الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفسي فليعلموا أنني مغلوب على أمري من عجوز. ولم يغلبك مثل مغلب. وليصدقوا الله كما صدقتهم، فما منهم إلا من غلبته عجوز بأحد معانيها، ولا أستثني أم الخبائث فقديمًا سمّتها العرب عجوزًا.
وهل أنبئ القرّاء بسرّ وهو أنني أضمرت الخديعة لنفسي، وقلت أعطيها قليلًا وأكدي، فانتقمت مني كما انتقمت بعوضة توت من كاشف قبره، وفاضح سرّه. فنثرت كل ما كان في خاطري منظومًا من الصور الفنية عن المعهد ومستقبله وما ننوي له من أعمال وما نعلق عليه من آمال. وجاءت المقالة عادية النمط، عليها ميسم الصدق، وليس عليها جلاله، وفيها مخيلة الحق، وليس فيها جماله.
…
معهد عبد الحميد بن باديس:
والمعهد تجمعه ثلاث كلمات: مكان، وإدارة، وتعليم.
أما المكان فهو دار منسوبة إلى أسرة عريقة في المجد، وهي أسرة ابن الشيخ الفقون التي يعرفها التاريخ بأعلامها في العلم والأدب.
شاركت الأمة الجزائرية كلها في بذل الأموال التي اشترت بها الدار، وأنفقت على إصلاحها وإعدادها، وشارك كاتب هذه السطور بكل ما يملك وما يملك إلا اللسان القوال، والعزم الصوال، والجثمان الجوال. ولولا هذه الثلاثة لما اشتري المعهد ولا عمر في هذه السنة ولتأخر وجوده في التاريخ سنة أو سنتين أو سنوات. وان في تأخير هذا المشروع إطالة لمرض الجهل وتأخيرًا لشفاء هذه الأمّة، وأن في التعجيل به تعجيلًا لشفائها ونقصًا من المرض ومدّته.
فقد كان جميع إخواني ومن ورائهم أنصار العلم متفقين على ضرورة إنشاء المعهد، وأنه الخطوة الثانية بعد التعليم الابتدائي الذي وصلنا فيه إلى نتيجة صالحة وغاية متمكنة. ولكنهم كانوا متفقين على أن الزمن غير صالح للشروع في العمل نظرًا لحالة الأمة المالية وتوالي الأزمات عليها.
وجزى الله إخوان الصدق أصدق الجزاء فما أن رأوا تصميمي وعزيمتي على شراء المكان حتى انشرحت صدورهم للذي انشرح له صدري. واستسهلنا الصعوبات فسهلت، وهززنا الأمة للتعاون على الخير والعلم فاهتزت. وقطعنا في الأسابيع مراحل ما كانت تقطع في الشهور والسنوات. وكان الشراء والإصلاح جاريين في جهة، والتنظيم والاستعداد للتعليم
جاربين في ناحية، والمقاومات الخفية والعلنية ممن لا يخافون الله جارية في ناحية ثالثة إلى أن غلب الحق على الباطل والعزيمة على التخذيل. وفتح المعهد أبوابه بعد شهرين من بداية العمل، والحمد لله الذي وفق وأعان، والشكر للأمّة التي شبّت على الحق، وعرفت العاملين للحق فأيّدت ونصرت.
…
وأما الإدارة فقد كانت- في رأيي- وما زالت أصعب من المال. لأن الصورة الكاملة التي يتصوّرها ذهني للإدارة الرشيدة الحازمة اللائقة بهذا المعهد العظيم، نادرة عندنا. ونحن قوم نقرأ لكل شيء حسابه. ولا نقدّم لجلائل الأعمال إلا الأكفاء من الرجال. وقد كنت مذخرًا لإدارة المعهد كفؤها الممتاز وجذيلها المحكك الأخ الأستاذ العربي التبسي الذي كانت تمنعه موانع قاهرة من تولّي الإدارة ومن الانتقال من بلده إلى قسنطينة، وكنت أقدّر تلك الموانع، وأزنها بميزانها الصحيح، وأراها بمثل العين التي يراها بها. فكيف العمل؟ العمل هو جعل تلك العوامل كلها عاملًا واحدًا وتفتيته حتى يصير ذرات، أرضينا سكان تبسة الكرام الذين كانوا يعدون انتقال الأستاذ التبسي عنهم كبيرة يرتكبها من يتسبّب فيها، وأقنعناهم بأن الشيخ العربي رجل أمّة كاملة لا بلدة واحدة. ورجل الأعمال العظيمة لا الأعمال الصغيرة. فاقتنعوا. وأمنا لهم مشاريعهم العلمية والدينية، بإيجاد من يخلف الأستاذ فيها فرضوا مخلصين. وقد كنت قبل ذلك كله تلطفت في الحيلة على أخي الشيخ العربي لما أعتقده من إخلاصه الكامل في خدمة أمّته، ومن تقديره لجهود أخيه هذا. وذلك أنه لما هوّل عليّ قضية المال الذي يتطلبه المعهد في شرائه وتعميره، هوّنت عليه القضية وهوّلت عليه شأن الإدارة إذا لم يقبلها هو، فلم يجد بدًّا من تهوينها عليّ إخلاصًا منه ومقاسمة للعبء مع أخيه. وإن أنس فلا أنس قوله لإخوانه المشائخ المدرّسين يوم اجتمعنا لنقرّر منهاج السير في التعليم.
أيها الإخوان:
"إن التعليم بوطنكم هذا، وفي أمّتكم هذه ميدان تضحية وجهاد، لا مسرح راحة ونعيم. فلنكن جنود العلم في هذه السنة الأولى، ولنسكن في المعهد كأبنائنا الطلبة، ولنعش عيشهم: عيش الاغتراب عن الأهل. فانسوا الأهل والعشيرة ولا تزوروهم إلا لمامًا. أنا أضيقكم ذرعًا بالعيال للبعد وعدم وجود الكافي، ومع ذلك فها أنا فاعل فافعلوا. وها أنذا بادئ فاتبعوا". فكانت كلماته هذه مؤثّرة في المشائخ، ماسحة لكل ما كان يساورهم من قلق
…
ومضت السنة الدراسية على أتمّ ما يكون من النظام الإداري، وعلى أكمل ما يكون من الإلفة والانسجام بين المشائخ بعضهم مع بعض، وبينهم وبين
مديرهم، حتى كأنهم أبناء أسرة واحدة، دبّوا في حضن واحدة، وشبّوا في كنف واحد، وربّوا تحت رعاية واحدة، توزّع الحنان بالسوية، وتبني الحياة على الحب. وأن مرجع هذا كله إلى الأخلاق الرضية التي يجب أن يكون مظهرها الأول العلماء. حي الله الأخلاق. وأحيا الله الأخلاق.
وأنا أصدق القراء، فقد نجح المعهد في جميع نواحيه، ووالله ما اغتبطت بجميع ذلك ما اغتبطت بهذا الانسجام بين مشائخه، وهذه الرحمة المظللة لهم، وهذه المياسرة المتبادلة بينهم. وما كان اغتباطي موفورًا إلا لما قاسيته وأقاسيه من المعضلات النفسية والمشكلات الأخلاقية والتعاكس والتشاكس بين بعض أبنائي المعلمين، وما هي إلا بقايا من آثار التربية المضطربة لم يهذّبها العلم وسيهذّبها التأسي.
إن هذا الانسجام البديع بين مشائخ المعهد سيكون درسًا عمليًا نافعًا لتلاميذهم يأخذونه بالتأسي لا بالتلقين. وسيكون أثبت أساس لتربيتهم الأخلاقية وأعزّ ميراث يرثونه عن مشائخهم، وان الانسجام بين التلامذة سبب خطير من أسباب النجاح. فليعلم أبناؤنا التلامذة هذا وليفقهوه.
والأستاذ التبسي- كما شهد الاختبار وصدقت التجربة- مدير بارع، ومربّ كامل خرجته الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، وخرجه القرآن والسيرة النبوية في التديّن الصحيح والأخلاق المتينة، وأعانه ذكاؤه وألمعيته على فهم النفوس، وأعانته عفّته ونزاهته على التزام الصدق والتصلب في الحق وإن أغضب جميع الناس، وألزمته وطنيته الصادقة بالذوبان في الأمّة والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره. فجاءتنا هذه العوامل مجتمعة منه برجل يملأ جوامع الدين ومجامع العلم ومحافل الأدب ومجالس الجمعيات ونوادي السياسة ومكاتب الإدارات ومعاهد التربية.
والأستاذ التبسي في إدارته يتساهل في حقوق نفسه الأدبية إلى درجة التنازل والتضييع، ولا يتساهل في فتيل من النظام أو الوقت أو الأخلاق أو الحدود المرسومة، ولقد كان- زيادة على الدروس التي يلقيها بنفسه- يطوف على الأقسام كلها بالتناوب متفقدًا، فيسمع المشائخ يلقون أو يسألون، والتلامذة يجيبون، ولقد كان بين المشائخ في أول السنة تفاوت، وبين التلامذة تباين عظيم، وكنت أنا ألمح هذا في الشهرين الأولين كلما اختلفت إلى المعهد، فما مضى شهران حتى رأيت بعيني أن ذلك التفاوت صار انسجامًا، وأن ذلك التباين انقلب اتحادًا ظهرت آثاره في آداب التلامذة وأخلاقهم وشمل هيئات الدخول والخروج والنوم والأكل وسائر التصرفات، وما جاء ذلك إلا من ضبط المدير وحزمه
وجاذبيته. وأشهد
…
لقد حدّثني المشائخ في الأشهر الأخيرة فرادى ومجتمعين بأنهم انجذبوا إلى العلم انجذابًا جديدًا، وحببت سيرة الأستاذ التبسي التعليم إليهم على ما فيه من مكاره ومتاعب وأنهم أصبحوا لا يجدون بعد جهد سبع ساعات متواصلة يوميًا، نصبًا ولا لغوبًا.
وليس الأستاذ التبسي جديدًا في سياسة التعليم والارتياض على الإدارة. فقد باشر التعليم المدرسي سنين عددًا بمدرسة "سيق" وباشر الإدارة والتعليمين المسجدي والمدرسي سنين بمدرسة تبسة ومسجدها اللذين أنشأهما بجهده ونفوذه. ثم اضطلع بالتعليم المسجدي وإدارته لتلامذة الجامع الأخضر، بعد موت الأستاذ الرَّئِيسُ عبد الحميد بن باديس وانتقال التلامذة إلى تبسة في أيام الهزاهز والفتن. وأن من تلامذته في ذلك العهد رجالًا هم زينة مدارسنا اليوم، ومنهم من هاجر إلى الشرق ليكمل علمه فأوفى وبرز.
…
وأما التعليم فهو الغرض والغاية من المعهد وأن معهدنا ليعنى من أول يوم بالتربية التي تهملها المعاهد كبيرها وصغيرها أو تتساهل فيها مع أنها هي الأصل والأهم المقدّم. كما يعنى باهتمام بغرس العقائد الصحيحة في أذهان التلاميذ وبتعويدهم على العبادات البدنية حتى ينشأوا مؤمنين عاملين للصالحات. وما قام الإسلام إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ونقول آسفين: إن معاهدنا الإسلامية في الشرق والغرب فرطت في جنب هذا الأصل العظيم وأهملت الأصلح واقتصرت على الصالح. ولعل موجة الإصلاح الآخذة في الامتداد تأتي على النقاثص وتأتي بالكمالات.
وقد صدق الاختيار في المشائخ الذين وسدنا إليهم أمر التعليم في هذه السنة، فما منهم إلا من جلا وجلى وأحرز الغاية وحقّق الظن. وقد بنينا اختيارهم على أساس التجربة والمعرفة اليقينية بدرجة التحصيل، لا على اعتبار الشهادات الجامعية، وان كنا نقدّرها حق قدرها ولا نستخف بها. فالشيخان أحمد حماني وأحمد حسين يحملان شهادة "العالمية" من الزيتونة والشيخان عبد المجيد حيرش والمولود النجار يحملان شهادة التحصيل من الزيتونة أيضًا. والشيخ العباس بن الشيخ متخرج من القروبين. ولأكثرهم دربة بالتعليم ومران عليه وعلى أساليبه حيث قضوا فيه سنوات في ظل الحركة الإصلاحية وفي ميدان النهضة التعليمية، أما الشيخ نعيم النعيمي فهو عصامي في العلم، وحجة على أن الذكاء والاستعداد يأتيان مع قليل من التعليم بالعجائب. والرجل مجموعة مواهب لو نظّمت في الصغر ووجّهت لجاءت شهادة قاطعة على أن لا مبالغة في كل ما يروى عن أفذاذ المتقدمين. فهو يحفظ الأحاديث