الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لعلّ في هذا التقسيم غموضًا وسببه أمران: الأول أنه مأخوذ من حال أصحابنا، وآخر ما أخذ من الغامض أن يكون غامضًا، والثاني أنني "بوجادي"(1) فيما تعلّمته من أصحابنا. - ومن المؤسف أن كانت التجربة في هذا الفصل- فهاكم الحقيقة في موضوعنا.
أسباب تكوين جمعية العلماء المسلمين طبيعية
.
إن مما لا يفهمه أصحابنا علماء السنّة، أن الأسباب الداعية لتكوين جمعية العلماء طبيعية، وأن رجالها القائمين عليها أدوات ليست مقصودة بالذات، وأن جماعة يؤخرها الانتخاب ويقدّمها ويوجدها الاختيار ويعدمها لهي فكرة خالدة خلود الجبال.
فجمعية العلماء المسلمين ومبدؤها الإصلاحي الديني هما في الحقيقة شيء واحد. هما فكرة معتصرة من حال الأمة الجزائرية المسلمة في اجتماعها ومن حيث إنها أمة قابلة للتطوّر، وقد اقتضاها الوجود فوجدت والتزمها التطوّر فظهرت، وقد حان حينها وشبت عن طوق الخفاء فتكوّنت كالنبتة يراها الرائي ضعيفة طرية ليّنة ويراها مع ذلك تشقّ الأرض الصلبة والتراب المتماسك في طريقها إلى الكمال، وما لقوّة النبتة خضعت الأرض الصلبة ولكن لقوّة الحياة وسلطان الوجود. ومن يسدّ طريق العارض الهطل؟
وعلى هذا فلو لم تقم هذه الفكرة بهؤلاء الأشخاص لقامت بآخرين مثلهم، فإذا رماهم الزمان بطائفة مبطلة مثل أصحابنا رماها الله بخذلان من عنده حتى يبلغ الحق مداه وتتمّ كلمة الله فيه.
إن الجمعيات لا تبقى ولا يضمن لها الدوام إلا إذا كان في المعنى الذي أسّست لأجله عنصر من عناصر التجديد لطائفة أو لأمة وتكون قواعد العمران وأصول الأديان مقتضية له في حياة تلك الأمة الروحية أو المادية. وما من جديد في حياة الأمة إلا وله أصل اندثر وذهبت منه العين أو الأثر، فتقوم الجماعات أو الجمعيات بإحيائه أو تجديده فيكون لمعنى الاجتماع- وفيه قوّة- مؤازر من معنى الجدة وفيه قوّة أخرى، فتصير القوّتان للجمعية بمثابة جناحين تطير بهما إلى الكمال.
وليست بهذه القوة ولا بهذه المثابة، الجمعيات التي تؤسّس لإبقاء قديم على قدمه وحال على ما هي عليه كمن يؤسس جمعية بني فلان لأنهم بنو فلان لا لمعنى آخر زائد على ذلك يجلب لهم نفعًا جديدًا، أو، يعلمهم عملًا مفيدًا أو يدفع عنهم ضرًا مبيدًا، أو يقتضي لهم من الكمال؟ مزيدًا. وكمن يؤسس جمعية الفلّاحين لأنهم فلّاحون فقط، لا لمعنى آخر
1) بوجادي: كلمة عامية ومعناها مبتدئ لمّا يتعلّم بعد.
جديد يصلح فاسدهم أو ينقلهم من صالح إلى أصلح. وكمن يؤسّس جمعية للأميين ليبقوا أميين، أو جمعية الضُّلَّال ليبقوا على ضلالهم، أو جمعية العمي ليبقوا على عماهم، لا شيء آخر زائد على ذلك. فمثل هذه الجمعيات التي ضربنا بها الأمثال لا تدوم- إذا وجدت- لخلوّها من عنصر الجدة المقتضي للنمو والتكامل. وقد وجد منها نمط على سبيل المثال وهو جمعية علماء السنّة. فكان ذلك النمط مثالًا للمعدوم وكان ذلك النمط شاذًا في بلاد الشذوذات والاستثناآت. وقد أراد أصحاب ذلك النمط الشاذ أن يفرضوه فرضًا على سنن الله في كونه، وإن سنّة الله لكفيلة بطرحهم وطرح نمطهم فليرتقبوا
…
وإذا كان في العلم ما يفيد فإن في بعضه ما ينكي ويغيظ وهو ما نعلم به أصحابنا شيوخ الطرق من طبائع الجمعيات وأمزجتها وما تفرغه على الداخلين فيها من ألوان، فهم يجهلون هذا كله، ولولا جهلهم به لما أقدموا على الدخول في جمعية علماء السنة، ولفرّوا منها فرار السليم من الأجرب، ولكان أهون الشرّين عليهم شرّ الإصلاح ولكن لا بدّ من مصداق لقول الشاعر:
يقضى على المرء في أيام محنته
…
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
فاسمعوا أيها الشيوخ الفضلاء، نعلمكم احتسابًا ولا نسألكم على هذا التعليم أجرًا، ولو كنّا نضمر لكم غشًا لغششناكم في هذه النقطة لأن النصح فيها لا يتفق مع مصلحتنا، فاسمعوا:
إن من طبيعة هذه الجمعيات التي كنتم منها في أوسع عافية لولا أن الجأكم إليها (هم الزمان) أنها تغطي على الأسماء والألقاب وهي رأس مالكم، وأنها تقضي على الشهرة والصيت وهي حبائلكم وشباككم التي تصطادون بها العامّة. ومن مزاجها أنها تسوي بين الناس في السمعة، حتى يصير القنديل كالشمعة، ويوازن البحر بالدمعة، وهذا شيء لا يوافق مزاجكم المعجون بالأنانية والاستئثار.
ومن ألوانها التي تصبغ بها الداخلين فيها المناوبة في الكلام، والسؤال والجواب والأخذ والرد والإيراد والدفع والمواجهة بالتكذيب وقول لا، ولماذا؛ وهذه كلها أشياء ثقيلة على مزاجكم اللطيف لم تتعوّدوها ولم توطنوا أنفسكم عليها، وإنما تحسنون من هذا كله نوعًا مخصوصًا في مقامات مخصوصة مع قوم مخصوصين رضتموهم على أن يجتمعوا حولكم ويستمعوا قولكم، فتقولون لهم قال الله فيما تقولتموه، قال رسول الله فيما قال مسيلمة، فلا يعتقدون إلا أن ذلك كما قلتم.
ولقد قال رجل منكم- وكلكم ذلك الرجل- لأتباعه وهو يحضهم على دفع المغرم للزاوية: يَالَخْوان (2)، قال الله: لا تنالوا البر والبحر حتى تنفقوا، فقالوا جميعًا صدق الله.
2) مفردها "الخُوني"، وتطلق على أتباع الطرق الصوفية، وقد يكون معناها "أيها الإخوان".
إن مزاجكم، أيّها الشيوخ، ومزاج الجمعيات شيئان متنافران وإنما تتفقون معها في واحدة هي أغيظ لكم مما نافرتموها فيه، وهي أنها مثلكم تأخذ من أتباعها ولا تعطيهم، ولا أثقل من اشتراكات الجمعية إلا طلعة جابيها على نفوس تعوّدت أن تجبى إليها ثمرات كل شيء.
هذه حالتكم التي نعرفها لكم ونعرفكم عليها فهل تتنزلون من علياء سماواتكم حين تدعون إلى الحضور في جمعية علماء السنّة فتستجيبون؟ وهل تخلعون رداء الكبرياء والأنانية فتتنازلون إلى المساواة مع بعضكم وإلى مساواة واحد منكم لأتباعه إذا قدّر لهم أن يتشرّفوا بالحضور معه خصوصًا إذا جاء وقت الانتخاب، وقيل فلان (الخوني) فاز وفلان "الشيخ" خاب، وهل توطّنون تلك النفوس المدللة، التي تعوّدت أن تأمر ولا تؤمر، وأن تقول ولا يقال لها، وأن لا تجاب إلا بـ "نعم سيدي" وتلك الآذان التي ألفت سماع (يا سيدي معروف دعوة الخير) وتلك الأيدي التي ألفت التقبيل- من المهد- على الفطام مما ألفت وتعوّدت؟ ومن العناء رياضة الهرم.
لهفي على تلك الأسماء التي كانت ترنّ في الآذان، وتنادى من (قاصي الأوطان) وتحدى بها الركبان، وتهينم بها الرهبان. وقد ذابت في اسم واحد وهو جمعية علماء السنة كما تذوب البدعة في الوهابية.
ولهفي على تلك الآراء التي كانت كأنها التنزيل تقابل بالوجوم والاطراق، ولا تعارض ولا تراجع، وقد صارت في هذه الجمعية السخيفة تعارض بقول سخيف:"ينظهر لي (3) يا سي الشيخ رأيك هذا ما يصلحش بنا (راك غالط فيه، ويلزمك تسحبو) "
…
له الويل .. وبفيه الحجر
…
وما معنى (يسحبو) .. وهل لم يجد من يقول له هذه الكلمة إلا لمن لم يتعوّد أن (يسحبوا) .. أولى لك يا ابن البربرية ولو غيرك قالها
…
ولو في غير هذه الجمعية المسخوطة قلتها
…
إذ لتناولتك الهراوي من يدي العربي والشاوي.
لا تظنّوا، أيها الفضلاء، أنني ساخر بكم، لا، وحقكم إنني لجاد، ولقد أخذني من الرقّة لكم في هذا المقام ما لم أعهده من نفسي، وأنفت لتلك الأسماء المشهورة أن تصبح في جمعية علماء السنّة مقبورة، وتلك الأوامر المطاعة، أن تصبح بين أمثال ذلك السخيف مضاعة، ولكنّكم أنزلتم أنفسكم بهذه المنزلة فسلوا من جرّكم لماذا جرّكم، أليفيدكم أم ليبيدكم؟
وإني لا أرجو منكم على هذه النصيحة أن تشكروني بلفظة ولا أن تنظروني بلحظة.
3) أي يظهر لي
…
يَبْدُو لي.