الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
----------------------------
3 -
كلمة في الاحتفالات
وتصوير وصفي للاحتفال العظيم بختم القرآن العظيم*
----------------------------
الاحتفالات- بنظامها العصري- مجامع مفيدة من جميع جهاتها، لجميع روّادها. فهي بالنظر العام أدوات تعارف وتواصل وربط بين من لم تتهيأ لهم أسباب الاجتماع إلا في هذه الاحتفالات. وأسواق بضائعها الخطب والمراجعات القولية، وأرباحها الإيجابية آداب الاجتماع. وتلاقح الأفكار، واقتباس الكلمات واستيقاظ الهمم. واستعجال الآراء وانتشال التفكير من المستوى العامي الغث وصقل الأذهان، وتمكّن مجموعة من الملكات منها ملكة استعراض الآراء وملكة استجماع الخواطر، وأرباحها السلبية زوال الدهشة من لقاء الناس والاستيحاش منهم وغشية الاضطراب والارتباك. والبرء من آفة العي والحصر. وهي- لعمرك- نقائص حظ مجتمعنا- على الخصوص- منها عظيم.
وهي للدعاة ميادين دعاية يجدون فيها متسعًا رحبًا لنشر آرائهم بدون كلفة وبدون نفقة لأنها تحشد لهم طبقات من الناس ما كانوا ليستطيعوا جمعها.
وهي للمرشدين والمربّين الاجتماعيين فرص لبث الإرشاد بين الجمهور وتوجيهه للخير والمنفعة.
وهي للخطباء وأصحاب اللسن ذرائع تمرين وارتياض على الكلام وتوسّع في وجوه القول وتمرّس بمكافحة الجموع، وهذه كلها فوائد لا يُستهان بها في باب التربية.
إن هذه الاحتفالات بمثابة دروس تطبيقية معظم تلامذتها من الدهماء الذين حرموا المدارس والدروس النظامية. وإذا كان هذا الصنف كثيرًا في الأمم فمن الرحمة به وحسن الرعية له ومن الحكمة في استصلاحه وتربيته أن يوسّع له في هذه الاحتفالات ويكثر له منها وأن تبتكر له المناسبات لإقامتها.
وإن أكثر الناس استفادة من الاحتفالات وأبلغهم إفادة فيها وأثقلهم عهدًا في توجيهها إلى الصالح النافع أو إلى الفاسد الضار، هم الخطباء، فعليهم وحدهم يتوقف إصلاحها أو إفسادها، وليست خصوصية الأسباب ولا تحديد النظم بمانعة للخطباء من بلوغ غرضهم ما دام باب المناسبات والاستطرادات واسعًا رحب الجوانب، وما دام وجود الخطباء في الاحتفال جزءًا ضرورًيا بحيث لو خلا من عنصرهم- في هذا العصر-
* "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان- جويلية 1938، [ص:168].
احتفال لكان زردة متمدنة مظلومة في اسمها، فوجودهم هو الفارق الجوهري بين مسمّى (احتفال) ومسمّى (زردة).
…
تتفاوت الاحتفالات بتفاوتها في سمو المعاني التي تقام لأجلها، فبقدر سمو السبب وعموميته تكون قيمة الاحتفال، ثم تنزل تلك القيمة وترخص كلما تفه السبب أو خصّ حتى تصل إلى درجة الساقط الذي لا وزن له. ولا يدخل في هذا الباب إلا بضرب من التوسع والتساهل. فأسمى هذه الأسباب ما يذكر الجمهور بأمجاده التاريخية ومفاخره القومية وفيه نخوة أماتها الضيم، وفحولة قضى عليها التأنث، وذكرى أخنت عليها الغفلة والنسيان، وأصالة خَبَّثَتْها الأعراق الدسيسة، وعزيمة أطفأتها طباع الضعف والفسولة، وأريحية غطى عليها اللؤم المخزي والشح المطاع، وشواعر خدرتها تهدئة الدخيل وزمزمة الحاوي وهينمة الواغل
…
ثم ما يجلو عليه حقيقة دينية أو علمية غشيتها الأوهام والخرافات. ثم ما يحقق له مصلحة في الحياة كانت مجهولة أو حقًا فيها كان ضائعًا. ثم ما يكشف له عن وجوه الإصلاح الاجتماعي ليعملوا له، وعن وجوه الفساد فيه ليتقوه.
ثم
…
لا ثم
…
هذا من جهة الأسباب والبواعث. فأما من جهة الأشكال والصور فأعلى ما فيها أن ينساق إليها الجمهور بسائق وجداني، وأخسّ ما فيها أن يساق إليها سوقًا، أو أن يخدع فيها عن وجدانه بالمرغبات الخادعة.
…
لكل أمّة أسباب طارئة وبواعث تاريخية تدعوها إلى إقامة الاحتفالات. وقد تنبهت الأمم الحية إلى ما فيها من الفوائد فجعلت الاحتفال بها جزءًا من حياتها ومادة من قوانينها الاجتماعية. وإن الأمّة الإسلامية لأغنى الأمم من هذه البواعث التاريخية وكلها من ذلك الطراز العالي الذي أشرنا إليه. ومعظمها بواعث دورية يفضي الباعث منها إلى باعث فلا تفتأ الأمّة مستعرضة ماضيها كله ولا تزال في غمرة من المنبهات المنعشة.
عندنا معشر المسلمين ليلة الميلاد النبوي وعندنا يوم الهجرة ورأس السنة الهجرية ويوم بدر ويوم أحد ويوم فتح مكة وغير ذلك من الأحداث التي وقعت في عهد النبوّة، ولكل واحد من هذه الأحداث مغزى سام وأثر بالغ في تاريخنا، وهلم إلى ما بعد من الوقائع
الشهيرة الفاصلة حتى تنتهي إلى فتح صقلية ومواقع الحروب الصليبية وفتح القسطنطينية، وهلم ما يخصنا معشر الأفارقة كبناء القيروان واستواء طارق على الجبل، وهلم ما تقتضيه المناسبات في بعض الأوقات كفتح خيبر ودخول عمر لبيت المقدس. وتعال إلى القوّاد والفاتحين والأجواد والعلماء والحكماء والفلاسفة والشعراء- ولا تعد من الدر إلا كباره- تجد ما زخرفه التاريخ وفاضت به العصور. ومع هذه المفاخر فقلّ أن تجد قطرًا إسلاميًا سنّ أهله سنّة صالحة في إحياء هذه الذكريات وإحياء الأمّة بها، إلا في القليل المشوّه الذي لا ينقع غلة ولا يصيب مرمى.
إن غفلتنا عن إحياء ذكريات أمجادنا التاريخية هي التي أزهقت في الأمم الإسلامية روح التأسّي فأفقرتها من الرجال وجعلت تاريخها الحديث خلوًا من المثل العليا، حتى اندسّ هذا العرق الخبيث في آدابنا فترانا إذا التمسنا مثلًا في الجود، طوينا تاريخ الإسلام كله كأنه صفحة مغسولة، وجئنا من العصر الجاهلي بحاتم وقل مثل ذلك في عنترة والسموأل. فإذا قصرنا الخطو وقاربنا النجعة، وقفنا عند العصر الأول للإسلام. فهل خلت العصور التي بعدهم من مثل كاملة ومن مفاخر خالدة؟ لا. فقد تأسّى عصر بعصر وجيل بجيل، فجاءت عصور زاهرة وأجيال عامرة. فلما جهل التاريخ وانقطعت العلائق الواصلة بين عصوره، ضعفت روح التأسّي ثم تلاشت، وصرنا إلى هذا الفقر الشائن في المثل، وهذا الخواء المزري في التاريخ.
وقد زادتنا أضاليل الغاشين إمعانًا في الغفلة وإغراقًا في الركود. ففقهاء هذه العصور الجرداء يعدّون التاريخ علمًا لا ينفع وجهالة لا تضرّ، والأجانب يعيّروننا بأننا أمّة تعيش في الماضي ويغشّون سفهاءنا في معرض التنصح بأمثال هذه الكلمات ليًا بألسنتهم وتزهيدًا في هذا الماضي زيادة على زهدنا فيه. وهم يعلمون أننا نعيش بلا حاضر. ويوجسون خيفة من أن يلمّ بنا طيف من ذلك الماضي الزاهر فنبني عليه حاضرًا من جنسه أكمل منه.
أَلا إنهم- من إفكهم- ليقولون: دعوا ماضيكم، فهل تركوا هم ماضيهم؟ إننا نراهم أحرص الناس على الاعتداد به والاستمداد منه والامتداد معه إلى عصور الخرافات والأساطير.
وما لنا وللغاش والناصح! إن لنا لماضيًا عبقريًا حسدتنا عليه الأمم التوالي، بعد أن جرضت به الأمم الخوالي. فمن مصلحتنا وحدنا أن نحيي ذكرياته في نفوسنا وأن نستمد منه قوة لأرواحنا وأن نربّي ناشئتنا على احتذاء مثله وعبقرياته. وإن إقامة الاحتفالات لتلك البواعث لطريق قاصد إلى ما نريد من ذلك.
***
سنت مجلة "الرسالة" الغرّاء نوعًا من الاحتفاء ببعض هذه البواعث، فجرت على إصدار عدد ممتاز للسنة الهجرية، وجلا كتّابها الكرام علينا عبرًا كانت مخبوءة، وأثاروا في نفوسنا ذكريات كانت منسية. ورأينا من بركات هذه السنّة التي سنّها الأستاذ الزّيات- أمتع الله به- أن أقلامًا عربية متينة كانت متنكرة للإسلام وتاريخه تعفّر وجههما الصبوح بالغبار وتمجّ في مشرعهما الصافي السمام المنقع، وقد أصبحت تفتن في إبانة حقائقهما وإظهار معالمهما بما أوتيت من قوة بيان ونصاعة برهان، ثم كتب الأستاذ صاحب الرسالة مرة أو مرّتين- لا أذكر- في ذكرى يوم بدر، وكأنه- حفظه الله- يريد بهذا الصنيع أن يجعله منبهة للأمم الإسلامية إلى ما وراءه من خير، ولكن لم يكن على منهاجه إلا القليل.
ومنذ سنوات احتفلت عصابة من أحياء القلوب والشواعر بموقعة حطين، وهي من المواقع الفاصلة في الحروب الصليبية ومن الصفحات المشرقة في تاريخ صلاح الدين، وتكلم فيها جماعة من رجال الإسلام، ونشرت كلماتهم في كتيّب وقرأناه، فإذا هو احتفال يثير رواكد الهمم، ويكاد ينفخ الحياة في الرمم، ولقد- والله- أشجاني وأبكاني، وما زال يشجيني ويبكيني كلما ذكرته، قول صديقنا الأستاذ خير الدين الزركلي في أنشودة حطين:
لكل أمر حين
…
خل البكا حينا
هاتي صلاح الدين
…
ثانية فينا
الشامخ العرنين
…
عزا وتمكينا
وجددي حطين
…
أو شبه حطينا
لك الله أيها الشاعر. وهل يأتيك بصلاح الدين إلا أمّتك؟ وهل يجدّد لك حطين إلا قومك الذين بدأوها؟ ولكن، هل أمّتك مستعدة لأن تأتيك بصلاح الدين مرّة أخرى؟ وهل قومك أهل لأن يجدّدوا موقعة حطين وفيهم أمثال عبد الله
…
؟
قد خلت الآجام
…
من رابض فيها
أحي في أمّتك وقومك خلق التأسّي بمن قلت فيه:
فصاح: لا عدوان
…
لا بغي لا إرهاق
قد فرض الإيمان
…
مكارم الأخلاق
وأنا الضمين بأنهما يأتيانك بجمع من صلاح الدين، ويجدّدان لك حطين، وأشباه حطين.
لا نريد للمسلمين أن يعكفوا على تلك الاحتفالات المولدية الشائعة التي يقتصر فيها على تلاوة القصص المشوّهة، فإن ذلك الطراز لا يتفق مع شرف الذكرى وجلالها. وإن القصص المولدية الحشوية، والخطب المنبرية الرائجة هما سبب تنويم هذه الأمة وأصل بلائها.
ولا أن نعكف على ذلك النوع الشائع في مصر كمولدي البدوي والرفاعي وغيرهما، فإن ذلك النوع- زيادة على إفساده للدين والأخلاق- لا يثير في النفوس ذكريات ماجدة ولا معاني شريفة وإنما يمكّن فيها للتخريف والدجل.
ولا ذلك النوع الشائع في الأوساط الشيعية من احتفالهم يوم عاشوراء بذكرى مقتل الحسين- عليه السلام فإنه فضلًا عما يقع فيه من المنكرات المخجلة، لا يثير إلا الحفائظ والإِحن ولا يثمر إلا توسيع شقة الخلاف، ولقد حضرت احتفالهم مرّة واحدة بدمشق في تربة تُعرف بأرسلان، فعجبت كيف تصدر تلك الشناعات من مسلم، وعلمت لأول مرّة: إلى أي حدّ ينتهي التعصّب والغلوّ، ثم ذاكرت عالم الشيعة بدمشق الشيخ عبد المحسن العاملي وهو عالم فاضل أديب معتدل في ذلك، فأنكر ما أنكرت بالقول، واعتذر عن الإنكار بما فوق ذلك بما يعتذر به علماء الدين في كل مكان.
لا نرضى للمسلمين بهذا الطراز البالي من الاحتفالات التي ذكرنا بعض أنواعها، فقد عكفوا عليها قرونا، فما زادتهم إلا خبالًا وانحطاطًا، وإنما نريد منهم محوها واستبدالها بما هو خير.
وقد تتابع السواد الأعظم من إخواننا المصريين في هذا النوع السخيف مثل ما تتابع الفريق المثقف منهم في تقليد الغربيين في هذا الباب بلا تحفّظ ولا استمساك، فبينما سواد الأمّة وعديدها الأكثر، عاكف على الأضرحة، يقيم حولها احتفالات الموالد ويرجو منها الإمداد وعلماء الدين يمدّونهم في الغيّ بسكوتهم، ومشيخة الأزهر تزكي أعمالهم بتقبيل شيخها لمقود جمل المحمل. نرى الطرف الآخر يتهالك على تقليد الغربيين في ولائمهم واحتفالاتهم السخيفة بالتوافه والسفاسف ويستهتر في هذا التقليد حتى تطغى احتفالات الغرب الدينية والقومية حتى على المواسم الشرقية الدينية، وهذه جرائدهم ومجلاتهم تشهد- في ضجر وعتب أو في رضى وإعتاب- بأن هذه الطائفة، وهم عمار الحواضر يحيون ليلة الميلاد المسيحي وعيد رأس السنة المسيحية ولا يأبهون لعيد الفطر ولعيد الأضحى.
ولعمري إن هذا لهو الاستعمار الروحي الذي لا يُعدّ الاستعمار المادي معه شيئًا مذكورًا!
أولم يكن لهم آية أن شوقي- رحمه الله يقول على لسان كليوباطرة ملكة مصر، تخاطب خدم قصرها:
لا تسيروا على ولائم روما
…
سرفًا في الفسوق واستهتارا
مصر إن أولمت سمت بالأغاني
…
درجات وأسمت الأشعارا
فهذه كليوباطرة وهي كما يقولون: أنثى أفنت العمر في الهوى. أنفت (أو أنف لها شوقي) أن تسير ولائمها على ولائم روما. فلئن كان هذا الكلام مما ألم معناه بخاطر كليوياطرة وجرى لفظه على لسانها فهي أصدق وطنية وأنبل نزعة من هؤلاء المقلّدين، وإن كان إنما تخيّلها شوقي كذلك فما أراد إلا عظة هؤلاء وما عنى إلا إياهم وما وجّه الخطاب إلا إليهم. وليس شيء من ذلك بمستنكر على شوقي.
ويا ليت إخواننا هؤلاء استبدلوا غربًا بغرب فقلّدونا نحن- ما دام التقليد مبلغ جهدهم- في كثير من هذه المعاني التي يقلّدون فيها الغربيين، ألسنا مغاربة؟ ألسنا أحق باسم الغرب بالنسبة إلى مصر؟ وإنما أوروبا شمالي مصر. وقد شرع لهم حافظ هذه التسمية في قوله:
وَدَعُونا نشم ريح الشمال
أم يقولون: إننا برابرة ومتوحشون: فنعم وكرامة عين. ولكننا مع ذلك شداد في الاستمساك بحبال الشرقية في كثير من مناحي الحياة. ولقد صاحبنا الاستعمار أكثر من قرن فما استطاع لنا هضمًا.
خالفنا الاتجاه قليلًا ولمسنا ببعض العتب علاقة عزيزة علينا، وعزيزًا علينا أن نراها مسرفة في التقليد، غالية في المتابعة على غير هدى على حين نأتم بها ونعدها لإمامة الشرق كله، فليهنأ إخواننا أننا تلامذتهم، ولكن في غير ما هم فيه تلامذة الغرب
…
...
لم تعرف الجزائر في ماضيها من الاحتفالات إلا تلك الصور العادية الساذجة في العيدين الدينيين، وإلا الزرد الموسمية في بعض الجهات، وإلا نوعًا آخر هو أقرب إلى الاحتفال المنظّم لو خلا من المحظورات الدينية. وحلا بالمشارب القومية والفوائد الاجتماعية. والعامة تُطلق على هذا النوع اسم "الأركاب" وهم يعنون جمع ركب بسكون الكاف كأركاب خالد ابن سنان بصحراء بسكرة، وركب عامر لقبر عطية قرب قلعة بني حماد، وركب قسنطينة لقبر ابن عبد الرحمن بالجزائر، وركب البليدة لقبر الشيخ أبي مدين بتلمسان، وكلها من شدّ الرحال غير المشروع، وكلها قريبة من النوع الذي نعيناه على المصريين وإن كانت أقلّ منه فسادًا أو إفسادًا.
وعرفت الحواضر الجزائرية شبه احتفال بالمولد النبوي، يقتصر فيه على التجمير والتقصير وتلاوة قصة من القصص الحشوية الشائعة. ولقد حضرت- منذ سنوات- حفلة مولدية من هذا النوع بحاضرة الجزائر، وسمعت عالمًا أزهريًا يقرأ على الناس قصّة مولدية- لعلها مولدية
المناوي- فسمعت من بعض ما كان يقول قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من أمام كما يرى من خلف بعينين خلقهما الله في قفاه
…
وكان بجنبي فقيه مقرئ، خفيف الروح، سلفي النزعة، فتغامزنا بالإنكار ولم نستطع جهرة إذ كان ذلك قبل انتشار الحركة الإصلاحية، ثم أسر إليّ على سبيل الدعابة قوله: أبى الله إلا أن نكون أسبق منكم لكل شيء فعندنا من هذه (الماركة) من العلماء من يقول ويكتب: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يولد من السبيل المعتاد
…
ولبثت الجزائر محرومة من هذا النوع المفيد الذي يغرس المعاني السامية في النفوس بأسبابه وبواعثه، ويزرع المبادئ العالية والمعارف والآداب في العقول بما يقال فيه إلى أن كان عهدها الأخير وكانت نهضتها العلمية الدينية. فلأوائل هذه النهضة شعرت بما للاحتفالات من أثر صالح في النهضات، فالتفتت إليها وجعلتها إحدى ذرائعها لتعضيد الأعمال والمشاريع ونشر المبادئ الصالحة وبث الأفكار النافعة، وترقت بها مع الزمن حيث النظام واختيار المناسبات حتى أصبحت تنافس أرقى ما عُرف من نوعها عند الأمم الأخرى.
…
لعل أروع احتفال شهدته الجزائر في عهدها هذا هو الاحتفال بفتح مدرسة «دار الحديث» بتلمسان في أواخر شهر سبتمبر من السنة الخالية، فقد كان بدعًا من الاحتفالات في نظامه. وفي ضخامة العمل الباعث عليه، وفي جلال المناسبة والذكرى، وفي احتشاد الأمّة له، وفي علوّ الطبقة التي شهدته وتكلّمت فيه من العلماء والشعراء، وقد وصفته الجرائد في حينه، وإنما جلبته هنا مناسبة الحديث عن الاحتفالات.
ثم جاء الاحتفال بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لدروس التفسير بالجامع الأخضر بقسنطينة- وهو الذي ألهمنا كتابة هذه الكلمة- فكان شاهدًا لما ذكرناه قريبًا من تطور هذه الأمّة في هذه الناحية، ودليلًا على أن نظام الاحتفالات بلغ في هذا القطر كماله، وعلى أن روح التأسّي في الصالحات حييت في هذه الأمّة وانتعشت، وانها أصبحت تهتبل الفرص المواتية فتحسن الاختيار.
أذكر أننا كنا في جماعة من الرفاق الأوفياء، تذاكرنا مرّة في إقامة حفلة تكريم لرفيقنا الأستاذ بن باديس تنويهًا ببعض حقه على العلم وشكرًا لأعماله الجليلة وآثاره الحميدة في التعليم بهذا الوطن، واعترافًا بكونه واضع أسس النهضة. وإنصافًا لكونه أسبقنا إلى التعليم وأشدّنا اضطلاعًا به وأكثرنا إنتاجًا وتخريجًا فيه
…
وذهبنا في تقدير الفوائد التي تُجنى من هذا الاحتفال مذاهب لا غلوّ فيها ولا إسراف. ثم فاتحنا أخانا الأستاذ بهذه الفكرة، فكان الجواب قوله: دعوا هذا حتى تختم دروس التفسير- وبيننا يومئذ وبين الختم سنوات-
كأنه يرى أن عمله في التفسير هو أجلّ أعماله في التعليم، وأنه بإتمامه لهذا العمل يستكمل مزية الاستحقاق للتكريم والإجلال من أمّته إذ يكون قدّم لها عملًا تامًا ناضجًا وصورة كاملة من مجهوداته زيادة على ما خرج لها من رجال
…
كأنه- حفظه الله- كان معلّق البال بهذا العمل ويخشى أن تقطعه قواطع الدهر.
وأراد الله، فحقّق للأستاذ أمنيته من ختم التفسير وللأمّة رجاءها في تسجيل هذه المفخرة للجزائر، ولأنصار السلفية غرضهم من تثبيت أركانها بمدارسة كتاب الله كاملًا. وبدت مَخَايِل الختم من أواخر السنة الخالية فكثر الحديث في الاسمار وفي المنتديات عن الاحتفال وصوّرت منه الخواطر احتفالًا ملء الأمل. وكذلك كان. والحمد لله.
تألّفت لجنة تنظيم بمركز الاحتفال "قسنطينة" وأعدّت للاحتفال برنامجًا محيطًا محكمًا وجعلت شعاره كله (القرآن) فالوفود وفود القرآن والضيوف ضيوف القرآن، وأذاعت توقيت الاحتفال باليومين الرابع والخامس من شهر ربيع الثاني، ثم عدلت عنهما إلى الثاني عشر والثالث عشر منه لعوارض قاهرة لا يملك معها الخيار. وأضرّ تأخير ذلك الأسبوع بطوائف من الأمّة كانت تسابق بالاحتفال أشغال الصيف وتكاليف الفلاحة، وهي تكاليف لا يملك معها الخيار أيضًا ..
انهالت الوفود القريبة الدار على قسنطينة يوم الجمعة وتلاحقت الأمداد يوم السبت، وشعر الناس شعورًا عامًا أن الجامع الأخضر لا يسع الوافدين إذا انهال سيلهم، وان محلًا ما من المحلات العامة لا يسعهم أيضًا. فألهموا من غير تواطؤ، العمل بقاعدة التمثيل فأرسلت كل بلدة وفدًا محدود العدد يمثّلها، فلم تبق بلدة من عمالة قسنطينة كبيرة أو صغيرة إلا ومثّلها وفد في مهرجان القرآن، فرأينا هناك وفود البلدان الساحلية من بجاية إلى الحدود التونسية ووفود مناطق التلول من سطيف إلى سوق أهراس ووفود المناطق الصحراوية من بسكرة إلى سوف. وتكاملت عقود هذه الوفود بوفد عاصمة الجزائر الضخم المؤلّف من مائة وثلاثين شخصًا، ثم وفد تلمسان وهو أقصى الوفود دارًا عن قسنطينة، فبينهما ما يزيد عن ألف ميل، ولكن جاذبية القرآن هوّنت عليه النصب واللغوب.
رأى الوفد التلمساني أن يقطع الطريق من الجزائر إلى قسنطينة في سيارة أوتوبيس ذات أربعين مقعدًا ليجمع بين الفائدة والنزهة وعمل بالاتفاق مع الوفد الجزائري على أن يخرج الوفدان من الجزائر معًا ويدخلا قسنطينة مساء السبت معًا.
وبلغ أهالي سطيف أن الوفدين يمران ببلدتهم فأبى عليهم كرمهم إلا أن يقيموا لهما حفلة شاي فاخرة. وأرسلوا للوفدين استدعاء مع رسول خاص، مبالغة منهم في البر والاحتفاء. وخرج الوفدان من العاصمة على الساعة السادسة من صباح السبت في قطار من
السيارات الضخمة يتكوّن منها منظر ساحر خلّاب ووصلوا سطيف على الثالثة بعد الزوال، فتلقّاهم إخوانهم السطيفيون على بضعة أميال من المدينة بباقات الزهر وطيب التحية، واجتمع الجميع على مائدة الشاي الحافلة.
ثم استقل قسم من وفد سطيف سيارة ذات خمسين مقعدًا، وخرج الجميع آمّين قسنطينة، وقد زاد الموكب كمالًا وجمالًا.
خرج أعضاء لجنة الاحتفال من قسنطينة في بضع سيارات للقاء موكب الوفود على خمسة وعشرين ميلًا إبلاغًا في المبرّة، فتهلّلت الأسارير عند اللقاء وطفحت الوجوه بالبشر وانطلقت الألسنة بالتحيات المباركات وتصافحت القلوب قبل أن تتصافح الأيدي وامتزج شماس الأصيل بشعاع الوجوه المستبشرة، فكان منظرًا سحر أخاذًا لا يستقل بوصفه إلا شاعر، ولست بشاعر. ثم انتظمت السيارات موكبًا بديعًا وزحفت إلى قسنطينة فدخلتها بعد المغرب وليس وصف مشهد دخول هذا الموكب إلى قسنطينة وانغماس الضيوف والمضيفين في غمرة من نشوة الفرح البالغ إلى حدّ الذهول بالذي يسعه بياني وإن وسعه إدراكي وعياني.
اجتمعت وفود الغرب بوفود الشرق في مدرسة التربية والتعليم التي أعدّت مكاتبها وطبقاتها وقاعاتها لهم أحسن إعداد. وبعد أداء فريضة العشاء انصرفوا إلى موائد المضيفين على تقسيم عجيب ومزج غريب يرجع الفضل والشكر فيه إلى لجنة الاحتفال.
وقد تبارى كرام القسنطينيين- أحسن الله إليهم- في إكرام الوافدين وهزتهم الأريحية هزّة بعد العهد بمثلها، وتجلّت الضيافة العربية الباذخة في أجلى صورها، يزينها نظام دقيق دفع هجنة الفوضى ووصمة الاختلال التي تصاحب الاحتشاد والكثرة. فلم يتخلف مضيف عن ميعاد، ولم تختل لضيف وجبة، ولم يفترق للمجتمعين في منزل شمل. وتضاعفت الوفود صباح الأحد، فتضاعفت الحفاوة والبشر وتجلّى الاستعداد الهائل واتسعت الصدور فاتسعت المنازل وتنوّعت صنوف البر حتى وسعت تلك الوفود الزاخرة سكنًا مرفهًا وكلًا مترفًا في أيام الاحتفال ولياليها. وارتفعت الكلف بين كل نزيل وأبي مثواه حتى لتحسبهم إِخوة رحم أو عشراء دهر.
ثم تلطفوا فخصّوا الوفود التي لم تسبق لها زيارة قسنطينة، بنوع من التكريم وهو الطواف بهم في أوقات الفراغ على معالمها وقناطرها العجيبة وواديها المدهش ومناظرها الساحرة وغمروهم بفيض من الرقة واللطف أسرت ألبابهم وأنطقتهم ببليغ الشكر فانقلبوا إلى أهلهم يحملون الإعجاب والإكبار ويضمرون المحبة الصادقة والولاء المحض.
هذه هي الاجتماعات التي كنا ننشدها فلا نجدها، هذه الاجتماعات التي تثمر التعرّف الحقيقي وتجمع أفراد الأمّة على الدين والخير والعلم. وقد زادها إخواننا القسنطينيون تمكينًا وشرعوا من آداب الضيافة مناهج سيحتذيها المترسمون ويذكرونها لهم بالجميل.
وما ظنّ الذين يفترون علينا الكذب ويتقوّلون علينا الأقاويل؟ أفي مثل هذا الاحتفال من أعمالنا شائبة نقد أو رائحة إضرار بأحد؟
…
كان من المتوقع- على بعد- أن تسمح الإدارة بوقوع الختم في الجامع الأعظم لاتساعه لأضعاف ما يتسع له الجامع الأخضر- وقد طلب منها ذلك واتخذت وسائله- فأبت، فما كان من لجنة الاحتفال وكرام القسنطينيين إلا أن قرّروا أن يفسحوا في المجالس للوافدين وأن لا يزاحموهم في مقاعد الجامع الأخضر ساعة الدرس، ونفّذوا هذه الخطة على أن تكون مكافأتهم من الأستاذ إعادة درس الختم في ليلة أخرى بعد انحسار الوفود عن قسنطينة.
وما كادت تشرق شمس يوم الأحد حتى اكتظّ الجامع الأخضر بالوفود، فلم يبق فيه متنفس وشمل الخشوع تلك الصفوف المتراصّة حتى لا حركة ولا ضوضاء. وتجلّى جلال كلام الله في بيت الله فكان مشهدًا يستنزل الرحمات، ويتكفّل باستجابة الدعوات. وصعد الأستاذ المفسّر منبر الدرس فشخصت العيون وخفتت الأنفاس واستهلّ بتلاوة المعوذتين. وشرع في تفسيرهما بما هو معهود منه، فلا يحتاج إلى نعت ولا إلى إطراء (وقد نشر ملخص الدرس في هذا العدد).
استغرق الدرس ما يقرب من ساعة ونصف أخذ الناس فيها على نفوسهم، وجلّلتهم سحابة من الخشية والسكينة. وكذلك المؤمنون الذين يخشون ربّهم بالغيب تقشعرّ جلودهم عند سماع كلامه، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله.
وختم الأستاذ المفسّر الدرس بأدعية قرآنية وابتهالات مأثورة، ثم طلب من الحاضرين أن يسألوا الله الرحمة والمغفرة لأخيهم حسين باي، مؤسّس الجامع الأخضر ومحبسه في سبيل العلم وإقام الصلاة وذكر الله كما هو منقوش على رخامة في المسجد. وذكر أن من علامات إخلاص هذا الرجل في عمله وحسن نيّته أن يسّر الله ختم تفسير كلامه من أوله إلى آخره في مدة خمسة وعشرين عامًا بهذا المسجد، فانطلقت الألسنة بالدعاء والترحّم وافترقوا على مثل ما اجتمعوا عليه بقلوب خاشعة ونفوس متراحمة وألسنة رطبة بحمد الله وشكره على ما وفّق إليه من الخير وأعان.
وكان هذا اليوم مقصورًا على درس التفسير، حرصًا على كلام الله أن يستقل تأثيره بالنفوس وأسره للأفئدة، وعلى عظاته أن تتصل بشغف القلوب. وخصّ سائر اليوم لاستراحة الوافدين ووقوفهم على معالم المدينة ومناظرها بعد أن أذنت لجنة الاحتفال فيهم باحتفالات الغد وأعماله.
***
كان يوم الإثنين الموالي ليوم الختم موعدًا لإقامة حفلة تكريم للأستاذ المفسّر، وهي الحفلة التي سبقت الإشارة إليها في كلامنا. وكان لها حظ من تصميمنا واعتزامنا، فسخر الله أسبابها في هذا اليوم. وقد تلطفت لجنة الاحتفال فأسندت رئاستها إلى كاتب هذه السطور. وكان موضع الاحتفال قاعة "كليّة الشعب" الفسيحة.
أهطعت الوفود إلى كليّة الشعب قبل الساعة المقرّرة بساعات ولم يثنهم طول الانتظار ولا اكتظاظ القاعة حرصًا على ضمان المقاعد. وصنع القسنطينيون في هذا اليوم صنيعهم بالأمس، ففسحوا في مجالس كلية الشعب كما فسحوا في الجامع الأخضر إكرامًا للوفود. وأبت الوفود إلا أن يكون لها شرك في معنى التكريم وأن يكون لأسمائها وبلدانها دخل في عداد المكرمين، فكان التكريم باسم العلماء زملاء الأستاذ وشركائه في العمل وباسم تلامذته وباسم هذه الوفود الحاشدة.
ودقت الساعة التاسعة، فتصدّرت هيئة جمعية العلماء سدّة القاعة واكتنفهم خطباء الحفلة وشعراؤها من تلامذة الأستاذ عن اليمين والشمال، وتقدّم رئيس الحفلة فقدم مقرئًا، أسمع الناس آيات من كلام الله، ثم فتح الرئيس باب الخطابة بارتجال كلمات. ثم قدم الخطباء على مراتبهم ثم الشعراء كذلك، وسيرى القارئ في آخر هذا العدد تلك الخطب والقصائد منشورة.
ولما كانت ساعات الاحتفال محدودة لا تتسع لجميع الخطباء ولا للقليل منهم، وكان التلامذة يمثّلون طبقات تمتد من أوائل النهضة إلى الآن، فقد رؤي حرصًا على الوقت والفائدة الاقتصار على من يمثّل تلك الطبقات، فتقدّم من يمثّل المتخرّجين في أوائل الحركة ثم من يمثّلون وسط الحركة واستفحالها، ثم من يمثلون الطبقة المباشرة للتعليم في السنوات الأخيرة ثم من يمثّلون الطبقة النازحة إلى جامع الزيتونة ثم من يمثّل الطبقة المستقلّة بالتعليم ثم من يمثّل تلاميذ التلاميذ. وبعد انتهاء الخطباء أعلن الرئيس استراحة ربع ساعة ثم الرجوع لسماع الشعراء.
ولما انتهى دور الخطباء والشعراء المقرّرين في منهاج الحفلة، وقف كاتب هذه السطور وارتجل خطابًا تغنّى فيه بجمال يوم القرآن وهو يوم الختم وبفوائد الخير التي سيعود بها على الأمة الجزائرية. وقد حاول كاتبان من كتّاب الحفلة أن يلتقطاه عند الإلقاء ففاتهما منه الكثير. وتقدّم إليّ الحريصون على تخليد الحفلة كاملة أن أكتب ما علق بالذاكرة من ألفاظها ومعانيها، فكتبت ما يقرؤه القارئ في آخر الخطب. وأنا أبرأ من ادعاء محاذاته كما ألقي ارتجالًا في ألفاظه ومعانيه.
وبعد خطبة الرئيس، قام الأستاذ المحتفل به وارتجل خطبة ضافية نستعيض عن وصفها ها هنا بتلخيص معانيها ونشرها مع الخطب.
وانفضّ الاحتفال على الساعة الثانية إلا ربع بعد الزوال.
ومن لطائف الاتفاق أنه خطر لبعض الهيئات تقديم هدية تذكارية للأستاذ، ولم تعلم هيئة بما اعتزمت عليه الأخرى من نوع الهدية. فلما قدّمت الهدايا أمام الجمهور بعد انتهاء الخطابة كان تناسقها مفاجأة مدهشة، وهي محفظة كتب عربية ثمينة قدّمها وفد تلمسان، وقلم تحبير ثمين معه قلم رصاص قدّمتها هيئة جمعية التربية والتعليم، ونسخة من تفسير المنار قدّمتها هيئة جمعية العلماء، ونسخة من كتاب فتح الباري قدّمتها لجنة الاحتفال.
وكما كانت هذه الهدايا لطيفة في معناها التذكاري وفي رمزها العلمي وفي تناسقها، فقد كان سرور الأستاذ بها عظيمًا ووقعها في نفسه لطيفًا. ثم تمّ التناسق ولطف الذوق في حفلة المساء حين قدّم له تلامذة كشافة الرجاء مصباحًا كهربائيًا ظريفًا وقدّم له تلامذة الشباب الفني (زربية) سجادة صلاة.
…
وفي مساء الثلاثاء اشتركت ثلاث جمعيات علمية وفنية ورياضية في إقامة احتفال زاهر فخم في كليّة الشعب ابتهاجًا بضيوف القرآن.
أما الجمعيات: فهي جمعية التربية والتعليم وجمعية الشباب الفني الفنية وجمعية كشافة الرجاء الرياضية.
وأما الاحتفال فكان ناجحًا إلى أقصى حدود النجاح، مؤثّرًا إلى أبعد غايات التأثير، ظهرت فيه جمعية "الشباب الفني"- على حداثة عهدها- بمظهر الكفاءة والتجديد وسلامة الذوق والانسجام بين العازفين في المظهر وبين القطع في المخبر. وقد عزفوا قطعًا مشجية وترنم عليها التلامذة بأناشيد أشجى، حتى لقد رأيت كثيرًا من عمار الصفوف الأمامية يبكون تأثّرًا، وان أنس فلا أنس التلميذين اللذين أنشدا نشيد الترحيب على عزف (البيانو)، انهما لطراز عال في رخامة الصوت وسلامة الأداء وجمال المنطق حفظهما الله وأقر بهما أعين الأمّة التي تعلّق رجاءها على أمثالهما.
إن التطويل في وصف هذه الحفلة يفضي إلى التقصير. وخلاصة القول فيها إنها كانت زادًا روحيًا قدّمته قسنطينة لوفودها بعد أن جاوزت الغاية فيما قلّصته لهم من أطايب الغذاء البدني. وإن سرّها وسحرها ليسا آتيين من الاطراب في العزف والإطراف في الأناشيد والإجادة في التمثيل والاتزان في الحركات، وإنما هما آتيان من شيء آخر وراء هذا كله، هو أمل الأمّة في أبنائها، كان صورة في الأذهان ومخيلة في الأدمغة، فرأت منه في هذه الليلة
نموذجًا عمليًا يبشّر بتحققه كله، إن الزمان بأحداثه يستطيع أن يمحو من نفوس الوافدين كل ما رأوا وما سمعوا ولكنه لن يستطيع محو شيئين: درس القرآن وهذه الحفلة، وإن الوافدين ليستطيعون أن يقابلوا كل إكرام لقوه من إخوانهم القسنطينيين بمثله أو بأحسن منه إلا إكرامهم بمثل هذه الحفلة.
وانفض هذا الاحتفال في نهاية الساعة الواحدة بعد نصف الليل بعد أن ختمه الأستاذ بن باديس بكلمة توديع.
…
من المظاهر التي شاهدها الناس كلهم في هذا الاحتفال بسوابقه ولواحقه، الهدوء الشامل، فلم تحدث أية حادثة ولو بسيطة على كثرة الاحتشاد وشدة الازدحام واختناق التعاريج في المدينة. وليس مرجع ذلك إلى التنظيم الآلي، ففي أدون من هذا الاحتفال نرى الفوضى تطغى على النظام، وطباع السوء لا تنهنه بالزجر وإنما مرجع ذلك إلى التنظيم النفسي وإلى أدب القرآن وقد ملك أزمة النفوس.
وإن هذا النوع من التربية الدينية هو الذي نريده للأمّة، وهي تربية كثيرة الفوائد قليلة التكاليف، وقد جرّبت فصحت. فهل من معين لنا على تثبيتها وتعميمها؟ وكأن إدارة الأمن العام بقسنطينة أدركت ذلك فلم نر منها مظاهر الاستعدادات الاستثنائية التي كنا نراها في مثل هذه المشاهد، وحسنًا فعلت.