الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الطرقيين*
بمناسبة رسالتهم الى جمعية العلماء
ــ
-
1
-
في هذه الأيام التي تحركت فيها الأمة الجزائرية للمطالبة بحقوقها الدينية والسياسية وتقاربت آراؤها في تلك المطالب، وأوشكت أن تتّحد على المصلحة العامة.
وفي هذا الوقت الذي رفعنا فيه الصوت بالدعوة إلى نبذ ما بقي في الأمة من الحزازات الحزبية والنزعات الطائفية، لتظهر في هذا الموقف الحرج بالمظهر الذي يرضي ربّها ويعزّ دينها ويحزن خصومها.
وفي هذا الوقت الذي انتقلنا فيه من ميدان انتصر فيه الحق على الباطل، والعلم على الجهل، والسنّة على البدعة، والحقيقة على الخرافة، والدليل على الشبهة، إلى ميدان آخر من ميادين الحياة أعددنا له العدّة التي كانت مفقودة، ووجّهنا له الأمّة التي كانت بحبال الطرقية مشدودة، ورجونا أن ينتصر فيه العدل على الجور، والمساواة على الأنانية والأثرة، ويعتز فيه الشرف الإسلامي القومي بجميع مقوّماته.
وفي هذا الوقت الذي فرغنا فيه من حرب الطرقية وأضاليلها، وأرحنا الألسنة والأقلام من بيان آثارها السيئة في المسلمين، وقتلها لمشاعرهم، وتفريقها لكلمتهم، وتفريغها لجيوبهم، وانتهاكها لأعراضهم، وقضائها على الأخلاق الصالحة في نفوسهم، وتمكينها فيهم للعبودية لغير الله والذلّ لغير الله والخوف من غير الله.
وفي هذا الوقت الذي شعر فيه المسلمون بتقوّض الهيكل الطرقي وتداعي أركانه للسقوط، وشعرت فيه جمهرة المسلمين بلزوم الاعتصام بحبل الله المتين وهو القرآن،
* جريدة "البصائر"، العددان 80 و 81، السنة الثانية، 3 و 17 سبتمبر 1937، (بدون إمضاء) وقد عثرنا على مسودة المقال بخط الإمام.
والرجوع إلى هديه والتحاكم إليه وإلى سنّة مَن نزل على قلبه، وبلزوم إحياء الأخوة الإسلامية الواسعة الجامعة وطرح الأخوة الطرقية الضيقة المفرّقة.
وفي هذا الوقت الممتاز بهذه الخصائص في تاريخ الجزائر الحديث، تظهر فيه هذه الطرقية الخاطئة بمظهر غريب يتنافى مع موقف الأمة الحاضر، وإن لم يكن غريبًا من طبع الطرقية وأخلاقها من يوم ابتلي بها العالم الإسلامي إلى الآن.
وقد مهّدوا لهذا المظهر المريب بدعوى طويلة عريضة والانتصار للعلم والحرص على نشره وقد كانوا بالأمس أعدى عدوّ له، وبدعوى أطول منها وأعرض في السعي لتوحيد الأمة، وقد كانت طرقهم هي السبب في تفريقها وتمزيقها، وبدعوى أعرق منهما في باب البهت والزور وهي أن الحركة الإصلاحية الدينية هي التي فرّقت كلمة الأمة الجزائرية.
تجلّى هذا المظهر الجديد بالأمس في اجتماع الطرقيين الذي سمّوه كذبا "المؤتمر الديني العام"، وما هو في الواقع إلّا زردة من زردهم المعتادة دفعهم إليه الحنين إلى الزرد، فإذا هو هي لم ينقصه إلّا الطبول والمزامير، ولم يزد فيه إلّا أنهم خطبوا فيه وكتبوا عنه وسمّوه بغير اسمه.
ثمّ تجلىّ هذا المظهر في جمعيتهم التي سمّوها "جامعة اتحاد الطرق الصوفية" وغمروها بكثير من الدعايات الكاذبة على طرائقهم المعروفة.
…
كل العقلاء يعلمون ويعتقدون أن هذه الألفاظ التي يكسون بها هذا المظهر الجديد ألفاظ لا حقيقة لها، لأن معانيها ليست طبيعية فيهم فمتى كانت الطرقية ناصرة للعلم وهي تعلم أن لا وجود لها مع وجوده؟ ومتى كانت الطرقية سببًا من أسباب الاجتماع على الخير العام؟ ومتى كانت من طبيعتها الأصلية أن توحّد الناس بالمعنى الاصطلاحي للاتحاد؟ نعم: إنها توحّد معتنقيها في شيء واحد، في غايتها التي هي شرّ شرورها وهو هذا الاستسلام المطلق الذي تبتليهم به، وهذا البله المستحكم الذي أنساهم خالقهم وحقائق دينهم وتاريخهم وأذهلهم عن أنفسهم، وانتزع منهم أخلاق الرجال وعزائم الرجال، وصيّرهم آلة مُسخَّرَة في يد الشيخ وأبناء الشيخ والمقرّبين من الشيخ، ثم صيّرهم آلةً في يد كل ظالم للأمة ومعتدٍ على صفوفها، ثم مطيةً لكل راكبة، ثم حجّة على انحطاط المسلمين، ثم حجّة على الإسلام نفسه.
وكل العقلاء يعلمون أنه إذا كان هذا الاندفاع الجديد من الطرقيين ليس من طبيعة الطرقية، فهو واقع- لا محالة- بدوافع خارجية، بعضها من زعماء الطرق الذين نضبت
موارد رزقهم منها، فهم يحاولون استدرار الرزق، وبعضها من المتحكّمين في هذه الأمة الذين أحسّوا بتقلّص ظلّ استبدادهم فهم يحاولون لها استمرار الرزق، ويعلمون بذلك أن الغاية المرجوة لهؤلاء الدافعين والمدفوعين هي التشويش على العاملين لخير هذه الأمة، وإلقاء الأحجار في طريقهم، وإشغالهم بهذه المظاهر الباطلة عن الحق الذي يعملون له، وإبعاد من يقع في حبالة كيدهم من العامة عن حظيرة الاتحاد الحقيقي.
ولو كان لهؤلاء المدفوعين بقية عقل يوجه إليها الخطاب، وبصيرة تنفذ إلى عواقب الأمور، وصلة بالأمة تحملهم على الشفقة عنها- لما أقدموا على الظهور بهذا المظهر الجديد، ولَتعلّموا أن اليد التي حركتْهم إنما حركتهم لتصفع بهم الأمة الإسلامية، وأنها إنما حركتهم لتسكن بهم الحركة المنبثة في الأمة الإسلامية، وأنها إنما أيقظتهم لتوقظ بهم فتنة في الأمة، ولتحدث بهم خللًا في صفوف الأمة وشللًا في الأعضاء العاملة للأمة- ولكن القوم لا يعقلون، وهيهات أن يعملوا لكرامة الأمة وإعزازها، وهم بشهادة التاريخ والواقع الساعون في إذلالها، أو يسعوا في إنقاذها من الظلم وهم كانوا ولا زالوا أظلم الناس لها، استعبدوا أرواحها ثم عبَّدوا أبدانها للغير وأَكَلَةِ مَالِهَا باسم الدين، ثم أسلموها للمعتدين.
ولقد تفرسنا فيهم فصحَّت الفراسة، وبلَوْناهم فصدق الابتلاء، وجرَّبْناهم فكشفت التجربة على أنهم لا يعرفون الأمة إلا في مواقف الاستعباد وابتزاز الأموال، فإذا مَسَّها الضر وتنكَّر لها الدهر تنكَّروا لها وتجاهَلُوها، وإن علاقتهم بالأمة علاقة السيد بعبده والمالك لمملوكه لا علاقة المسلم بأخيه المسلم، يحب له ما يحب لنفسه، وأنهم مطايا الاستعمار الذُّلُل وأيديه الباطشة؛ بل القنطرة التي هوَّنت عليه العبور، وانهم كانوا ولا زالوا على خلاف ما وصف الله به عباده المؤمنين أعزة على الأمة أذلة على المستعمرين والحكام المستبدين، وأن ليس في صحائفهم السوداء موقف يعز الإسلام أو يرفع المسلمين. وهذا تاريخهم الماضي الملحود، وتاريخهم الحاضر المشهود يسجلان عليهم أنهم أعوان على هذه الأمة للدهر، وحلفاء عليها للفقر، وإِلْبٌ على دينها مع التبشير بالكفر، وانهم هم الذين أَمَاتُوا رهبة الإسلام ونخوة الإسلام بخضوعهم واستسْلامهم، كما أمَاتُوا حقائقه بأساطيرهم وأوهامهم، وأنهم مردوا على الملق والمداهنة المزرية بشرف الإسلام في المواقف التي تسمو عن المجاملة وتقتضي نهاية الصدق في المعاملة.
ولئن شِئْنا لنفضحنهم فضيحة يَسِمُهُم عارها إلى يوم القيامة، ويَصِمُهم بأنهم ليسوا من الأمة ولا كرامة، وتكون خاتمة الحجج الناطقة باستسلامهم واحتقارهم لأنفسهم ولإسلامهم، فقد وقعت بأيدينا من زمن قريب نسخة مخطوطة من القانون الأساسي لجمعية الطرق الدينية بقسنطينة مطبوعة بختم الجمعية وممضاة بإمضاء كاتبها العام فعجبنا أولًا لعدم طبع القانون كما هو شأن الجمعيات، ثم تَلَمَّسْنا السر في مواده فإذا في بعضها ما نصه: إن
ـ[مخطوطة]ـ
عامل العمالة (1) هو الرئيس الشرفي للجمعية، وإن كل متصرف إداري يكون هو الرئيس الشرفي للشعبة التي تتأسس- في دائرته، فحينئذ علمنا السر في عدم طبع القانون وانه خشية الافتضاح عند الأمة التي أصبحت تحس وتميز وتدرك، وعلمنا السر في هذا الاندفاع الأخير
…
وفرضنا مع ذلك أنهم لو كتبوا هذا القانون قبل أعوام لافتخروا جهارًا بما فيه من خزي وألزموا الأمة بما فيه إلزامًا، وحمدنا للحوادث أن أوقفتهم هذا الموقف المزري حتى أصبحوا يتسترون بما كانوا به يفتخرون. وسنستدرك ما قصروا فيه من طبع القانون بنشره على الأمة.
ويا ويحهم .. أفي الوقت الذي يعترف فيه أشد الحكام استبدادًا بأنه لا مدخل له في الدينيات، وفي الوقت الذي نجاهد فيه لانتزاع مساجدنا وجمعياتنا الدينية من أنياب السلطة، وفي الوقت الذي نسمع فيه من رجال فرنسا المسؤولين: إن تدخل الحاكم غير المسلم في أي شيء ديني إسلامي- وإن لم يمنعه القانون- هو عارٌ وأمر قبيح، لا يجمل بحاكم ذي همة أن يرضى به، في هذا الوقت يعمدون عن طوع واختيار إلى إسناد رئاسة الشرف عن جمعيتهم المنسوية إلى الدين إلى الحكام الإداريين .. لو لم يكن في الأمر ما فيه
…
...
نكتب هذا والأسف يملأ جوانحنا على أَنْ عُدْنا للكتابة في موضوع فرغنا منه بحثًا وتحليلًا، وفارقناه على أن لا نعود إليه حصرًا للجهود وانتقالًا إلى ما هو أعم فائدة.
ولكن القوم- بعد سكوت عميق، وبعد خيبة شاملة في مُنَاوأتهم للحق الذي ندعو إليه- عادوا للتحكك بنا بالباطل والتهجم علينا بالكذب وراجعوا شنشنتهم القديمة في التدجيل والتضليل، وادعاء العلم وهم ليسوا من أهله، والظهور بنصر الدين وهم أول القائمين بخذله، والهتاف باتحاد الشعب الجزائري وهم القاطعون لأصله المنقطعون عن فصله.
قرأنا منذ أيام في الجرائد الافرنسية بمدينة الجزائر إعلانًا من جامعة اتحاد الزوايا عن اجتماع لهم عقدوه، وزعموا في التنويه به المزاعم- وهذا لا يهمنا- وأنهم دعوا جمعية العلماء للحضور فيه بقصد المناظرة في مسائل الخلاف بينهم وبينها فأحجمت عن الحضور - وهذا محل الشاهد-.
نترك المناظرة ومسائل الخلاف للفصل الآتي، ونقول في أصل دعوتنا إلى الاجتماع معهم: إنها كذب وبهتان، وإنها لم تقع، ولم تبلغنا بوجه من وجوه التبليغ، لا مَعَ رسول ولا برسالة،
1) أي المُحافِظ أو الوالي.
وقد نشرنا تكذيبًا لهذه الفرية في تلك الجرائد باسم مراقب جمعيتنا العام، ونحن نتحقق انه لا دعوة ولا مناظرة، بل ولا اجتماع بالمعنى المعروف للجمعيات، ولا ذلك العديد الأوفر الذي زعموه من الحاضرين، وإنما الغاية هي ما أسلفناه، ولكنها كانت مكيدة مفضوحة.
ثم قرأنا في جريدة النجاح تفصيلًا أو تعريبًا لما أذاعوه في الجرائد الفرنسية، وفيه وصفنا بالجماعة الوهابية، فلم نزدد من العلم إلا أن هيفاء عادت إلى أديانها ولم نبال بهذا ولم نستغرب الكذب مِمَّن رأس ماله الكذب.
هذا فصل أول، وأما الفصل الثاني فهو أننا تلقينا صبيحة يوم الاثنين الماضي رسالة مضمونة متتوجة باسم جامعة اتحاد الطرق الصوفية، ومنتعلة باسم كاتبها العام. وبين التاج والنعل سطور جميلة الخط (قريبة الأسلوب في أساليب التوثيق من المحاكم) ولكن تحتها من المعاني ما يضحك الثكل، ففيها بعد البَسْمَلة بالقلم العريض: تعالوا إلى المناظرة. وفيها بعد اسم رئيس جمعية العلماء والسلام عليه ورحمة الله ما نصه بالحرف: "أما بعد، فإنكم تعلمون علم اليقين أن ما فكك الأمة المسلمة الجزائرية ومزق وحدتها حتى صارت متنافرة متخالفة بعد أن كانت متقاربة متألفة هو ما أدخلتموه عليها من التشكيك في أمر دينها اعتقادًا وعملًا، وأفتيتموها في كل مسألة خلافية بما يعد خروجًا عن دائرة الحق والإنصاف وولُوجًا في ورطة الشذوذ والاعتساف، ولطالما انتظرنا رجوعكم إلى الجادة، ولكن ذهب انتظارنا سدى. وبناءً على هذا فإننا ندعوكم باسم الدين إلى "المناظر" في المسائل الآتي ذكرها، ونرجوكم أن لا تتخلفوا كما تخلفتم في المرة الأولى عن موعد المناظرة، ولكم الشكر".
هذا نص الديباجة، وبعدها سرد المسائل، وهي إحدى عشرة مسألة وسنشرحها، وبعدها شروط المناظرة التي غفلوا عنها في الدعوة الأولى المكذوبة.