المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كلمة التصدير لهذا العدد* - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ١

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌هذه الآثار وتاريخ الجزائر:

- ‌ الحركة العلمية الإصلاحية الدينية

- ‌ الحركة السياسية

- ‌هذه الآثار وحياة الإبراهيمي:

- ‌ مرحلة التكوين والتحصيل الأولى (1889 - 1911):

- ‌ الرحلة المشرقية الأولى (1911 - 1920):

- ‌ مرحلة الإرهاصات (1920 - 1931):

- ‌ بدايات جمعية العلماء (1931 - 1940):

- ‌ قيادة الحركة الدينية والثقافية بالجزائر (1940 - 1952):

- ‌ الرحلة المشرقية الثانية (1952 - 1962):

- ‌ المرحلة الأخيرة (1962 - 1965):

- ‌مشروع الإبراهيمي النهضوي:

- ‌العلم

- ‌ الدين

- ‌الأخلاق

- ‌الإقتصاد

- ‌شخصية الإبراهيمي:

- ‌ الإسلام

- ‌الأقانيم الثلاثة في حياة الإبراهيمي وآثاره:

- ‌العروبة

- ‌الجزائر

- ‌هذه الطبعة الجديدة:

- ‌السياق التاريخي (1929 - 1940)

- ‌قبل تأسيس جمعية العلماء

- ‌محمد بن شنب*

- ‌التعاون الاجتماعي*

- ‌الإنسان أخو الإنسان*

- ‌الإنسانية: آلامها واستغاثتها*

- ‌خطبة جمعية*

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الخطابة والتمثيل*

- ‌نائب رئيس جمعية العلماء يتكلم

- ‌كيف تأسست جمعية العلماء الجزائريين*

- ‌القانون الداخليلجمعية العلماء المسلمين الجزائريين*

- ‌الفصل الأول: فيما يرجع إلى نظام الجمعية وإدارتها:

- ‌الفصل الثاني: لجنة العمل الدائمة:

- ‌الفصل الثالث: مقاصد الجمعية وغاياتها وأعمالها:

- ‌الفصل الرابع: في مالية الجمعية:

- ‌إفتتاح مسجد سطيف*

- ‌ديوان أبي اليقظان وجريدة النور*

- ‌الشيخ محمد الطيب عميد آل الشيخ الحواس*

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائريينالمجلس الإداري للجمعية

- ‌أعضاء مجلس الإدارة:

- ‌جلسة مساء الخميس:

- ‌جلسة يوم الجمعة الثاني عشر شوال 1350:

- ‌جلسة مساء يوم الجمعة:

- ‌جلسة يوم السبت:

- ‌جلسة مساء السبت:

- ‌مات شوقي

- ‌الإسلام والمسلمون*

- ‌وحدة الدين واللسان:

- ‌الإسلام والتاريخ:

- ‌الإسلام والبيان العربي:

- ‌هدي الإسلام في البيان العربي:

- ‌التربية الإسلامية والنقائص البشرية:

- ‌بُعد المسلمين عن الهداية الإسلامية:

- ‌جناية المسلمين على الإسلام:

- ‌شدّة تمسّك المسلمين بالنسبة للإسلام:

- ‌قاعدة الدعوة الإصلاحية وأسلوبها:

- ‌آية الإسلام في قوّة رسوخه في القلوب:

- ‌تعالوا نُسائلكم*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية

- ‌جمعيّة العلماء: دعوتها وغايتها*

- ‌ثلاث سنوات من عمر جمعيّة العلماء*

- ‌مُلخصُ خطاب ألقي بنادي الترقّي*

- ‌عرض الحالة العلميّة*

- ‌مقدّمة سجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء*

- ‌فلسفة جمعية العلماء*

- ‌تفرق أهل الكتب السماوية في الدين قبل الإسلام:

- ‌بدء تفرق المسلمين في الدين:

- ‌آثار الطرق السيئة في المسلمين:

- ‌دفع شبهة ونقض فرية في هذا المقام:

- ‌أول صيحة ارتفعت بالإصلاح في العهد الأخير:

- ‌نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر:

- ‌الخطوة الأولى:

- ‌الرأي الثاني

- ‌جمعية العلماء فكرة

- ‌جمعية العلماء عقيدة:

- ‌جمعية العلماء حقيقة واقعة:

- ‌موقف جمعية العلماء المسلمين من الطرق:

- ‌موقف الجمعية في التعليم:

- ‌موقف جمعية العلماء من البدع والمنكرات العامة:

- ‌موقف الجمعية من الالحاد:

- ‌موقف الجمعية من التبشير:

- ‌موقف الجمعية من بقية الرذائل:

- ‌جمعية العلماء المسلمين الجزائرين كما هي:

- ‌خاتمة

- ‌الأمّيّة*

- ‌إلى كتّاب "البصائر

- ‌كتاب "السعادة الأبدية

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌أشيخ الإسلام هو أم شيخ المسلمين

- ‌بين عالم وشاعر*

- ‌جواب الشاعر

- ‌لا يبني مستقبل الامّة إلا الأمّة

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌اللغة العربية

- ‌الديانة

- ‌ 3

- ‌من آثار المؤتمر الإسلامي

- ‌يوم الجزائر*

- ‌أمس واليوم

- ‌سرّ تعليق الآمال على الجبهة الشعبية

- ‌فكرة المؤتمر

- ‌النقط التاريخية في المؤتمر:

- ‌يوم المؤتمر:

- ‌قائمة القرارات:

- ‌قائمة الاقتراحات الفردية:

- ‌أهم مقررات المؤتمر:

- ‌اللجنة التنفيذية:

- ‌ما تمّ بعد المؤتمر ولم تنشره الصحف:

- ‌مطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

- ‌حقوق الأمّة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسية

- ‌مقدّمة

- ‌الأوضاع والمعاملات الخاصة:

- ‌النيابات:

- ‌أثر مشاركة جمعية العلماء في المؤتمر:

- ‌المؤتمر الجزائري الإسلامي العام:

- ‌كلمة عن وفد المؤتمر الإسلامي*

- ‌مقتل الشيخ كحول*

- ‌وقفة على أطلال الحادثة:

- ‌أول تحدِّ للمكيدة

- ‌مستند العدلية في اعقال الأستاذ العقبي:

- ‌المستغربات في هذه الحادثة

- ‌مرامي الإشاعات الأولى:

- ‌الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه:

- ‌فتح نادي الترقّي وما يتّصل به:

- ‌آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائريةونتيجته للدّعوة الاصلاحيّة*

- ‌الإصلاح الدّيني لا يتمّ إلا بالإصلاح الإجتماعي

- ‌من قصيدة للأستاد الإبراهيمي*

- ‌إما سنّة وإما بدعة*

- ‌المؤتمر الإسلامي الجزائري*

- ‌إلى الطرقيين*

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌الدعوة إلى المناظرة:

- ‌إفتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان

- ‌ 1

- ‌الدعوة العامة

- ‌ 2

- ‌دعوة المجلس الإداري لجمعية العلماء

- ‌ 3

- ‌كلمة في «دار الحديث»

- ‌ 4

- ‌تحيّة «دار الحديث» للشاعر محمد العيد

- ‌تعطيل مدرسة «دار الحديث» *

- ‌المولد النبوي*

- ‌ختم ابن باديس لتفسير القرآن*

- ‌ تمهيد

- ‌ كلمة التصدير لهذا العدد*

- ‌ كلمة في الاحتفالات

- ‌ خلاصة تفسير المعوذتين من درس الأستاذ

- ‌كلمة ببن يدي التلخيص:

- ‌سورة الفلق:

- ‌سورة الناس:

- ‌ خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم

- ‌ التعريف بالمشاركين في حفل ختم التفسير

- ‌تلمسان وابن خلدون*

- ‌العربية: فضلها علىالعلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية*

- ‌منشور إلى الأمتين الإسلامية والفرنسية*

- ‌الأستاذ محمد بن مرزوق*

- ‌ختم الدروس السنوية «بدار الحديث» *

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌درس في التفسير(سعادة المسلمين في العمل بالقرآن)

- ‌من خطبة عيد الأضحى*

- ‌موقفنا من الطرقية وصحفها*

- ‌إلى جريدة "الإصلاح

- ‌تعزية الإبراهيمي فيفقدان السيد الرشيد بطحوش*

- ‌افتراء مستشرق*

الفصل: ‌ كلمة التصدير لهذا العدد*

-----------------

2 -

‌ كلمة التصدير لهذا العدد*

-----------------

سُئل بعض العلماء: أية آية تصلح أن تكون عنوانًا على القرآن كله بحيث إذا كُتبت على ظهر المصحف كانت تعريفًا كاملًا به، شاملًا لجميع المعاني الكلية التي يجدها المتصفح فيه كما تعرف الكتب الكبيرة بجمل قصيرة، فكان جواب هذا العالم: الآية التي تصلح لذلك هي قوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} .

ولعمري، لقد وُفّق هذا العالم القرآني إلى الصواب فيما أجاب به. فالقرآن كتاب يحمل في ثنييه دين الله الكامل، وكل ما سبقه من الكتب والصحف فهي إرهاصات له وبشارات به وإشارات إليه. ابتعث به نبيه الأمين محمدًا صلى الله عليه وسلم لهذا العالم الإنساني كله حين بلغ رشده الاجتماعي واستعد للكمال واستشرف لسائق من وراء العقل يكون سندًا له إذا زلّ، وهاديًا له إذا ضل، ومصححًا لخطإه إذا أخطأ، ومخرجًا له من ظلمات الحيرة إذا التبست عليه مناهج الحياة، ومفسحًا له في آماله إذا ضيقت عليه هذه الحياة المحدودة حدود الآمال، ومحررًا له من أصناف العبودية الفكرية والبدنية التي تقلب فيها قرونًا، ومرشدًا إياه إلى وسائل الكمال التي كان يطلبها فلا يجدها.

والآية الكريمة التي جعلها جوابًا لسائله بيان إلهي معجز للحكم التي اقتضت نزول القرآن والحكم التي نزل لبيانها القرآن والمثل العليا للكمال الإنساني الذي دعا إليه القرآن متدرجة في وضعها البياني تدرجها الطبيعي من نفس سامعها، بلاغ فإنذار، فعلم، فتذكّر.

وأمثال هذا العالم من ربانيّ هذه الأمّة ممن درسوا القرآن وتدبروه ومارسوه وراضوا أنفسهم على بيانه، واستنبطوا منه الحكم التي أنزل لتحقيقها والعلوم التي جاء لتجليتها على الناس، يكون من خصائصهم هذه الملكة، ملكة استعراض القرآن في مثل ارتداد الطرف كلما تحرك لهم وجدان وأرادوا أن يزنوه، أو نجم في آفاق نفوسهم خاطر وأرادوا أن يصححوه، أو ألقي عليهم سؤال وأرادوا أن يجيبوا عليه.

وما ظن بصاحبنا هذا أنه راعى القانون الاصطلاحي الجدلي في انطباق الجواب على السؤال، وإنما هي هيمنة القرآن على نفوس أصحابه، وإلهامها الإصابة في الرأي والتسديد في الجواب والفيح في الخصومة.

* "الشهاب"، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، جوان- جويلية 1938، [ص:156].

ص: 320

فالسائل يطلب آية جامعة (لوظائف) القرآن، لا جرم أن أول ما يخطر ببال المجيب أمثال قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ .. } الآية. وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ .. } الآية. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وغيرها من الآيات المبيّنة لأصول الدعوة القرآنية. ثم يلتمس راية تجمع هذه الأصول مع التنويه بهذا الكتاب الجامع لها، فيقع على تلك الآية أو ما شاكلها والآيات الجامعة (لوظائف) القرآن كثيرة، ومن السهل السريع الوقوع عليها عند هذه الطائفة التي أوتيت قوة الاستعراض.

وقد يسأل عالم آخر فيقع على قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أو قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} . والكل مصيب رضي القانون الجدلي أم سخط. وإن كان هناك تفاوت بين الآيات في الإحاطة والبيان، فلكل جملة تزيد في آية موقع ودلالة، ولكل كلمة تزيد في جملة معنى وحالة.

أما أنا- ولا أعوذ بالله من كلمة أنا- فلو أُلقي علي هذا السؤال لتمردت على قوانين الجدال وأجبت على المغافصة والارتجال، ولم أرع إلا الاعتبار المناسب ومقتضى الحال. وجررت السائل (عن وظائف) القرآن إلى (وظائف) أهل القرآن مع القرآن، وقلت للسائل ضع على ظهر المصحف بالقلم العريض قوله تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} واجعل جملتي {فَاتَّبِعُوهُ} و {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} بين أقواس علّ هذه الأقواس المحنية تصيب من قارئه شاكلة انتباه فتزعجه إلى معرفة أن هاتين الآيتين هما جواز الداخل إلى أقطار القرآن، وعل هذه القلوب القاسية تستشعر حق القرآن عليها ووظيفتها التي يجب أن تقوم بها نحوه، وهي التدبر لمعانيه واتباعه.

إن حقوق القرآن علينا من التدبر والاتباع، هي التي يعروها ما يعروها من الإهمال والضياع والتفريط والغفلة. فهي التي يجب التنبيه لها والتذكير بها دائمًا والدلالة على مواقعها من آيات الكتاب العزيز، وهي التي يجب على العالم القرآني أن يختار للتذكير بها أصرح الآيات في معناها وأظهر الجمل في الدلالة عليها وأقرب الألفاظ لأذهان الناس. وإذا قارنا بين {لِيُنْذَرُوا} وبين {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وجدنا بينهما فرقًا جليًّا لا يُستهان به في مقام التذكير والإبلاغ في التأثير. فإن الإنذار- وإن كان معناه الإعلام بالشيء مع التخويف من عواقبه- لا يستلزم التدبر الذي هو انفعال نفساني ذاتي يفضي إلى النظر في إدبار الشيء وغاياته على وجه من التكلف والتدرج يفيده بناء تفعُّل وأثر الإنذار تأثير خارجي، وأثر التدبر تأثر ذاتي، والإنذار لا يشعر النفس ما يشعرها التدبر من العهد المسؤول والأمانة الثقيلة.

ص: 321

أما الاتِّباع فهو ثمرة التدبر وهو الذي لا تتحقق الغايات التي يرمي إليها القرآن إلا به، وقد تكرر ذكره في القرآن في معارض شتّى تدلّ مُستعرضها على أنه هو سرّ التديّن والتألّه. وانه المحقق للكمال وانه العاصم من الضلال والهلاك فليتدبر التالي هذه الأمثلة من الآيات القرآنية:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} ، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} ، {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} ، {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} ، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} ، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} ، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} .

ويا للعجب من بيان القرآن وبيّناته وإعجازه بفنون إيجازه. إن الاتباع ضرب من قَفْوِ أثر الغير وترسم خطاه والانقياد له وجعل الهوى تبعًا للهوى مع اطمئنان بالمشاركة في النتيجة خيرًا كانت أو شرًا. وفي معناه من الهجنة أنه ينافي الاستقلال الفكري في الفكريات والذاتي في الذاتيات، فتجد القرآن يدفع عنك أثر هذه الهجنة العارضة فيأمرك بالتدبر واستعمال الحواس الظاهرة والباطنة في وظائفها الفطرية قبل أن يأمرك بالاتباع، حتى تطمئن إلى أنك إنما تتبع فيما فيه حَقّ وخير ورحمة، ثم إذا أمرك بالاتباع فإنما ذاك فيما يتعالى على فكرك إدراكه أو يصعب عليك تمييزه أو يخاف فيه غلبة الأهواء عليك. وبعد الأمر ينهى عن اتباع الهوى المضلّ عن سبيل الحق، وعن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وعن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباع أولياء من دون الله، وعن اتباع السبل المتفرقة، توكيدًا للمعنى الإيجابي وإيضاحًا للحق الذي يجب أن يتبع.

إلا أن المتدبرين للقرآن لا يخرجون من هذا الاستعراض البديع إلا مؤمنين موقنين بأن الاتباع الذي يدعو إليه القرآن هو عين الاستقلال التام للفكر والإرادة والعقل والوجدان لأنه يحميها من شرور الأهواء ويؤويها إلى حمى الحق وحده والاحتماء بالحق الذي قامت به السموات والأرض واستقر عليه تدبير الكون ونظامه- استقلال ما وراءه استقلال. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} .

هذا حق القرآن علينا يجب أن نتخذ الآيات المنبّهة عليه فواتح في المدارسة وأن تتجاوب أصداؤها في جوانب نفوسنا حتى لا ندخل حرمه إلا بعد أن نكون عرفنا حقه. إنه لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عصر هم فيه أبعد عن القرآن منهم في هذا العصر، ولم يمض على الدعاة إلى الحق وقت عظمت فيه العهدة واستغلظ الميثاق مثل هذا الوقت، وإنه لا مخرج لهم من هذه العهدة ولا تحلل من هذا الميثاق إلا بالدعوة إلى القرآن. فلا عجب- ونحن نشعر بثقل هذه الأمانة- من أن ترتفع أصواتنا بالدعوة إليه. وإنما العجب

ص: 322

الذي لا عجب بعده أن نسكت أو نقصر وإن من أحكم الوسائل لجذب الأمّة إلى القرآن، وصف القرآن، وتشويق الناس إلى الإقبال عليه وتدبّره وفهمه.

فمن التسديد في الرأي والمقاربة في العمل أن ترشد الأمّة الإسلامية إلى معرفة ما ضيّعت من خير وما خسرت من هداية، بتضييعها للقرآن وإنما تعرف ذلك ويبلغ مكامن الوجدان من نفوسها، من وصفه والإشادة بشأنه والتنويه بجلاله وخطره والتنبيه على ما يحتوي عليه من العلوم الكثيرة بألفاظ قليلة، وتقريب ما ينطوي عليه من المرامي المفيدة، بالكلمات القريبة، وشرح ما فيه من الحقائق المتفرقة بالجمل الجامعة، فإن ذلك يكون أدعى لرجوع النفوس الجامحة عنه إليه وأعون على فيأتها إلى حماه والاستظلال بظله والاستمساك بحبله.

وليت شعري، أي بيان يضطلع بهذا؟ إن وصف القرآن وأساليب التشويق إلى القرآن لا توجد على أكملها في غير القرآن، فلو أن البلغاء من كل أمة وفي كل جيل اجتمعوا على أن يصفوه ببعض ما وصف به نفسه. وكانت قلولهم على قلب رجل واحد وألسنتهم على لسان رجل واحد لعجزوا وقعد بهم القصور دون الغاية من ذلك.

ولقد وصفه جماعة من الباحثين في إعجازه وأسراره، والمتكلمين على قصصه وأخباره والمنقّبين على مثلاته وعبره، والغائصين على نكت التناسب بين آيهِ وسوره. فجاءوا بما يشبه قصورهم الإنساني لا بما يشبه كماله الإلهي! ووصفه قبلهم أعداؤه اللد من مضغة الشيح والقيصوم أوصافًا منصفة فما بلغ هؤلاء ببلاغتهم ولا أولئك بإيمانهم وعلومهم غاية مما يريدون. وصفه الوليد بن المغيرة فقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وأن أعلاه لمثمر. فعبّر بهذا الوصف عن وجدانه النفسي وعن أثر القرآن في ذلك الوجدان. ولاتصال الشعور بالوجدان جاء هذا الوصف شعريًا كما ترى. وكأنه انصاف منتزع من نفس جائرة، وإقرار مقتلع من سريرة حائرة.

ووصفه شرف الدين البوصيري وصفًا لا غاية بعده من كلام المخلوق في الروعة الشعرية وتمكن الاقتباس وصدق التمثيل فقال:

الله أكبر إن دين محمد

وكتابه أقوى وأقوم قيلا

طلعت به شمس الهداية للورى

وأبى لها وصف الكمال أفولا

والحق أبلج في شريعته التي

جمعت فروعًا للهدى وأصولا

لا تذكروا الكتْب السوالف عنده

طلع الصباح فأطفئوا القنديلا

ويا لله لهذا التمثيل المحكم في المصراع الأخير وما يحدثه في النفوس المفتونة بالمحسوسات.

ص: 323

إننا نعد من إعجاز القرآن في البلاغة ما هو شائع في جميع آياته من الدقة المتناهية في تحديد المعاني وتصوير الحقائق وتنزيل الألفاظ في مراتبها وتلوين الأساليب والتزاوج بين الصفتين أو الصفات حتى كأنهما صفة واحدة كالقوي الأمين والغني الحميد، والحفيظ العليم، والعليم الحكيم. فليقصر الواصفون وليدعوا القرآن يصف نفسه بتلك الدقة العجيبة وذلك التصوير الرائع. وليسلك الدعاة سبيلهم إلى نفوس الناس بهذه الأوصاف الرائعة من هذه الآيات الجامعة، فإن ذلك أدعى إلى التأثير والتأثر وأبلغ في باب التشويق من كل تبويب في الكلام وتحبير وتزويق. أين يقع كل ما وصفه به البشر من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وما في هذه الآية من جمع أصول الإصلاح التي جاء بها القرآن مرتبة في الذكر ترتيبها في الوجود.

وأين يقع كل ذلك من قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ؟ اللهم لا ..

كانت الأمّة العربية قبل الإسلام- ومثلها جميع الأمم- في جاهلية جهلاء .. فهي من الوجهة الفكرية في أحط الدرجات، ومن الوجهة الاجتماعية في أخس الحالات. وكانت لا تملك من أسباب النهضة إلا لسانًا قويمًا وفطرة غير معقدة. ولكن ماذا يغني اللسان الخصيب إذا كان يصدر عن فكر جديب؟ فجاءها الله بالقرآن وفيه كل ما كان الفكر العربي يتطلبه من العقائد النقية والحقائق العلمية، وكل ما كان اللسان العربي يصبو إليه من آفاق وميادين. فنهض العرب به وبلسانهم الذي نزل به وأنهضوا الأمم معهم، تلك النهضة التي زلزلت العالم الروحي العقلي فأذهبت مخارقه وثبتت حقائقه، وزلزلت العالم المادي فذهبت بطغيانه وشروره ورذائله وأقرّته على التشريع العادل والمعاملة الرحيمة. ثم لاءمت بين الروح والمادة بمعاني التوسط والاعتدال البادية في عقائد الإسلام وآدابه وأحكامه. وجاءت بالمعجزة الكونية الكبرى في تحقيق الحلم الإنساني بتلك الملاءمة وهي أمنية عجزت عن تحقيقها كل تعاليم الأرض، ولم تف بها تعاليم السماء قبل الإسلام لحكمة وأمر قد قدر.

وانساح الإسلام في الأرض يزجي جيوش الأخلاق قبل جيوش الخلائق، وبسط ظله على الأقطار الممتازة بخصوبة الأرض، وعلى الأمم الممتازة بخصوبة الفكر وزرع تعاليمه في عقول مستعدة، وأفاض عليها من روحه: إن الغاية في هذا الوجود سيادة في الحق وسيادة بالحق وأن لا سبيل إليهما إلا بالعلم والعمل وأن عمران الأرض متوقف على عمران العقول والنفوس. وبنى بذلك تلك الحضارة التي لا ينكرها إلا مكابر يماري في الشمس وضحاها.

إن الآفة الكبرى التي قضت على الحضارات وجعلت عاليها سافلها، هي التفرق بين بناتها والمستحفظين عليها، وقد كان للمسلمين- من بين الأمم القديمة والحديثة- معتصم

ص: 324

باذخ لو اعتصموا به لوقاهم من التفرق فوقى حضارتهم من الانهيار. وهو القرآن ودينه الإسلام- نعمة خُصّوا بها دون الأمم-.

كانت تعصف بهم من عواطف التفرق وتثور فيهم من طبائع الملك وغرائز المنافسة فيه ما أقله كاف في تدمير الممالك وتتبير الحضارات، فيرجعون إلى القرآن ويعتصمون بالإسلام فيجدون فيهما الْوَزَر الواقي، إلى أن داخلتهم الأعراق المدسوسة، ومازجتهم الجراثيم الغريبة وابتلوا بلقاح سوء مما أفسد من قبلهم وكان من تأثير ذلك أنهم انتقلوا من التفرق الذي يعصم منه الدين إلى التفرق في الدين نفسه وفي القرآن نفسه. ثم زهدوا في الدين فلم تبق إلا الصور العملية بلا روح. وزهدوا في القرآن إلا الألفاظ المثلوة بلا نذير، حتى كانت عاقبة أمرها خسرًا، وذاقت السوء بما صدّت عن سبيل الله.

إن أسلافنا قاموا بما شرط عليهم القرآن في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} . فتحقق معهم وعد الله في القرآن: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} . فكانوا خلفاء الأرض يقيمون فيها الحق والعدل وينشرون فيها الخير والرحمة ويطهرونها من الشرك والوثنية ويحققون حكمة الله بإقامة سننه الكونية والشرعية، لا يراهم الله إلا حيث يرضيه أن يراهم. لأن مما أفادهم القرآن استجلاء العبر من قوله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} .

وكان هؤلاء السلف يعلمون لماذا أُنزل القرآن؟ ويعلمون أنه كتاب الدهر ودستور الحياة، وحجة الله الباقية إلى قيام الساعة وأنه واف كل الوفاء بإسعاد البشر في الحياتين، وأن عدم فهمه وعدم العمل به وعدم تحكيمه كل ذلك تعطيل له. ففهموه أولًا وحكموه في أهوائهم ونزعاتهم فاستأصل باطلها ولطف من نزواتها، ورجعوا إليه في فهم الحقائق الغامضة في الحياة والدقائق المشكلة في الكون والأخلاق التي يجب أن يتعايش بها الناس، فرجعوا إلى معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد انضوت تحت لوائه أمم مختلفة الأهواء والمنازع والفهوم، فوحّد أهواءها وقارب بين منازعها وفهومها ووفّق بين مصالحها، وهذه النقطة التي عجزت عنها التربية التعليمية والقوانين الوضعية إلى يومنا هذا.

ص: 325

يعتقد المسلمون كلّهم أن سلفهم كانوا أكمل إيمانًا من خلفهم وهذا صحيح، ولكنهم لا يبحثون عن علة كمال الإيمان في السلف حتى لكأنهم يعتقدون أن ذلك بوضع إلهي وتخصيص رباني لا يد للكسب فيه، وهذا خطأ فاحش وجهل فاضح.

وما دام الكلام في الإيمان، فهاته وانظر كيف فهمه السلف ومن أي معين استقوا فهمه ومن أي أفق استجلوا حقائقه. ثم انظر كيف فهمه الخلف ومن أين سقطت عليهم هذه الفهوم السخيفة. ثم أرجع كل معلول إلى علته بلا إجهاد للذهن ولا إنضاء للقريحة.

إن السلف تذرّعوا لفهم القرآن ذريعتين: الذوق العربي الصحيح، والسنة النبوية الصحيحة.

وقد كانوا يؤمنون بأنه كل لا يتجزأ وأن بعضه يفسّر بعضه وقد استعرضوه بعد فهمه بتلك الذرائع، فوجدوه يُعرِّف الإيمان بالصفات اللازمة والتي يتكون من مجموعها، فيقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآية ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} . ويقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى آخرها. ويقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى آخرها. ويقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) إلى آخرها. ويقول غيرها من الآيات الجامعة لشعب الإيمان وخصاله وصفاته الذاتية، ثم وجدوه لا يذكر الإيمان في المعارض المختلفة إلا مقرونًا بالعمل الصالح ففهموا من القرآن ما هو الإيمان وما هي الأعمال الصالحة، فآمنوا وعملوا الصالحات فكان إيمانهم أكمل إيمان بالعمل والكسب لا بشيء آخر من الخوارق والاختصاصات. وعلى هذا النحو فهموا العبادة وتوحيد الله وكمالاته المطلقة والرسل ووظائفهم والملائكة الخ.

أما الخلف فقد عدلوا عن هذا كله منذ صاروا يفهمون الإيمان من القواعد التعليمية وفقدوا الذوق والاسترشاد بالسنة.

إن هذه القواعد الجافة التي لا صلة بينها وبين النفس إنما تنفع في الصناعات الدنيوية، أما في الدين فإنها لا تغني غناء وقد أفسدته منذ أصارها الناس عمدة في فهمه حتى ضعف إيمانهم وضعفت تبعًا له إرادتهم وأخلاقهم، وكيف يفلح من يعدل في تفهم الإيمان عن الآيات المتقدمة إلى قولهم إن الإيمان هو التصديق وإن النطق شرط أو شطر فيه وإن النسبة بين الإيمان والإسلام كذا إلى آخر القائمة؟ وكيف يكون مؤمنًا (حقًا) من يبني إيمانه على هذا الجرف الهاري؟

إن هذا موضوع واسع الجنبات وهو يتصل بباب أمراض المسلمين وأسبابها ولا تتسع هذه الكلمة لبعض القول فيه فكيف باستيعابه.

ص: 326

تدبر القرآن واتباعه هما فرق ما بين أول الأمّة وآخرها وإنه لفرق هائل، فعدم التدبر أفقدنا العلم، وعدم الاتباع أفقدنا العمل. وإننا لا ننتعش من هذه الكبوة إلا بالرجوع إلى فهم القرآن واتباعه. ولا نفلح حتى نؤمن ونعمل الصالحات. {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وإن هذه النهضة المباركة المنتشرة اليوم في الأقطار الإسلامية بشير خير بقرب رجوع المسلمين إلى هذه الهداية، لأن هذه النهضة بنيت أصولها على الدعوة إلى كتاب الله وتفهمه والعمل به. وقد كان من بواكير ثمار هذه النهضة في باب التأليف تفسير الإمام النقاد محمود الألوسي على ما فيه من تشدد في المذهبية. وتفسير الأمير صديق حسن خان، ثم جاء إمام النهضة بلا منازع وفارس الحلبة بلا مدافع الأستاذ الإمام محمد عبده فجلا بدروسه في تفسير كتاب الله عن حقائقه التي حام حولها من سبقه ولم يقع عليها. وكانت تلك الدروس آية على أن القرآن لا يفسر إلا بلسانين لسان العرب ولسان الزمان

وبه وبشيخه جمال الدين، استحكمت هذه النهضة واستمر مريرها. ثم جاء الشيخ محمد رشيد رضا جارًيا على ذلك النهج الذي نهجه محمد عبده في تفسير القرآن. كما جاء شارحًا لَارائه وحكمته وفلسفته في الدين والأخلاق والاجتماع. ثم جاء أخونا وصديقنا الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قائد تلك النهضة بالجزائر بتفسيره لكلام الله على تلك الطريقة وهو ممن لا يقصر عمن ذكرناهم في استكمال وسائلها من ملكة بيانية راسخة وسعة اطلاع على السنة وتفقه فيها وغوص على أسرارها. وإحاطة وباع مديد في علم الاجتماع البشري وعوارضه. وإلمام بمنتجات العقول ومستحدثات الاختراع ومستجدات العمران يمد ذلك كله قوة خطابية قليلة النظير. وقلم كاتب لا تفل له شباة.

بارك الله في عمر الأستاذ فأتمّ تفسير كتاب الله ببيانه المشرق في خمس وعشرين سنةً من غير أن تختل أعماله العلمية الكثيرة ولا أعماله المستغرقة لدقائقه في سبيل هذه النهضة. وعرفت الأمّة الجزائرية قيمة ما أتمّ الله على يد الأستاذ فاحتفلت بهذا الختم كأعظم ما تحتفل أمّة ناهضة بأثر ناجح من آثار جهودها. وكان من الإحسان في هذا العمل العظيم ومن الإحسان للنهضة أن تسجل من هذا الاحتفال صورة منبهة على حقيقته، فصدر هذا العدد من "الشهاب" وهو لسان حال هذه النهضة، خاصًا بهذه المنقبة مخلدًا لهذا الأثر، مسجلًا لبعض أوصافه وما قيل فيه.

ونحن بما لنا من الصلة الوثيقة بهذه النهضة ومن العمل النزر فيها نغتبط بهذه الخطوة السديدة وهذه المرحلة الجديدة التي تمّت بختم التفسير، ونرجو أن تكون في المرحلة الثانية أوسع مدى في الهداية وأكثر حظًا من التوفيق. ونهنّئ أخانا الأستاذ بما خصّه الله به من التوفيق في خدمة دينه ولغته وأمته.

ص: 327