الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
2
-
الدعوة إلى المناظرة:
بقطع النظر عن هذه الدعوة التي هي من فروع المظهر الجديد، وبصرف النظر عن الداعي إليها والغاية منها وقد فهمها القارئ من عموم الكلام السابق، وبصرف النظر عن هذه الجرأة التي لم نعهدها في الطرقيين ومأجوريهم، وبصرف النظر عن المسائل التي سموها مسائل خلاف، (وسنجيب عنها ونفصل القول فيها للأمة لا لهم)؛ بصرف النظر عن هذا كله نقول: إن المناظرة في الشيء تستدعي نظيرين، أي مثيلين في المعنى الذي يتناظران فيه، والمناظرة المطلوبة هنا في مسائل علمية دينية لَابَسَها تاريخ المسلمين الطويل، وداخلتها عوائدهم واجتماعياتهم وأثر فيها هذا وذاك.
وإذا كنا نحن الطرف الأول في هذه القضية، ونحن علماء نقول في الدين بِدَلِيلهِ المعتبر، ونتكلم في التاريخ بعلله وأسبابه، ونقول في العادات بمناشئها وآثارها، ونرجع كل شيء إلى أصله، ونرد كل حادثة إلى سببها، ونربط بين الدليل ومدلوله والعلة ومعلولها، فإن الطرقيين بالطبع هم الطرف الثاني، وهل بلغ الطرقيون أن يكونوا نظراءنا بالعلم والدين والتاريخ والاجتماع؟
نحن نعرفهم حق المعرفة، ونعرف أنهم جهلاء ويفخرون بالجهل، وأنصاف أميين ويتباهون بالأمية، إذ ليس العلم ولا القراءة شرطًا في طرقهم ولا في مشيختهم، ونعرف أنهم لا يملكون من أسلحة هذا الميدان إلا العناد والإصرار على الباطل.
ولو كانوا علماء لما بلغ النزاع بيننا وبينهم إلى هذا الحد، ولرَجَوْنا- إن لم يزَعْهم الدين- أن يزَعَهم العلم.
ولقد نعلم أنهم لا يجهلون هذا من أنفسهم، ولا يبلغ بهم الغرور أن يناظروا علماء من الطراز الذي تحتوي عليه جمعية العلماء، وإنما يعتمدون في هذه المناظرة على موجودات آلية يسمونها علماء عوَّدوها أن تنطق باسمهم وتسبح بحمدهم وتحامي عنهم بالباطل.
ونحن لا نعترف بالعلم لهذا الصنف المتهافت على أبواب الزوايا المتعيش من فضلاتها، ويأبى لنا شرف العلم أن يكون هؤلاء المسلوبو الإرادة الفاقدو الاستقلال في العلم نظراءنا في المناظرة، لأننا بلَوْنَاهم في العمل فوجَدناهم جبناء، وبلَوْنَاهُم في العلم فوجَدناهم يحكمون الهوى ولا يحكّمون الدليل، وبلَوْناهم في الكتابة فوجَدْنا أَمْثَلَهم يسمي البدع المنكرة عوائد دينية ..
أَمَعَ هؤلاء تكون المناظرة؟ لا، وشرف العلم.
فقد تحقق أن هذه المناظرة التي دعوا إليها ساقطة سقوط شرطها الأساسي مِن قِبَلهم وهو النظير.
أَلا إنهم من إِفْكِهم ليتداهون ويختلون بهذه الدعوة إلى المناطرة، لنُجِيبَهم فنعترف لهم بالكفاءة، أو نسكت عنهم فيقولوا عنا: أَحْجَموا وخافوا، أو نُجيبَهم بالحقيقة (كما فعلنا) فيقولوا: إن جمعية العلماء تحتقر العلماء ويتباكون ويشنعون.
ولا والله ما شيء من هذه اللوازم بصحيح وما كنا لنَزنَهم بغير الميزان الذي وضعوا أنفسهم فيه، وما كنا لنُصِمَّ آذاننا عن دعوة حق تُوجَّه إلينا، وإننا لننقاد إلى الحق بشعرة، وماكنا لِنَكِعَ عن النزال، لو كان في الميدان أبطال، وما كنا لنحتقر العلماء المشرفين للعلم المنقادين به إلى الحق، وأما العلماء الأذناب والعلماء الذيول والعلماء الذين يؤثرون الخَلْقَ على الحق فهيهات أن نقيم لهم وزنًا.
ثم ما لهؤلاء القوم يؤكدون في رسالتهم إلينا الكذبة التي افتجروها وهي أنهم دعونا إلى المناظرة في المراض البلدي (1) فتأخرنا؛ ثم يجيئون في آخر رسالتهم بشروط للمناظرة منها أن تكون تحت إشراف لجنة من أساطين العلم والدين والفتيا، ومنها أن تكون تحت إشراف الحكومة لحفظ الأمن .. ! ومنها أن تكون في مكان بعيد عن الصخب والشغب
…
تعالى الحق: أين كانت هذه الشروط يوم دعونا- بزعمهم- للمناظرة؟ وهل كانت متوفرة كلها؟ أم بدا لهم من فضيحة الكذبة ما لم يكونوا يحتسبون؟
أيتها الأمة: إننا مع هؤلاء القوم على النحو الذي قال فيه الشاعر:
بنو دارمٍ أكفاؤهم آل مسمع
…
وتنكح في أكفائها الحبطات
1) أي الملعب البلدي.
وإن لنا في الدعوة الإصلاحية سلفًا صالحًا يبتدئ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينتهي إلا بقيام الساعة، وإنَّ لهم في بدعهم وضلالاتهم سلفًا طالِحًا يبتدئ من الشيطان ولا ينتهي إلا بقيام الساعة، وإن بين سلفنا في الهداية وسلفهم في الضلال في القرون والأجيال نحوًا مما بيننا وبينهم اليوم؛ وإن العاقبة في كل قرن وكل جيل للحق، وإن في العلماء الذين بَجَّلُوهم تقليدًا وجهلًا، وينتسبون إليهم كذبًا ودجلًا مَنْ هو حجة عليهم بعمله لو كانوا يفقهون، ومن هو أنكى عليهم منّا في التشنيع والإنكار لو كانوا يقرأون، ولكنهم لا يفقهون ولا يقرأون. وإن علماء هذا العهد في الأقطار الإسلامية الأخرى فريقان، فريق يحمل على المبتدعة حملتنا وينتصر للحق انتصارنا، ويدعو المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وهدي السلف الصالح من أمته دعوتنا، وفريق ضعفت إرادته فاشترى المبتدعة ضميره ودينه ولسانه وقلمه، فأصبح ينصر أباطيلهم باسم العلم، ويزيّن أضاليلهم باسم الدين، ويدافع عنهم كما يدافع (المحامي) المأجور عن القاتل وهو يعلم يقينًا أنه قاتل.
وإن من هذا الفريق الأخير من سمَتْ همّته إلى أسفل فانتحل الطريقة مع العلم، وجمع بين الزاوية والمدرسة، وزاوج بين الاتِّجار في السبح وبين التدريس، فأصبح بطريقة النحت اللغوي (طرعميًا) أو (طقعميًا).
إن الخلاف بيننا وبين هؤلاء ليس في مسائل علمية محصورة يعدّونها في كل بلد بعدد ويكثرون حولها اللغط ليوهموا الأمة أن الخلاف علمي
…
وما لهم وللعلم؟ إنهم ليسوا علماء حتى يغاروا للعلم أو يقولوا فيه أو يكونوا طرفًا من طرفي الخلاف في مسائله.
وإنما الخلاف بيننا وبينهم في طرقهم وزواياهم وما يرتكبونه باسمها من المنكرات التي فرّقت كلمة المسلمين وجعلت الدين الواحد أديانا، فقلنا لهم ولا نزال نقول:(لا طرقية في الإسلام)، وأقمنا على ذلك الأدلة من الدين وتاريخه الأول والعقل ومقتضياته، فلماذا يرجعون بنا بعد هذا كله إلى العلم الذي هو بريء منهم وهم بُرآء منه؟
والكلمة الأخيرة التي يجب أن يسمعوها من هذا الفصل هي أنهم عوام، ووظيفة العامي الاستماع والاتّباع، فإن أرادوا التحلّي بفضيلة عرفان القدر والوقوف عند الحد فها هوذا الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد أظل زمانه وسيحضره علماء أفاضل من غير الجزائر؛ فليتفضّلوا بحضوره ليسمعوا كلمة الحق فصيحة داوية وليتبيّن حقيقتنا من كان يأخذنا منهم بالظنة
…
ونؤكد لهم أن لنا من ديننا وقوة يقيننا ما يغنينا عن الالتجاء إلى الحكومة في حفظ الأمن
…
فهل يستجيبون لهذا؟ وهلا يؤدبون كاتبهم الذي رمانا بما لا يشرّفنا ولا يشرّفهم من جعل المناظرة تحت إشراف الحكومة لحفظ الأمن؟
هذا في المناظرة وسنعود بعد قريب إلى مسائلهم.
…
وبعد الدعوة إلى المناظرة يقول كاتب الرسالة: أما بعد، فإنكم تعلمون علم اليقين الخ
…
ما سردناه سابقًا، (اسمحوا لي أن أوجّه الخطاب في هذه المرة فقط إلى حضرة الكاتب).
نحن يا حضرة الكاتب نعلم علم اليقين ونتحقّق حق اليقين أن الذي فرّق الأمة ومزّق وحدتها حتى أصبحت متنافرة إلى آخر ما وصفتها به هي الطرق التي أنت أحد رعاياها أو الموظفين في مملكتها، لا بالآثار البعيدة غير المباشرة بل بأصولها التي بنيت عليها، وبشروطها الموثقة من شيوخها وبعهودها المأخوذة على أتباعها.
أتتجاهل أن من العهود المؤكدة على المريد أن لا يدخل في طريقة أخرى ولو بعد موت شيخه (على المشهور)، وأن لا يدخل في زاوية أخرى ولا يصلّي فيها ولا يحضر مجالس ذكرها، وأن لا يعدّ أخًا له إلّا أهل طريقته، وأن يعتقد أن شيخه أكمل المشائخ وأن طريقته أفضل الطرق، وأن ما عدا شيخه مفضول أو مدع، وما عدا طريقته فباطل بحيث لو أردنا أن نحتجّ عليكم بكم لكانت النتيجة هكذا: كل طريقة في نظر الأخريات باطلة، فالكل باطل، وكل شيخ طريقة في نظر زملائه مدع أو محجوب أو كذاب فالكل كذلك بشهادة بعضهم على بعضهم، وهكذا ننتزع الدليل على بطلانكم من غير أن نخرج من العالم الطرقي.
أتتجاهل أن من العهود في بعض طرقكم أن لا يصلي ذو الطريقة خلف ذي طريقة أخرى ولا يصهر إليه وأن لا يزور قبر مسلم إلا قبر شيخه وذوي طريقته إلى غير ذلك.
أتتجاهل أن الأمة الجزائرية كانت متفرقة إلى فرق بعدد الطرق التي فيها على النحو الذي ذكرناه وكلها على الباطل، فجاءت جمعية العلماء فصيّرت الأمة فرقتين إحداهما على الحق؟
هذا ما تعلمه علم اليقين ويعلمه كل منصف لا ما ألزمتنا به من قولك إنكم تعلمون علم اليقين كذا .. ولعنة الله على من يعلم ما ذكرت
…