الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأستاذ محمد بن مرزوق*
فجعت مدينة تلمسان عمومًا وطائفة الإصلاح خصوصًا بموت الأستاذ الخير محمد بن مرزوق سليل البيت المرزوقي الشامخ البنيان، ورئيس شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأحد دعاتها الثابتين.
لقي ربّه ليلة الأربعاء 22 جمادى الثانية بعد مرض لازمه زهاء عام، ولم يفد فيه علاج ولا حيلة، فكان موته صدمة لاقاها المصلحون بالصبر، وكان أثرها فيهم بقدر ما فقدوه بفقد الراحل الكريم من خلال صالحة وعزيمة ثابتة، ويقين لا تشويه الشائبة.
كان كل حظ الفقيد من العلم مبادئ عربية تلقّاها عمن أدرك من مشائخ ذلك العصر في تلمسان، وتعاليم مدرسية رسمية تلقّها بمدرسة تلمسان الحكومية.
ثم بعد حصوله على شهادتها الأخيرة سمتْ به همته إلى تحصيل الشهادة العليا من مدرسة الجزائر فحصَّلها، وبدأ حياته العملية مدرّسًا حكوميًا بالسودان، ثم مدرّسًا بمدرسة الألسن الشرقية بباريس، ولم يرض ذلك كله شيئًا من همته ولا اتّفق مع ما هو مستعدّ له، وكأنه كان يروّض نفسه الأبية على شيء لم يخلق له، ثم انخرط في السلك القضائي من أول مراتبه فلم يلبث فيه إلا قليلًا، ثم دخل في التدريس الرسمي ببلدة "بلعبّاس"، فكانت آخر رتبة لتلك الرياضة التي راض بها نفسه على الوظائف، فلم تتفق واحدة منها مع تلك النفس الحرّة.
ولو أن نفسه كانت من طراز تلك النفوس التي تعشق الوظيفة بما فيها من قيود، لبلغت به اليوم أقصى تلك الدرجات وحلته بحلاها. ولكنها رجعت به، مع رقة الحال، إلى أقرب
* جريدة "البصائر"، العدد 180، 25 أوت 1939 (بدون إمضاء).
عمل من الحرية وهو "الوكالة الشرعية"، وما زال يتبلغ بما يحصله منها محتفظا بإيمانه وحريته وشرف نفسه إلى أن لقي ربّه.
انتُخب عضوًا بالمجلس البلدي مرات متواليات، فكانت ثقة الأمة به في محلّها وكان في حياته النيابية- التي استغرقت بضع عشرة سنة من عمره- مثال الصدق والإخلاص وأداء الواجب، لم يدنس شرفه بمطمع ولم يغمس يده في دنيئة، مع رقة حاله وكثرة عياله، وكان طاهر العقيدة متينها في دينه، صائب الرأي سديد التفكير في الشؤون الدينية العامة. سمعتُ من فيه- رحمه الله أن التعاليم المدرسية الحكومية أثّرت في نفسه تأثيرًا سيئًا كانت نتيجته الإلحاد، ولكن هذه الغمرة انجلت عنه سريعًا، وتلتها غمرة تألم مطبقة، ولما لم يجد أمامه مظهرًا إلا النحلة الدرقاوية انتحلها وغرق فيها إلى الأذنين، ولكنه أدرك بفكرته السليمة فسادها ومُنافاتها لدين الحق، فانتشل نفسه من تلك الوهدة، وبقي يرقب فجر الهدى حتى انبلج فجر نوره بظهور الحركة الإصلاحية على يد جمعية العلماء، فكان الرجوع إلى مبادئها خاتمة المطاف لنفسه التواقة إلى الحق.
…
كان يوم دفنه يومًا مشهودًا، فقد مشى في جنازته زملاؤه النواب من مسلمين وأوروبيين ونائبا شيخ المدينة ونائب عامل عمالة وهران بتلمسان وكثيرون من موظفي المجلس البلدي، وغمر هؤلاء الرسميين بحر لجي من طبقات الأمة يتقدمهم أعضاء الجمعية الدينية التي كان عضوًا فيها، وشعبة جمعية العلماء التي كان رئيسًا لها، والجميع واجمون مطرقون كأن على رؤوسهم الطير، تأدّبًا بآداب السنّة المطهرة.
فبهذه المناسبة نُعلن البشرى لإخواننا المصلحين بأن إقامة الجنائز على منهاج السنّة الشريفة توطدت بتلمسان، وغلبت على بِدَع الطرقية، وانتصرت انتصارًا حاسما بعد صراع عنيف وثبات من المصلحين مجيد.
ولما وصلت تلك الجموع إلى مصلّى المقبرة اصطفت الصفوف وتقدم للصلاة عليه محمد البشير الإبراهيمي، وبعد الصلاة تحلقت أفواج الخلائق وهو قائم على الجثمان لم يبرح مكانه، فتقدم الأستاذ عبد السلام طالب النائب المالي والعمالي وتلا خطبة مختصرة بالعربية، وتقدم بعده نائب شيخ المدينة فارتجل خطابًا مؤثّرًا بالفرنسية باسم مدينة تلمسان.
ولم يسبق للإبراهيمي أن خطب على جنازة منذ دخل تلمسان لعدم تأتّي المناسبة، وكان في هذا المشهد بادي التأثر، دامع العين، خاشع الطرف، حزين الملامح، فدفعه ذلك التأثر بالمشهد المحزن، بعد أن رمقته العيون من كل جانب، إلى ارتجال خطبة أسالت المدامع
وأثارت كوامن الأسى، وحرّكت في أنفس الشيوخ عروق الخشية والخوف من الله، وحفزت نفوس الكهول إلى التسابق في الصالحات وحسن التأسّي بالعاملين وعرّفهم معنى كرامة النفس وشرفها في سيرة الراحل الكريم، وجلّت لنفوس الشبان عِبَر الحياة وطرائقها في سِيَر من سبقهم.
ولقد- والله- وجلت نفوس وخفقت أفئدة واهتزت من ذلك الخطاب حتى من الذين كانت تعوقهم عوائق الشرّ وتصدّهم رؤوس الضلال عن سماع كلام الإبراهيمي في دروسه ومحاضراته.
رحم الله الراحل المودعّ وعزّى فيه جميع إخوانه المصلحين الأحرار.