الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن هذه الأمّة الجزائرية فقدت كل شيء، ولكنها لم تفقد دينها الذي علّمها كيف تميّز المحسن من المسيء، وعلّمها كيف تكافئ الإحسان وإن قلّ، بالإحسان الكثير، وكيف تكافئ الإساءة بالإساءة عدلًا وبالإحسان فضلًا، فليدع المتخرصون هذه الأمّة المظلومة، وليعذروها في مظهرها الجديد الذي ظهرت به ولا يحملوه على أنه نكاية في حزب وتحيّز إلى حزب. فمن الظلم الفاضح أن تلوم الجائع المغرور إذا هش لكلمة الإحسان، ونطقت جوارحه قبل لسانه بشكر المحسن، وقد كانت هذه الأمّة تقابل أقل من هذا بأكثر من هذا، وعند المسيو فيوليت الخبر اليقين، فسلوه يخبركم أنه لم يظفر سياسي بمثل ما ظفر به من حب الجزائريين وتقديرهم وامتلاك قلوبهم، كل ذلك لكلمة خير قالها فيهم وسعي صالح سعاه في مصلحتهم، على ما يتطرق ذلك السعي من شكوك واحتمالات وعلى أنه لم ينجز من سعيه قليل ولا كثير.
فكرة المؤتمر
يسجّل التاريخ المنصف فكرة عقد المؤتمر الإسلامي الجزائري للأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، فقد كان نشر في جريدة (لاديفانس) في عددها الصادر في 3 جانفي سنة 1936 آراء له في السياسة الجزائرية كان لها وقع عظيم، ومن تلك الآراء التي ارتآها الأستاذ عقد مؤتمر إسلامي جزائري، فكان أول من فكّر في عقد هذا المؤتمر قبل فوز الجبهة الشعبية بأشهر، وللأستاذ- حفظه الله- آراء في شؤون الأمة الجزائرية ترجع في مردّها إلى هذا الأصل. وهو أن المرجع في مسائل الأمة هو الأمة، والواسطة لذلك هي المؤتمرات. ونحن مع تسليمنا لوجاهة فكرة الأستاذ، نعتقد مستيقنين أنه لو دعا داعٍ قبل اليوم إلى عقد هذا المؤتمر- كيفما كانت منزلة الداعي في الأمة- لما باء إلا بالخيبة والفشل لأسباب يعرفها كل أحد، أما وقد فازت الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية وأصبحت أزمة الحكومة الفرنسية بيدها فقد أصبح عقد المؤتمر ميسورًا ومتأكّدًا في آن واحد، فماذا وقع؟
كانت الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر العام من قسنطينة، وكانت قوية مؤثرة بقوة مصدرها ومكانته في الأمة، ومصدرها رئاسة جمعية العلماء التي هيأت الأمة للاستجابة لدعوة الحق، بعد أن علّمتها الحق، ورئاسة جمعية النوّاب التي لم تعرف الأمة معنى النيابة وحقيقة النيابة إلا منها، والتي ضربت المثل للإخلاص للمصلحة العامة والتفاني في خدمتها، وللأمة بهاتين الجمعيتين ثقة واسعة الحدود ثابتة الأسس.
لذلك كان صوتهما مجتمعًا أشدّ تأثيرًا في النفوس وأدعى إلى الاستيثاق والقبول. فما كادت تسمع تلك الدعوة الجامعة وتقرأ في الصحف عن عقد المؤتمر، الصادرة عن رئيس جمعية العلماء ورئيس جمعية النوّاب بقسنطينة حتى تلقّته الأمة بآذان مرهفة ونفوس متطلعة مستشرفة.
لم يكن بين الدعوة إلى المؤتمر وبين عقده إلا أيام قليلة فلم تنظّم له دعايات واسعة
كما هو الشأن في المؤتمرات الخطيرة، بل كان الاعتماد فيه على إحساس الأمة واتجاهها الصادق إلى المطالبة بحقوقها أكثر من الاعتماد على الدعاية والإعلان.
وكل ما وقع من الأعمال التمهيدية انعقاد لجان تحضيرية من الشبّان والعمّال ورجال الصنائع والفلّاحين وقدماء المحاربين، في قسنطينة والجزائر وتلمسان وبعض مدن القطر، لتنظيم المطالب الخاصّة المتعلّقة بهذه الهيئات ولإعانة المؤتمر على أعماله العامة. ولو تراخى الزمن وانفسحت المدة بين الدعوة إلى المؤتمر وبين عقده لكان المظهر أروع، والعديد أكثر.
ولعلّ بعض الناس يرى من الحكمة أن لو تأخّر انعقاد المؤتمر مدة عن الدعوة حتى تعدّ له العدد اللازمة، وحتى تدرس المطالب وتختمر الآراء، وتتقارب وجهات النظر، إذ ليست المطالب الجزائرية من الأمور الهيّنة التي لا يضرّ وقوع الغلط فيها، بل هي في حقيقتها بناء مستقبل الأمة بأسرها، وان غلطة واحدة في تلك المطالب لتؤدّي إلى تجرّع الأمة مرارتها أحقابًا.
والجواب عن هذه الملاحظة التي سمعناها بآذاننا من بعض أولي الرأي، ان السبب الأكبر الداعي إلى التعجّل بالمؤتمر أقرب إلى الحكمة من هذه الملاحظة على سدادها، وهذا السبب هو مسابقة الحوادث العائقة، والمفاجآت الطارقة التي قد تعرقل المؤتمر وتبطئه، أو تفسده وتبطله، وأقلّ ما يترتب على هذا من المفاسد تفسخ العزائم وفشل الإرادات وانتكاث القوى، وما أكثر هذه الطوارئ في هذا الوطن، وما أكثر العاملين على هدم المشاريع، فما عسى أن يكون في التعجّل من أخطاء موهومة لا يوازن بما ينشأ عن التأخّر من أخطار محققة، على أن من مبررات التعجّل أيضًا انعقاد المؤتمرات على أثر تشكيل الوزارة الجديدة وهو مبرر له مغزاه.
ولعلّ هذه الملاحظة لا تندفع إلا إذا حلّلنا المطالب الجزائرية بعض تحليل، ذلك أن هذه المطالب ترجع إلى أصلين: مفاسد تدرأ ومصالح تجلب. وقد تستقلّ إحداهما عن الأخرى وقد تتلازمان، فإذا طلبنا إلغاء (الانديجينه)(1) مثلًا فقد طلبنا درء مفسدة محققة لا يتنازع فيها اثنان من غير أن تترتّب على درئها مصلحة إيجابية.
وإذا طلبنا إلغاء قرار شوطان القاضي بتعطيل الصحف العربية قبل بروزها، فهذه مفسدة يترتّب على درئها مصلحة إيجابية وهي حرية الصحف العربية، فنكون قد حصلنا على فائدتين: درء مفسدة وجلب مصلحة. وهكذا يقال في حرية الفكر والاجتماع والتنقّل وفتح
1) كلمة فرنسية ( indigenat) معناها "الأهالي"، ويطلقها الفرنسيون على الجزائريين احتقارًا لهم. وقانون الأنديجينة صدر في سبعينيات القرن الماضي، لا يطبق إلا على الجزائريين، وهو أبشع القوانين المعروفة في العالم وأقساها.