الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإصلاح الدّيني لا يتمّ إلا بالإصلاح الإجتماعي
(خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ألقاها صبيحة اليوم الأول من أيام الاجتماع) *
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الاخوان: أما وقد جاوزت جمعيتكم خمس مراحل من وجهتها الموفّقة، وسلخت سنوات من عمرها العامر بالصالحات، وقطعت خمسة أشواط في مبدئها
الذي عاهدت الله على أن تبلغ غايته أو تموت في الدفاع عنه والنضال من دونه، ولقيت من العوارض والعوائق ما ذللته العزائم ومهّدته الهمم. وكانت نتائج ذلك كله عكس ما ظنّه المتشائمون، ورأت من عجائب صنع الله لها وبره بها وخِيَرَتِهِ لها ما لم تكن تحلم به، إلى أن كانت الحادثة الأخيرة التي ظن مدبّروها أنها القاضية على الجمعية والخانقة لأنفاسها والمقوّضة لها من أساسها، فكانت عليها كنار الخليل بردًا وسلامًا، وانها لأول حادثة في تاريخ الجمعية جمعت بين الضدين: سوء الوقع وحسن الأثر، فقد امتحن فيها إحساس الجمعية ومسّ فيها مكمن الغيرة من الأمة الإسلامية، ولو هفت منا الحلوم أو خفيت على الأمة موارد الحادثة ومصادرها، لرأيتم معنى عاليًا من معاني الحفاظ الكمينة في هذه الأمة الفقيرة إلا من الشرف والعزلاء إلا من العزائم، ولقرأتم صفحة من صفحات البطولة ظنّ الناس أن مكانها من تاريخ الجزائر الحديث خال، ولأرينا العابثين بمقدّرات الأمم كيف تكون عواقب العبث، ولكن الله سلّم وألهم الرشد فأريناهم كيف يكون الصبر في الشدائد وكيف يكون التنبّه للمكائد، وأذقناهم مرارة الخيبة وغصص اليأس وكنا نحن الفائزين.
أما وقد تمَّ كل ذلك، فقد وجب أن نقف على رأس هذه الأعوام الخمسة ونستعرض الأعمال التي تمّت فيها على يد الجمعية استعراض المعتبر بماضيه وحاله، الموازن بين
* الاجتماع العام الخامس لجمعية العلماء المسملين الجزائريين الذي عُقد بنادي الترفي بعاصمة الجزائر في سبتمبر 1936. جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 37، الجمعة 16 رجب 1355هـ / 2 أكتوبر 1936م.
أعماله وآماله، المستبصر في مبادئه ومصائره المغتبط بما قدم من صالح، وإن قلّ، المستشرف للعظائم وإن هالت وجلت.
نقف لا لنعدّ الأيام والشهور، ولكن لنعد الأعمال ونزن الأعمال بآثارها ونرى إلى أي حدّ في النجاح وصلنا، وعلى أية درجة في الإصلاح حصلنا.
إننا- أيها الإخوان- لا نزن الأعمال بما هي عليه في أنفسها ضخامة وضؤولة، وإنما نزنها بآثارها المنبعثة منها المترتبة عليها.
وإن كثيرًا من الناس حتى من أنصار الجمعية ليستقلّون هذه الأعمال في أنفسها ويحتقرونها في حدّ ذاتها فيغمطون الجمعية حقّها ويقولون انها لم تعمل شيئًا له خطر. وما أوتوا- عافاهم الله- إلا من غفلتهم عن آثار الأعمال ونسيانهم ان من الأعمال ما هو كعود الكبريت جسمه ضئيل وأثره جليل، أو كخيط الكهرباء جوهره دقيق وعمله عظيم، وان الأعمال التي يريدها هؤلاء من الجمعية ويصحّ إطلاق اسم الأعمال عليها في عرفهم، مدارس عديدة تشاد، ودروس مختلفة تُلقى، وأموال طائلة تجمع، ومرتبات ضخمة تفاض وبعثات علمية تنظّم، ومشاريع عملية تؤسّس، وصحف منوّعة تنشر، ودراسات منظّمة تذاع في الأمّة، ومواقف فاصلة تنجلي عن قوة القوي وضعف الضعيف.
إن هذا الذي يريدونه لعظيم، وان النفوس المتعلّقة به لكبيرة وانه لمن آمال جمعية العلماء، يشغل تفكيرها وتجمع له أسبابه وترصد لبلوغه كل شارقة، فاما أن تطالب به وهي لم تستكمل وسائله فلا
…
وأما أن تقاس أعمالها بهذا المقياس فلا
…
إن أقصر الناس نظرًا من يسقط في حكمه على الأشياء اعتبار الزمان والمكان والفاعل والقابل والأوضاع الخصوصية. ولو ذكر هؤلاء الأمة الجزائرية في طورها الحاضر ووضعها الحاضر، وذكروا كيف تُساس والقوانين التي بها تُساس، وذكروا الجمعية وأنها تكوّنت في ليل من السياسة غاسق وجوّ من مكائدها قاتم، وقاسوا يومهم بأمسهم، ونظروا من الأعمال إلى آثارها ومن الآثار إلى اتّساعها ومن الاتّساع إلى الحدود والآفاق، لكانوا في حكمهم أقرب إلى النصفة والمعدلة.
إنني- أيها الإخوان- أحاول في موقفي هذا أن أقصّ عليكم طائفة من الآثار المشهودة والغايات المحمودة التي وصلت إليها جمعيتكم في بضع سنين، وأحاول أن أشرح لكم النواحي التي لقيت فيها النجاح، والميادين التي صادفت فيها الفوز.
أيها الإخوان: من الغلط أن يقال إن جمعية العلماء جمعية دينية يجب أن ينحصر عملها في الإصلاح الديني بمعناه الذي عرفه الناس، ومن فروع هذا الغلط ما رماها به بعض مرضى
العقول وصرعى الجهل من أنها خرجت عن مدارها حين زجّت نفسها في بعض شؤون الحياة غير الدين.
والحقيقة أن هذه الجمعية تعمل من أول يوم من تكوينها للإصلاح الديني وللإصلاح الاجتماعي، وكل ذلك يسع الإسلام، وكل ذلك يسعه مدلولها وموضوعها وقافونها. فالإسلام دين واجتماع. وإذا كانت دائرة الأول محدودة فإن دائرة الثاني واسعة الأطراف، وان الإصلاح الديني لا يتمّ إلا بالإصلاح الاجتماعي، ولهذا الارتباط بين القسمين، فإن جمعية العلماء- وهي الجمعية الرشيدة العالمة بحقائق الإسلام- عملت منذ تكوينها في الإصلاحين المتلازمين، وهي تعلم أن المسلم لا يكون مسلمًا حقيقيًا مستقيمًا في دينه على الطريقة حتى تستقيم اجتماعيته فيحسن إدراكه للأشياء وفهمه لمعنى الحياة وتقديره لوظيفته فيها وعلمه بحظه منها وينضج عقله وتفكيره ويلم بزمانه وأهل زمانه ويتقاضى من أفراد المجموعة البشرية ما يتقاضونه منه من حقوق وواجبات، ويرى لنفسه من العزّة والقوّة ما يرونه لأنفسهم وتربط بينه وبينهم رابطة الأخوة والمساواة والمصلحة لا رابطة السيادة عليه والاستحسار دونه.
وقد نجحت الجمعية إلى حدّ بعيد في إفهام الأمة هذه المعاني الاجتماعية وتوجيهها إلى مجاراة السابقين وتهيئتها لأن تكون أمّة عزيزة الجناب مرعية الحقوق ثابتة الكيان محفوظة الكرامة صالحة للحياة مساوية للاحياء، وفي اعلامها أن بغي القوي على الضعيف قد طمس معالم الحق بينهما وردّهما إلى نوع من الحيوانية كالذي بين الذئب والخروف، حتى أصبحت الاممتطالة في الأقوياء طبيعة والاستكانة في الضعفاء طبيعة، وان طبيعة الأولين لا تتبدل إلا بعد تبدّل طبيعة الآخرين وان الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تسترجع إلا غلابًا.
ويا ويح الجاهلين، أيريدون من كلمة الإصلاح أن نقول للمسلم قل: لا إله إلا الله مذعنًا طائعًا وصلّ لربّك أواهًا خاشعًا، وصم له مبتهلًا ضارعًا، وحج بيت الله أوّابًا راجعًا، ثم كن ما شئت نهبة للناهب، وغنيمة للغاصب، ومطية ذلولًا للراكب، ان كان هذا ما يريدون فلا ولا قرة عين، وإنما نقول للمسلم إذا فصلنا: كن رجلًا عزيزًا قويًا عالمًا هاديًا محسنًا كسوبًا معطيًا من نفسك آخذًا لها عارفًا بالحياة سبّاقًا في ميادينها، صادقًا صابرًا هيّنًا إذا أريد منك الخير، صلبًا إذا أردت على الشر.
ونقول له إذا أجملنا: كن مسلمًا كما يريد منك القرآن وكفى
…
ونجحت الجمعية- كذلك- نجاحًا جليًا مشهودًا ظهرت آثاره للعيان وَلَمَسَهُ الموافق والمخالف والمعتدل والمتجانف، في تصحيح عقائد الأمّة الجزائرية وتطهيرها من شوائب الشرك القولي والعملي التي شابتها، فصحّت العقائد وصحّت لصحّتها الإرادات والعزائم،
وسنرى من نتائج ذلك صحة الأعمال التي تصدر عن تلك الإرادات وتلك العقائد، وسنرى من آثار طهارة النفوس قوّة في الأخلاق وسموًا في التفكير، ونزوعًا إلى الفضائل لأن هذه الأشياء متلازمة لا تنفك بحال.
أصبح المنتسبون إلى الإصلاح ولو من العامة يخلصون لله في عباداتهم وإيمانهم ونذورهم وأدعيتهم، ونبذوا كل ما كانوا عليه من عقد فاسد أو قول مُفْتَرى أو عمل مبتدع في هذه الأبواب كلها، وأصبحوا يفرقون بين السنّة والبدعة والمشروع وغير المشروع ويعتقدون أن الإنسان مجزي بعمله رهين بكسبه، وليست هذه النتيجة بالأمر اليسير وما كنّا- لولا عون الله- لنبلغ هذا الحد من النجاح فيها، ولكن ماذا أنفقنا من الأعمال في هذا السبيل؟ وماذا زرعنا حتى جنينا كل هذا الريع الزاكي؟ الحق ان هذه الآثار الجليلة كلها راجعة إلى المقالات التي نشرتها صحف الإصلاح والدروس والمحاضرات التي ما زال يلقيها دعاة الإصلاح المنتشرون في القطر. ولما كان الحق بينًا في نفسه سهل على الداعين إليه بيانه والاستدلال عليه ونقض الشبهات القائمة حوله وإن اختلفت مراتب المدعوين في سرعة التلقّي بالقبول.
وقد اتضحت الفكرة الإصلاحية في هذا الباب وحفظت مسائلها وعلمت دلائلها حتى أصبح في مقدور كل إنسان بيانها والدعوة إليها لإقامة الحجة عليها، وهذا شأن الحق في كل زمان.
نجحت الجمعية أيضًا في إلفات الأمة إلى القرآن وفي جمعها عليه وحملها على التدبّر في معانيه، لتأخذ منه كل نفس على قدر استعدادها وتستنير من عبره وزواجره ما يسوقها إلى الخير ويزعها عن الشر حتى يكون المؤمن مسوقًا بالقرآن مدبرًا به. وسنرى من تأثير القرآن في النفوس ما يحقّق الأمنية التي تاق إليها حكماء الأمم وأعياهم الوصول إليها، وهي الكمال الروحي من طريق سمو الأخلاق وهي الغاية التي وصل إليها سلفنا وما وصلوا إليها إلا بالقرآن.
وقد كانت هذه الأمة معرضة عن القرآن مشغولة عنه بما لا يفيد، معتقدة فيه العقائد السخيفة مستغنية عن فهمه بحفظه مع تقصيرها في أداء لفظه، مستعيضة عن تلاوته بتلاوة الأوراد والأذكار، وعن دراسته بدراسة كتب جافّة من وضع المخلوق لا تبعث في النفس نشاطًا ولا تنشر في القلوب حياة ولا تغرس في الأفئدة فضيلة، ولا تقتلع منها رذيلة، ولا تشرف على القلوب المظلمة بنور، ولكنها بدأت اليوم ترجع إلى القرآن وتستجلي أنوار الهداية وأسرار الكائنات من آياته، وتأخذ الحياة قوية من تعاليمه، وكأنها برجوعها إلى القرآن تجدد نفسها وتستأنف في الحياة تاريخها، وعسى أن تنتهي من هذه الوجهة الجديدة إلى غايتها، فتنتهي إلى السعادة والخير.
وأفلحت الجمعية في تبيين السنّة النبوية المحمدية معنى ومفهومًا، وحمل الأمة على الرجوع إليها علمًا وعملًا، والتمسّك بالصحيح الثابت منها فعلًا وتركا، والاهتداء بهدي السلف الذين هم نقلتها وتراجمتها والمؤتمنون على فهمها، والعاملون بها والواقفون عند حدودها، والناشرون لدقائقها والناصرون لحقائقها والمبلغوها سهلة سمحة إلى الأمم على أنها بيان لكتاب الله توالفه ولا تخالفه، وشرح عملي لدين الله يؤيده ولا يعانده، وطريق إلى سعادة الدارين لا يضلّ سالكه، ولا يفلح تاركه، وسلّم موصل إلى الحياة العزيزة الكاملة المبنية على العمل المغذي للهمم والإقدام المغذي للعزائم والقوة التي هي عماد الحياة.
نجحت الجمعية كذلك في نشر سير عظماء الإسلام الحقيقيين الذين قاموا بحمله، والذين قاموا بنشره، والذين قاموا بتمثيل هديه وتطبيق قواعده وأصوله في النفوس بالتزكية والتهذيب، وفي العقول بالتنوير والتأديب، وفي الأمم بالتعليم والرفق والتسوية، وفي الأرض بالتعمير والأمان، وفي الحكم بالعدل والإحسان، وفي الملك بالعزة والقوة.
وإنّ سيرة الواحد من هؤلاء لهي الإسلام كاملًا مجسمًا، وان مثال هؤلاء الرجال هم الذين يجب علينا أن نجلو سيرهم على الناس ونتلو أخبارهم ونتقصاها ونحمل أنفسنا على الاقتداء بهم وتأثر خطاهم في كل شيء، والنفوس تؤخذ بالاحتذاء والمحاكاة أكثر مما تؤخذ بالجِبِلَّة والطبع، وإن أمثال هؤلاء هم عماد التاريخ الإسلامي الذين تبذل الجمعية جهدًا غير قليل في احيائه بهذا الوطن وفي تحبيبه للمسلمين ليبنوا حاضرهم الخرب على ماضيهم العامر وليعلموا أنهم ليسوا عالة على التاريخ، ولا متطفلين على الزمن ولا واغلين على مائدة الحياة، وإن مكانهم من التاريخ- لو عرفوا- هو الصدر، وإن حظهم من الحياة غير منزور، لو أحسنوا كيف يحيون.
ومن العجيب أن الأمم الإسلامية- وهي أغنى الأمم في باب الأسماء العظيمة- كانت وما تزال الكثرة منها تحتفي بأسماء نالت- في جنون من الدهر وعربدة من التاريخ واضطراب في العقل- حظًا من الشهرة بما لا يشرف قدرًا ولا يعلي منزلة ولا يثير ذكرى حية، وأفاضوا على هذه الأسماء صبغة من التقديس وجعلوها معاقد لِأَيْمَانهم واعلامًا لولدانهم، وإننا لنجد في الأسماء الرائجة بيننا ترديدًا فاحشًا لهذه الأسماء المنومة، وقل أن نجد بيننا اسما من الأسماء التي تعد تواريخ مستقلة وبدءًا في الخلق وتجديدًا في الحياة، والتي تثير عند سماعها معاني العزة وذكريات الشرف والرفعة.
ونجحت الجمعية- أيها الإخوان- في إلفات الأنظار إلى شيء لم يكن بيننا منسيًا، وإن كان مجفوًا وهو هذا اللسان العربي الشريف الذي هو قطعة من كياننا
التاريخي وشرط أساسي لوجودنا القومي وشهادة قاطعة بصحة نسبنا الديني ونسبنا الجنسي، وإن من العار الفاضح أن يفخر الواحد منا بانتسابه إلى العرب وهو لا يعرف شيئًا عن لغة العرب ولا شيئًا من تاريخ العرب، وقد أشرفت هذه اللغة الشريفة على الاضمحلال بهذه الديار لولا أن تداركتها جمعية العلماء وأخذت بيدها وانتشلتها من الحضيض الذي وصلت إليه، فاستعادت على يدها شبابها، ووصلت بسبب الدين الحنيف أسبابها، وأصبحت الجزائر في مدة قليلة تفاخر أمصار العربية الكبرى ومنابتها الأصلية بأدبائها وكتّابها وشعرائها وخطبائها.
أيها الإخوان: إن جمعيتكم تفخر بأنها نجحت في جمع طوائف عظيمة من الأمّة الجزائرية على الحق بعد أن كانت كلها متفرقة على الباطل، واستطاعت أن تعلمهم معنى الاجتماع على الحق والخير وكيفية الاجتماع على الحق والخير، وتحبّب إلى نفوسهم كلمة الاجتماع وحضور المجتمعات بعد أن كانت لا تجتمع إلا على شر أو مأثم.
وبأنها نجحت في دعايتها إلى العلم النافع الصحيح وفي دعايتها إلى الأخوة الإسلامية الحقيقية- وبأنها انتصرت في حملتها على الخرافات والأوهام والدجل وانتصرت أو كادت في حربها للجمود والعوائد الضارة والتقاليد السخيفة- وبأنها أفلحت في تربية الأمة على عدم الخوف إلا من الله والرهبة إلا منه وأن تواصل فيه وتقاطع فيه وأن تبني حياتها على الأعمال والأسباب، وفي تربيتها على تقدير الكفايات وتقديم الأكفاء لشؤونها العامة، وفي إرشادها إلى وجوه البذل المشروعة المعقولة بعد أن كانت تبذر أموالها فيما يضر ولا ينفع، وفي تحبيب الدين وشعائر الدين إلى طوائف من الشباب المهمل وإشرابهم معنى العزة الإسلامية وكرامة النفس.
وإذا رجعنا إلى الأخلاق، أيها الإخوان، وجدنا نجاح الجمعية ظاهرًا في جمهرة من الأخلاق الفاضلة غرستها في نفوس الأمة الجزائرية، فجمعية العلماء هي التي علمت الأمّة خلق التضحية في الصالح العام، وخلق الصبر عليه ومطاولته وخلق القصد في الاعتقاد والتفكير وخلق الاعتماد على النفس، وخلق الصراحة في القول والجرأة في الرأي والكلام إلى ما يتصل بهذه الأخلاق من فروع ولوازم.
أيها الإخوان: إن أغرب ما يؤثر عن جمعيتكم بل هو أول ما نجحت فيه، هو إثبات وجودها في وقت كانت تتناثر فيه الجمعيات كحب الحصيد، وتتهاوى المشاريع كأوراق الخريف، والاحتفاظ بتوازنها في طريق غاصّ بالعواثير، وتسييرها لسفينة الحق في بحر مضطرب الأمواج، وثباتها في وجه الباطل في وقت تكالب فيه الأعداء وتخاذل الأولياء، فهنا العبرة البالغة للمعتبرين، وهنا الموضوع الخصيب للباحثين المستنتجين.
أيها الإخوان: هذه لمحات مقتضبة غير مرتبة ولا متناسقة من آثار جمعيتكم قصصناها عليكم لا إدلالًا بالعمل، فهو في ذاته قليل، ولا افتخارًا بالنتائج فوراءها ما هو أكمل منها وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، ولكن تسلية على ما لم تصل إليه اليد من الكمال الذي ننشده وينشده أنصار الجمعية وهي بعد سائرة في طريقها، متكلة على الله معتمدة على ولائكم لها وإخلاصكم في خدمتها. وإن التفافكم حولها هو ذخرها الثمين الذي تعدّه لبلوغ الكمال والإقدام على عظائم الأعمال، ودرعها الحصين الذي به ترد عدوان العادين وكيد الكائدين.
وقد فزعت بالأمس فهببتم هبة رجل واحد، كلكم يذود وكلكم يحمي، وإن لهبتكم تلك لَمعنًى عرفه أعداء الجمعية فأطرقوا، ثم انجلت الغمة فهببتم هبة أخرى كانت أروع وأوقع، فهل أنبئكم أن تلك الهبات هي الامداد التي تمد الجمعية بالحياة والبقاء والبركة والنماء.