الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمدينة قسنطينة العاصمة العلمية. وتكون خاصة بعمالتها، تجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير وتكون صلة تعارف بينهم، ومزيلة لأسباب التناكر والجفاء، وذهب يقص عليَّ من فوائدها ما لم أنكره ذوقًا وإحساسًا وإن كنت استبعدته عملًا وواقعًا لاعتبارات ذهبت بذهاب وقتها، ولم أكاشف الأخ الأستاذ بها خشية أن أثبطه- وما التثبيط من شيمي- ولم يزل كلامه يقنعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أخي، وتنازعنا الحديث في منافع هذه الجمعية، فتكشفت لنا عن فوائد لا تحصى، وأذكر أني عددت من فوائدها إيقاف الطلبة عند حدودهم ودرجات تحصيلهم حتى لا يَغُرّوا ولا يغتروا إلخ.
وفي تلك الجلسة عهد إلي الأخ الأستاذ أن أضع قانونها الأساسي فوضعته في ليلة وقرأته عليه في صباحها، فاغتبط به أيما اغتباط وودعني راجعًا إلى قسنطينة بعد أن اتفقنا بديًّا على أعضاء الإدارة وأن يكونوا كلهم من مدينة قسنطينة، وعلى تذليل عقبات يتوقف على تذليلها نجاح المشروع وعلى ترجمة القانون الأساسي وتقديمه للحكومة ثم دعوة العلماء إلى الاجتماع.
ولما وصل إلى قسنطينة وعرض الفكرة على الجماعة الذين يجب تكوين المجلس منهم أيدوا الفكرة وقرروا القانون بعد تعديل قليل، ثم حدثت حوادث عطلت المشروع، وأخبرني الأستاذ باديس بذلك فلم أستغرب لعلمي أن استعدادنا لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد، وأن عملًا عظيمًا كهذا لا يثبت على الفكرة الطائرة والخطرة العارضة، ولا يتم في الخارج إلّا بعد استقراره في الأذهان، ولا بد له من زمن واسع حتى يختمر وتأنس إليه نفوس ألفت التفرق حتى نكرت الاجتماع. فسكتنا وتركنا الزمان يفعل فعله، فماذا كان؟
جمعية العلماء عقيدة:
من الأعمال ما يكون الفشل فيه أجدى من النجاح، وهذا هو ما شهدناه في تأسيس جمعية الإخاء العلمي. فقد فشلنا في تأسيسها ظاهرًا وفيما يبدو للناس، ولكن تلك المحاولات لم تذهب بلا أثر في المجتمعات العلمية الجزائرية حتى كان من نتائجها بعد أعوام جمعية العلماء المسلمين.
إن ذلك الاسم اللطيف الذي وضعه الأستاذ باديس للجمعية وهو "الإخاء العلمي" طار على الأفواه وتطاير عن الأقلام، ورددته مجالس التعليم ومحافل الأدب، ثم تخطاها إلى نوادي السمر، وكان لطفه داعيًا لانجذاب القلوب واستهواء الأفئدة، فنبه الغافل وأيقظ النائم، وحث الخامل وقوى العزائم، وأشعر أهل العلم أن العلم رحم، وأنها مجفوة بينهم
فيجب أن توصل، وأشعر العامة أن قوتها من قوة علمائها، وأن قوّة العلماء لا تتحقق إلا بتآخيهم على العلم واجتماعهم على العمل.
وإننا نعرف لأخينا الأستاذ باديس ذوقًا دقيقًا في وضع الأسماء وصوغ العناوين، وإنه يكاد يكون ملهمًا في هذا الباب، ونعرف أنه اكتسب ذلك من أسلوبه التدريسي المبني على التحديد والإحاطة والدقة.
ولقد كان من المعقول- والحرب مشبوبة بين المصلحين والطرقيين- أن يكون اسم الجمعية (الإصلاح الديني) ولكن المصلحين- وهم أول من فكر في مشروع جمعية العلماء وزعيمهم هو أول من وضع ذلك الاسم- لم يكونوا يقصدون من هذه الجمعية، من يوم تصوروها فكرة إلى يوم أبرزوها حقيقة واقعة، إلّا غرضًا واحدًا وهو جمع القوى الموزعة من العلماء على اختلاف حظوظهم في العلم، لتتعاون على خدمة الدين الإسلامي واللغة العربية والنهوض بالأمة الجزائرية من طريقهما، ولو كان عند المصلحين شيء من سوء القصد الذي يرميهم به خصومهم لظهر أثره في تسمية الجمعية أولًا باسم الإخاء العلمي وثانيًا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والاسم هو العنوان المتضمن لكل ما وراءه من معان.
طاف طائف هذا الاسم اللطيف "جمعية الإخاء العلمي" بالآذان واستقر بعدها في الأذهان، وكل كلمة من كلماته الثلاث محببة إلى النفوس جميلة الموقع منها، فالاجتماع أمنية كل عاقل، والتآخي طلبة كل مخلص، والعلم نشيدة كل حي، فكيف إذا اجتمع العلم والتآخي فيه والاجتماع على استثماره؟ ولكن أنّى للأمة الجزائرية باجتماع العلماء وتآخيهم في العلم، وإن الطائفة التي يطلق عليها هذا الاسم حقيقة أو ادعاء بهذا القطر هي طائفة متنافرة متنابذة، كأن من كمال العلم عند بعضها أن يبغض العالم العالم، وبجفو العالم العالم، شنشنة مُعْظَم الشر فيها آت من الزوايا الطرقية التي تعلم فيها أولئك العلماء أو علَّموا فيها، والكثرة الغالبة في علماء الجزائر قبل اليوم تعلمت بالزوايا أو علمت العلم في الزوايا، فمن الزوايا المبدأ وإليها المصير. وزوايا الطرق في باب العلم كمدارس الحكومات هذه معامل لتخريج الموظفين، وتلك معامل لتخريج المسبحين بحمد الزوايا والمقدسين. أما العلم وحقيقته وصراحته وحريته فلا رائحة لها في هذه ولا في تلك، وسنفصل القول في هذه المسألة- التعلم بالزوايا وآثاره في نفوس المتعلمين- في فصل آخر فإن لهذه المسألة بابًا واسعًا في تاريخ الجزائر العلمي، ونعود لموضوعنا. إن الرجاء كان ضعيفًا في تحقق أمنية اجتماع العلماء من تلقاء أنفسهم إذا لم يدفعهم دافع قوي من استعداد الأمة، وقد وجد هذا الاستعداد.
فقد دب في الأمة الجزائرية دبيب الحياة وقوّى فيها الشعور بسوء الحال التي هي عليها، والشعور بالفساد هو أول مراحل الإصلاح، وتجلى هذا الشعور بالعمل في عدة نواح