك إلى الكتلة الثانية من الكلمات حتى تقرأ لمؤلفه "محمّد حميدو" المدّرس بالمدارس الدولية (1)، فتقول في نفسك: لمن هذا الكتاب يا ترى؟ أهو للشيخ أبي مدين شعيب بن الحسين؟ أم هو للشيخ المدرّس بالمدارس الدولية؟
قرأت تلك الكتل الكلمية المكتوية على الغلاف واستدللت مستعينًا بما أعلمه عن الشيخ أبي مدين من أنه لم يكتب كتابًا ولم يدوّن تأليفًا، على أن الكتاب للثاني لا للأول. ثم تجاذبتني الخواطر: ماذا عسى أن تكون قيمة المؤلف بعد تلك الجهلة الفاضحة في تركيب عربي بسيط لا يخفى على تلميذ فضلًا عن مدرّس في المدارس الدولية؟ وماذا عسى أن
* "البصائر"، السنة الأولى (من السلسلة الأولى)، عدد (18)، بتاريخ 8 ماي 1936، (بدون إمضاء).
1) التابعة للدّولة الفرنسية.
يكون موضوع الكتاب بعد أن لم يدل اسمه على موضوعه؟ وماذا عسى أن تكون الصلة بين الشيخ أبي مدين الصوفي المربي في القرن السادس وبين مدرّس في المدارس الدولية في القرن الرابع عشر، ألا تكون هذه الصلة هي التاريخ؟ ثم ألا يكون موضوع هذا الكتاب الصغير بحثًا تاريخيًا في ناحية من سيرة هذا الصوفي الكبير الذي شغل الناس قرونًا بالحديث عنه بلسان العلم، ثم شغلهم قرونًا أخرى بالحديث عنه بلسان الجهل والتخريف؟ ألا يكون هذا الكتاب الصغير، أسلوبًا ممتعًا من أساليب الدراسة التاريخية الفنية التي يتبجح أمثال هذا المدرّس بإحسانها ويدينون باحتكارها لسادتهم الأوروبيين؟ وما عهدنا ببعيد من ذلك المدرّس الذي كتب يقول ما معناه ان خرّيجي "المدارس"(2) أقدر على تعليم علوم الدنيا والدين! ..
تنازعتني هذه الخواطر قبل أن أفتح الكتاب، وكاد سوء الظن يغلب فأرميه وأحكم عليه بالسخافة حكمًا معجلًا. ولكنني ذكرت المثل "إن الجواد عينه فراره" ففتحت الكتاب فبدأت الجهالات تتوالى، فاعتصمت بالصبر وألزمت نفسي بقراءته كله من شفقه الغارب، إلى فجره الكاذب. فبماذا خرجت من هذه الليلة الداجية؟
لا أكتم القارئ أني خرجت كما تقول العامة بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها، فعاهدت نفسي أن لا أجمع عليها خيبة الأمل في الكتاب ومؤلفه، وحرمان القراء من حديث عنهما، يفيدهم عبرة ومثلًا ويفيد المؤلف شيئًا اسمه "عرفان القدر"، فقد دلّنا بكتابه على أنه لا يعرف قدر نفسه، وما أحوج المؤلف قبل كل الناس إلى مثل هذا الدرس، بل ما أحوجه إلى مثل هذا التأديب، لعله يذكر أو ينيب!
…
أنت، يا حضرة القارئ، صادق إذا سمّيت قرعة الطيور كتابًا لأنك تجد فيه وحدة متناسقة وتأصيلًا وتفريعًا وخروجًا من بلدة إلى مملكة، وكل هذا تنقل إن لم يكن في الصدق ففي النظام.
وأنت صادق حين تسمى مجربات الديربي والزناتي في الرمل ورجوع الشيخ إلى صباه، كتبًا لأنها سخافات منظمة، ولأن لأصحابها ذوقًا في الترتيب وشخصية في الموضوع.
ولكنك لا تصدق أبدًا إذ سميت هذا السواد كتابًا وإن كان صاحبه مدرّسا، وإن سمّاه السعادة الأبدية.
2) هي ثلاث مدارس أنشأتها فرنسا سنة 1857 بالجزائر لتخريج أعوانها الذين يكونون واسطة بينها وبين الشعب الجزائري (قضاة، أئمة، تراجمة) والمدارس توجد في تلمسان والجزائر وقسنطينة.
ذلك أنه ليس لصاحب هذه الورقات شيء فيها يستطيع أن يضع يده عليه ويقول: هذا لي، إلا جملة في مقدمة الكتاب نبز فيها المصلحين بالإنكار على الاولياء فلم يوفق فيها لأنها جاءت نبزة عامية تَنِمُّ عن تصور عامي بسيط في ذهن مستوخم ثقيل، وما عدا تلك الجملة الباردة التي تنبز صاحبها بالجهل قبل أن تنبز المصلحين بالإنكار على الأولياء، ما عدا ذلك، فبضع حكايات منقولة من البستان لابن مريم ومثلها من نفح الطيب، كأن صاحبها قصها بالمقص من الكتابين ووضعها بين أيدي عمال المطبعة لينقلوها بنصها، ويولّدوا منها كتابًا اسمه "السعادة الأبدية" كما يفعل أصحاب جريدة النجاح (مثلًا) بالأهرام والبلاغ وغيرهما ليولّدوا منها جريدة اسمها جريدة النجاح.
فأين كتاب "السعادة الأبدية"، يا حضرة المدرّس، إذا قمنا بحق الوكالة العلمية ورددنا أمانة المقري للمقري وأمانة ابن مريم لابن مريم؟
أين كتاب "السعادة الأبدية" الذي لا نشك أنك أعلنت عنه قبل صدوره- وإن لم نتشرف بوصول الإعلان إلينا- ولا نشك أنك أذعت في قبيلك من المدرّسين وخلطائك من الأوروبيين ورؤسائك من المديرين (المتقاعدين) والواقفين، أنك مشغول بتأليف كتاب في مناقب الشيخ أبي مدين أو كراماته فتطلعوا، واستشرفوا، وترقّبوا، وانتظروا، فإذا بك لم تأتهم إلا بحكايات من كتابين هم أعرف بهما منك، فيا للخجل!
أين أثرك الخاص في الكتاب؟ وأين نتاج ذهنك منه؟ وأين ميسمك فيه؟ وأين طابعك عليه؟ وأين (شخصيتك) كما يقول الأوروبيون الذين طالما تطاولتم علينا باقتفاء آثارهم في طرائق البحث؟
إن شيئًا واحدًا مما سألناك عنه لا يوجد في كتابك، فلتعلم الآن أننا لسنا ننقم عليك صغر حجم الكتاب، فرب كتاب "صغير الحجم كثير العلم"، ولسنا ننقم منك تلك النبزة التي نبزت بها المصلحين في شيء تجهل أصله وفرعه، فما أهونها عليهم، ولسنا ننقم عليك تخصيصك الكرامات بالذكر تأييدًا لتلك النبزة، وإنما ننقم منك ومن أمثالك هذه الشعوذة المزرية بشرف العلم وهذا التهافت المخجل على الكتابة في مباحثه.
إنكم لا تزالون من انتسابكم للعلم وانتحالكم للتدريس تحت حماية "الديبلوم" في غفلة من الدهر وفي أوسع عافية منه، حتى إذا تقحمتم هذا التقحم وتهجمتم هذا التهجم على الكتابة والتأليف انتقم منكم العلم ففضحكم بأيديكم على رؤوس الاشهاد.
ألا أدلك، لوجه الله، على شيء لو فعلته كنت تحسن لنفسك فترفع ذكرها، وتحسن إلى العلم بزيادة شيء نافع فيه، وتحسن إلى القرّاء بإفادتهم شيئًا يقولون عنه هذا فكر المدرّس لا نقله، وتحسن إلى العالم الفكري الذي تعيش فيه وهو عالم لا يعرف (قال) إلا
ناقدًا أو ممحّصًا وإنما يعرف (فكّرت) و (قلت)، وتحسن إلى الأمّة التي تنتسب إليها فتأتيها بشيء جديد، يوقظ فيها الذكرى الصالحة وينبّهها إلى القدوة الحسنة ويرفع رأسها فخرًا ويجلو عليها صفحة بيضاء من صحائف سلفها.
أتدري ما هو هذا الشيء؟
هو هذا الذي وقعت عليه كما يقع الحيوان الأعجم [حاشاك](3) على الجواهر فيدوسها بأرجله، ولا يدري إلا أنها من جنس ما يداس إذ لم تكن من جنس ما يؤكل. ومع انطباق هذا التشبيه فإنني أدلّك فاسمع:
إننا عرفنا حياة الشيخ أبي مدين حق المعرفة وعرفنا مكانته في علوم الشريعة، وعلمنا مبلغ تأثره بعصره وتأثيره في عصره، وعلمنا سيرته العملية تمام العلم، وقرأنا كلامه في المعارف الإلهية والمنازع الصوفية ووزناها بميزان الشريعة فميّزنا ما يقبل مما يرد، ونحن نعظّمه تعظيمًا شرعيًا راسخًا برسوخ أسبابه لا تعظيمًا تقليديًا زائفًا.
فعلمنا من كل ذلك أن في تاريخ حياته جوانب عامرة، وأن على بعض كلامه إشراق الحكمة وروحانية الحكماء. فلماذا لم تعمد، يا حضرة المدرّس!، إلى البحث في عصره، وروح عصره وتأثيره في عصره، فترضي علماء الأوروبيين الذين تروقهم أمثال هذه المباحث؟ أو إلى جانب من تلك الجوانب العامرة من سيرته فتجلوها على قومك في معرض من الكلام ينبّه الغافل، ويعلم الجاهل، ويزّين لهم الاقتداء في الصالحات، وبهذا ترضي أمّتك الفقيرة إلى مثل هذا.
إننا نبهناك إلى هذا مع علمنا أنك لا تملك وسائله، وما وسائله إلا الذهن النيّر والقريحة الصافية والنيّة الصالحة، قبل ذلك وبعده
…
أما ما جئت به فإن أدنى عامي من سكان قرية "العُبّاد" التي فيها مدفن الشيخ يشاركك في معرفته ويزيد عليك بعشرات من مثله، وإذا ساواك العامي في هذه المادة أو فاقك فيها، فما معنى الديبلوم؟
إننا لا نزال نقول لك ولأمثالك من العوام إن الكرامات هي الجهة العقيمة في سير الصالحين، ونوضح لكم ذلك بأنها ليست من أعمالهم الكسبية التي يقتدى بهم فيها.
أما الجهة العامرة المنتجة من سير الصالحين فهي أعمالهم الصالحة، وأخلاقهم الحميدة، التي يقتدي بهم الناس فيها ويكونون فيها للناس أسوة حسنة. فلماذا تتركون هذه الأعمال التي لا يكون الصالح صالحًا إلا بها، والتي ينتفع بها كل من يقتدي بهم فيها،
3) كلمة تقال في الجزائر إذا جرى الحديث عن شيء مستقبح أو مستقذر. ومعناها (تنزيهًا للقارئ أو السامع).
وتهربون إلى الكرامات التي ليست بشرط في الصلاح الشرعي، وليست مما يمكن الاقتداء فيه؟ ومعنى هذا- إن كنت لا تفهم- أن الصالح لا يكون صالحًا إلا بالأعمال الصالحة المشروعة ولو بغير كرامة، ولكنه لا يكون صالحًا بدون عمل ولو جرت على يديه جميع خوارق الدنيا.
ومعناه أيضا- زيادة في التفهيم حتى يفهم البهيم (4) - أنك تستطيع الاقتداء بالشيخ أبي مدين- رضي الله عنه في صدق لهجته وفي وقوفه عند حدود الله، وفي برّه بالمساكين، وفي تواضعه ووفائه، وفي حسن عبادته لله، وفي معرفته بقدر نفسه أيضا
…
ولكنك لا تستطيع أن تقتدي به فيما يحكى عنه من الكرامات والخوارق- ولو صحّ وقوعها منه- لأنها ليست من عمله الشرعي الذي كُلّف به، وليست من تقوى الله التي يتفاضل بها الصالحون، وليست مناطا شرعيًا للتعظيم.
وهل إذا خضع الأسد للشيخ فلان مثلًا أستطيع أنا الاقتداء به في ذلك، أو يحسن بي أن أقتدي به في ذلك لو استطعته؟ وهل يكون خضوع الأسد للشيخ فلان هو الدليل على صلاحه وولايته واستحقاقه للتعظيم مني؟ وإن كان هذا هو دليل الولاية، فما أكثر أمثال الشيخ فلان في "سيرك عمار"
…
فاعلموا يا هؤلاء، أننا لا ننكر الكرامات، بمعنى أننا نقول إنها لا تقع، ولم تقع، ولن تقع، لا فنحن أعقل من أن نقول هذا. وإنما ننكر افتتانكم بها، وغلوّكم فيها إلى هذا الحد الذي شغلكم عن الاقتداء بالصالحين في الصالحات. وننكر على من غشّكم بها فألهاكم بما لا ينفع عما ينفع. وننكر على الجاهلين الذين لا يفرّقون بين ما يمكن وقوعه وما لا يمكن وقوعه، فلو فهمتم (لنا) أن سنن الله الثابتة لا تخرق [لخاطر] فلان وفلان، وإنما تخرق العوائد، وان العوائد متغيرة، وإن المعتاد قد يصير غير معتاد، وإن غير المعتاد قد يرجع معتادًا. لو فهمتم معنى هذا وفهمتم معنى إكرام الله لعباده لأنكرتموها استهانة بها في جنب ما كرم الله به عباده الصالحين من التوفيق للصالحات.
4) أي الحمار.