الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم كانت خاتمة الغرائب وأم العجائب ان هذه الجرائد التي كانت بالأمس تكتب فتطول، وتحكي فتهول سكتت بعد الإفراج عن الأستاذ العقبي دفعة واحدة وسكنت تلك الأعصاب الهائجة فسكنت بسكونها الأقلام، كأنه لا يعنيها في المسألة جريمة وقتيل، وإنما يعنيها أن ينحرف الحق وتزيغ العدالة فتساق التهمة إلى الأبرياء. فلما استقام الحق في نصابه وجرت العدالة على مِنهاجِها ساءها ذلك فسكتت، وان سكوتها لدليل عند العارفين على كلامها، وقد أصبح الناس كلهم عارفين
…
مرامي الإشاعات الأولى:
تناثرت لأول وقوع حادثة الاغتيال كلمات من مصادر مختلفة متفاوتة في الاعتبار ولم نحملها نحن على أنها تكهّنات من شأنها أن تصدر في مثل هذه الغيلة المحاطة بالغموض، بل حملناها بحسب المقامات التي صدرت عنها على أنها مقصودة وانها ترمي إلى أشياء سيكشفها الزمن.
قال قوم إن القتل سياسي، وقال آخرون إن القتل ديني، وقال غيرهم ان القتل شخصي
…
ومستند الرأي الأول: ان القتيل غمس يده في حركة المعارضة للوفد الإسلامي الجزائري ومطالبه، وكتب التلغراف المعروف يتبرأ فيه من الوفد بنوعيه السياسي والديني، فمغزى هذا الرأي سوق التهمة إلى الوفد.
ومستند الرأي الثاني: ان القتيل عالم ديني أو على الأقل ذو منصب ديني، وقد عرف بالخصومة لحركة الإصلاح الديني، ومغزى هذا الرأي جر التهمة إلى جمعية العلماء أو إلى النادي الذي هو مركزها أو إلى العقبي الذي هو ممثلها الأكبر في العاصمة.
ونحن لا نملك على الناس أهواءهم وألسنتهم، ولا نتحكّم في تخميناتهم واعتقاداتهم، كما اننا لا نذهب ظنون الناس بيقيننا في الطرف السلبي من المسألة وهو ان الاغتيال ليس نتيجة مؤامرة تتصل بالوفد أو بجمعية العلماء أو بالنادي، أما الطرف الآخر الإيجابي، وهو مصدر الاغتيال، فلا شأن لنا به ولا يقين لنا فيه بل نكل علمه إلى الله، ونكل الكشف عنه إلى القضاء العادل.
لا يصحّ الاعتقاد بأن القتل له صلة بالمعارضة للوفد، فالمعارضون كثير والمعارضة معهودة، ولا بالمضادة لحركة الإصلاح الديني، فالمضادة قديمة والقدم مظنة النسيان والخمود، والرجل واحد من عشرات الألوف من هذه الفرقة التي تحقد على الإصلاح الديني وتحمل لأصحابه الحقد والضغينة، ونحن لا نعتبر هذه الفرقة عدوة لنا وإنما نعتبرها بقية من حملة الفكر القديم الخرافي، تعتمد على نظريات سيذهب بها انتشار الإصلاح،
وتستند على سناد من القوة التي لها هوى في بقاء ما كان على ما كان، ولا تلتئم مصلحتها مع الإصلاح الديني، وسينهار هذا السناد بظهور الحق، ونحن على يقين ان وجود هذه الفرقة طبيعي، ومن سنن الله التي لا تقاوم، وسيكتسحها الزمن وتقلباته لعدم صلاحية ما هي عليه لهذه التقلبات، فقصارى صنعنا مع هذه الطائفة أن نتربّص بها صنع الله.
وقد تكالبت علينا هذه الفرقة في بعض الأحايين، وجاء بعض أفرادها في باب الكيد لنا بما لم يأت القتيل بعشره، ومع ذلك فلم تحدّثنا أنفسنا أن نلتجى في مقاومتها إلى الطرق السافلة التي تأباها تربيتنا الإسلامية، وتأباها أصول مبدئنا الإصلاحي المبني على التسامح قبل كل شيء.
أما الشيخ كحول الذي يحاول المغرضون جعله ممتازًا في باب المضادة للإصلاح ليبنوا عليه ما تسوّله لهم أنفسهم، فإننا لا ندّعي- بهتانًا- أننا أصدقاء له، ولكننا لا نجيز لأحد أن يدّعي علينا أننا أعداء له بالمعنى العرفي الذي يفهمه الناس من كلمة العداوة وهو الذي يكون من آثاره إضمار الشر والسعي في الانتقام، وإنما نحن معه كشأننا مع بقية الناس، نرى رأيًا في الدين ويرى هو خلافه، والحكم بيننا هو الدليل فإذا لم يقنع فأمره إلى الله.
ونحن لا نعتبر من هذا الرجل بخصوصه وصفه بالعلم وإنما نعتبر علاقته بالحكم، والرجل كما عهدناه ذكي نزاع بطبيعته إلى الاستقلال الفكري، فلو تركته الظروف لكان في عداد المصلحين، وعلى هذا فمعارضته للإصلاح الديني ليست ذاتية وإنما هي مصطنعة، وإذا كان في الرجل ميزة يمتاز بها عن خصوم الإصلاح فهي هذه.
والرجل يجمع إلى وظيفه الديني وظيفًا آخر إداريًا، وكلتا الوظيفتين بطبيعتهما لا تخلو من ملابسات واحتكاكات تغرس لصاحبها البغضاء في نفوس أقوام والمحبة في نفوس آخرين، وصاحب الوظيف الديني في هذا الوطن الشاذ الأوضاع غير محدود العمل ولا مضبوط المسؤولية ولا واضح العلاقة مع رئيسه، وإنما هو كالقدح الفرد يستعمل حينًا آلة كيد وحينًا جارحة صيد، ولذلك كانت معارضة الرجل بالتلغراف المشهور قليلة التأثير في نفوس العقلاء لعلمهم أنه كتب باسمه لا بيده
…
ونحن، للاعتبارات التي ذكرناها، وبطبيعة مبدئنا الإصلاحي الديني نقول بألسنة لم تتعوّد الكذب والمداجاة، ومن أفئدة لم يستقرّ فيها مع الخوف من الله الخوف من المخلوق:
إننا لم نفرح لمصرع الشيخ كحول كما يظن الخراصون، ولم نتمن قط أن تكون خاتمته هذه الخاتمة، بل قابلنا الجريمة عند السماع بها بالأسف العظيم والاستنكار الشديد، واستعذنا بالله من كيد الكائدين ومكر الماكرين وغدر الغادرين، وسألناه توفيقًا يعصم من مصارع السوء ويقي من مزالق الفتن ويحفظ من عواقب المحن.