الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
2
- *
درس في التفسير
(سعادة المسلمين في العمل بالقرآن)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ (1) لِلنَّاسِ، وَلِيُنْذَرُوا (2) بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا (3) أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4)، سورة إبراهيم (5)، الآية 52.
السورة التي ختمت بهذه الآية الجامعة الفذة (6) هي سورة إبراهيم عليه السلام، وما أكثر السور التي ذكر (7) فيها إبراهيم وقُصَّ فيها قصص إبراهيم، وما أحق الكثير منها بأن يسمى بهذا الاسم، لما فيها من زيادة التفصيل في أصل دعوته، ومُحاجته لقومه أو مُحاجة قومه له، أو لما فيها من غرابة الحادثة وَروْعة سياقها كقصة ابتلائه (8) بذبح ولده في سورة الصافات (9)، وقصة
* هذا الدرس ألقاه الشيخ ارتجالًا بدار الحديث بتلمسان بحضور الشيخ عبد الحميد بن باديس، ووجدت مسودته بين أوراقه، وقد علق عليها الأستاذ محمد فارح ونشرها على حلقات في جريدة "الشعب"، ابتداءً من عدد 6426، الثلاثاء26 رمضان 1404هـ، 26 جوان 1941م.
1) كفاية في العظة والتذكير، والإبلاغ: الإيصال ومثله التبليغ، والاسم: البلاغ.
2) ليُنصحوا به ويخوفوا من عقاب الله.
3) وليتحققوا بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة.
4) وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة.
5) مكية، وآياتها اثنتان وخمسون، وإبراهيم بن آزر أو بن تارح أبو الأنبياء وامامُ الحنفاء.
6) الفذة: أي المنفردة في مكانتها أو كفايتها أو في مضمونها وايجازها.
7) ذكر إبراهيم في خمس وعشرين سورة هي: "البقرة، آل عمران، النساء، الأنعام، التوبة، هود، يوسف، اٍبراهيم، الحجر، النحل، مريم، الأنبياء، الحج، الشعراء، العنكبوت، الأحزاب، الصافات، ص، الشورى، الزخرف، الذاريات، النجم، الحديد، الممتحنة، الاْعلى".
8) الابتلاء في الأصل: التكليف بالأمر الشاق، ثم أطلق على الاختبار والامتحان.
9) الآيات من 102 إلى 113.
تبشير الملائكة له ولزوجته بالولد، بعد أن مسّهما الكِبرُ في سورة هود (10). وهاتان الحادثتان أغربُ من حادثة بناء الكعبة المذكورة في هذه السورة (11)، وفي سورتي البقرة (12) والحج (13)، وان كان بناء الكعبة أعظم منهما أثرًا وأيسرَ ذكرًا، ولكن تسمية السُّوَر القرآنية ليست بالهوى والتّشهّي، والمناسبات الفنية، والاعتبارات الذوقية، والملاحظات الاصطلاحية، وإنما هي توقيف من رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فحسْبُنا فيها الاتباع. وهذه السورة التي ختمت بهذه الآية بُدِئت بقوله تعالى:{كِتَابٌ (14) أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ (13) النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (16).} وإن استهلالَ سورة نسبت إلى إبراهيم واختتامَها بالتنويه بكتاب الإسلام لَإشْعارٌ لنا بالصلة الوثيقة بين دين إبراهيم ودين الحق الذي جاء هذا الكتاب لبيانه، وبالأصالة العريقة التي انفرد بها هذا الدين الحنيف، تلك الأصالة التي قرّرتها آيات من القرآن في توحيد الله وفي تقرير سُننه في الخَلق والتكوين والجزاء وسرائر (17) البشر، قال تعالى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ (18) بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (19) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ (21) لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (22).} وقال تعالى، بعد أن ذكر طائفة من شؤونه في خلْقه:{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (23).} وقال: {
…
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ (24).} فإبراهيم الّذي جعله الله إمامًا للناس هو الأب الروحي لكل من أسلم قلْبَه ووجْهه لله، وقد أخرج الله من صلبه طائفتين عظيمتين كانتا في تاريخ العالم الإنساني مظهرًا لدين الله في
10) الآيات من 69 الى 76.
11) سورة إبرا هيم، الآيات 35، 36، 37.
12) الآيات من 125 إلى 129.
13) الآية: 26.
14) هذا القرآن كتاب أنزلناه عليك يا محمد، لم تنشئه أنت.
15) لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإيمان.
16) الآية الأولى من سورة إبراهيم.
17) جمع سريرة، والسريرة ما يكتمه الإنسان في ضميره.
18) ألم يخبر بما في التوراة.
19) أتم وأكمل ما أمر به من طاعة الله وتبليغ رسالته.
20) انه لا تحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى.
21) ليس للإنسان إلّا عمله.
22) سورة النجم، الآيات من 36 إلى 41 - الجزاء الأوفى: الاتم والأكمل.
23) سورة الأعلى، الآيتان: 18، 19.
24) سورة الحج، الآية 78.
الأرض: بنى إسرائيل، والعرب، وإن كانت الطائفتان مُتَفَاوِتتَيْنِ كلَّ التفاوت في فهم الدين، وتذوقه، وتحمّله، وأدائه، والائتمان عليه، بتفاوت الاستعداد والزمن، وظهور الرسالة، وقوّة الاضطلاع، واستحقاق الاستخلاف والتَّمكين.
ويكفينا فرقًا بين الِاستعداد والِاستعداد أَنَّ بني إسرائيل قالوا لأَعظم (25) رسُلهم، بعد أن قادهم إلى العِزّ، وأنقذَهم من الِاستعباد والهوان، وبعد أن رأوا الآيات (26)، وانثالتْ (27) عليهم النِّعَم الإلهية على يديه:
…
(فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (28).} واتخذوا (29) في غيبته عجلًا جسدًا (30) له خوار، ولم يكفهم ذلك، بل
…
{فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (31)} ، ولم يفارقهم الحنين إلى الوثنية، فقالوا، عندما رأوا ما يذكِّرُهم بها: (
…
اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (32)}، ثم خلفوه في دينه بعد موته أسوأَ خلافة، فبدّلوا وغيروا، وحرّفوا الْكَلِمَ عن مواضعه ونسُوا (33) حظًا مما ذُكّروا به حتى ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وتأذّن (34) ليَبْعَثَن (35) عليهم إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومهم (3) سوءَ العذاب، كما هو مشاهد بالعيان في كلِّ زمان وفي كلّ مكان. وكأن تاريخ الإنسانية عَيِيَ بهم، فهم يترددون على لَهَوَاته (37) تردُّد اللُّقْمة غيرِ السَّائغة إلى يوم القيامة، ومن جار على حقائق الله جارت عليه حقائقُ الوجود.
أمَّا العربُ فكانوا لرسولهم على النقيض ممّا كانت عليه إسرائيل لِرسولها، فلم يَرْتَبْ مُؤْمِنٌ منهم بعد إيمانه، ولم تخالطْ يقينَه في الله وفي الحق شبهةٌ، ولا طاف بنفسه طائفُ الوثنية بعد أن عَمرت بالتَّوحيد، بل آوَوْا ونَصَرُوا، وجاهدوا وصبروا، وفارقوا ديارهم وهاجروا، ثم خلفوه في دينه بعد موته أحسن خلافة، فهمًا وعملًا ونشرًا وتطبيقًا، وما دخلت
25) موسى عليه السلام.
26) البراهين.
27) انهالت، انصبت.
28) سورة المائدة، الآية 24.
29) تراجع الآية 148 من سورة الاعراف.
30) لا روح فيه.
31) سورة طه، الآية 88.
32) سورة الأعراف، الآية 138.
33) تركوا نصيبًا وافيًا مما أُمِرُوا به في التوراة، تراجع الآية 13 من سورة المائدة.
34) أعلم، أو عزم وقضى.
35) لَيُسَلِّطَنَّ.
36) يذيقهم ويكلفهم، تراجع الآية 167 من سورة الأعراف.
37) جمع لهاة، واللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
الدخائل (38) على دين محمد صلى الله عليه وسلم إلّا بعد قرون، بعد أن انتهى أمره إلى أخلاف (39) السوء من الأمراء والمستبدين والعلماء الجامدين، ومع ذلك فلا زال دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا يزال مكين (40) الأساس، واضح الاعلام بهذا القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديْه ولا من خلفه، وان هذا القرآن لم يَعْتَنِ بتحليل أمة وتفصيل سيرها مثلَ ما اعتنى بأمة إسرائيل ليحذِّرنا مما صنعوا حتى لا تصيبنا عواقب ما صنعوا، كما أن القرآن لم يُفِضْ في دعوة رسول من رسل الله، ولم يفصل طرف الحِجَاج بين رسول وقومه ما أفاض وفصّل في دعوة إبراهيم ومحاجّته (41) لأبيه وقومه، ليعرفنا بهذا الاب العظيم الذي زرع النبوة في العامر والغامر (42) من أرض الله، فأقر ابنه اسحاق في أرض كنعان، وأقر ولده إسماعيل في الحجاز لحكمة يَسْتجليها (43) المستعبرُ، ولا تعْمَى على المتدبر، وليدلنا على ما لهذا الأب العظيم من يد في إقامة ركن التوحيد وما له من أثر في حرب الوثنية والوثنيين، وليُشْعِرَنا بأنَّ لنا في بناء الحق وهدمِ الباطل ونشر الهداية والخير أصلًا عريقًا، ونسبًا طويلًا عريضًا، ومتى شعر الْإنسان الصحيح الفطرة بزكاء (44) الأصْل وطهارة المنبت، تحركت فيه نوازع النخوة (45)، وهاجت به عروق الأصالة والعتق، فكان ذلك داعية له إلى العزوف (46) عن الدنايا، والتعلق بأسباب الشرف والكمال، وحسن التأَسّي في مكارم الاخلاق.
وبعض هذا هو سر سلوك المربين للأمم في إشرابها تاريخها، واستنارتها بسِيَر أمجادها وأبطالها، وان في القرآن لأسوةً في كل شيء حتى في هذا الباب، فهو يخاطب بني إسرائيل حتى في مقامات التنديد وتعديد المثالب (47) بأحَبّ النسب إليهم، فينسبهم إلى إسرائيل الذي هو مناط (48) فخرهم، ومعقِد عَزْمهم، وصخرةُ تاريخهم، ليستفزَّهم بذلك، ويُنبهَهم أنّ لهم أصلًا أصيلًا في الشَّرف يحسُن (49) عليهم أن يرجعوا إليه ويقْبُح بهم أن يعقوه ولا يقتدوا به.
38) ما أدخل في الإسلام أو نسب إليه وليس منه
…
39) جمع خلف، والخلف: الابن الطالح، والأخْلافُ: الأبناء الطالحون.
40) راسخ الجذور، ثابت الأركان عظيم القدر.
41) مجادلته.
42) الغامر من الأرض خلافُ العامر وهو ما غمره ماء أو رمل أو تراب وصار غير صالح للزرع.
43) يستكشفها.
44) صلاح الأصل.
45) المروءة، العظمة، الحماسة.
46) الانصراف عن الشيء، الزهد فيه، الإعراض عنه
…
47) المعايب، النقائص.
48) موضع فخرهم، أو علته وسببه.
49) يحق عليهم، يجب عليهم، أو يحسن لهم أو بهم.
وأكبر الفوائد لنا، فيما قصَّ القرآنُ من قَصص إبراهيم، ما تضمنته من العلوم، ففيها، على تقارب أساليبها واختلاف السور المتضمنة لها ما بين مكية ومدنية، آيات للمتوسمين (50)، ومجالات لأفكار المتدبرين (51)، يقرأها المتدبر فيخرج منها بدستور جامع في التوحيد والدعوة إليه، وما يلزم الداعي من قوّة في الجدل، وبراعة في أساليبه، وصبرٍ على المقارعة والنّضال في سبيله، وقدرةٍ على التحايل في إقناع النّفوس الضالّة والعقول التي لا تهضم البرهان، وصبرٍ على جفاء الأقارب، وشدةٍ وحزم في التبرؤ منهم وقطعِ حبالهم.
إن المتذوق لأسرار القرآن، المستخرج لِلَطَائِفِ المُقارنات بين نفوس المصطفين من عباد الله، لَيُدْرِكُ بالذوق النّفسي ذلك الحنان، وتلك الرقة التي تقطر من قول نوح اليائس من ابنه (52 م): {
…
رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، وتلك الشدة من خطاب إبراهيم لأبيه، ومن إيذانه بالبراءة، بعد ما تبين له أنه عدوّ لله.
وإذا كان المظهر الأعلى للتوحيد من العبادات هو الدعاء، فإن أدعية إبراهيم التي قصها الله علينا هي أشرف تلك المظاهر في التنزيه المحض (52)، والأدب الكامل، وهي الأسلوب الذي يجب أن يحتذيه (53) كل داع موحِّد، وإذا كانت الوثنية هي داء الإنسانية العضال، وهي العدو الذي حاربه نوح (54) ألف سنة إلّا خمسين عامًا، فما آمن معه إلّا قليل، وكانت خاتمة دعوته تلك الشكوى المؤلمة، وذلك السخط المنبعث من مناجاته ربَّه في السورة (55) المسماة باسمه، وفيها يقول عن قومه: {
…
رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (56). وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (57). وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ (58) آلِهَتَكُمْ، وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (59)، وإذا كان هذا شأن نوح مع الوثنية والوثنيين، فإن
50) المتفرسين، توسم الشيء: تفرسه أي ثبت نظره وأدرك الباطن من نظر الظاهر.
51) تدبر الأمر: تفكر فيه ونظر في عاقبته واعتنى به، والمتدبرين: المتفهمين والمتفكرين.
52 م) سورة هود، الآية:45.
52) الإبعاد الخالص أو التام عن أي قبيح أو شبهة.
53) أن يتبعه ويقتدي به.
54) النبي الثاني ممن ذكروا بعد آدم عليه السلام وأول الرسل إلى الأرض، كما جاء في حديث الشفاعة عن أبي هريرة في صحيح مسلم:"يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض".
55) سورة نوح، الآيات: 21، 22، 23.
56) ضلالًا في الدنيا وعقابًا في الآخرة.
57) بالغ الغاية في الكبر.
58) لا تتركن.
59) أسماء أصنام عبدوها، ثم انتقلت إلى العرب فكان "ود" لكلب، و "سواع" لهذيل و "يغوث "لغطفان" و "يعوق" لهمدان، و "نسر" لآل ذي الكلاع من حمير.
شأن إبراهيم معها غير هذا الشأن، شأنه أنه قبَّحها في نظر قومه أشنع تقبيح، وقرعهم (60) على عبادتها أعظم تقريع، ولما لم تغن فيهم تلك القوارع (61) ولم توثر في نفوسهم القاسية البراهين الصوادع (62)، راغ (63) يجلي (64) تلك الأوثان ضربًا باليمين حتى جعدها جذاذًا (65) وحطمها تحطيمًا، وهذه هي المرتبة الرفيعة، مرتبة تغيير المنكر باليد سنّها أبو الأنبياء إبراهيم وتبعه فيها موسى حينما قال للسامريّ (66): {
…
وَانْظُرْ (67) إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ (68) عَلَيْهِ عَاكِفًا (69) لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (70)، وتبعهما خِتَامُهم وأفضلُهم محمد صلى الله عليه وسلم، فحطم أوثان العرب المحيطة بمكة، وأرسل أصحابه يهدمونها في كلّ حيّ، ولم تغنِ عن طاغية ثقيف شفاعةُ ثقيف.
ومن آفات البعد عن هداية القرآن وعلوم القرآن وتربية القرآن أن الوثنية التي أودت (71) بالأمم قبلنا، وكانت علة العلل في ضلالها وشقائها، ولقي منها رسل الله الْأَلاقي (72) حتى قال نوح في الوثنيين من قومه، بعد أن ذكر أسماء أوثانهم: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا (73)
…
)، وقال إبراهيم في أوثان قومه: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ (74)
…
)، هذا المرض الفتاك الذي استعصى على أولي (75) العزم من رسل الله علاجُه، هو الذي غفل عنه المسلمون، وهون شأنَه علماؤهم الجامدون حتى استشرى (76) وأَعضل.
60) أوجعهم باللوم والعتاب.
61) جمع القارعة، والقارعة: الداهية التي تُفْزع الناس بأهوالها
…
62) البينة الكاشفة، المفصلة.
63) مال إلى الأوثان خفية ليحطمها، أقبل، انهال عليها ضربًا.
64) يخرج ويكسر، يزيل.
65) قِطَعًا مهشمة، مكسورة أو مكسرة.
66) ساحر منافق من بني إسرائيل أضل قوم موسى في غيابه وأرجعهم إلى عبادة العجل.
67) سورة طه، الآية 97.
68) ظللت، دمت.
69) لزمتَ عيادته، واظبتَ عليها، أقمت عليها.
70) لنذرينه، لنطيرنه رمادًا في البحر.
71) أهلكتها، قضت عليها.
72) نوازل الدهر، الأحاجي والألغاز، المتاعب والمشاق، ومفردها: الالقية.
73) سورة نوح، الآيتان: 23، 24.
74) سورة إبراهيم، الآية 36.
75) أهل العزيمة الصادقة، من الرّسل: مشاهير الرسل الكرام: انظر الآية 35 من سورة الأحقاف
76) اشتدّ وتفاقم، وأعضل أي عسر واستغلق
…
فهذه القِباب المشيدة، وهي أوثان هذه الأمة، أضلت كثيرًا من الناس، وأكثر من الكثير، وافتتنوا بها، وبأسماء اصحابها حتى ألهتْهم عن دنياهم وأفسدت عليهم أخراهم، وغلوا (77) في تعظيمها حتى أصبحت معبودة تُشَدُّ إليها الرحال، وتقرَّبُ لها القرابين والنذور، وتسأل عندها الحاجات التي لا تسْأَلُ إلّا من الله، ويحلف بها من دون الله، ويتآلى (78) بها على الله، وما جَرَّ هذا البلاء على الأمة الإسلامية حتى أضاعت الدين والدنيا، إلّا سكوتُ العلماء عن هذه الأباطيل أول نشأتها، وعدمُ سدِّهم لذرائعها حتى طغت هذا الطغيان على عقول الأمة، ولو أنهم فقهوا الأمة في كتابِ ربها، وساسوها بسنة نبيها لكان لها من سيرة إبراهيم ومحمد عاصمٌ أي عاصم من هذا الشر المستطير.
إنني أحث التّالين لكتاب الله من حفّاظه والمُنصِتين له من المحافظين على سماعه منهم، على تدبر الآيات الجامعة لقصص إبراهيم، كلما مرت بهم آية البقرة (79) من قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى (80) إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (81) فَأَتَمَّهُنَّ (8)، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (83)، قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي (84) الظَّالِمِينَ) والآية (83) الأخرى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي (86) حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ (87) الَّذِي كَفَرَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، وآية (88) الأنعام:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ (89) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (90).}
77) بالغوا، تجاوزوا الحد.
78) يقسم ويحلف، تألى وأتلى، وآلى، والالوة: القسم.
79) الآية 124 (البقرة).
80) الابتلاء في الأصل: التكليف بالأمر الشاق، ثم أطلق على الاختبار والامتحان.
81) بأوامر ونواه.
82) فأداهن.
83) قدوة ومنارًا.
84) لا ينال هذا الفضل العظيم أحد من الكافرين.
85)) البقرة، الآية 258.
86) الذي: "نمرود بن كنعان الجبار"، جادل.
87) فبهت: فأخرس، وغلب، وانقطعت حجته.
88) الأنعام، الآية 75.
89) الملك العظيم، أو الآيات أو العجائب
…
90) من الراسخين في اليقين، واليقين: إزاحة الشك، وتحقيق الأمر، والوضوح، أو العلم الحاصل عن نظر واستدلال.
بلاغ للناس: البلاغ والبلوغ مصدران للفعل "بلغ" الثلاثي، ومعناهما الوصول إلى النهاية في الأزمنة أو الأمكنة وغيرهما من الأمور الأخرى، وتصاريف هذه الكلمة في القرآن الكريم لا يخرج عن هذا المعنى، كقوله تعالى (91): {
…
حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ (92) وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
…
}، {لَهُ (93) دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِلَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ (94) فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ
…
} {قُلْ (95) فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ (96) الْبَالِغَةُ
…
}، {وَقَالَ (97) فِرْعَوْنُ (98) يَا هَامَانُ (99) ابْنِ لِي صَرْحًا (100) لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (101)} ، وتبليغ الرسل وبلاغهم يؤديان هذا المعنى أيضًا، فهو إيصال كل ما كلفوا إيصالَه عن الله إلى عباده من دينه، وشرائعه ووحيه إيصالًا كاملًا غير منقوص.
ويقال شيء بالغ إذا كان متناهيًا في صفة مميزة كقوله تعالى (102): {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
…
} أي عهود مؤكدة بالأيمان متناهية في التأكيد والتوثيق (103)، ومنه بلوغ الحلم، وقد يقصر بهذه الكلمة عن معنى التناهي، وتطلق على ما يقاربه ويشارفه لمعنى، وهذا النحو، وهو اطلاق اللفظ على قريب من معناه، شائعٌ في العربية، معدود من مجازاتها المشهورة، وعليه حُمِلَ قوله تعالى (104):{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ (105) بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ، ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَنْ يَتَّقِ (106) اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، فليس
91) سورة الأحقاف، الآية 15.
92) أدرك كمال قوته وعقله، وغاية نموه، نضج، قوي
…
93) سورة الرعد، الآية 14.
94) ليصل الماء إلى فمه.
95) سورة الأنعام، الآية 149.
96) الحجة البينة الواضحة: أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
97) سورة غافر، الآية 36.
98) فرعون اسم أطلق على ملوك مصر القدماء، ومنهم فرعون الخروج الذي اضطهد بني إسرائيل وعزم على قتل موسى فطارده وغرق في البحر.
99) وزير فرعون.
100) قصرًا عاليًا.
101) الطرق والوسائل.
102) سورة القلم، الآية 39.
103) الأحكام.
104) سورة الطلاق، الآية 2.
105) فراجعوهن إلى عصمة النكاح ان شئتم مع الإحسان في صحبتهن أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن.
106) ومن يراقب الله في أعماله ويقف عند حدوده يجعل له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا.
المراد ببلغن هنا انتهين إلى آخر ما يعتددن به، لأنهن، إن وصلن إلى ذلك، ملكن أمر أنفسهن، ولم يبق للرجال حق في إمساكهن ومراجعتهن.
وجميع الكلمات التي تلتقي مع كلمة بلغ في حروفها تلتقي معها في معناها، كالبلاغة في الكلام، وهي أن يبلغ المتكلم ما يريد من السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل والوجدان من النفس، والمبالغة في القول أو العمل هي أن يبلغ إلى نهاية الممكن من نوعهما، والبُلْغة من العيش هي أقل ما يمسك الرمق، والأقل نهاية في التدلّي والتبلغ تَفَعُّلٌ وممارسةٌ من البلغة، ومع هذا الشرح لتصاريف هذه الكلمة التي تلتقي في أصل واحد، فإن معنى كون القرآن بلاغًا لا يفهم بمجرد التعريفات الاصطلاحية، ولا بالوقوف عند حدود الذلالات اللفظية، فبلاغ معناه وصول، وهذا لا يقنع، وبلاغ بمعنى شيء بالغ أو شيء مبلغ لا يقنع، وإنما يفهم هذا ونحوه بالذوق القرآني، فإذا قلنا في معنى الجملة: هذا القرآن بما فيه من الحكم والأحكام، وبما فيه من الترغيب والترهيب، وبما فيه من رغائب الروح والجسد، وبما فيه من علوم وحقائق، وبما فيه من بيان حقوق الله على عباده وحقوق العباد بعضهم على بعض، وبيان ما ضمنه لعباده من حقوق إلى غير ذلك مما اشتمل عليه، نهاية وكفاية للناس في الاتعاظ والاعتبار، بحيث لا يحتاجون إلى غيره في إصلاح نفوسهم واعدادها للحياة السعيدة في الدارين، إذا قلنا ذلك لم نبعد في تفسير هذه الكلمة وإصابة الصواب في موقعها من هذه الجملة.
{وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} : الإنذار اعلام مع تخويف، قال تعالى (107):{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (108)} ، {فَإِنْ أَعْرَضُوا (109) فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ (110) صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} ، ويقابله التبشير، وهو الاخبار بما يُسر ويبهج، مثل قوله تعالى (111):{يُبَشِّرُهُمْ (112) رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.} وقد تستعمل البشارة في الضد كقوله تعالى: {
…
فَبَشِّرْهُ (113) بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. والْإنذار والتبشير هما أهم وظائف الرّسل، قال تعالى (114): {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
…
}، وقد كانت أولى وظائف نبينا
107) سورة الليل، الآية 14.
108) تتلهب، تتأجج، تستعر
…
109) سورة فصلت، الآية 13.
110) خوفتكم عذابًا شديدًا مهلكًا.
111) سورة التوبة، الآية 21.
112) البشرى: الخبر المفرح، والبشارة المطلقة لا تكون إلّا بالخير.
113) سورة لقمان، الآية 7.
114) سورة الأنعام، الآية 48.
عليه الصلاةُ والسلام، النذارة، أمر بالانذار الخاص لعشيرته بقوله تعالى (115):{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، ثم أمر بالإنذار العام بقوله (116):{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} . والإنذار سابق على التبشير طبعًا، لأنه يتعلق بالكافرين والمشركين، ويتوجه به إليهم، فإذا زعزع الانذار كفرَهم وشرْكهم، وآمنوا بالله، واتبعوا رسلَه، وعملوا الصالحات، جاء التبشيرُ. قال تعالى (117): {
…
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا (118) إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ (119) صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
…
} (120) وقدّم التبشير على الانذار في اللفظ أحيانًا، لأنه النتيجةُ والمقصود والثمرة (121). وقد يُطلق النَّذير على كل ما فيه إنذار وتخويف من الحوادث الكونية كقوله تعالى (122):{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} ، {وَلَقَدْ (123) يَسَّرْنَا (124) الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (125)} ، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا (126) فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ (127) النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ (128) مُنْقَعِرٍ- (أي منقلع من مغارسه) -. فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ، {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (129)} ، والقرآن مُنْذِرٌ.
ويستخلص من معنى هذه الجملة أن القرآن أنزل للإنذار، وتشهد لذلك آيات قرآنية كثيرة، أصرحها في المراد قوله تعالى (130): {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ
115) سورة الشعراء، الآية 214.
116) سورة المدثر، الآيتان: 1، 2.
117) سورة يونس، الآية 2.
118) الوحي: الإشارة، والرسالة والكتابة، وغلب استعمالُه فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله.
119) سابقة فضل ومنزلة رفيعة.
120) سورة البقرة، الآية 25.
121) يظهر أن الخطاب إذا كان للرسول قُدِّم التبشير على الإنذار وإذا كان للناس مباشرة على لسان الرسل قدم الْإنذار على التبشير.
122) سورة النجم، الآية 56.
123) سورة القمر، الآيات 17، 22، 32، 40.
124) سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ.
125) متعظ.
126) ريحًا عاصفة باردة.
127) تقلع الناس.
128) أصول نخل.
129) القمر، الآية 41.
130) سورة الانعام، الآية 19.
بَلَغَ
…
} وقوله (131): {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى (132) وَمَنْ حَوْلَهَا
…
}، {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ (133)
…
}، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ (134) بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (135)} ، وقوله:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} (136)، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} (137)، وقوله (138):{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ (139)} ، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: هو نتيجة لما قبله لأن شأن الإنذار أنه يدعو إلى التأمل وإعمال الفكر، والتأمل يستتبع الفهم، أي وليعلموا، بعد إنذار القرآن إياهم عواقب الجهل بالله والشرك به وبعد تأمّهم وتدبّرهم في دلائل القرآن وحججه، علمًا يقينيًا ما لم يكونوا يعلمونه، أو كانوا يعلمونه علمًا مشوبًا بالشكوك والأوهام، وهو أن الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وسخر الشمس والقمر دائبين (140)، وسخّر الليل والنهار، إله واحد لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، ولا يشاركه مخلوق في شيء من الخلق والتدبير.
ولا شك أنّ أول ما جاء به القرآن ووضّحه، وأعاد القول فيه وأبدأ، وأقام عليه الأدلة التفصيلية، وأحال عباده فيه على عقولهم ووجداناتهم، هو التوحيد.
{وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} : أصلُه وليتذكر، أدغمت التاء في الذال لتقاربهما في المخرج، والتذكر تفعُّلٌ من الذكر الذي هو ضد النسيان، والمراد من الذكر هنا ذكر القلب لأنه الذي يقابل بالنسيان، بخلاف ذكر اللسان الذي أصبح فتنة للمسلمين فإنه عمل جارحة، وهو فعل يُقَابَل بالترك، وإنما طالبنا الله أن نذكره بقلوبنا ولأنفسنا لنستشعر دائمًا عظمته وجلاله، ونخافه ونرجوه، فيكون ذلك مدعاةً للوقوف عند حدوده، وذلك هو نهابة الكمال الإنساني.
ولما كان الشيطان (141) بالمرصاد لهذا الآدمي، وكان هذا الشيطان قد أعطى الله العهد
131) سورة الانعام، الآية 92.
132) مكة، سميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجتهم وأعظم القرى شانًا.
133) سورة الاعراف، الآية 2.
134) سورة مريم، الآية 97.
135) قومًا أشداء الخصومة كثيري العناد.
136) سورة يس، الآية 6.
137) سورة يس، الآية 70.
138) سورة الشورى، الآية 7.
139) يوم اجتماع الخلائق للحساب.
140) يجريان بانتظام لا يفتران.
141) روح شريرة، كلّ عات متمرد من إنس أو جن أو دابة، هناك تفاصيل فيه طويلة.
وأقسم لَيُغْوِينَّه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (142)} وكانت مداخلُه إلى قلبه كثيرة، كانت أكبر وسيلة له إلى ذلك أن ينسيه ربَّه، وكان التذكر، وهو تكلف الذكر ومجاهدة النفس عليه، أمضى سلاح، يحارب به المؤمن الشيطان.
فالتذكر نتيجة عراك بين النفس المُنيبَة (143) والشيطان، ولذلك كان أمرًا شاقًا لا يقدر عليه إلا الموفقون، قال تعالى:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (144)} ، وقال:
…
(143){وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} . وقال هنا: في آية درسنا
…
{وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ، والألباب جمع اللب وهو العقل، قيل مطلقًا، وقيل هو العقل الخالص من الشوائب أخذا من أصل معناه، فَلُبُّ الشيء ولبابه هو خالصه، وهذا هو الذي يجب أن تفسَّر به هذه الكلمة في القرآن، لأننا نجده لا يذكرها إلّا في المسائل التي لا تدركها إلا العقولُ الزكية (146) الراجحة كقوله تعالى:
…
قال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . هذه الآية الكريمة من أبلغ الآيات، وأجمعها لوصف القرآن وبيان الحكم التي انطوى عليها والحقائق التي أنزل لِبيانها، فهي تعريف جامع لأشتات الفوائد المفصلة في آياته وسوره، وأنا اختار في مرجع هذه الإشارة من هذه الآية أنها راجعة إلى القرآن كله، ما نَزَلَ منه قبل نزول هذه الآية المكية وما لم ينزل باعتباره كلام الله الذي قدر إنزاله لهداية خلقه، وهذا أحد احتمالات ثلاثة يقتضيه اللفظ، وهو أعمها، وأقواها، وأقربها إلى الذوق القرآني وإلى اسلوب الآيات الواردة في وصف القرآن كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ (149)
…
}، {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (150)
…
}، {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ
…
(151)}، ولتناسب طرفي هذه السورة، فقد بدئت بذكر الكتاب الموصوف بقوله:{أَنْزَلْنَاهُ} لتحقق النزول، والكتاب إنما يطلق على القرآن كله.
142) سورة ص، الآية 82.
143) التائبة، الراجعة إلى الله.
144) سورة الأعلى، الآية 10.
145) سورة غافر، الآية 13.
146) الطاهرة، الصالحة، النيرة.
147) سورة البقرة، الآية 269.
148) العلم النافع الذي يؤدي إلى العمل الصالح.
149) سورة الانعام، الآية 92 والآية 155.
150) سورة الجاثية، الآية 29.
151) سورة الأنبياء الآية 50.
وثاني الاحتمالات أن الاشارة راجعة إلى هذه السورة، سورة إبراهيم، ورغم كونها ليست من السور الطوال فإنها مشتملة على الأصول المذكورة في هذه الآية، ففيها البلاغ، والإنذار، والإعلام بتوحيد الله، والتذكير، ومثلها كثير من سور القرآن.
وثالثها أنها راجعةٌ إلى ما بعد قصة إبراهيم من هذه السورة، وَيَبْتَدِئ من قوله تعالى (152):{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ (153) فِيهِ الْأَبْصَارُ} ، وهذا الاحتمال ضعيف ضيق، لا يقتضيه سياق الآيات التي قبله، وفرق بين الإشارة في هذه الآية والإشارة في قوله تعالى (154):{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ (155) لِلْمُتَّقِينَ} ، فإن الإشارة في تلك الآية يحسُنُ أن يكون مرجعها خاصًا، وهو قصة أُحُد (154) التي توسطتها هي، لقد وقع في قصة أحد من الحوادث ما استوجب تنبيه المسلمين أَنَّها من سُنَنِ الله التي لا تتحول ولا تتبدل إكرامًا للنبي ولا لأتباعه، والتي بني عليها هذا الدين، وقد جاء قبل تلك الإشارة قوله تعالى (157):{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ، وبعدها قوله تعالى (158):{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا، وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، فكان الأقرب في مرجع الإشارة أنه خصوص ما ورد في أثناء قصة أحد من توبيخ المسلمين على مخالفة أمر الرسول وما وقع منهم من التنازع والفشل، ونهيهم عن الوهن، والحزن، والتألم ليس الفرح. وكلمة بلاغ أوسع معنى في الاستعمالات القرآنية من كلمة بيان، كما يظهر لمتدبر القرآن، المتفقه في أسرار مفرداته وتراكيبه، المستقرئ لمواقع الكلمات فيه.
وهذه الآية من حجج الله البالغة على المسلمين الذين نبذوا القرآن ظهريًا، واتخذوه مهجورًا، وعطلوه عما أنزل إليه تعطيلًا، فهي وأمثالها من الآيات الواردة بمعناها، تبين الفوائد العملية التي نزل القرآن لتحقيقها والتي هي الحكمة من انزاله، وهم يصدون عن سبيله بالتزهيد فيه، أو يبغونها عوجًا بتأويله. فالله تعالى يأمر نبيه أن يذكّر بالقرآن، ويأمره أن
152) سورة إبراهيم، الآية 42.
153) تفتح فيه الأبصار ولا تغمض هولًا وفزعًا.
154) سورة آل عمران، الآية 138.
155) وَعَظَ: نَصَحَ وذكَّر بالعواقب.
156) غزوة انهزم فيها المسلمون بعد انتصارهم في معركة بدر، وقعت في السنة الثالثة الهجرية.
157) سورة آل عمران، الآية 137.
158) سورة آل عمران، الآية 139.
يقول لأمته (159)
…
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
…
} ويقول (160): {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
…
}. وهذه الفوائد كلها لا تتحقق إلّا بفهمه والعمل به، ولكن سواد المسلمين اليوم وقبل اليوم بقرون، ومن ورائهم علماؤهم، أصبحوا يعتقدون، وأعمالهم تشهد باعتقادهم، أن القرآن إنما أنزل لتتلى ألفاظُه تعبُّدًا وتبركًا أو هدية للآخرين، وتكتب حروفه استشفاء من الأمراض والعاهات الجسدية.
ان هذه الآية وأمثالها هي أسلحتنا التي ندفع بها في نحور أعدائنا، وحوافزنا إلى ما نحاوله من فهم القرآن وتفهيمه، وإلى ما ندعو إليه من إرجاع المسلمين إلى حظيرة القرآن.
159) سورة الانعام، الآية 19.
160) سورة الاسراء، الآية 9.